تامل من سفر صموئيل الأول اصحاح 7 ... التوبة طريق النصرة +++ القمص تادرس يعقوب





تامل من  سفر صموئيل الأول اصحاح 7 ... التوبة طريق النصرة +++ القمص تادرس يعقوب

كان صموئيل النبي يهيئ الشعب للتوبة قرابة 20 عامًا، وأخيرًا نادى بالتوبة الجماعية من كل القلب، والعودة الكاملة لله، ورفض كل عبادة غريبة، وبعد الصلاة والصوم قدم ذبيحة، وعندئذ إذ تقدم الفلسطينيون لمحاربتهم أرعدهم الرب نفسه وأزعجهم لينكسروا أمام الشعب.

لقد برز صموئيل النبي في هذا الأصحاح كقاضٍ وكممثل للحكم الإلهي مثل موسى (إر 15: 1) ومثل يشوع (يش 24، 1 صم 12)، وكأحد القضاة لكن على مستوى أعلى في الشفاعة.

 يعتبر هذا الأصحاح مقدمة للأصحاح التالي، فيه أبرز فساد النظام الملكي المُقام من أجل مظاهر بشرية.

 1. تابوت الرب في بيت أبيناداب:

أثار تابوت العهد رعبًا ليس فقط في مدن فلسطين العظمى وإنما أيضًا في بيتشمس، أما أهل قرية يعاريم فقد أدركوا أنه يمثل حضرة الله، هو نار آكلة بالنسبة للمرتدين عنه والمنحرفين أما بالنسبة لمحبيه فحافظ لهم وسر فرحهم وتعزيتهم. لهذا صعدوا بفرح وأتوا به في احترام ووقار، وجاءوا به إلى بيت أبيناداب ليبقى هناك قرابة مائة عام حتى نقله داود النبي (2 صم 6: 1-4).

 كلمة "أبيناداب" تعني "أبا الكرم أو النُبل"، وكأنه لا يمكن التمتع بالحضرة الإلهية ما لم تحمل النفس الداخلية نوعًا من الكرم أو السخاء في العطاء.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ليس شيء يجعلنا هكذا قريبين من الإله وعلى شبهه مثل هذا العمل الحسن.

 ويقول مار إسحق السرياني:أعطِ للمساكين، وهلم بدالة قدم صلواتك، أي تحدث مع الإله كما يتحدث الابن مع أبيه، فليس شيء يقدر على دنو القلب إلى الباري مثل الرحمة.

 وُضِعَ التابوت في بيت في الأكمة أي على مكانٍ عالٍ، وقُدِّسَ أليعازر (تعني الله معين) بن أبيناداب لأجل حراسة التابوت، غالبًا ما كان لاويًا وليس كاهنًا.

 كان التابوت في قرية يعاريم بينما أقيمت الخيمة في نوب بلا تابوت مما عطّل العبادة فيها أو جعلها عبادة غير كاملة، وكان هذا إعلانًا عن حالة الخمول الروحي والانحطاط التي بلغ إليها الشعب.

صار صموئيل يجول بين الشعب ليعدهم لحياة التوبة والرجوع إلى الله.

 2. الرجوع القلبي والعملي إلى الله:

بعد موقعة أفيق التي مات فيها ابنا عالي الكاهن وعالي  نفسه بدأ صموئيل النبي يمارس عمله القيادي الهادئ والبناء. اتخذ إقامته غالبًا في الرامة حيث التف حوله بعض الشباب وصاروا نواة لأول مدرسة الأنبياء. في هذه الفترة تزوج صموئيل وأنجب ابنين دعاهما: يوئيل "يهوه هو الله"، أبيا "الرب هو أبي".

في هذه الفترة عاد تابوت العهد إلى إسرائيل ووضع في قرية يعاريم بينما نُقلت الخيمة إلى نوب، وتعطلت بعض الشعائر الدينية، أما صموئيل فلم يكف عن العمل الهادئ البناء على المستوى الفردي والاهتمام بالشباب، مع ممارسة حياة الصلاة. خلال هذا الإصلاح الهادئ انفتحت القلوب بالحب لله وبالتالي تجمعت القلوب معًا بالحب الأخوي وروح الوحدة. بعد عشرين سنة من وجود تابوت العهد في قرية يعاريم وجد صموئيل الفرصة سانحة للمناداة بالتوبة الجماعية والرجوع إلى الله مع الكشف عن سر فشل الشعب وعن طريق النصرة، إذ تحدث صموئيل مع كل بيت إسرائيل (أي مع الجماعة كلها) قائلًا: "إن كنتم بكل قلوبكم راجعين إلى الرب فانزعوا الآلهة الغريبة والعشتاروت من وسطكم، وأعدوا قلوبكم للرب واعبدوه وحده فينقذكم" .

 سر ضعف الإنسان التعريج بين الطريقيين وعدم رجوعه بكل قلبه إلى الرب، كأن يتمسك بشكليات العبادة الخارجية بينما يقيم في أعماقه إلهًا خفيًا كالأنا egoأو حياة التدليل أو محبة الزمنيات إلخ... النصرة تستلزم تقديس القلب واستقامة هدفه مع جدية في الحياة وأن يبتر الإنسان بصليب رب المجد كل ما هو غريب داخل القلب، ليقيم الرب ملكوته المفرح السماوي.

انتزع الشعب من وسطهم كل عبادة غريبة، خاصة البعليم (جمع بعل) والعشتاروت.

 البعل تعني "السيد" أو "الرب"، بمعنى مالك أو سيد لامرأة أو لعبد أو لشيء ما يمتلكه. لم يكن "البعل" اسمًا لشخص ما إنما هو لقب أستخدم للعبادة تحت أشكال كثيرة وبطرق متعددة. من بينها تماثيل من الخشب أو الحجر أو المعدن عليها صورة للشمس (إش 27: 9) بكونها أعظم ما في الطبيعة وأنه مصدر الحياة.

 أما العشتاروت (جمع عشتار)، فينظر إليها كقرينة أو زوجة للبعل عبدها الفلسطينيون خلال تماثيل عليها صور للقمر أو كوكب الزهرة. عُبد بواسطة أمم كثيرة وتحت أشكال متعددة وبأسماء مختلفة. تعتبر إحدى ثلاث إلاهات (جمع إلاهه) للخصوبة. احتوت عبادتها على الكثير من روح الخلاعة والرجاسات، فقد تكرست كاهنات لممارسة الدعارة في هياكل العشتاروت.

كثيرًا ما سقط اليهود في عبادة البعليم والعشتاروت، وأقاموا التماثيل في المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء بل وأحيانًا داخل الهيكل، وجاء زمان تقدمت فيه النساء المتزوجات والفتيات إلى النجاسة لحساب هذه الآلهه، وقدمت الأمهات أطفالهن ذبائح آدمية بإلقاء الطفل على التمثال النحاسي بعد احمراره من شدة النار وسط الطبول حتى لا يستمع أحد لصراخ الطفل!!!

هذا ما يفعله الإنسان عند انحرافه عن الله مصدر حياته وقدسيته وشعبه!

 3. الصلاة والصوم والذبيحة:

التوبة بما يُلازمها من تغيير القلب الداخلي وعبادة هي أمر شخصي يمس حياة المؤمن وعلاقته الخفية مع الله، لكنها في نفس الوقت هي ممارسة جماعية، إذ يقول صموئيل النبي: "اجمعوا كل إسرائيل إلى المصفاة" .

 يقول الرسول بولس: "فإن كل عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه. وإن كان عضو واحد يُكرم فجميع الأعضاء تفرح معه" (1 كو 12: 26). توبة خاطئ واحد تُفرح ملائكة السماء (لو 15: 10)، وتسند الكثيرين على الأرض وتدفعهم للتوبة معه؛ ومع كل سقوط واستهتار خفي نُسيء إلى الجماعة كلها.

جاءت التوبة القلبية تحمل أعمالًا ظاهرة أيضًا:
 أ. نزع الآلهة الغريبة.
ب. التقاء جماعي في المصفاة للعبادة بوح واحد .
ج. صموئيل النبي يصلي إلى الرب لأجلهم.
د. استقاء ماء وسكبه أمام الرب .
ه. صوم جماعي .
و. الاعتراف بالخطايا للرب أمام صموئيل النبي .
ز. الحاجة إلى ذبيحة للمصالحة مع الله .

 "طلب صموئيل النبي من الشعب أن يجتمع في المصفاة" (تعني "برج المراقبة"). وهي مدينة في بنيامين (يش 18: 26)، يُقال إنها "تل النصبة"، اكتشفها Badé عام 1926-1935، تبعد ثمانية أميال شمال أورشليم على طريق الرامة. ويرى البعض أنها قرية "النبي صموئيل"، ارتفاعها 2935 قدمًا فوق البحر وهي أعلى القمم بقرب أورشليم، تبعد خمسة أميال شمال غرب أورشليم.

فيها تم انتحاب شاول ملكًا (10: 17-21)، وحصنها آسا (1 مل 15: 22)، وفيها قُتل جدليا (2 مل 25: 23، 25؛ إر 40: 6-15)، وفيها اجتمع الشعب في أيام يهوذا المكابي (1 مك 3: 46).

يُبرز صموئيل النبي دور الله في حياة شعبه، فإنهم إذ يجتمعون للتوبة يحتاجون إلى يد الله الخفية تعمل فيهم لذلك يقول: "فأُصلي لأجلكم إلى الرب" .

 هنا يَبرز أيضًا صموئيل النبي كراعٍ روحي، يعرف أنه لن يقدر أن يقود شعب الله بدون صلاة، أو بمعنى آخر دوره القيادي يرتكز أولًا على الصلاة لكي يكون الله هو القائد الخفي والمرشد والعامل في شعبه لحساب ملكوته بلا انحراف. لذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن الكاهن: من دعته الضرورة أن يكون سفيرًا عن مدينة بأسرها - ولا أقول عن مدينة فحسب بل عن العالم أجمع - يضرع إلى الله كي يصفح عن خطايا الجميع، ليس فقط الأحياء منهم بل والراقدين أيضًا... فالكاهن، لأنه أؤتمن على العالم كله وصار أبًا لجميع الناس، يتقدم إلى الله متوسلًا في الصلوات الخاصة والعامة من أجل رفع الحروب في كل مكان وإخماد الاضطرابات، ملتمسًا السلام والهدوء لكل نفس والشفاء للمرضى...

 "فاجتمعوا إلى المصفاة واستقوا ماءً وسكبوه أمام الرب" .

ما هو هذا الماء الذي استقوا منه وسكبوه أمام الرب؟ يرى البعض أنه إشارة إلى سكب قلوبهم بالتوبة أمام الرب، كقول داود النبي "يا قوم اسكبوا قدامه قلوبكم" (مز 62: 8 ). أو علامة الاعتراف بالضعف إذ صاروا كالماء المنسكب على الأرض لا يمكن جمعه إلا بيد إلهية. يرى آخرون أنه تأكيد للقسم، فإنهم لا يرجعون عما تعهدوا به في توبتهم كما لا يجمع الماء المسكوب على الأرض. آخرون رأوا في هذا التصرف إشارة إلى يوم الكفارة العظيم (لا 16) وسكب روح الله على المؤمنين وحلوله فيهم.

 إذ صلى صموئيل النبي عنهم قرنوا صلاته بتوبتهم التي أعلنوها بسكب الماء مع الصوم والاعتراف. لقد صاموا في ذلك الوقت واعترفوا قائلين: "قد أخطأنا إلى الرب" .

في ذلك الوقت كان صموئيل النبي يقضي بينهم كقاضٍ، لا خلال السلطة وإنما بعد تقديم صلوات طويلة مستمرة وإصلاح دائم بينهم وعمل روحي هادئ ثم توبة جماعية ورجوع إلى الله. لقد وضع أساسات روحية سليمة ليعمل كقاضٍ بضمير مستريح بهدف روحي واضح لحساب ملكوت الله.

 4. الرب واهب النصرة:

مع كل جهاد روحي هادف يثور عدو الخير لا لخطأ ارتكبه الإنسان أو ارتكبته الجماعة، وإنما هي علامة رفض الظلمة للنور، ومقاومة عدو الخير لمملكة الله.

لقد اجتمع أقطاب الفلسطينيين أيضًا وصعدوا إلى إسرائيل ، فخافوا أن يتكرر ما حدث في موقعة أفيق (1 صم 4)، لكنهم إذ كانوا تحت قيادة روحية سليمة يمارسون التوبة طلبوا من صموئيل النبي ألا يكف عن الصراخ من أجلهم إلى الرب ليخلصهم... قدم صموئيل محرقة للرب علامة تسليم نفوس الشعب ليد الرب تمامًا، واستجاب الرب خلال الطبيعة بواسطة رعد أو زلزال، واهبًا إياهم الغلبة والنصرة، إذ ضربوا العدو إلى ما تحت بيت كار (تعني بيت الخرفان) غرب المصفاة، يظن أنها بيت كارم الحالية، أو عين الكروم.   

 مع كل نمو روحي نواجه حربًا جديدة، تؤول إلى تزكيتنا وتكليلنا مادمنا في يد الله. يقول القديس بطرس الرسول: "الذي به تبتهجون مع أنكم الآن إن كان يجب تحزنون بتجارب متنوعة، لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يُمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح" (1 بط 1: 6-7).

تحققت النصرة في ذات الموقع الذي حدثت فيه الهزيمة قبلًا وأخذ التابوت (4: 1)، لذلك أخذ صموئيل حجرًا ونصبه، ودعاه "حجر المعونة"، لكي يكون شاهدًا على عمل الله في حياة شعبه الراجعين إليه. هذا التذكار يجدد روح الشعب باستمرار حتى لا ينحرفوا عن الله. خلاله يذكر كل مؤمن سر الهزيمة وسر النصرة، ففي ذات الموقع فقد إسرائيل تابوت العهد وسقط في مذلة وعار، وأيضًا فيه نال غلبة ونصرة بيد الله القوية.

يقول رب المجد يسوع: "إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ" (لو 19: 40)... إذ أقام صموئيل هذا الحجر لكي يبعث حياة الشركة في كل من يتطلع إليه.

بعد أن كان الفلسطينيين قد استبعدوا إسرائيل تمامًا، انكسروا بهزيمتهم فلم يدخلوا إلى تخوم إسرائيل للاستيلاء عليه وإن كانوا قد اقتحموا أحيانًا بعض المناطق، واستعبد البعض منهم إسرائيليين، لكن كسرتهم في المصفاة كانت بداية لهزيمتهم المتلاحقة. كما استرد الإسرائيليون المدن التي كانت على التخوم ما بين عقرون وجت.

لعل هذه النصرة أعطت مجالًا للمصالحة بين إسرائيل والأموريين ليعيش الشعب إلى حد ما في جو من السلام والطمأنينة.

5. قضاء صموئيل في مواضع متعددة:

يعتبر صموئيل النبي هو المصلح الروحي الحقيقي في تلك الآونة حتى كادت عبادة البعل تحتفي تمامًا في الفترة ما بين بدء النظام الملكي حتى أوائل عصر سليمان الحكيم... ويلاحظ أن صموئيل لم يُعِدْ مجدَ "شيلوه" ولا أقام مركزًا واحدًا للعبادة إنما كان يقضي للشعب في مواضع متعددة مثل بيت إيل والجلجال والمصفاة. لعل السبب في هذا أن الشعب قد ركز على موضع العبادة الواحد كسرّ قوة الشعب متجاهلًا التجديد الداخلي للنفس. لقد أراد صموئيل أن يؤكد أن سر القوة هو في العلاقة الخفية في القلب مع الله، دون تجاهل العبادة الجماعية بروح الوحدة والحب.

لقد بقى الأمر كذلك حتى جاء سليمان الحكيم وأقيم هيكل الرب الواحد في أورشليم بأمر إلهي، ليجمع الكل معًا بالروح الواحد حول هيكل واحد للرب.

تفسير مزمور 48 .... مدينة الملك العظيم ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير مزمور 48 .... مدينة الملك العظيم ++ القمص تادرس يعقوب

1. مدينة الملك العظيم:

"عظيم هو الرب؛ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1].

يرى البعض أن هذا المزمور هو منجم يحوي ألقابًا ثمينة للكنيسة، مدينة الله: (مدينة إلهنا، جبله المقدس، جبال صهيون، جوانب الشمال، مدينة الملك العظيم، مدينة رب القوات الخ...) كل لقب يكشف عن جانب من جوانبها الحية.

مدينة إلهنا... أي المدينة التي نلتقي فيها مع الله بكونه إلهنا المنتسب إلينا، نلتقي به خلال علاقات شخصية، بدخولنا معه في عهد وميثاق. فالكنيسة هي التقاء الله مع شعبه الخاص ليوقّع بآخر قطرة من دمه الثمين على ميثاق الحب الذي أُعلن بالصليب.

جبله المقدس... هي مدينة الله القدوس، لذا ترتفع كالجبل، تشهد أمام الكل بقداسته خلال ممارستها الحياة المقدسة وشركتها معه. إنها كالجبل الذي لن تهزه عواصف التجارب!

جبال صهيون... (صهيون تعني حصنًا)؛ إنها الجبال التي نجد فيها حصانة بالله حصننا وسورنا!

جوانب الشمال... يرى البعض أنها إشارة إلى السحاب القادم على أورشليم، فتعطيها خصوبة وثمارًا. ويرى آخرون أن الشمال يشير إلى الأعداء حيث كان الآشوريون على شمالهم، فهي مدينة مُحاربة من الأعداء على الدوام، لكنها غالبة ومنتصرة.

مدينة الملك العظيم... حيث يتربع فيها ملك الملوك، ليقيم من شعبه ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6).

مدينة رب القوات... مرهب كجيش بأولية (نش 6: 4، 10) تحت قيادة الرب نفسه واهب النصرة.

واضح أن جمال الكنيسة وقداستها ونصرتها يقوم على انتسابها لله الساكن فيها، والذي يتربع في داخلها كملك. لقد نزل السماوي إلى العالم ليقيم كنيسته مجيدة بلا عيب ويؤهلها للحياة السماوية، لهذا يُسبح المرتل لله قائلًا: "عظيم هو الرب؛ ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1].

عظيم هو الرب في الجوهر والقدرة والعمل، لذلك تسبحه خلائقه الناطقة. وأما مدينته ففيها صار جلاله معروفًا للكل... ولأنه تصرف فيها بنفسه، وصنع تدبير تجسده فقال إنها مدينته وجبل قدسه.

أيضًا يُقال مدينته للساكنين بسيرة مرضية أمامه.

وكنيسته المقدسة هي أيضًا مدينته لسكناه فيها.

وهي جبل قدسه لما فيها من علو شرف المعتقدات الإلهية، كأنها قائمة للبناء على جبلٍ عالٍ، يراها كل ذي بصيرة فيتخذها منهجًا لخلاصه++الأب أنثيموس أسقف أورشليم

دُعيت مدينة لأنها تضم جماعة المؤمنين، فهي لا تقوم على فرد معين أو أفراد بل هي مسكن الله مع جميع المؤمنين منذ آدم إلى أخر الدهور، كل يتمتع بلقاء شخصي ومعاملات شخصية مع الله دون اعتزاله الجماعة المقدسة. عُزله الإنسان لجماعة المؤمنين تحول قلبه من مدينة الله إلى قفر، فإن المدينة التي لا يوجد فيها إلا شخص واحد هي أقرب إلى الخراب مهما كانت إمكانياتها.

يرى الأب مار اسحق السرياني أن الذي يلتقي مع الله خلال دائرة الحب، يقيم الله ملكوته فيه ويتجلى في داخله، كما يلتقي مع ملائكة الله وقديسيه.

دُعيت أيضًا جبله المقدس لأجل رسوخها في الإيمان وثباتها، لا تقدر التجارب أن تزعزعها؛ كما تُشير إلى سمو عقائدها وحياتها. وقد رآها دانيال النبي جبلًا عظيمًا جدًا يملأ الأرض، انطلقت خلال الكرازة بالسيد المسيح حجر الزاوية المقطوع بغير أيدٍ وقد نما هذا الإيمان في كل المسكونة.


لقد وُجد حجر زاوية معين مرذول، بينما تعثَّر فيه اليهود، قُطع بغير أيدٍ من جبل معين، أي جاء من مملكة اليهود بغير أيدٍ، لأنه لم تكن ولادة المسيح من مريم بزرع بشر... ماذا تقول نبوة دانيال إلا ذاك الحجر الذي نما وصار جبلًا عظيمًا؟ أية عظمة؟ لقد ملأ وجه الأرض كلها. إذ نما وملأ وجه الأرض بلغ ذلك الجبل إلينا. فلماذا إذن نطلب نحن الجبل كأنه غائب وليس كحاضر نصعد إليه؟! ليصير الرب فينا "عظيمًا"، ومُسبح جدًا.+++ القديس اغسطينوس

"أحسن أصلها بهجة لكل الأرض،جبال صهيون،جوانب الشمال،مدينة الملك العظيم"[2].

إذ رأى في كنيسة العهد الجديد المدينة التي يجتمع فيها الله بشعبه والجبل الذي ملأ الأرض وقد حمل قداسته وبره يعلن عن بهائها وجماله، وعن دورها كبهجة كل الأرض.

يرفضها العالم ويرذلها ويهينها ويضطهدها طالبًا الخلاص منها، أما هي فكعريسها بجماله الروحي تعلن حبها للعالم، تعمل كخامة باذلة، لكي تجتذب حتى المضايقين إلى فرح الرب وبهجته.
إنها تكرز بالحياة الإنجيلية، بالأخبار السارة التي تحقق خلاصنا في استحقاقات الصليب، وتكشف عن الحب الإلهي المُسجل بالدم الثمين المبذول، لتدخل بالكل كأبناء لله الآب، وتهبهم عطية الروح القدس واهب الحياة والقداسة.

إنها تدخل بالأمم إلى العرش السماوي، إلى الفرح الأبدي كعذارى حكيمات، لكنهن لسن مدللات ولا متراخيات، وإنما كجبال شامخة، لذا يدعوهن "جبال صهيون"

صهيون هي جبل واحد، فلماذا يقول: "جبالًا"؟ ذلك لأن صهيون تنتمي أيضًا إلى القادمين من كل جانب، ليلقوا معًا على حجر الزاوية، ويصيروا حائطين، كما لم كانا جبلين، واحد من الختان والآخر من الغرلة؛ واحد من اليهود والآخر من الأمم، ومع التنوع لا يوجد اختلاف، أنهم جاءوا من جهات متنوعة والآن هم في الزاوية (معًا)..++ القديس اغسطينوس

تجتمع الكنيسة كلها معًا، مع ما فيها من تنوع في المواهب والقدرات والإمكانيات، باتحادها معًا في حجر الزاوية ربنا يسوع، ليبعث إليها روحه القدوس كسحاب ذهبي يفيض عليها بمياه الحياة لتحولها إلى جنات تحمل ثمر الروح.

تأتي سحب ذهبية اللون من الشمال؛ عظيم هو مجد القدير وكرامته! عظيم هو مجد الطبيب، الذي يشفي المريض اليائس.

"من الشمال تأتي السحب"، ليست سحبًا داكنة ولا مظلمة ولا سفلية بل ذهبية اللون. أليس إلا أنها تستنير بالمسيح؟ أنظر فإنه من جوانب الشمال مدينة الملك العظيم.++ القديس اغسطينوس

مادامت الكنيسة على الأرض تبقى مُحاربة كما من الشمال، كما فعل الآشوريون الذين جاءوا إلى أورشليم لمحاصرتها وسبيها... لكنها تبقى الكنيسة "مدينة الملك العظيم" التي لا تُحطمها هجمات العدو المتتالية. وللشمال أيضًا معانٍ أخرى كما سنرى:

يدعوها النبي "جوانب الشمال"، وذلك لأجل استتارها لصغرها كاختفاء جوانب الشمال، إذ تخفيها شوامخ الجبال...

وأيضًا لأن الآشوريين الذين كانوا يمارسون السطوة بالقتال ضد اليهود، وكانت بلادهم من ناحية الشمال... فمع كونها محاربة من أهل الشمال لم تكف عن أن تكون مدينة الملك العظيم.

وأيضًا يدعو الأنبياء الأمم "أهل الشمال"... بمعنى أن الأمم المدعوين أهل الشمال مزمعون أن يصيروا مدينة الملك العظيم ومسكنه لقبولهم الإيمان بالمسيح.

وأيضًا لأن الشريعة القديمة قد أمرت بأن يُذبح حمل الذبيح في جانب المذبح من ناحية الشمال. فكان ذلك رمزًا لحمل الله ربنا يسوع المسيح الذي ذُبح لأجل مغفرة خطايا العالم، هذا الذي يشمل بنظره الأمم ويجعلهم خاصته، ومدينته الحصينة يحوطها بجبال ثابتة، أي بالرسل القديسين والملائكة الحارسين.++ الأب أنثيموس الأورشليمي

تظهر الكنيسة كمدينة الله الملك العظيم وقصره، أما المؤمنون فيظهرون بكونه شرفاته التي من خلالها يظهر الملك بكل أعماله العجيبة، خاصة عهده مع كنيسته، بل ومع كل عضو فيها، يتهم بها كجماعة مقدسة وكأعضاء، كمدينة واحدة وكشرفات عديدة، يقصد الكل بكلمته ووعوده، وبعمله الخلاصي على الصليب، ويهتم بمن لا معين لهم... فهو أب الأيتام وقاضي الأرامل ومنصف المظلومين.

"الله يُعرف في شرفاتها إذا ما هو نصرها" [3].

2. المدينة التي لا تُقهر:

بعد أن قدم لنا الكنيسة كحياة جماعية تمارس العلاقة الشخصية مع الله إلهها، ثابتة كالجبل لا تُزعزعها التجارب، مقدسة بسكنى القدوس فيها، ومتسعة لتضم الأمم والشعوب بروح الفرح والتهليل، تتمتع بسحب الشمال التي تمطر عليها مياه النعمة الإلهية المجانية، شاهدة لعريسها بواسطة أعضائها كشرفات أو قصور يسكنها الملك العظيم، يقدمها لنا ككنيسة مضطهدة. هذا الاضطهاد أو الضيق هو سمة أساسية لعروس الملك المصلوب.

ما أن يُمارس الإنسان الحياة الكنيسة الصادقة الإنجيلية، ويمتلئ قلبه اتساعًا للبشر وحبًا لله والناس حتى يهيج العالم ضده. يُحارب من الخارج والداخل، يجاربه أحيانًا الأحباء بل وجسده، لهذا يقول المرتل:

"هوذا قد اجتمع ملوكها وأتوا جميعًا.هم أبصروا وهكذا تعجبوا،اضطربوا وقلقوا.
أخذتهم الرِعدة.هناك أخذهم المخاض كالتي تلد. بريح عاصفة تُحطم سفن ترشيش" [4-7].

اجتمع ملوك الأرض والرؤساء وجاءوا إلى أورشليم، ولكنهم إذ رأوا قوة الله التي كانت ضدهم أخذهم العجب واضطربوا، وحلت بهم أوجاع مثل مخاض الوالدة. هذا أيضًا ما حدث مع من حاربوا كنيسة المسيح.

يذكر النبي ترشيش أغنى سواحل البحر، فيقول إنه كما تكسر الريح العاصفة السفن في شاطئ البحر، كذلك أنت تحطم الأعداء وتسحقهم، وتطحن قوتهم.++ أنثيموس أسقف أورشليم

اعتاد الأعداء أن يجتمعوا على مقربة من أورشليم للتشاور فيما بينهم كيف يهاجمونها، لكن مشاوراتهم لم تكن تكمل، وكانوا يتركون المدينة وهم في دهشة. كان منظرها المملوء عجبًا يربكهم فيهربون.

يقدم المرتل تشبيهين للرعب الذي يحل بالملوك:

1. المرأة وهي تلد؛ يشير هذا التشبيه إلى حلول الرعب فجأة وبشدة. يرى القديس أغسطينوس أن هذه التشبيه يعني أن غاية الخوف هو أن تتم ولادة طفل جديد... إذ يحبل الملوك بخوف المسيح، أي بالمخاض يلدون خلاصًا، إذ يؤمنون بذاك الذي يخافونه."أخذهم المخاض كالتي تلد"، عندما تسمع عن مخاض توقع ولادة. الإنسان العتيق يتمخض والجديد يُولد.

2. سفن ترشيش التي اشتهرت بعظمتها وكبر حجمها وقوتها. البعض يرى أن كلمة "ترشيش" هنا معناها "محيط" أو "بحر"، وكأنه يقصد سفن البحار أو المحيطات. وكما أن الريح العاصفة (الشرقية) تُحطم سفن ترشيش، هكذا روح مسيحنا يُحطم مملكة الظلمة التي تأسست في قلوب الخطاه، وذلك متى قبلوا عمل نعمة الله فيهم. أما الذين يرفضون النعمة فإن الروح يُحطمهم بذات المتعب التي جلبوها على كنيسة المسيح.

بهذين المثلين أوضح أن المقاومة للكنيسة حتمًا تنتهي بالفشل، أما المقاومون فإن قبلو خوف الله يؤمنون فيهلك شرهم، ويتمتعون بميلاد الإنسان الجديد فيهم، وإن رفضوه هلكت نفوسهم بشرهم.

بالحقيقة يتحدث (المرتل) عن كلًا من الحزن والفرح المقبلين، حزن بسبب الدينونة وفرح بالمغفرة ++القديس أمبروسيوس

يرى القديس أمبروسيوس أن المرأة التي تلد هي النفس التي تحبل خلال عمل الكلمة، فإنها تُعاني من الآلام مادامت لم تنجب بعد، أما إذا ولدت طفلًا فتفرح. وسفن ترشيش هي سفن الروحية المحملة بذهب سليمان وفضته، أي أجسامنا التي تحمل كنزًا في أوانٍ خزفية كقول الرسول. وكأن من يؤمن بالسيد المسيح بدلًا من مقاومة عمله يتمتع بميلاد الإنسان الجديد (في مياه المعمودية) ويحمل الكنز الحقيقي في داخله وهو في أمان!

يختم المرتل حديثه عن الكنيسة التي لا تُقهر، قائلًا:

"كمثل ما سمعنا كذلك رأينا،في مدينة رب القوات،في مدينة إلهنا،الله أسسها إلى الأبد" [8].

قد سمع المرتل عبر التاريخ عن أعمال الله العجيبة في مدينته المقدسة، وخلال خبرته عاين بنفسه ما قد سبق فسمعه. فإن التاريخ والخبرة هما معلمان عظيمان يقدمان درسًا واحدًا هو اهتمام الله الفائق بكنيسته.

ما قد سمعناه نراه في الواقع العملي، أعنى نصرات وغلبة وعناية الله، وعجائب مذهلة ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

يا لها من كنيسة مطوَّبة! في وقت ما تسمع، وفي وقت آخر ترى.
لقد سمعت وعودًا، وترى تحقيقها.

سمعت نبوات، وترى إنجيلًا، لأن كل ما ما يتحقق الآن سبق فتُنبا عنه... أين تسمعين، وأين ترين؟ "في مدينة رب القوات، في مدينة إلهنا؛ الله أسسها إلى الأبد". ++ القديس اغسطينوس

أعني أن الأعمال التي صنعها قديمًا في مصر وفي برية سيناء وفي أرض كنعان قد سمعناها، وهي موجودة في الكتب ومنقولة بلسان الناس، ولكن الآن نراها صائرة عيانًا في أورشليم مدينتك التي ثبتها إلى الدهر.

ولكن إن قلت يا هذا إن كانت أورشليم قد ثبتها إلى الدهر، فلماذا خربها عساكر الرومان؟ نجاوبك أن الدهر هنا لا يكون بمعنى الأزلي، إذ تقول النبوة عن حزقيال الملك: "حياة سألك فأعطيته طول الأيام إلى الأبد وإلى أبد الأبد" (مز 21: 4)... كذلك هنا أيضًا قول النبي إن أورشليم: "يُثبتها الله إلى الأبد" يعني إلى زمان ما.

هذا القول أيضًا نبوة عن أورشليم العقلية التي هي كنيسة المسيح التي ثبتها الله على صخرة الإيمان ولن تقدر أبواب الجحيم أن تزعزها كما قال ربنا له المجد.++ أنثيموس أسقف أورشليم

3. مدينة متعبدة متهللة:

إن كانت الكنيسة كمدينة الله المقدسة مُحَاربة على الدوام، لكنها تبقى المدينة التي لا تتزعزع ولا تُقهر، لذلك فهي تبقى في شكرها متعبدة له، تسبحه على الدوام بروح الفرح والتهليل وكأن الضيق لا يفقدها سلامها، بل بالعكس يدفعها لتمارس الحياة السماوية الشاكرة المتهللة.

"ذكرنا يا الله رحمتك في وسط شعبك.نظير اسمك يا الله كذلك تسبحتك؛في أقطار الأرض يمينك مملؤة عدلًا (برًا).فليفرح جبل صهيون ولتتهلل بنات اليهودية من أجل أحكامك يا رب" [9-11].

سبق فقال: "سمعنا... رأينا"، الآن يقول: "ذكرنا"... سمع عن معاملات الله مع كنيسته في الماضي، ورأى بنفسه أنها معاملات حيَّة ودائمة، لهذا يشهد أمام الشعب ليؤكد أن السيد المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. هو العامل في الماضي ويعمل في الحاضر وسيبقى عاملًا إلى الأبد. هذا مفهومنا للتقليد الحيّ الذي يتكئ على الماضي ليعلن عن حيويته في الحاضر ويسلمه للأجيال المقبلة وديعة إيمان حيّ وفعّال.

هذا التقليد المتأصل في الماضي ويعمل في الحاضر ويبقى عاملًا في المستقبل يبعث في الكنيسة روح الفرح والتهليل من أجل أحكام الله، سواء كانت في وقت الفرج أو الضيق.

لقد اختبرنا يا الله إحساناتك التي صنعتها مع شعبك عيانًا، لكن ليس من أجل فضائل صارت منا وإنما من أجل وفرة رحمتك وتحننك...

نظير اسمك كذلك هو فعلك، الذي من أجله يسبحك الناس في أقاصي الأرض كلها. صلاحك ليس أمرًا مكتسبًا وإنما هو من جوهرك، لأن الشمس بطبيعتها تنير وتحرق، كذلك من طبع لاهوتك تنير الأصفياء وتعاقب الأشرار... وأيضًا يمين الله أي ابنه الوحيد هو مملوء عدلًا، لأنه يحل المقيدين ويطلقهم، وينير المُظلمِّين ويقّوم المنسحقين...

يدعو النبي رجالًا ونساءً إلى الفرح والسرور من أجل إنعام الله عليهم من منح وخيرات. جبل صهيون هو الكنيسة الراسخة الأساس... وبناتها هي نفوس المؤمنين وسائر هياكل الله التي في المسكونة، فإنها تفرح وتبتهج من أجل ما أنعم بها الله عليها من مواهب فاخرة.++ الأب أنثيموس أسقف أورشليم

يا جبل صهيون، ويا بنات اليهودية؛ أنتم الآن تتعبون وسط الزوان والقش، تتعبون وسط الأشواك، ولكن أفرحوا من أجل أحكام الله، فإن الله لن يخطئ في حكمه...

لا تفكر في بنات اليهودية أنهن اليهود. فإن "اليهودية" تعني "الاعتراف"، فكل أبناء الاعتراف هم أبنا اليهودية؟ ++ القديس اغسطينوس

هكذا يرى المرتل الكنيسة كجماعة متعبدة متهللة بالله من أجل أعماله وأحكامه. فإبراهيم لن ينسى المُريّا، ويعقوب لن يسى بيت إيل..

4. مدينة شاهدة لإلهها:

إذ يختبر جبل صهيون أو بنات اليهودية أعمال الله الخلاصية والتمتع بالنصرة، ينطلقون كما في موكب لفحص عمل الله معهم. وذلك كما حدث مع نحميا حينما انتهى من بناء السور إذ جعل فرقتين تدوران حول السور أثناء التدشين بروح الفرح والتهليل يفحصون عمل الله معهم (نح 12)، وقد قيل: "فرحوا لأن الله فرّحهم فرحًا عظيمًا وفرح الأولاد والنساء أيضًا، وسُمع فرح أورشليم عن بعد" (نح 12: 43). إنهما موكبا الشكر لله الصانع بشعبه عجائب!

"طوفوا بصهيون ودوروا حولها؛تحدثوا في أبراجها ضعوا قلوبكم في قوتها واقتسموا شرفاتها. لكيما تخبروا بهن في جيل آخر. إن هذا هو إلهنا إلى الأبد وإلى أبد الأبد. وهو يرعانا إلى الدهر" [9-14].

يليق بالذين تمتعوا ببركات الخلاص الذي يسمو بهم كصهيون المرتفعة أن يطوفوا حول الشعب ويدوروا في البلاد يحدثون عن هذا العمل الإلهي العجيب.

أنهم يتحدثون عن الأبراج العالية التي يقيمها روح الله لكي يختفي فيها المؤمنون ويتحصنون من ضربات العدو، يضعون ثقتهم في قوة الكنيسة التي هي "الحياة في المسيح يسوع" ويتمتعون بشرفاتها، أي بعطايا الله خلال كنيسته. هذا هو الله محب كنيسته التي يرعاها مدى الدهور حتى يأتي على السحاب ليأخذها معه. هذا هو موضوع شهادتنا للجيل القادم.

هذه هي وديعة الإيمان أي التسليم الحيّ أو التقليد المُختبر الذي نقدمه بحياتنا كما بكلماتنا. فإنه كيف نتحدث عن أبراج الكنيسة وشرفاتها، أي عن حصونها المنيعة وغناها ما لم نكن نحن أبراجًا وفي غنى روحي، لهذا يقول القديس أكليمندس الإسكندري: أعتقد أنه يلمّح هنا إلى أولئك الذين احتضنوا الكلمة (اللوغوس) بطريقة سامية ليصيروا أبراجًا عالية، وليرسخوا بثبات في الإيمان والمعرفة.

يسوع مصدر الحكمة وينبوعها ++ القديس اغسطينوس



يا نفسي المسكينة، ماذا تطلبين؟! ++ إن أردتِ الحكمة، تجدين يسوع مصدر الحكمة وينبوعها، بل هو الحكمة ذاته!
وإن طلبتِ القوّة والقدرة، فهو القدير! ++إن بحثتِ عن اللذّة والسرور، فهو ينبوع الفرح الحقيقي!

إن اشتقتِ إلى السكر، فمحبّته تسكر النفس! ++ إن جُعتِ إلى الخبز، فهو خبز الحياة!

وإن شغفتِ بالغنى ، فهو خالق الكل! ++ وإن أردتِ الراحة، تجدين فيه وحده راحتك...! اقبليه فليس لك غيره من يشبعكِ ++++ القديس اغسطينوس

كتاب القديس كيرلس الأورشليمي (حياته - مقالاته لطالبي العماد - الأسرار) +++ القمص تادرس يعقوب ملطي


 كتاب القديس كيرلس الأورشليمي (حياته - مقالاته لطالبي العماد - الأسرار) +++ القمص تادرس يعقوب ملطي

ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، به كان كل شيء


"الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا في أزمنة متنوعة وطرق مختلفة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 1-2).

 يسوع هو المسيح الوحيد

1. قدمنا لكم بالأمس، مظهرين لكم بما فيه الكفاية، قدر استطاعتنا، أن رجاءنا هو في يسوع المسيح. لكن يليق بنا ألاّ نؤمن به ولا نقبله كواحدٍ من مسحاء كثيرين يدعون هكذا بلا لياقة. فإن هؤلاء المسحاء رمزيّون، أما هو فالمسيح الحقيقي، لم يرتفع إلى الكهنوت عن تقدم بين صفوف البشر، بل له شرف الكهنوت من الآب. من أجل هذا فإن قانون الإيمان يرشدنا مقدمًا حتى لا نظنه واحدًا من المسحاء العاديين، فيضيف الاعتراف بهذا الإيمان أننا نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد.

 الابن الوحيد الجنس

2. وأيضًا عندما تسمع "ابن" لا تحسبه أنه مُتبنى، بل ابنًا بالطبيعة، الابن الوحيد، ليس له أخ. من أجل هذا دعي "الوحيد الجنس"، إذ ليس له أخ من جهة شرف اللاهوت ونسبته للآب. ونحن لا ندعوه "ابن الله" من عندياتنا، بل الآب دعي المسيح (دون غيره) ابنه وما يدعوه الآباء لأبنائهم هو اسم حق.

 الابن المتأنس

3. ربنا يسوع صار إنسانًا، لكن كثيرين لم يعرفوه. وإذ رغب في تعليم من لم يكونوا قد عرفوه دعا تلاميذه وسألهم: "من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟! (مت 13: 6) لم يسأل حبًا في المجد الباطل، إنما بقصد إظهار الحق لهم، لئلا بإمعان النظر في الله وابن الله يظنون بخفة أنه مجرد إنسان عادي.

وعندما أجابوه أن البعض قالوا بأنه إيليا وآخرون إرميا، أجابهم أنهم معذورون في إجابتهم من أجل عدم معرفتهم، أما أنتم -يا رسلي- يا من باسمي تطهرون البرص وتخرجون الشياطين وتقيمون الموتى، فيلزمكم ألاّ تجهلوا (اسمي) الذي خلاله تفعلون هذه العجائب.

وعندما صمت الكل (إذ كان الأمر أعظم من أن يتعلمه إنسان) أجاب بطرس الرسول... دون أن يرشده كشف بارع ولا فكرٍ بشري، إنما أضاء الآب ذهنه، فقال: "أنت هو المسيح"، بل وأيضًا قال: "ابن الله الحي" وقد تبع هذا تطويب من أجل حديثه كختم على أن ما قاله هو إعلان من الآب. إذ قال المخلص: "طوباك يا سمعان بن يونا، فإن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك، بل أبي الذي في السماوات" (مت 16: 17). لذلك فمن يعرف ربنا يسوع المسيح أنه ابن الله يشترك في هذا التطويب، أما من ينكر ابن الله فهو فقير وبائس!

 نور سرمدي من نور سرمدي

4. مرة أخرى أقول عند سماعك عن الابن لا تفهم هذا في معنى غير لائق بل هو ابن بالحق. أنه ابن بالطبيعة بلا بداية، لم يأتِ من حالة العبودية إلى التبنّي، أي انتقل إلى حالة أعظم، بل هو ابن أبدي مولود بنسب لا يُفحص ولا يدرك.

وبنفس الطريقة عند سماعك "البكر" لا تفكر في هذا الأمر بمستوى بشري، لأن البكر في البشر له إخوة آخرون.

لقد قيل "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22) لكن إسرائيل كان مثل رأوبين الذي صعد إلى مخدع أبيه "أي كان خائنا"، فقد طرد إسرائيل ابن الآب خارج الكرم (وصلبوه). قيل عن آخرين: "أنتم أبناء الرب إلهكم" (تث 14: 1). وقيل في موضع آخر "أنتم آلهة، وكلكم بني العلي تُدعون" (مز 72: 6). هؤلاء عندما يقول لهم الله هكذا إنما يتقبلون بنوّة لم تكن لهم من قبل. أما هو فلم يولد ليصير على حال لم يكن عليه من قبل، بل هو مولود من البدء ابن الآب. هو فوق كل بداية وكل العصور، ابن الآب مشابهًا(4) للآب الذي ولده في كل شيء، أبدي من أب أبدي، حياة من حياة، نور من نور، حق من حق، حكمة من الحكيم، ملك من ملك، الله من الله، قوة من قوة.


 تقبل البنوة حسب الجسد "لداود"

5. فإن سمعت الإنجيل يقول: "كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم" (مت 1: 1) حسب الجسد. فهو ابن داود "في ملء الأزمنة" (عب 9: 26)، ولكنه ابن الله قبل الدهور بلا بداية. قد تقبل البنوة "لداود" إذ لم تكن له، أما البنوة للآب فهي له سرمديًا.

إن له أبين، داود حسب الجسد، والآخر أي الله أباه في اللاهوت.

بكونه ابن داود يخضع للزمن وللتدبير والتنازل النسبي، لكن من جهة اللاهوت فلا يخضع لا لزمانٍ ولا لمكانٍ. "جيله من يعلنه؟ الله روح" (راجع إش 53: 8؛ يو 4: 24). فذاك الذي هو روح قد وُلد روحيًا بكونه غير جسدي بنسب غير مدرك ولا مفحوص. الابن نفسه يقول للآب: "قال الرب لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7) هذا "اليوم" ليس زمنيًا بل سرمديًا. اليوم هنا غير زمني، بل قبل كل الدهور. "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك".

آمن بيسوع المسيح

 6. إذن آمن بيسوع المسيح، ابن الله الحي، الابن الوحيد. حسب الإنجيل القائل: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16؛ يو 3: 18؛ 5: 24؛ يو 3: 36؛ يو 1: 14؛ لو 4: 34). وأيضًا: "الذي يؤمن به لا يُدان، إذ يعبر من الموت إلى الحياة". وأمّا الذي لا يؤمن به فلن يرى الحياة بل يمكث عليه غضب الله". ويشهد يوحنا عنه قائلًا: "ورأينا مجده مثل مجد ابن وحيد للآب. مملوء نعمة وحقا". إذ ترتعب منه الشياطين وتقول "ما لنا ولك يا يسوع. أنت ابن الله الحي".

 ابن الله بالطبيعة وليس بالتبنّي

7. إذن هو ابن الله بالطبيعة وليس بالتبنّي، مولود من الآب، "وكل من يحب الوالد يحب المولود منه" (1 يو 5: 1)، ومن يحتقر المولود يسيء إلى الوالد. عندما تسمع عن الله "الوالد" (يو 4: 24) لا تفكر في أمور جسدية، ليس في توالد فاسد حتى لا تسقط في خطأ الكفر.

"الله روح"، نسبه روحي، لأن الأجساد تلد أجسادًا، وولادة الأجساد تحتاج إلى زمان، أما ولادة الابن من الآب فلم يدخل فيها زمن.

في حالتنا نحن ما يولد، إنما يولد غير كامل، أما ولادة الابن من الآب فهي ولادة كاملة، لأن ما هو الآن كان منذ البدء، إذ هو مولود بلا بداية.

نحن مولودون هكذا لنعبر من جهل الطفولية إلى التعقل. مولدك يا إنسان غير كامل ونموك يزداد. لكن لا تفكر هكذا في حالة الابن، ولا تنسب الضعف إلى الوالد، لأنه إن كان الذي ولد غير كامل ويحتاج كماله إلى زمان، فإنك بهذا تنسب ضعفًا إلى الوالد...


 ولادة غير بشرية

8. لهذا لا تفكر في هذه الولادة على أنها بشرية، ولا كما ولد إبراهيم إسحق، لأنه في ميلاد إسحق لم يلد إبراهيم حسب إرادته، بل ولد ما قد منحه له غيره. أما الله، فإن ما ولده الآب لم يكن عن جهلٍ ولا احتاج إلى وسيطٍ. لأن القول بأنه كان يجهل ما كان يفعله هو كفر. والقول بأنه أصبح أبًا خلال أزمنة، هو أيضًا كفر. لأن الله لم يكن قط بدون الابن، وقد أصبح أبًا مع الزمن. إنما كان له الابن أزليًا، ولده ليس كما يلد البشر بشرًا، بل كما هو وحده يعرف، ولده قبل كل الدهر، إلهًا حقًا.


 البنوة بالتلمذة

9. فالآب، إذ هو الله ذاته ولد الابن شبهه، الله ذاته، إذ لم يلد كما يلد المعلمون تلاميذ، ولا كما يقول بولس للبعض: "لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1 كو 4: 15). إذ لا يكون في هذه الحالة ابنًا بالطبيعة بل بالتلمذة. أما في الحالة السابقة فهو أب بالطبيعة لابن حقيقي.

إنه ليس مثلكم أنتم الذين تستنيرون، فتصيرون أبناء الله... إذ أنتم أبناء بالتبنّي، كما هو مكتوب: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسدٍ، ولا من مشيئة رجلٍ، بل من الله" (يو 1: 12، 13).

حقًا إننا نولد من الماء والروح، لكن المسيح لم يُولد من الآب هكذا. إذ في وقت عماد خاطبه قائلًا: "هذا هو ابني" (مت 3: 17). لم يقل "صار ابني"، بل "هذا هو ابني"، معلنًا أنه "ابن" حتى قبل العماد.

 10. المسيح كلمة الله

ولد من الآب "الابن" ليس كما بين البشر يلد الذهن كلمة. لأن الذهن موجود فينا جوهريًا، أما الكلمة فتنتشر في الهواء عندما ننطق بها وتنتهي". لكننا نعلم أن المسيح لم يولد كمثل كلمة منطوق بها، بل هو كلمة جوهرية حية، لا تُنطق بشفتين، ولا تنتشر فتبدد، بل هو مولود من الآب أبديًا، لا يُوصف في الجوهر. إذ "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1: 1).

إنه جالس عن يمين الله، الكلمة فاهم إرادة الآب،خالد،كل الأشياء كائنة بأمره.

الكلمة الذي نزل وصعد، أما الكلمة التي ننطق نحن بها فإنها تنزل ولا تصعد.

"الكلمة" ينطق قائلًا: "أنا أتكلم بما رأيت عند أبي" (يو 8: 38).

الكلمة له سلطان، يملك على كل شيءٍ، إذ أعطى الآب كل شيء للابن (مت 11: 27؛ يو 5: 22).

 من يقدر أن يعرف كيفية الولادة الأزلية؟

11. الآب الذي ولد ليس بطريقة يُمكن لإنسانٍ أن يفهمها، بل يقدر وحده أن يفهمها. فإننا نعرف ألاّ نخبر عن الطريقة التي ولده بها، بل نصر أنها ليست بهذه الكيفية وليس فقط نحن نجهل مولد الابن من الآب، بل نجهل حتى كل طبيعة مخلوقة.

"أو كلم الأرض فتعلمك" (أي 12: 8). وبالرغم من أنك تسأل كل الأشياء التي على الأرض، فإنها تعجز عن أن تخبرك. لأن الأرض لا تقدر أن تخبر عن جوهر الذي شكَّلها كخزاف صنعها. وليس فقط الأرض بل الشمس أيضًا... والسماء أيضًا لا تعلن ذلك... ولا سماءٍ السماوات...

إذن هل تنحط يا إنسان، إن كنت تجهل ما لا تعرفه حتى السماوات؟! لا. ليس فقط السماوات تجهل طبيعة هذه الولادة بل وكل الطبائع الملائكية .

فلو صعد أحد إلى السماء الأولى، وأدرك الرتب الملائكية، وسألهم:" كيف ولد الآب الابن؟" ربما يجيبونه؟ "إن هناك من هم أعظم منا وأسمى، اسألهم". أذهب إلى السماء الثانية والثالثة. ابلغ إن أمكنك إلى العروش والسلاطين والرئاسات والقوات، فإنه حتى أن وصل أحد إليهم -وهذا مستحيل- فإنهم يمتنعون عن الإجابة لعدم معرفتهم.

 جسارة الذين يحاولون أن يفحصوا الخالق ذاته

12. فمن جهتي أنا دائمًا أعجب على جرأة المتجاسرين الذين بوقارهم المتخيل يسقطون في الكفر. فإذ لا يعرفون شيئًا عن العروش والسلاطين والقوات وأعمال المسيح، يحاولون أن يفحصوا الخالق ذاته!

أخبرني أولًا أيها الإنسان الجسور: ما هو الاختلاف بين العروش والسلاطين وبعد ذلك افحص ما يخص المسيح!

اخبرني: ما هي الرئاسات وما هي القوات وما هي الفضيلة، وما هو الملاك، وعندئذ ابحث في خالقهم الذي "به كان كل شيء" (يو 1: 3)...

من يعرف "أعماق الله" (1 كو 2: 10، 11)، إلاّ الروح القدس الذي تكلم به الكتاب المقدس؟ بل حتى الروح القدس لم يتحدث في الأسفار المقدسة بخصوص ميلاد الابن من الآب، فلماذا تشغل نفسك بالأمور التي لم يكتبها الروح القدس في الكتاب المقدس؟!

هناك أمور كثيرة وردت في الكتب الإلهية، منها ما لا نفهم كنهه، فلماذا نشغل أنفسنا بما لم يُكتب؟!

إنه يكفينا أن نعرف أن الله ولد الابن الواحد الوحيد.

 لا تخجل من الاعتراف بجهلك

13. لا تخجل من الاعتراف بجهلك مادمت تشترك في هذا مع الملائكة. الوالد وحده هو الذي يعرف المولود، والمولود يعرف الوالد. ويشهد الكتاب المقدس أن المولود هو الله. "لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته" و"لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" و"كما أن الآب يُقيم (من يشاء) كذلك الابن أيضًا يحيى من يشاء" (يو 5: 26، 23، 21). فالذي وَلد لم يحدث له نقصان، ولا ينقص المولود شيئًا.

 ميلاد أزلي

14. إذن نحن نؤمن بابن الله الوحيد المولود من الآب الله ذاته. نقول إن الله الحقيقي لا يلد إلهًا باطلًا، ولا هو تَمَعَّن في الأمر وبعد ذلك ولد، بل ولد أزليًا بأكثر سرعة عن ولادة كلماتنا وأفكارنا. إذ نحن نتكلم في زمان، ونخضع للزمان، لكن بخصوص القوة الإلهية، فالميلاد يتم خارج الزمن. وكما قلت مرارًا أن الابن لم يأتِ من عدم إلى التبني الإلهي. ولكن كما أن الآب أزلي، فقد وُلد الابن منه منذ الأزل، بطريقة لا توصف..

 نبوات عن التجسد

15. أتريد أن تعرف أن المولود من الآب وقد صار إنسانًا هو الله؟ اسمع النبي يقول: "هذا هو إلهنا ولا يعتبر حِذائُه آخر. هو وجد طريق التأديب (المعرفة) بكماله، وجعله ليعقوب عبده... وبعد ذلك تراءى على الأرض، وتردد بين البشر" (با 3: 36-38). أما ترى هنا أن الله صار إنسانًا بعد أن قدم الشريعة بواسطة موسى؟

اسمع أيضًا شهادة أخرى عن لاهوت المسيح، إذ قُرأ الآن حالًا "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور" (عب 1: 8). ولئلا بسبب حضوره هنا بالجسد قد يُظن أنه ارتقى إلى اللاهوت، يوضح الكتاب المقدس بجلاء "مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك" (عب 1: 9). أما ترى المسيح أنه الله ممسوحًا بواسطة الله الآب؟!

 شهادة إشعياء عن لاهوت المسيح

16. أتريد شهادة ثالثة عن لاهوت المسيح؟! اسمع إشعياء يقول: "تعب مصر وتجارة كوش (إثيوبيا)" وبعد ذلك "إليك يتضرعون قائلين: فيك وحدك الله وليس آخر سواك. أنت هو الله ولم نعرف...المخلص" (إش 45: 14، 15). إنك ترى أن الابن هو الله، فيه الله الآب، إذ يقول نفس العبارة التي وردت في الإنجيل "إني في الآب والآب فيَّ" (يو 14: 11). إنه لم يقل: "أنا هو الآب"، بل "الآب فيّ وأنا في الآب". أيضًا لم يقل: "الآب وأنا هما أنا"، بل "أنا والآب واحد"، حتى لا نفصل بينهما دون أن نضع خلطًا في ابن الآب.

إنهما واحد من جهة شرف وحدة اللاهوت، إذ ولد الله الله. هما واحد في ملكوتهما لأن الآب لا يملك على هؤلاء، والابن على أولئك، متكبرًا على أبيه كما فعل أبشالوم، إنما ملكوت الآب هو ملكوت الابن.

إنهما واحد، إذ لا يوجد بينهما اختلاف ولا انقسام، بل ما يريده الآب يريده الابن.

إنهما واحد، لأن أعمال الخلقة التي للمسيح ليست غير ما للآب، إنما خالق كل الأشياء هو واحد، خلقها الآب خلال الابن. وكما يقول المرتل: "هو قال فكانوا. هو أمر فخلقوا" (مز 33: 9، 5:148).

 تمايز بين الآب والابن لا انفصال

17. الابن هو الله بعينه Very God، له الآب فيه، دون أن يصير هو الآب، لأن الآب لم يتجسد بل الابن...

الآب لم يتألم من أجلنا بل أرسل من يتألم...

فليس بقصد تكريم الابن ندعوه "الآب"، ولا لتكريم الآب نتصور الابن أحد خلائقه. إنما هو آب واحد نعبده خلال ابن واحد دون أن نفصل العبادة بينهما.

ليعلن عن الابن الواحد، جالسًا عن يمين الآب قبل كل الدهور في العرش ليس عن تقدم ناله في زمان بعد الآلام بل منذ الأزل.

 لا تفصلهما، ولا تصنع تشويشًا

18. "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9). لأنه في كل شيء الابن شبيه (واحد مع) من ولده. مولود حياة من حياة، نور من نور، قوة من قوة، إله من إله، وسمات اللاهوت غير متغيرة في الابن.

من يتأهل للتطلع إلى ربوبية الابن ينعم بربوبية الآب.

هذا الكلام ليس من عندي، بل هي كلمات الابن الوحيد القائل: "أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب".

وباختصار لا تفصلهما، ولا تصنع تشويشًا.

لا تقل قط إن الابن غريب عن الآب، ولا تقبل القائلين أن الآب في وقت ما هو الآب وفي وقت آخر هو الابن. فإن هذه العبارة غريبة وجاحدة وليست من تعاليم الكنيسة. لكن الآب بولادته الابن بقي الآب ولم يتغير، ولد الحكمة ولم يفقد الحكمة. ولد القوة دون أن يصير ضعيفًا. ولد الله ولم يخسر ربوبيته. لم يفقد شيئًا بالنقص أو التغير، ولا المولود ناقص في شيء. كامل هو الوالد، وكامل هو المولود. الله هو الوالد، الله هو المولود، الله من الله، ولكنه يُدعى الآب إلهه دون أن يخجل من القول: "اصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يو 20: 17).

 تفسير: "أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"

19. ولكن لئلا يُظن أنه من جانب ما هو أب للابن وللخليقة معًا صنع المسيح تميزًا كما يلي: إنه لم يقل: "اصعد إلى أبينا"، لئلا تصير الخليقة شريكة للابن الوحيد (على مستواه الطبيعي)، بل قال: "أبي وأبيكم" أي هو أبي بالطبيعة وأبوكم بالتبنّي.

مرة أخرى يقول: "إلهي وإلهكم"، فمن ناحية هو إلهه بكونه ابنه الوحيد الحقيقي، وبطريقة أخرى هو إلههم بكونهم عمل يديه...

آمن أن الله له ابن، لكن ليس في تطفل (لإدراك هذا)، إذ بالبحث لا تبلغ شيئًا. لا تنتفخ لئلا تسقط. "لا تبحث عما يتجاوز قدرتك لكن ما أمرك الله به" (ابن سيراخ 3: 22)، ونص الآية هو: "لاَ تَطْلُبْ مَا يُعْيِيكَ نَيْلُهُ، وَلاَ تَبْحَثْ عَمَّا يَتَجَاوَزُ قُدْرَتَكَ، لكِنْ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ، فِيهِ تَأَمَّلْ" (سفر يشوع بن سيراخ 3: 22)..

 مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل

20. يكفيك من أجل الصلاح أن تعرف،  كما قلنا، إن الله له ابن واحد وحيد مولود طبيعيًا. الذي لم يبدأ وجوده عندما وُلد في بيت لحم، بل قبل كل الدهور. اسمع النبي ميخا يقول: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (مي 5: 2).

إذن لا تفكر في ذاك الذي هو خارج الآن من بيت لحم (ولا تحسبه حديثًا)، بل اعبده، إذ هو مولود من الآب أزليًا.

لا تسمح لأحد أن يقول إن للابن بداية في زمان...

أتريد أن تعرف أن ربنا يسوع المسيح هو ملك أزلي؟ اسمعه يقول: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وتهلل" (يو 8: 56). وعندما استصعب اليهود قبول هذا، قال لهم إن هذا ليس بصعب، فإنه "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو 8: 58).

مرة أخرى يقول: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو 17: 5). قال بوضوح: "بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم". وأيضًا عندما قال "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو 17: 24)، معلنًا أن مجده أزلي.

 خالق الكل

21. إذن نحن نؤمن بربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من أبيه الله عينه قبل كل الدهور، الذي به كان كل شيء لأن "فيه خلق الكل... سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين" (كو 1: 16). ولم تفلت خليقة ما من سلطانه.

 لتصمت كل هرطقة بخصوص الخالق

22. لتصمت كل هرطقة تنادى بآلهة مختلفة وصانعين للعالم. ليصمت كل لسان يجدف على المسيح ابن الله. ليصمت القائلون إن الشمس هي المسيح، وإنه شمس الخالق..

ليصمت القائلون إن العالم هو من عمل الملائكة لكي يلبسوا كرامة الابن الوحيد، إذ كل شيء، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أو رئاسات أو أي شيء هكذا يدعى إنما كان بالمسيح.

 عمل الآب والابن في الخلق

23. لكن دعنا نسترجع اعترافنا بقانون الإيمان لننهي مقالنا.

المسيح صنع كل الأشياء... لا بمعنى أن الآب تنقصه قوة لخلق أعماله إنما لأنه أراد أن يحكم الابن على أعماله، فأعطاه الله رسم الأمور المخلوقة، إذ يقول الابن مكرمًا أبيه: "لا يقدر الابن أن يعمل شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل. لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يو 5: 19). وأيضًا: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). فلا يوجد تعارض في العمل إذ يقول الرب في الأناجيل: "كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي" (يو 17: 10).

هذا نعلمه بالتأكيد من العهدين القديم والجديد، لأن الذي قال: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) بالتأكيد تكلم مع أقنوم معه.

وأوضح من هذا كلمات المرتل: "هو قال فكانت، وهو أمر فخُلقت" (مز 148: 5). فكما لو أن الآب أمر وتكلم والابن صنع كل شيء كأمر الآب.

 يسوع المسيح خالق الكل بأمر الآب

24. إذن المسيح هو ابن الله الوحيد. خالق العالم لأنه "كان في العالم، والعالم به كونّ" و"إلى خاصته جاء" كما علمنا الإنجيل (يو 1: 10، 11). لقد خلق المسيح كأمر الآب ليس فقط الأشياء التي تُرى بل وما لا يُرى، إذ يقول الرسول: "فإن فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل" (كو 1: 16، 17).

حتى إن تحدثت عن العوالم، فإن يسوع المسيح أيضًا هو خالقها بأمر الآب، إذ "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكي شيءٍ، الذي به أيضًا عمل العالمين" (عب 1: 2)، هذا الذي له المجد والإكرام والقدرة الآن وإلى أبد الأبد آمين.

تامل من حزقيال 1 .. الأربعة مخلوقات الحية ++ القمص تادرس يعقوب


تامل من حزقيال 1 ..  الأربعة مخلوقات الحية ++ القمص تادرس يعقوب

 أ. في سفر الرؤيا رأى القديس يوحنا لكل مخلوق حيّ وجهًا فرأى في الأربعة أربعة وجوه فقط.

 أما حزقيال النبي فيقول إنه رأى أربعة وجوه لكل مخلوق حي، من كل جانب وجه. ولعل السبب أن الأول تطلع إلى هذه الخليقة من جانب واحد، أما الأخير فتطلع إليها من كل الجوانب،  إذ أنه رأى المركبة في حالة تحرك من كل الجهات.

 هذه الوجوه كما يرى القديس يوحنا الذهبي الفم تشير إلى تشفع هذه الكائنات الروحية في جنس البشر (مثل وجه إنسان) وفي حيوانات البرية (شبه وجه أسد) وحيوانات الحقل (شبه وجه ثور) وطيور السماء (شبه وجه نسر)، لأنها كائنات قريبة من الله له المجد أكثر من سائر الروحانيين السمائيين.

 وإن أخذنا بتفسير القديس غريغوريوس النزينزي والعلامة أوريجينوس نرى في المركبة النارية النفس وقد تقدست بكل طاقتها لتحمل العرش الإلهي، فالأسد يشير إلى القوة الغضبية، والعجل إلى الشهوانية، والإنسان إلى النطقية (العقلية) والنسر إلى الروحية. هذا هو عمل الروح القدس في النفس، إنه يلهب طاقاتنا بناره لا ليحطمها بل ليقدسها ويجعلها متكاملة معًا، فتصير أشبه بمركبة نارية تحمل الله فيها!

 وإن أخذنا بتفسير القديس فيكتوريانوس وإيريناؤس نرى في هذه الوجوه إشارة إلى الأناجيل الأربعة التي تدخل بالنفس إلى الخلاص فتتمتع بالملكوت لا كأمر خارج عنها بل في داخلها، وتصير هي مَقْدسًا للرب.

وإن أخذنا بتفسير القديس إيرونيموس نرى أن سر حملنا لله النار الآكلة يكمن في تمتعنا بالخلاص الإلهي من خلال التجسد (شبه وجه إنسان) والصلب (الثور) والقيامة (الأسد) والصعود (النسر). بهذا السر، سر الإله المتجسد المصلوب القائم من الأموات والصاعد إلى السموات تنطلق النفس كمركبة نارية لتحمل بالروح القدس الحياة الإلهية في داخلها.

أخيرًا إن كانت هذه الكائنات الأربعة تمثل الكنيسة المقدسة الحاملة للحياة الإلهية في داخلها فإن هؤلاء الأربعة إنما هم الأسقفية والقسيسية والشموسية، والشعب، إنهم أركان رئيسية تعمل معًا لحساب السيد المسيح، أيّ اختلاف لركن منها يفقد الكنيسة اتزانها ويسئ إلى رسالتها. إن فقد ركن عمله أو تفاعله مع الأركان الأخرى يخسر الكل حيويته، فالكنيسة ليست مُركَّزة حول أسقف أو كاهن أو شماس أو مسئول علماني (من الشعب) لكنها حياة متكاملة ومتفاعلة معًا.

ب. يظهر كل مخلوق بأربعة أجنحة، أما في سفر الرؤيا فلكل مخلوق ستة أجنحة، ولعل الاختلاف ناجم عن ظهور ما سماه حزقيال النبي بالمقبب على رؤوس الخليقة الحية، وكأن كل مخلوق حيّ قد رفع جناحين فوق رأسه على شكل قبة ليستر عينيه من بهاء عظمة الله، فلم يظهر الجناحان المرفوعان بل الأربعة الآخرين.

هكذا النفس التي تتمتع بحياة الشركة مع الله خاصة خادم الرب، تصير كأنها كاروب بستة أجنحة تستر نفسها بجناحين، وتطير نحو الله بجناحين، وتخفي عينيها بالجناحين الآخرين من بهاء عظمته! وقد لاحظ حزقيال النبي أن أجنحة الكاروبيم متصلة الواحد بأخيه ، فإن كان الكاروب يمثل أعلى طغمة سماوية فإن حياته المقدسة الملتهبة نارًا لا تقبل كسرّ حمل للعرش الإلهي إلا باتحادها مع حياة غيره. ولعل هذا ما دفع القديس مقاريوس الكبير إلى القول: بإن خلاص الإنسان في حياة الآخرين، إذ لا يستطيع التمتع بالخلاص منعزلًا عن أخيه بل بكونه عضوًا معه في الجسد الواحد للرأس الواحد. 

ج. أرجلها قائمة وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل وبارقة كمنظر النحاس المصقول الأرجل القائمة تمثل استقامة الإنسان الروحي، الذي له قدمان كالنحاس المصقول، تدكان الأرض وتحطمان الأشواك؛ وتبرقان ببهاء السماويات دون أن تتسخا بتراب العالم. فالمؤمن الحقيقي يسير على العالم بلا خوف، متجها نحو السماء دون ارتباك بالزمنيات.

د. "أيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة" .

الإنسان الروحي يعيش طائرًا في السمويات كما بأجنحة الروح، يداه مستعدتان دائمًا للعمل لحساب ملكوت الله، لخدمة كل بشر! له الأجنحة كما الأيدي! ولعل وجود الأبدي تحت الأجنحة يعنى أن السمائيين يتعبدون لله ويخدمون البشر، لهم روح العبادة والخدمة معًا!

ه. "أجنحتها متصلة الواحد بأخيه"

 أي يتعبد الكل معًا بروح الحب والانسجام والوحدة.

و. أيضًا تطلع النبي إلى هذه المخلوقات الحية فرأى وجوهها من كل جانب وكأنها بلا ظهر، تستطيع أن تتحرك في كل الاتجاهات دون أن تستدير وكأنها بلا ظهر، إذ يليق بالحامل للعرش الإلهي وقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى الله بلا عائق.

لذلك عندما أخطأ الشعب لله عاتبهم قائلًا: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" (إر 2: 27). التعبير الذي استخدمه أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (7: 24، 18: 17، 32: 33)، وكأن حزقيال النبي جاء يكمل كلمات النبي إرميا بأسلوب آخر، فعوض أن يوبخهم على تقديم القفا لا الوجه يثير فيهم الاقتداء بهذه الخليقة السماوية فلا يكون لهم قفا مطلقًا بل تكون حياتهم في الرب كلها وجوهًا ولقاءات معه!

يصف النبي تحركها، قائلًا: "إلى حيث تكون الروح لتسير تسير".

فالروح القدس هو الذي يقود الموكب الإلهي، يقود السمائيين والأرضيين المقدسين في الحق. يكرر كلمة "تسير" ليؤكد ضرورة التزامنا بالسير حسب خطة الروح القدس وتحت قيادته بلا انحراف يمينًا أو يسارًا.

 ز. رأى النبي المخلوقات الحية دائمة الحركة بطريقة متناسقة، وهي كجمر نار متقد كمنظر مصابيح من النار ويخرج منها أشبه بالبرق .

إنها صورة حيَّة لعمل الله فينا الذي يجعلنا دائمي الحركة نحوه، ُيلهبنا فيجعلنا نارًا متقدة، وينيرنا فنصير كالبرق مملوئين به بهاءً. إننا نتحرك بالروح الناري القدوس!

 ج. صوت حركتها مرعب كصوت مياه كثيرة، كصوت جيش.

هذا هو عمل الله في حياتنا، يجعل من النفس جيشًا قويًا لا يغلبه الشيطان وكل قواته. لهذا يقول القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصاة، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم.

 ويقول الأب ثيؤدور الميصصي: الآن قد اُخترت لملكوت السموات، ويمكن التعرف عليك. إن فحصك أحد يجدك جنديًا عند ملك السماء.

ط. وفي الأصحاح العاشر دعي حزقيال النبي المخلوق الحيّ كاروبًا. والعجيب أن الكاروب ارتبط بخلاصنا ارتباطًا وثيقًا، ظهر في أول أسفار الكتاب المقدس ممسكًا سيفًا ملتهبًا نارًا يحرس طريق الفردوس حتى لا يدخل الإنسان إلى شجرة الحياة. إذ لا تقدر طبيعة الإنسان الساقطة أن تقترب من سر الحياة؛ كما ظهر في آخر أسفار الكتاب المقدس مع الأربعة وعشرين قسيسًا السمائيين يشتركون في تسبحة الحمل التي هي تسبحة خلاصنا (رؤ 5: 9)، إذ صار للإنسان حق الدخول إلى السماء عينها وقد تمجدت طبيعته في المسيح يسوع الحمل الحقيقي.

 أما بين بدء الكتاب ونهايته فيظهر أيضًا كاروبان على تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل علامة الحضرة الإلهية، وكان الله يتحدث مع موسى من خلالهما. أما وجود كاروبين فوق تابوت العهد حيث يمثل عرش الله، فيشير إلى أن الله الساكن وسط شعبه يتحدث معهم ويعاملهم خلال الرحمة والحب. أيضًا وجود اثنين يشير إلى دور السمائيين من نحونا: الصلاة لأجلنا والعمل كخدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14). ورسم شكل الكاروب على ستائر الخيمة والحجاب (خر 27-25) يقترب من شكل الإنسان مجنحًا ليعلن عن اقتراب الطبيعة البشرية إلى الحضرة الإلهية.

 لقد عرف الإنسان الكاروب، فصار ليس غريبًا عن البشرية، لهذا عرفته الأمم ولاسيما الكلدانيون، وإن كانوا قد أضفوا عليه أشكالا من عندياتهم كما فعل سائر الأمم في كل الحقائق الإيمانية التي تسلموها شفاهًا بالتقليد وصبغوها بفكرهم المنحرف.

إذن حين نرى الكاروب إنما نتذكر طبيعتنا البشرية التي تمتعت بالخلاص من خلال اتحادها مع الله في المسيح يسوع ربنا بواسطة روحه القدوس. أما وجوهه الأربعة فتشير إلى تقديس طبيعتنا الجديدة من كل جوانبها: العقلية (إنسان) والروحية (النسر) والعمل (الثور) والسلطان (الأسد).

ى. تبع القديس إكليمنضس السكندري فيلون اليهودي قائلًا: إن كلمة "كاروب" تعني "معرفة"، وكأنه من خلال المعرفة الروحية تصير حياتنا مركبة تحمل الله داخلها.

هذا ما قبله أيضًا القديس جيروم الذي رأى في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية. تعمل في طبيعتنا المتسلطة على الشهوات كأسد، وتحلق في الأمور العلوية كنسر وتعمل مجاهدة كالثور وبتعقل كإنسان. هذه المعرفة نغترفها من الأناجيل الأربعة، إذ يقول نفس القديس: متى ومرقس ولوقا ويوحنا هم فريق الرب الرباعي، الكاروبيم الحقيقيون، أو مخزن المعرفة؛ فإن جسدهم مملوء عيونًا ومتلألئ كالبرق...، أقدامهم مستقيمة ومرتفعة، ظهرهم مجنح،  مستعدون للطيران في كل الاتجاهات، كل واحد منهم يمسك بالآخر يتشابك الواحد مع غيره، كالبكرات وسط البكرات يتدحرجن على طول الخط، يتحركن حسب نسمات الروح القدس.

 ك. "المخلوقات الحية راكضة وراجعة مثل البرق".

ربما يشير بذلك إلى خدمة السمائيين الذين يُرسلون إلينا لكنهم سرعان ما يركضون ليرجعوا إلى حيث العرش الإلهي يتمتعون برؤية الله. والمؤمن الحقيقي الذي يلتهب قلبه بالاشتياق نحو مخلصه، بين الحين والآخر يركض قلبه وفكره وتركض كل أحاسيسه لترجع كالبرق تتمتع بالتأمل في مخلصها. إنها تصرخ مع الرسول: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23).

العذراء مريم ... الشفيعة المؤتمنة ++ نيافة الأنبا رافائيل



العذراء مريم ... الشفيعة المؤتمنة ++ نيافة الأنبا رافائيل

"طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما... بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 27:11،28).

"طوبى التي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو 45:1).

طوبى لمريم العظيمة التي "كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها" (لو 19:2).

طوبى لمن تكلمت بالروح القدس معلنة "فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى" (لو 48:1).

نطوبك يا ذات كل التطويب لأنك بالحقيقة ارتفعت على كل السمائيين وصرت سماء ثانية تحمل القدوس كالشاروبيم وأبهى.

يا للعجب.. الأم الأعجوبة.. الأم والعذراء.. الأم والأمة.. الملكة العبدة كيف لعقلى الصغير أن يستوعب هذه الأعجوبة.

فتاة صغيرة يهودية تحمل في حضنها (يهوه).. إخبرنى يا أمى كيف استوعب الخبر.. وكيف احتملت الخبرة.. من تخافه الملائكة وترتعب أمامه القوات.. من يقف الكهنة أمامه بكل احتشام ويتطهرون عندما يكتبون اسمه.. كيف حملتيه أنت في بطنك وحضنك وكف رضع من لبن ثدييك.

أخبرينى يا عروس المسيح الباهرة كيف كان (يحبو) يسوع.. ومتى تكلم.. وكيف نطق الحروف الأولى.. أخبرينى عن أسرار الملك إذا أنه (شابهنا في كل شيء) وكان مثلنا "يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 52:2) ولكنه كان "ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة وكانت نعمة الله عليه" (لو 40:2).

أحكى يا أم النور عن النور والهاء الذي كان يحيط بطفلك العجيب.. وخبرينا عن المجد والوقار والرزانة والنعمة المنبعثة من شخصه القدوس طوباك يا مريم لأنك عاينت ما لم تره عين.. وخبرت ما لم يختبره إنسان وصدقت ما يفوق العقل.. وعقلت ما يصيب بالذهول.

إننى أقف من بعيد يحجبنى الزمان السحيق والمكان البعيد... أقف مذهولًا من الأمر نفسه الذي استوعبته أنت وعشته.

قلبى ولسانى وعقلى وحواسى يتيهون.. وقلمى يسبق الكلمات.. ومشاعرى مختلطة ولا أستطيع الكلام أن أرتب العبارات.. لأننى مأخوذ ومشدود بسبب بهائك الكامل يا أم كل طهر واصل البتولية.

العذراء عروس الله

"هاأنت جميلة يا حبيبتى. ها أنت جميلة عيناك حمامتان" (نش 15:1)، "كلك جميل ياحبيبتى ليس فيك عيبة" (نش 7:4)، "قد سبيت قلبى ياأختى العروس.. قد سبيت قلبى ما أحسن حبك ياأختى العروس.. شفتاك يا عروس تقطران شهدًا، تحت لشانك عسل ولبن ورائحة ثيابك كرائحة لبنان، أختى العروس جنة مغلقة عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 9:4-12).

لم تكن العذراء فقط أم الله "طوبى البطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما" (لو 27:11)، بل هي أيضًا عروس الله وصديقته التي كانت "تحفظ كلامه في قلبها" (لو 51:2)، لذلك فقد نالت الطوبتين "إن القديسة مريم استحقت التطويب من اجل إيمانها بالمسيح أكثر من ونها حبلت به، إن صلة أمومتها بالمسيح لم تعطها أي ميزة.. الميزة الحقيقية التي للقديسة مريم، هي في كونها حملت المسيح في قلبها ولى في بطنها" (أغسطينوس).

لقد خضعت العذراء في حى وفرح "هأنذا أمة الرب ليكن لي كقولك" (لو 38:1). واحتملت سيوفًا كثيرة "وأنت يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكا من قلوب كثيرين" (لو 35:2).

ولكنها في هذه لكها كانت أنموذجًا رائعًا للاحتمال والهدوء والوداعة.. صم صاغت هبرتها هذه في عبارة نصيحة لكل الأجيال "مهما قال لكم فافعلوه" (يو 5:2).

نعم يا أمى الطاهرة سأطيع أبنك واخضع لتدبيره.. هوذا أنا عبد للرب ليكن لي كقولك وكتدبيرك لحياتى وكخطتك لي قبل أن أولد وليتمجد اسمك القدوس في وفي كنيستك.

وأنت يا أمى المحبوبة..

أتوسل إليك يا حبيبتى العروس.. اسنيدينى بعطفك لكي أتمم مشيئة ابنك فى.. ولكى اخضع لصوته الإلهى. دون تردد أو تذمر أو إحجام.

وأتمم عمله في دون عائق أو مانع.. مجدًا وإكرامًا للثالوث القدوس وسلامًا وبنيانًا لكنيسة الله. العذراء صديقة الإنسان.

لقد فشلت حواء أن تكون "أم كل حى" (تك 20:3) لأنها جلبت علينا حكم موت فصار كل مولود منها ومن نسلها ابنًا للموت ووقودًا للهلاك، ولن مريم العذراء صارت وسيلة وسلمًا ينزل عليه الله الحى.. لكي يحيى جنس البشر.. يحينا عندما نتحد به في تجسده بواسطة المعمودية والافخارستيا فنصير أيضًا أعضاء فيه.. ونصير أيضًا أبناء لمريم بسببه.. وهكذا تصير العذراء مريم (أم جميع الأحياء) وتصير بالحق (حواء الثانية) ورفعت من شأن جنسنا (أنت بالحقيقة فخر جنسنا) وصارت لنا شفيعة ترفع احتياجاتنا لابنها الحبيب، "ليس لهم خمر" (يو 3:2) وتتوسط لديه لغفران خطايانا ولكى يسندنا في جهادنا وتوبتنا وفي خدمتنا ونمونا.

إن العذراء عندما رفعت احتياج الناس لابنها (ليس لهم خمر) لم تكن تلفت نظره إلى حدث فاته ولم تكن تحاول الحصول على موافقة صعبة ولكن وساطتها تكون بسبب اتحاد قلبها الرقيق برحمة ابنها وشفقته وموقفها النبيل يعبر عن محبة ابنها وحنانه غير المحدودين إنها وهي الأم التي تعرف قلب الابن تفجر فيه ينابيع الحب تجاه البشر وتشفع فينا لتستجلب مراحم الله الصادقة ولكنها أيضًا فيما تشفع فينا توجهنا أن نطيعه "مهما قال فافعلوه" (يو 2:5). فرسالة العذراء لنا أن نطيع ونخضع وننفذ مشيئة الله فيا ونحن دائمًا الرابحين لأن إرادة الله لحياتنا هي دائمًا للخير والبنيان.

"ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده" (رو28:8).

فطوبى للنفس التي تخضع للمسيح، ستستفيد بشفاعة العذراء. وطوبى للقلب الذي يعشق المسيح، ستكون العذراء سنده. وطوبى لمن جعل المسيح منتهى أمله، ستحضر العذراء إليه عند انفصال نفسه من جسده.

لقد صارت العذراء أمًا لكل البشرية عندما قرر المسيح على الصليب مخاطبًا إياها بخصوص يوحنا الحبيب "يا امرأة هوذا ابنك" (يو 26:19) وليوحنا "هوذا أمك" (يو 27:19) لم يكن يوحنا هنا إلا نموذجًا للبشرية المخلصة المحبوبة والتي ترافق السيد حتى في آلامه.. إن كل نفس تشارك المسيح صليبه وترافقه في آلامه تنصير ابنًا للعذراء إن مكان لقاء العذراء مع يوحنا وارتباطها برباط الأمومة والبنوة كان أمام الصليب يا سيدى هبنى صليبًا يجعلنى ابنًا لأمك.. إن كل آلام الصليب تهون واستخفت بها... في مقابل أن أكون ابنًا لأمك البتول آخذها إلى خاصتى (يو 27:19) وتصير معى في مسكنى تشاطرنى الأكل والصلاة... النوم والسهر الخدمة والخلوة... كأم معينة ومنقذة في الشدائد.


العذراء نموذج للكنيسة :

"هؤلاء كلهم (الكنيسة) كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء ومريم أم يسوع ومع اخوته" (أع 14:1) إن العذراء مريم هي عضو أساسى ومشارك مع الكنيسة حتى اليوم في الصلاة والطلبة وإقتبال الروح القدس ولكن عضوية أم النور عضوية متميزة فهي نموذج ومثال رائع لما ينبغى أن تكون عليه النفس البشرية التي هي اللبنة الصغيرة في بناء الكنيسة الكبير.

1- فكما أن العذراء ولدت المسيح الذي هو رأس الكنيسة فإن الكنيسة في كل يوم تلد أعضاء جددًا للمسيح في الجسد بالمعمودية "أما أورشليم العليا فهي حرة وهي أمنا جميعًا فهي حرة" (غل4:26).

2- وكما أن ولادة العذراء للمسيح كانت بالبتولية بسبب اتحادها بالروح القس فكذلك تلدنا الكنيسة بفعل الروح القدس بالأسرار.

3- وكما أن العذراء بقيت عذراء بعد الولادة كذلك الكنيسة تحفظ عذراوية كيانها المقدس بالرغم من وجودها في العالم بكل أغراء أته فالكنيسة للعالم هي نور وملح ولكنه نور لا ينبغى أن ينطفئ وملح لا يجب أن يفسد.

4- والعذراء وقد صارت أمًا لله نظرت إلى نفسها كأمة متواضعة وكذلك الكنيسة تسلك بروح الوداعة والاتضاع والمسكنة بالروح والأسرار التي كثرة المواهب والأسرار التي تمتلكها بقوة وفعل الروح القدس.

5- والعذراء في هدوء "آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (يو 45:1) وسلمت أمرها للرب "ليكن لي كقولك" (لو 38:1) وكذلك تمسكت وحافظت بالإيمان السليم وحافظت عليه وحياتها في قلبها وطقسها وحياتها مسلة كل المشيئة لله الذي يقود ويدبر الكنيسة بحكمته وعين رعايته الساهرة.

6- والعذراء مريم جاز في نفسها سيف الألم عندما شك يوسف فيها.. وعندما ظن اليهود فيها ظنونًا. وبالأكثر عندما رأت أبنها الحبيب الحنون معلقًا على الصليب "العالم يفرح لقبوله الخلاص وأما أحشائى فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك، الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابنى وإلهى" (الأجبية). وكذلك الكنيسة عاشت وتعيش مضطهدة ومتألمة ومرفوضة من العالم ، كحملان وسط ذئاب (لو 3:10) ولكما ازداد الألم والضغط على الكنيسة كلما نمت وتمجدت لأن الآلام دائمًا معبرنا للمجد ولأن رئيس خلاصنا ورأس جسدنا هو المسيح المصلوب.

7- والعذراء خدمت البشرية واجتذبتها للخلاص بهدوئها وصمتها، "لأنك قدمت لله ابنك شعبًا كثيرًا من قبل طهارتك" (التسبحة اليومية).

وكذلك الكنيسة تعمل في البشرية كمثل الخميرة التي يسرى مفعولها في هدوء لتخمر العجين كله. فليست الخدمة الفعالة هي ذات الرنين العالى والشهوة الواسعة والدعاية الجوفاء.. ولكن الخدمة الفعالة هي خدمة العمق والهدوء والرزانة تلك التي خدم بها انطونيوس وأبو مقار وغيرهم فربحوا نفوسًا كثيرة للملكوت وكان النموذج الرائع لهذه الخدمة الأم العذراء بطهارتها وعمقيها وزانتها المؤثرة.

إن مجرد ذكر اسم العذراء يبعث النفس على الخشوع والصلاة ويملأ القلب بهجة ووقار ويشيع في الجسد قداسة ونقاء.. إنها كأم تجمعنا حولها.. وتقدمنا لابنها.. فلنهتف إذًا مع أليصابات "مباركة أنت في النساء" (لو 42:1).

تفسير سفر المزامير 13 ++ إلى متى يا رب....؟ +++ القمص تادرس يعقوب


تفسير سفر المزامير 13 +++ القمص تادرس يعقوب
إلى متى يا رب....؟

 يبدو أن داود قد واجه تجارب لا تنتهي في فترةٍ ما من حياته. وقد جاء هذا المزمور بمثابة تضرع يسكبه أمام الله حتى يعينه ضد أعدائه.

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور لم يُكتب أثناء متاعب داود مع شاول، لأنه هذه المتاعب كانت قبل سقوطه في خطيته الشنعاء. ففي رأيهم أنه وضع هذا المزمور أثناء تمرد أبشالوم، عندما أسرع هاربًا من وجه ابنه. غير أن سحابة الحزن الخارجي لم تكن إلا رمزًا باهتًا لما قد ثقل على نفسه داخليًا بسبب الخطية، الأمر الذي كان أكثر سوادًا من ظلمة منتصف الليل.

يعبر هذا المزمور الصغير عن آلام داود الشحصية، سجلها كصرخة قوية وصريحة تخرج من أعماق نفسه المتألمة ليرتمي في أحضان مخلصه الذي يخرج به من المرارة إلى حياة الفرح والتهليل. وقد جاء هذا المزمور صلاة تضم كل عناصر المرثاة: شكوى، توسل، ثقة، شكر؛ التي تناسب كل إنسان بار يعاني من متاعب داخلية وخارجية.

يقول وليم بلامر: يأتي تسلسل هذا المزمور طبيعيًا وبطريقة رائعة. ففي الآيتين 1، 2 يصرخ داود: "إلى متى؟"، مرددًا إياها أربع مرات؛ وفي الآية 3 يبدأ في جدية يصرخ طالبًا العون. وفي الآية 4 يستخدم أسلوب المحاججة الذي غالبًا ما يستخدمه مع الله... وإذ يتوسل يزداد إيمانًا؛ وإذ يؤمن يفرح في الرب، وإذ يفرح ينطلق طافرًا بتسابيح الحمد.

 1. إلى متى يا رب؟

بدأ داود النبي بسؤال، إذ رأى خارجه أن الأعداء قد ارتفعوا، ونفسه في داخله حزينة، والله من فوق صامت.

يكرر داود في الآيتين 1، 2 "إلى متى...؟" أربع مرات، معبرًا عن إحباطه وفزعه، ويرى البعض أن التكرار هنا أربع مرات يُظهر أن المرتل يصرخ لا باسمه الشخصي وإنما باسم الشعب كله الذي سقط في الأسر أربع مرات: الأسر البابلي، والفارسي (المدياني)، والإغريقي، والروماني. وهكذا يُحسب هذا المزمور مرثاة جماعية ونبّوة تاريخية. وربما كرر المرتل هذه الكلمات أربع مرات ليعلن أنه أينما ذهب: شرقًا أو غربًا أو شمالًا أو جنوبًا لا يجد راحة، لأن الله قد حجب وجهه عنه.

ليس كل تكرار في الصلاة مرفوضًا إنما يُرفض التكرار الباطل.

 "إلى متى يا رب تنساني إلى الانقضاء؟ حتى متى تصرف وجهك عني؟ إلى متى أضع هذه المشورات في نفسي والأوجاع في قلبي النهار أجمع؟ إلى متى يرتفع عدوي عليّ؟"

لم يجد داود راحة لنفسه في كل الأرض، لا بسبب تمرد ابنه، وإنما بسبب خطيته التي تجعل الله يحجب وجهه عنه. وقد استعار المرتل هذا التعبير من إعلانات الله المحسوسة في هيكل قدسه، في خيمة الاجتماع التي كانت ترمز إلى أن القدوس يسكن وسط شعبه المقدس. ليس ما يفرح القلب وينير البصيرة الداخلية مثل حضرة الله الواهبة النعم، بكونه هو حياة النفس ونورها. وليس من ظلمة أكثر رعبًا من تلك التي تنبع عن الشعور بأن الله يحجب وجهه عن الإنسان. لقد بلغت آلام أيوب ذروتها حين قال: "من يعطيني أن أجده... هأنذا أذهب شرقًا فليس هو هناك، وغربًا فلا أشعر به، شمالًا حيث عمله فلا أنظره، يتعطََّفُ الجنوبَ فلا أراه" (أي 23: 3، 8-9).


 "حتى متى تصرف وجهك عني؟" إذ الله لا ينسى، لذلك فهو لا يحجب وجهه، إنما يتحدث الكتاب المقدس بلغتنا البشرية، فيقول إن الله يحجب وجهه بعيدًا عنا، وذلك حينما لا يُعلن معرفته عن ذاته للنفس التي لم تتطهر عيني فكرها بما فيه من كفاية. ++ القديس اغسطينوس

 ما نطق به داود يحمل نبوة عن السيد المسيح الذي يصرخ نائبًا عن البشرية وقد حمل ثقل خطاياها، فيقول للآب: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" ليتنا نتمثَّل به في اتضاعه وصراخه بإيمان سائلًا الآب أن يوجه وجهه نحونا.

أحيانًا يشعر الإنسان في لحظات فتوره الروحي كأن الله قد تركه أو حجب وجهه عنه، وكأن الخطية - عدوه - قد ارتفعت عليه، لا تطلب إلا موته الأبدي... عندئذ لا يجد له ملجأ إلا الله مخلصه، يصرخ إليه لكي يشرق ببهاء وجهه في داخله.

في وقت المرارة يشعر الإنسان كأن الله قد تركه زمانًا طويلًا، لكن إذ يعود فيلتقي بالله خلال مراحمه العظيمة يدرك القول الإلهي: "لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك" (إش 54: 7).

 2. توسل:

"أنر عينَّي لئلا أنام نوم الموت".

شعر داود النبي باحتياجه إلى الله الذي حجب وجهه عنه بسبب خطيته أن يعود فيرد وجهه البهي نحوه، وينير إنسانه الداخلي بنوره الإلهي، حتى لا يستمر في خطاياه، فلا ينام مع الذين ماتوا في خطاياهم.

صرخة المرتل "إلى متى" ليست صادرة عن يأس إنما عن نفس متألمة تعرف كيف تحول الشكوى إلى صلاة، لتنطلق بإيمان إلى الله تطلب منه الاستنارة ببهاء وجهه.

 إنها بدالة الحب تطلب إليه قائلة: "أنظر... أستجب... أنر". فهو وحده القادر أن يدخل إلى أعماقنا، ويتطلع إلى سرائرنا، يستجيب إلى تنهدات قلبنا الخفية، وينير طبيعتنا التي صارت ظلمة.

 لكي نقترب من النور الحقيقي، أعني المسيح، نسبحه في المزامير، قائلين: "أنر عينَّي لئلا أنام نوم الموت". فإنه موت حقيقي هو موت النفس لا الجسد حين نسقط عن استقامة التعاليم الصادقة ونختار الباطل عوض الحق. لذلك يلزم أن تكون أحقاؤنا ممنطقة وسرجنا موقدة كما قيل لنا هنا ++ القديس كيرلس الكبير

إذا ما أغلق الإنسان عينيهِ عن الرحمة، ينام في شهوات الملذات الجسدية ++ الأب قيصريوس أسقف آرل

 إذ يشرق مسيحنا في داخلنا يهبنا بروحه القدوس البصيرة المنيرة، فننال فهمًا جديدًا لحب الله وأبوّته وعمله الخلاصي، وإدراكًا لسرّ المسيح الذي يضم الشعوب والأمم إليه كأعضاء جسده المقدس، وامتلاءً من روحه الناري الذي لا تقدر مياه كثيرة أن تطفئه في داخلنا؛ كما يهبنا العين المفتوحة القادرة أن تعاين الأمجاد السماوية، وأيضًا نظرة جديدة للبشرية كلها تتسم بالحب الباذل العملي من أجل الكل.

بهذه الاستنارة لا يبقى للظلام موضعًا في النفس ولا في الجسد أو في الفكر أو القلب إلخ... بل يكون كل ما في داخلنا وخارجنا مستنيرًا بالرب.

 "لئلا يقول عدوي: إني قد قويت عليه. الذين يحزنونني يتهللون إن أنا زللت" .

هكذا قدم داود النبي صلاة قصيرة نابعة عن احتياجه، لكنها قوية. إنه إنما يطلب من الله أن يشرق عليه بنوره. وقد نصحنا آباء الكنيسة أن نردد صلوات قصيرة على الدوام، تسمى "الصلاة السهمية"، لأنها توجه كالسهم ضد الشيطان.

من هو هذا العدو الذي يخشى المرتل أن يقوى عليه ويعيَّره؟ إنه إبليس أو الخطية. يخشى المرتل سخرية أعدائه، الذين يتهللون إذا ما تزعزع مؤمن ما، ويُسر جدًا بهذا النجاح وإن كان مؤقتًا!

ما أعجب الله الذي كثيرًا ما يسمح لشعبه أن يسقطوا إلى حين تحت عنف أو استبداد أزواج أو والدين أو سادة أو قادة. كان لابد لدانيال وزملائه الأتقياء أن يعيشوا تحت سطوة حكام كلدانيين لهم نزواتهم. وعاشت أبيجايل مع زوج هو ابن لبليعال، لا يجسر أحد أن ينطق أمامه بكلمة. هذه هي المدرسة التي يتتلمذ فيها القديسون لمنفعتهم ونوالهم المجد، فإن الصعاب غير المحتملة تقودنا إلى البركة والنصرة

 3. أغنية النصرة:

ثقة داود أو إيمانه بالله قد حوّل حزنه إلى تسبحة مفرحة، وآلامه إلى خلاص، لهذا يقول المرتل:

"يبتهج قلبي بخلاصك. أسبح الرب المحسن إليّ. وأرتل لاسم الرب العالي" .

يقول Stuhlmueller: من الصعب أن ندلل على سبب هذا التحول المفاجئ: هل تعافى المرتل بسرعة؟ من المحتمل أن المزمور قد نُظم عبر ليالٍ طويلة من الأرق، والآلام المُرّة والصلوات اليائسة، والذكريات القاسية، كل هذا تطور تدريجيًا لينشئ سلامًا، حتى عند الموت يتحول غضب الإنسان أو كآبته إلى سلام داخلي وحب راسخ.

بدأ المزمور بالتنهدات وخُتم بالتسابيح، وكما تقول العروس: "لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال؛ الزهور ظهرت في الأرض؛ بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سُمع في أرضنا" (نش 2: 11-12). وكما يقول ابن سيراخ: "انظروا يا بني البشر واعلموا أنه ما من أحد توكل على الرب وخزى" (2: 11).