تفسير سفر مراثي إرميا 1 ... أورشليم المُتَرمِلة المْنسِيَة ++ القمص تادرس يعقوب


 تفسير سفر مراثي إرميا 1 ... أورشليم المُتَرمِلة المْنسِيَة ++ القمص تادرس يعقوب

في سفر إرميا كما في المراثي يكشف النبي عما يشعر به، ليس كمتفرجٍ للأحداث، وإنما بكونه عضوًا في هذا الشعب، ما يحل بهم من متاعب كأنها تحل به شخصيًا بالرغم من تحذيراته المستمرة لهم. لهذا لا نعجب أنه في النصف الأول للمرثاة الأولى يئن قلب النبي وهو يصف ما حلّ بوطنه وشعبه؛ وفي النصف الثاني يُعلن عن المر الذي حلّ به، ليس إلا كوجه آخر لنفس الكارثة.

يبدو كأن اثنين يتحدثان، أحدهما الشاعر الذي يكتب كملاحظ خارجي يتحدث عن المأزق الذي سقطت فيه أورشليم، فيشبهها بأرملة تعاني من المرارة. والثاني كأن أورشليم نفسها هي التي تتحدث عما حلّ بها، كسيدة حزينة لا معزٍ لها. الكاتب واحد، وهي مرثاة واحدة لا اثنتين، إنما هذه الحركة هي حركة ديناميكية تدعو القارئ أن يقف أولًا ليرى بنفسه كما من الخارج، ثم يدخل إلى عمق المشكلة ليجد أن ما حلّ بالمدينة إنما حلّ به شخصيًا. وكأن القصيدة تقدم وصفًا لمن يتطلع إليها من الخارج، وما تعلنه هي من الداخل.

تبدأ المرثاة بحديث النبي واضع القصيدة المر النفس كمن يتطلع إلى المدينة المحبوبة إليه، وقد صارت أشبه بأرملة تعرضت لمفاسد خطيرة . يلي ذلك حديث أورشليم نفسها كامرأة حزينة تئن في أعماقها.

تشبه مدينة أورشليم بأرملة مع أنها كانت المدينة العظيمة بين الأمم، والتي كانت تسمى مدينة الملك العظيم (مز 48: 2). فقدت استقلالها وحريتها، فأصبحت تحت الجزية. أصبحت نائحة ومهجورة بسبب عدم وجود الصاعدين إلى الهيكل ليعيدوا. هذه الأبواب دخلتها جيوش نبوخذنصر وأحرقتها. "لم تصدق ملوك الأرض وكل سكان المسكونة أن العدو والمبغض يدخلان أبواب أورشليم" (مرا 12:4).

تنتهي المرثاة بصرخة إلى الله يعترف فيها النبي باسم شعبه كله أنه يستحق ما حلّ به ، ولكن التأديب مرّ للغاية، استغله المجرب (بابل كرمز لإبليس وقواته أو ملائكته)، فيطلب أن يحل بعدو الخير ما فعله بالمؤمنين أثناء تأديبهم .
تصور المرثاة حال كل الفئات هكذا:

- المدينة في حالة ترمل، فقدت عريسها السماوي، وبلا أصدقاء، تركها الحلفاء، وحُسبت زانية في عارٍ.
- الكهنة يتنهدون، عوض رفع القلوب إلى الفرح السماوي.
- الرؤساء أصبحوا مثل الأيائل التي لا تجد مرعى، فتسير بلا قوة أمام طارديها عوض أن يقودوا الشعب إلى النصرة.
- العذارى اللواتي تمثلن فئة متهللة بالرب، صاروا في مرارة المر.
- الأولاد الذين كانوا يمرحون في صبوتهم، ذهبوا إلى السبي قدام العدو، وكذلك العذارى والشبان.
- كل الشعب يتنهد طالبًا الخبز، كما أن الكهنة والشيوخ ماتوا جوعًا، لأنه ليس خبز. كل ما حدث لأورشليم حدث بسبب خطاياها وشرها، وأن الله بار في كل معاملاته.
- الأعداء يضحكون عليها بسبب هلاكها، وعندما سمعوا ببليتها فرحوا وتهللوا.

يتلخص مفتاح هذه المرثاة في الأفكار التالية:

أ. الرب هو الذي يسمح بالمذلة كتأديبٍ أبوي.
ب. ما حلّ بأورشليم ليس ظلمًا، وإنما هو ثمرة عصيانها.
ج. إن كان الله قد استخدم بابل للتأديب، لكن بابل نفسها شريرة ويلزم عقابها.

1. أورشليم الأرملة المنسية

لم يبدأ السفر بمقدمة تروي سبب هذه المراثي، فالإنسان في حزنه الشديد لا يجد وقتًا ولا قدرة للحديث عن تفاصيل أحداث معينة، إنما يحاول التعبير عما يئن به قلبه، وإن كانت اللغات البشرية كثيرًا ما تقف عاجزة عن التعبير الكامل لما حلّ بقلب الإنسان.

ولعل عدم ذكر الأحداث يدفع كل إنسانٍ أن ينسب المرثاة إليه شخصيًا متى حرم نفسه من العريس السماوي، بسبب لذة الخطية المؤقتة.

أولًا: مدينة مترملة بلا سلطان كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا الْمَدِينَةُ الْكَثِيرَةُ الشَّعْبِ؟

كَيْفَ صَارَتْ كَأَرْمَلَةٍ الْعَظِيمَةُ فِي الأُمَمِ؟السَّيِّدَةُ في الْبُلْدَانِ صَارَتْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ! 

افتتحت المرثاة بكلمة كيف eikha لتعبر عن شناعة الكارثة، وذلك كما جاء في (عا 5: 2؛ حز 26: 17-18؛ 1 صم 1: 19؛ إش : 21؛ إر 4: 17) وبدأت المرثاتان 2، 4 بنفس الكلمة.

يصور النبي المدينة بملكة صاحبة سلطان أو أميرة محاطة بأصدقاء، لكن فجأة صارت محرومة حتى من رجلها، وتحول أصدقاؤها إلى أعداء مقاومين لها.

حينما انتصر تيطس على أورشليم أراد تخليد هذه الذكرى، فصكَّ عملة عليها صورة امرأة جالسة تحت نخلة، ومكتوب عليها "أسر اليهودية". صارت أشبه بزانية تركت جلست تحت نخلة تنتظر من تسقط معه في الخطية، يأخذها معه في بيته أو خيمته.

في مرارةٍ يعاتب الرب شعبه، قائلًا: "كيف صارت القرية الأمينة زانية؟! ملآنة حقًا، كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون... رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص" (إش 1: 21، 23). اختار الله هذا الشعب لكي يكون العروس المقدسة التي تكرز للعالم بالنور الحقيقي، فتضم الكل معًا، وتصير البشرية مدينة الله المنيرة، والعروس الأبدية. لكن عوض الكرازة بالمخلص، جحدته وأرادت الخلاص منه، فصارت أشبه بزانية ترفض عريسها!

صور إشعياء النبي ما حل بيهوذا على لسان الرب القائل: "غضبت على شعبي... قلتِ إلى الأبد أكون سيدة، حتى لم تضعي هذه في قلبكِ، لم تذكري آخرتها. فالآن اسمعي هذا أيتها المتنعمة الجالسة بالطمأنينة، القائلة في قلبها: أنا وليس غيري. لا أقعد أرملة، ولا أعرف الثَّكل. فيأتي عليكِ هذان الاثنان بغتة في يومٍ واحدٍ: الثكل والترمل" (إش 47: 6-9).

إذ يلتصق الإنسان بالله - ملك الملوك - يقيم منه ملكًا صاحب سلطان، يحمل في داخله انعكاس بهاء الله، لكن إذ يلتصق بالخطية يصير أشبه بجارية، تفقد بهاءها وسلطانها.

إذ يفارق مجد الله الإنسان أو الجماعة، يصير قلب الإنسان أشبه بمدينة زانية مستوحشة ومهجورة، يحل بها الخراب مع الحزن والعار والعبودية. هذا هو عمل الخطية في حياة الإنسان أو الجماعة، فإنها تثير روح الكبرياء والتشامخ، "لأنها تقول في قلبها أنا جالسة ملكة، ولست أرملة ولن أرى حزنًا، من أجل ذلك في يومٍ واحدٍ ستأتي ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار، لأن الرب الإله الذي يدينها قوي" (رؤ 18: 7-8).

ثانيًا: حزن بلا عزاء مع غدر الأصحاب بها تَبْكِي في اللَّيْلِ بُكَاءً، وَدُمُوعُهَا علَى خَدَّيْهَا. لَيْسَ لَهَا مُعَزٍّ مِن كُلِّ مُحِبِّيهَا. كُلُّ أَصْحَابِهَا غَدَرُوا بِهَا.صَارُوا لهَا أَعْدَاءً .

دخلت مملكة يهوذا في صداقة مع بعض الأمم المحيطة بها، وأحبت أوثانهم (إر 2: 20-25)، لكنهم صاروا أعداءً لها في وقت الضيق (2 مل 24: 2؛ مز 137: 7).

بعد أن صوَّرها كملكة صارت أرملة يحيط بها المقاومون من كل جانب، يكشف عما حلّ بها من مذلة. هذه التي كانت حرة صاحبة سلطان، صارت مسبية، عبدة لا موضع لها سوى كالجارية في بيت سيدتها، هكذا صارت بين الأمم لا وطن لها، ولا تملك شيئًا حتى المسكن لتعيش فيه تمارس حريتها.

يقصد بالمحبين الأمم التي كانت أورشليم تتحالف معهم لتتمتع بنوعٍ من القوة والحماية، مثل مصر في ذلك الحين. لكن تتحول أيامها إلى ليلٍ مملوء ظلمة وبلا نورٍ، يحل بها الدمار المفاجئ وليس لها من معزٍ. إنه ليس من علاج سوى التوبة!

إذ لا يبكي الإنسان على خطيته وفقدان قداسته يسمح له بأن ينصرف أقرب من له عنه، فيعاني من الشعور بالعزلة، فيرجع إلى الرب ويدخل معه في شركة، حينئذ يصير في شركة حتى مع السمائيين.

 أدرك إرميا أن الندامة علاج عظيم، فاستخدمها لأجل أورشليم في مراثيه، وتقدم بأورشليم كتائبةٍ: عندما قال: "تبكي في الليل بكاءً، ودموعها على خديها. ليس لها معزٍ من كل محبيها... طرق صهيون نائحة" (مرا 1: 2، 4). بل وأكثر من هذا قال: "على هذه أنا باكية، ليت عيني تسكب مياهًا، لأنه قد ابتعد عني المُعزي، رادُّ نفسي" (مرا 1: 16). فكر إرميا أن يضيف هذه العبارة المُرة، لأنه وجد أن من يعزي الحزانى قد أبعد عنه. فكيف تستطيع أن تنال راحة برفضك للتوبة رجاء الغفران؟

لكن ليت هؤلاء الذين يتوبون، يعرفون كيف يقدمون التوبة، بأية غيرة، وبأية مشاعر، وكيف تبتلع كل تفكيره، وتهز أحشاءه الداخلية، وتخترق أعماق قلبه، إذ يقول إرميا النبي: "انظر يا رب فإني في ضيق. أحشائي غلت، ارتد قلبي في باطني" (مرا 1: 20)... ويقول: "شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض ساكتين، يرفعون التراب على رؤوسهم، يتمنطقون بالمسوح. تحني عذارى أورشليم رؤوسهن إلى الأرض. كلت من الدموع عيناي، غلت أحشائي، انسكب على الأرض كبدي" (مرا 2: 10، 11).

هكذا أيضًا أهل نينوى حزنوا فهربوا من هلاك مدينتهم (يونان 3: 5). يا لقوة مفعول هذا الدواء الذي للتوبة، حتى ليبدو وكأنه يغير نية الله.
فالهروب إذن بين يديك، والرب يريد أن يلاطفك. إنه يود أن يترجاه البشر، ويريد أن يطلبوا منه العون.
إن كنت وأنت إنسان تريد أن يطلب منك الآخرون العفو، فهل تظن أن الله يغفر لك دون أن تسأله المغفرة؟!
والرب نفسه بكى على أورشليم، إذ لم ترد أن تبكي على نفسها... إنه يريدنا أن نبكي لنهرب، كما جاء في الإنجيل: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسكن، وعلى أولادكن" (لو 23: 28).

وداود بكى فنال من الرحمة الإلهية أن ينزع الموت عن الشعب الذي كاد أن يهلك. وعندما عرض عليه أن يختار أحد أمور ثلاثة (كتأديب له) اختار الأمر الذي فيه ينال خبرة عظمى بين يدي المراحم الإلهية.
فلماذا تكف عن البكاء على خطاياك، إن كان الله قد أمر حتى الأنبياء أن يبكوا من أجل الشعب؟!
وأخيرًا حزقيال أمر بالبكاء على أورشليم، وقد أخذ الكتاب الذي جاء في بدايته "مراث ونحيب وويل" (حز 2: 10).
إن من يبكي كثيرًا في العالم يُنقذ في المستقبل، لأن "قلب الحكماء في بيت النوح، وقلب الجهال في بيت الفرح" (جا 7: 4). وقال الرب نفسه: "طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون" (لو 21:6). فلنبكِ إذًا إلى زمانٍ، فنفرح إلى الأبد. لنخفْ الرب وننتظره، معترفين بخطايانا، راجعين عن شرنا، حتى لا يُقال لنا: "ويل لي... قد باد التقي من الأرض، وليس مستقيم بين الناس" (مي 7: 1، 2) ++ القديس أمبروسيوس

ثالثًا: سقوط تحت العبودية قَد سُبِيَتْ يَهُوذَا مِنَ الْمَذَلَّةِ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعُبُودِيَّةِ. هِيَ تَسْكُنُ بَيْنَ الأُمَمِ. لاَ تَجِدُ رَاحَةً. قَدْ أَدْرَكَهَا كُلُّ طَارِدِيهَا بَيْنَ الضِّيقَاتِ.

تم ترحيل الشعب على دفعتين في عام 605 ق.م. و597 ق.م.

من تأسره الخطية يصير كمن يُطرد من بيته، فيفقد الشعور بالأمان. يفقد الشرير سلامه الداخلي وراحة قلبه وهدوء نفسه واتزان فكره، إذ يسقط تحت نير العبودية.

يقول القديس أرسانيوس إنه خير للإنسان أن يكون له سيد واحد (الله) عوض أن يُستعبد لسادة كثيرين (الخطايا المتنوعة). العبودية لله هي الحرية بعينها، لأن الله لم يخلق الإنسان عبدًا، ويفرح بأن يهبه كمال حرية الإرادة وروح الملوكية. أما من يستعبد نفسه للشيطان أو الخطية أو الشهوة، فلن يجد سلامًا داخليًا ولا راحة، بل ويحل عليه الضيق حيث يضيق قلب الخاطي بكل شيء! لا يختبر الحب ولا النصرة!

 أنت تجرح قلبك... والرب يضم جراحاتك... أما غير التائب فيقول عنه الكتاب إن جراحاته لا تضمد، ولا يجد راحة كعبدٍ (للخطية) ++ القديس جيروم

 رابعًا: فقدان الفرح الحقيقي طُرُقُ صِهْيَوْنَ نَائِحَةٌ لِعَدَمِ الآتِينَ إِلَى الْعِيدِ. كُلُّ أَبْوَابِهَا خَرِبَةٌ. كَهَنَتُهَا يَتَنَهَّدُونَ. عَذَارَاهَا مُذَلَّلَةٌ، وَهِيَ فِي مَرَارَةٍ.

المدينة التي كانت تحسب نفسها سيدة العالم في عيني الله، يأتي إليها شعب الله من كل البلدان في الأعياد الكبرى، يسودها الفرح والتسبيح والتهليل كأيقونة للسماء أو الحياة العتيدة، صارت مهجورة، ليس من يأتي إليها، ولا من يمارس احتفال عيدٍ في هيكلها!

حقًا بها كهنة وأيضًا عذارى كن يقمن بدورٍ هام في التسبيح وإعلان بهجة العيد (قض 21: 19-21؛ إر 31: 13، مز 68: 25)، لكن صار هؤلاء وأولئك لا دور لهم سوى الحزن والبكاء وبالأخص في أيام العيد!

إذ حلّ غضب الله عليهم وتم السبي، صاروا لعنة بين الأمم، أما علامة هذه اللعنة، فهي خراب أورشليم حتى في أيام العيد.

يتصور النبي منظر الطرق التي كانت تفرح بالقادمين إلى أورشليم للاحتفال بالأعياد، يُسمع فيها على الدوام صوت التسبيح والفرح. الآن ساد الطرق صمت رهيب مع حزن، لأنه ليس من قادمٍ ليحتفل بعيدٍ ما.

 كيف لا تكون طرق صهيون نائحة، إذ لا يأتيها أحد، ولا يوجد من يسرع في الصعود إلى أورشليم للاحتفال بالعيد والاجتماع هناك؟! ++ القديس ديديموس الضرير

 والآن يا أحبائي، أنا أكتب لكم لأنّ الكنائس قد أتلِفَت والتجاديف تملأ أماكننا العامة، وكل إثمٍ وشر قد انتشر في المدن، واستولت عدم المخافة على نفوسنا وزاغ الكثير منا وراء انحرافات الأريوسيين، ولا يمكننا أن نهرب هنا أو هناك وأن نتجنَّب الدموع بأيَّة حال! لأنّ بيت الله لا يوجد فيه خدَّام، وكنائس الله خاوية من شعبها الكثير، والآن قد صارت المواضع المقدسة مهجورة من الشعب الذي كان يرتادها، وقد جعل الناس من البراري كنيسة مقدسة إذ إنهم عالجوا حزن الكنيسة بتغييرهم لموضعها، لقد مكثوا في البرية ومن هناك قدّموا لله الصلوات الكنسية.

ولكن الكنائس في حالة أنين وأسوارها تستغيث، والأماكن المقدسة لا زالت مهجورة وكأنها تبكي على نفسها. ونحن نقاسي من القول المكتوب: "طرق صهيون نائحة لعدم الآتين إلى العيد" (مرا 1 : 4)... ولذلك أنا أكتب لكم هذا لكي عندما تسمعون بذلك تلتجئون إلى الله بالصلاة. ونحن نعتقد أنّ الله سيرضى عنا وسيضع سريعًا حدًّا لهذا الأمر الذي تفشَّى بسبب خطايانا والتهديدات الموجّهة ضدّنا نحن الخطاة، ويقبل شفاعة صلوات القديسين ++ القديس سرابيون أسقف تميّ

لكن بمجيء كلمة الله المتجسد، اجتذبت كنيسة العهد الجديد شعوب كثيرة إليها لكي تتمتع بالعيد وتفرح بالرب. يقول زكريا النبي: "فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم" (زك 8: 22). ولما كانت أورشليم تعني "رؤية السلام" فإن علامة البركة هي اجتذاب الكثيرين للتمتع بهذه الرؤيا الروحية للمصالحة على الصليب ونوال السلام مع الله.

 في هذا اليوم وُلِد الرب الذي هو حياة وخلاص البشر.
اليوم تمّ الصلح بين الله والإنسان، وبين البشرية واللاهوت.
اليوم اهتزت الخليقة كلها: فالعلويون تقدّموا نحو السفليين والسفليون نحو العلويين.
اليوم أُبيدت الظلمة، وبدأت حياة الإنسان (الحقيقية).
اليوم انفتح الطريق للإنسان نحو الله، وطريق الله نحو النفس البشرية.

في القديم قال النبي: "طرق صهيون نائحة لعدم الآتين إلى العيد" (مرا 1: 4)، مشيرًا بذلك إلى هجران النفس وسُقمها، لأنه لم يكن هناك أي طريق يوصل الله إلى نفس الإنسان وفكره، والنفس أيضًا لم تستطع أن تتقدّم أكثر نحو الله ++ القديس أنبا مقار الكبير

خامسًا: تصير ذيلًا لأعدائها صَارَ مُضَايِقُوهَا رَأْسًا. نَجَحَ أَعْدَاؤُهَا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَذَلَّهَا لأَجْلِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا. ذَهَبَ أَوْلاَدُهَا إِلَى السَّبْيِ قُدَّامَ الْعَدُوِّ .

كثرة خطاياها هي علة هذا الحكم الإلهي (إر 40: 3، دا 9: 7، 16).

"صار مضايقوها رأسًا"، أي سادة يحركون الشعب كعبيدٍ لا إرادة لهم. فإن كان الذي يسمع لصوت الرب ينال هذا الوعد الإلهي: "يجعلك الرب رأسًا لا ذنبًا، وتكون في الارتفاع فقط، ولا تكون في الانحطاط" (تث 28: 13)، فإن من لا يسمع لصوت الرب إلهه تحل عليه هذه اللعنة: "الغريب الذي في وسطك يستعلي عليك متصاعدًا، وأنت تنحط متنازلًا... هو يكون رأسًا، وأن تكون ذنبًا" (تث 28: 43-44).

ذهاب الأبناء إلى السبي يذل الإنسان ويحول حياته إلى مرارة حيث يشعر أن ما مارسه انعكس حتى على أبنائه. ومن جانب آخر فاستعباد الأبناء يحمل نوعًا من اليأس بالنسبة للمستقبل.

هذا هو حال الإنسان، إذ ينحني بإرادته للخطية من أجل شهوة جسدية أو كرامة زمنية أو رغبة في مكاسب مادية، تحتل الخطية مركز القيادة، تحرك كل طاقات الإنسان ومواهبه وقدراته حسبما نشاء، فيصير كأن لا إرادة له!

حين تخضع النفس للخطية ولذتها تصير في عبودية لإبليس، مسلوبة الإرادة، يحركها كيفما يشاء. أما إن التصقت بمخلصها، وتحررت من الشهوات، فيصير العدو تحت قدميها، لا سلطان له عليها. في يديها أن تكون صاحبة السلطان أو أن تخضع في مذلة لا حول لها ولا قوة.

 سادسًا: فقدان البهاء والقوة وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِنْتِ صِهْيَوْنَ كُلُّ بَهَائِهَا. صَارَتْ رُؤَسَاؤُهَا كَأَيَائِلَ لاَ تَجِدُ مَرْعًى، فَيَسِيرُونَ بِلاَ قُوَّةٍ أَمَامَ الطَّارِدِ .

إذ تفقد أورشليم عظمتها يصير قادتها كحيوانات (أيائل) جائعة لا مرعى لها، عاجزة عن الهروب من وجه العدو.
وإذ فارق مجد الرب الهيكل، بل والمدينة كلها (حز 11: 22-24)، فقدت بنت صهيون كل بهائها، وتشتت رؤساؤها في ضعفٍ شديدٍ وخزيٍ أمام طارديهم. هكذا عندما تلتصق النفس بمخلصها يسكب بهاءه عليها، وتسمع ذلك الصوت المفرح: "وجمُلْتٍ جدًا جدًا، فصلُحتِ لمملكة، وخرج لكِِ اسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليكِ، يقول السيد الرب" (حز 16: 13-14).

أما بالنسبة للرؤساء، فيُشيرون إلى العقل والفكر والقلب والإرادة، فمن تقدس بروح الله يحمل إرادة مقدسة قادرة على العمل، وقلبًا نقيًا يرى الله، وعواطف تلهب كيان الإنسان بحب الله والصلاح. أما من سقط تحت سلطان الخطية، فيفسد هؤلاء الرؤساء الذين في داخله، ويصير الإنسان كمن هو بلا إرادة، وتُسحب حواسه وعواطفه نحو الفساد، ويئن متذمرًا بأنه عاطفي! بمعنى آخر إما أن يرفعه رؤساؤه القائمون في أعماقه إلى السماء، أو يحدرونه كما إلى الهاوية!

سابعًا: سلب كنوزها قَدْ ذَكَرَتْ أُورُشَلِيمُ فِي أَيَّامِ مَذَلَّتِهَا، وَتَطَوُّحِهَا كُلَّ مُشْتَهَيَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ. عِنْدَ سُقُوطِ شَعْبِهَا بِيَدِ الْعَدُوِّ وَلَيْسَ مَنْ يُسَاعِدُهَا. رَأَتْهَا الأَعْدَاءُ. ضَحِكُوا عَلَى هَلاَكِهَا .

صارت أورشليم أشبه بالابن الضال الذي ترك بيت أبيه بما فيه من بركات، وأفسد ميراثه في عيشٍ مسرف، وصار يهلك جوعًا، يشتهي أن يأكل مع الخنازير.

صارت أورشليم في بؤسٍ شديدٍ، تذكر الخيرات الوفيرة التي كانت لها لزمانٍ طويلٍ.

ما هي مشتهياتها التي فقدتها أورشليم؟ الهيكل بكل جماله وأثاثاته وأوانيه المقدسة، وبهجة العبادة، وأفراح الأعياد... هذه كلها في حقيقتها ثمرة الالتقاء مع الله، والعشرة معه.

أما مشتهيات النفس وكل كنوزها فهي التمتع بالشركة مع السيد المسيح "مشتهى الأمم". هو كنز النفس وسرّ غناها. هو طعامها السماوي، وشرابها المحيي، وفرحها السماوي، ومجدها الأبدي، وبرّها، وحياتها وقيامتها! لن يكف عدو الخير عن مقاومة النفس حتى يسلب منها هذه الشركة، فتفقد كل شيء! ولن تقبل النفس الحكيمة شيئًا، ولا تطلب إلا أن تقتني عريسها الذي هو كل مشتهياتها. إنها تناجيه، قائلة: "حلقه حلاوة، وكل مشتهيات. هذا حبيبي، وهذا خليلي يا بنات أورشليم" (نش 5: 16).

ثامنًا: صارت رجسة قَدْ أَخْطَأَتْ أُورُشَلِيمُ خَطِيَّةً، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَتْ رَجِسَةً. كُلُّ مُكَرِّمِيهَا يَحْتَقِرُونَهَا، لأَنَّهُمْ رَأُوا عَوْرَتَهَا، وَهِيَ أَيْضًا تَتَنَهَّدُ وَتَرْجِعُ إِلَى الْوَرَاءِ .

ثمرة الخطية العار والخزي "رأوا عورتها"، مع تنهد القلب والمرارة. بالسقوط في الخطية فقدت أورشليم قدسيتها في الرب، وحلت الرجاسات فيها، ففقدت كرامتها وصارت في عارٍ وخزيٍ، كامرأة عارية كما تعرى آدم وحواء. عوض الفرح بالرب صار التنهد والحزن والمرارة لا تفارقها؛ صارت ترجع إلى الوراء، أي تنهار يومًا فيومًا في هزيمة مستمرة أمام الأعداء. فقدت تقدير الآخرين لها وتكريمهم لها.

 نفترض فعلًا أن أورشليم هذه - لأنها هي المقصودة بالمعنى الحرفي - هي التي أخطأت تجاه السيد المسيح، وعظمت خطاياها أمامه، حتى قال لها: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت 23: 37). وأن أورشليم هذه، هي التي أُهمِلَت وتُرِكَت من الله، وأن الملائكة الذين لم يتوقفوا عن مساعدة أورشليم، والذين من خلالهم سُلِّمت الشريعة لموسى، تركوا أورشليم وقالوا: إن خطاياها أصبحت عظيمة؛ لأن شعبها قتلوا السيد المسيح، ووضعوا عليه الأيادي. وحينما كانت خطاياهم قليلة كان في إمكاننا أن نتشفع، وأن نطلب من أجلهم، وكان في استطاعتنا أن نشفق على أورشليم، لكن الآن وبعد هذه الجريمة "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ "قد أخطأت أورشليم خطية، من أجل ذلك صارت رجسة" (مرا 1: 8).

 نعم لنفترض أن أورشليم هذه هي التي قيل لها: "فمن يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ؟" يجب علينا نحن أيضًا ألا نشفق على أورشليم ومصائبها، ولا نحزن على ما أصاب شعبها، لأنه: "بذلتهم صار الخلاص للأمم (لنا) لإغارتهم" (رو 11: 11).

انتقل من التفسير الحرفي إلى التفسير الروحي، مُطَبّقًا ما قيل لأورشليم على النفس البشرية. بعدما أخذت التعاليم الإلهية أصبحت أورشليم، التي كانت قبلًا تُدعى "يبوس"... ثم تغير اسمها فيما بعد إلى "أورشليم". يقال إن "يبوس" ترجمتها "مَدُوسة بالأَقدام". إذن، يبوس "النفس المدوسة بالأقدام" من قوات العدو، تغيرت وأصبحت أورشليم، أي "رؤية السلام". بعدما صارت يبوس أورشليم أخطأت.

إن "دست بأقدامك" دم السيد المسيح الذي للعهد الجديد، وإن سقطت في خطايا عظيمة، يقال عنك: "من يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ؟"، طالما وَصَلْتَ إلى حد خيانة مسيحك.

كل واحدٍ فينا حينما يخطئ، خاصة الخطايا الجسيمة، يخطئ ضد السيد المسيح نفسه. "فكم عقابًا أشرّ تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِّسَ به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟ (عب 10: 29). فإن دست ابن الله واستهنت بروح النعمة، من يشفق عليكِ ومن يعزيكِ؟ "ومن يميل ليسأل عن سلامتك"؟

إنه ابن الله، الذي خانه الخطاة، هو نفسه الذي سأل عن سلامنا؛ فمَن مِن بعده يستطيع أن يتشفع من أجل سلامنا؟

لندرك جيدًا أن "الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة، وقوات الدهر الآتي، وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 4-6). متى أدركنا تلك الكلمات وفهمنا معناها، يلزمنا أن نعمل كل ما في وسعنا لئلا يُقال عنا نحن أيضًا: "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ ومن يعزيكِ؟ ومن يميل ليسأل عن سلامتكِ؟" ++ العلامة أوريجينوس

تاسعًا: لَيْسَ لَهَا مُعَزٍّ نَجَاسَتُهَا فِي أَذْيَالِهَا. لَمْ تَذْكُرْ آخِرَتَهَا، وَقَدِ انْحَطَّتِ انْحِطَاطًا عَجِيبًا. لَيْسَ لَهَا مُعَزٍّ. انظر يَا رَبُّ إِلَى مَذَلَّتِي، لأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ تَعَظَّمَ .

"نَجَاسَتُهَا فِي أَذْيَالِهَا" تعبير عن فيض النجاسة أنه قد بلغ إلى هدب ثوبها (لا 15: 19-35).

من أصعب المواقف التي لا يجد الإنسان فيها من يعزيه، هو موقف ملك عظيم صاحب سلطان وله اسمه بين الأمم والشعوب، يجد نفسه وقد قُيّد بسلاسل، حافي القدمين، شبه عريان، يقوده عبد غريب الجنس يسمع كلمات الإهانة، وتسقط عليه ضربات أو جلدات، ويجر حوله رجال دولته، والقادة مع الشعب في مذلةٍ ومرارةٍ. هذا هو حال المسبيين، خاصة حين كانت أشور تسبي دولة فتقطع أنوف المسبيين، أو تبتر أحد أعضاء أجسامهم وتسخر بهم، تتعامل معهم في وحشية لا تعامل بها أدنيّ الحيوانات. وهكذا وإن كانت بابل تتعامل مع المسبيين بأقل وحشية.

هذا ما تفعله الخطية حين تستعبد إنسانًا، فإنها تحني ظهره، فيصير كالحيوان ذي الأربع أرجل، لا يقدر أن يرفع عينيه إلى السماء، ولا أن يختبر فرح السمائيين وسلامهم، بل يتمرغ كما في وحل الأرض وتراب العالم. هذا ما يصوره النبي هنا بخصوص سبي أورشليم الذي يحمل صورة لسبي النفس البشرية.

كما أن هدب الثوب يجمع القاذورات من الأرض، تصير أورشليم (النفس البشرية) ملتصقة بالأرض، تدنس نفسها بالأمور الفاسدة الزمنية، ولا تنعم بعربون السماويات.

"لم تذكر آخرتها": ليس أمامها مصيرها الأبدي، ولا تترجى التمتع بالحياة الأبدية، كما لا تخشى الهلاك الأبدي.

"قد انحطت انحطاطًا عجيبًا": إذ تنهار وتنحدر على الدوام، وليس من يسندها أو يعزيها، بل كثيرون يشمتون بها. فإن لم يحرس الرب المدينة باطلًا يتعب الحراس، وإن لم يعزِ الرب الإنسان، من يقدر أن يعزيه؟!

حقًا إن المخلص الإلهي وحده القادر أن يعزيها، "ولو أحزن (بالتأديبات) فإنه يعود فيرحم حسب كثرة مراحمه" (مرا 3: 32). بالمسيح يسوع ربنا تتحول النفس الخائرة والعظام اليابسة إلى جيش عظيم جدًا جدًا (حز 37: 10)، تصير كأورشليم "مرهبة كجيشٍ بألويةٍ" (نش 6: 4) لا يقدر عدو الخير بكل جيشه وخداعاته أن يقتنصها له، بل وتكون كخيلٍ كثيرة قوية تقود المركبة الإلهية في موكب النصرة، لذا يناجيها عريسها قائلًا: "قد شبهتكِ يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون" (نش 1: 9).

عاشرًا: فقدت مقادسها بَسَطَ الْعَدُوُّ يَدَهُ عَلَى كُلِّ مُشْتَهَيَاتِهَا، فَإِنَّهَا رَأَتِ الأُمَمَ دَخَلُوا مَقْدِسَهَا، الَّذِينَ أَمَرْتَ أَنْ لاَ يَدْخُلُوا فِي جَمَاعَتِكَ.

لم يكن يسمح للعمونيين والموآبيين أن يدخلوا الهيكل للعبادة (تث 23: 3؛ نح 13: 1-2)، فكم بالأكثر أن دخلوا لنهبه وتخريبه. لكن يأتي الوقت لتتقدس الأمم وتصير هيكلًا للرب (زك 14: 16).

إذ يلتصق الإنسان بالله يتمتع بفيض من النعمة الإلهية، وتتقدس كل مواهبه وطاقاته وحواسه وعواطفه، ويقيم الله جنته في داخله. فتتغنى النفس قائلة: "ليأتِ حبيبي إلى جنته، ويأكل ثمرة النفيس" (نش 4: 16). ويستجيب الرب لندائها، قائلًا: "قد دخلت جنتي يا أختي العروس؛ قطفت مري مع طيبي؛ أكلت شهدي مع عسلي؛ شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).

أما إن أصر الإنسان أن يعطي لله القفا لا الوجه، فعوض إقامة جنة ملكوت الله في داخله، ودعوة الله للسمائيين أن يفرحوا ويتهللوا بعمله وثمار روحه في النفس، يتحول قلب الإنسان إلى برية جافة ومسكن لعدو الخير المفسد لكل المشتهيات والخيرات. وكما قيل عن شاول الملك: "وذهب روح الرب من عند شاول، وبغته روح رديء من قبل الرب" (1 صم 16: 14). هكذا يقتحم عدو الخير أورشليم الداخلية، ويتسلل إلى هيكل النفس لينجسه. هذا ما حدث قديمًا في هيكل أورشليم، فإن كان الله قد أمر ألا يدخل غريب إل مقدسه فيها، لكن إذ أصر الشعب على العبادة الوثنية وممارسة الرجاسات سمح للأمم أن يدخلوا الهيكل، بل ويهدموه، ويسلبوا مقدساته.

يليق بنا كأعضاء جسد المسيح أن نردد ما قاله السيد المسيح نفسه: "رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيَّ شيء" (يو 14: 30).

حادي عشر: مجاعة وهوان كُلُّ شَعْبِهَا يَتَنَهَّدُونَ يَطْلُبُونَ خُبْزًا. دَفَعُوا مُشْتَهَيَاتِهِمْ لِلأَكْلِ لأَجْلِ رَدِّ النَّفْسِ. انظر يَا رَبُّ وَتَطَلَّعْ، لأَنِّي قَدْ صِرْتُ مُحْتَقَرَةً .

باسم الشعب كله يصرخ إرميا النبي: "انظر يا رب كم من مرارة نعاني منها، وتطلع إلى العدو الشامت والساخر بنا!"

بينما يظن الإنسان في الخطية لذة وتمتعًا بالشبع، إذا به يفقد سلامه ويسبي منه عدو الخير مشتهياته حتى خبزه الضروري، فيحل به الجوع مثل الابن الضال. تحطم الخطية مواهبنا وطاقاتنا وكل ما نلناه من عطايا إلهية، فنتنازل عنها من أجل لذة مؤقتة، كما باع عيسو بكوريته بأكلة عدس.

2. استغاثة أورشليم

أولًا: استجداء عاطفة عَابِرِي الطَّرِيقِ أَمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟
تَطَلَّعُوا وَانظروا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي، الَّذِي صُنِعَ بِي الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ يَوْمَ حُمُوِّ غَضَبِهِ.

أثناء التأديب الإلهي يظن الإنسان في ضعفه أنه أكثر الخليقة بؤسًا، فيصرخ: "انظروا إن كان حزن مثل حزني!".

إذ صارت الكارثة لا تُحتمل طلبت أورشليم حتى من العابرين عليها أن ينظروا ويتحننوا عليها.

في وسط الضيق الشديد تتعرف الكنيسة (أورشليم) على ضعفاتها وتتلامس مع يد الله وبرّه.

تطلعت أورشليم حولها فلم تجد لها معزيًا من الأقوياء والأصدقاء، ومن مرارتها صرخت إلى جميع عابري الطريق العاجزين عن مساندتها، وأيضًا الشامتين فيها، لتعلن أن ما حلّ بها ليس عن قوة العدو الذي سباها ودمَّرها، وإنما عن سماح الله لها بالمذلة لأنها عوض الرجوع إليه للتمتع بالرحمة الإلهية أصرت على الشر الذي لا يطيقه الرب. إنها في مرارتها تستغيث بهم، مع تأكدها من عجزهم عن مساندتها، وأن طريق خلاصها الوحيد هو الرجوع إلى الله بالتوبة.

يحمل هذا القول فهمًا روحيًا، حيث تقدم المسيّا المخلص كحمل الله يحمل خطايا العالم، ويحتل مركز البشرية الآثمة، فيصير من أجل محبته "ذبيحة إثم" وكقول إشعياء النبي: "كلنا كغنمٍ ضللنا، ملنا كل واحدٍ إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعا" (إش 53: 6). وكما يقول الرسول بولس: "جعل الذي لم يعرف خطية (ذبيحة) خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21)

يقول الشاعر الهندي الوثني طاغور: "أنا لا أعلم كيف ينام المسيحيون، وهم يعلمون أن لهم إلهًا جاز كل هذه الآلام لأجلهم". ويقول السيد المسيح في بستان جثسيماني وهو يشرب كأس الألم لأجلنا: "يا ابتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك" (لو 22: 42). لقد عصى آدم الأول الوصية، وجاء آدم الثاني ليشرب كأس الألم في طاعة للآب الذي هو واحد معه في ذات الجوهر.

ثانيًا: شباك وفخاخ مِنَ الْعَلاَءِ أَرْسَلَ نَارًا إِلَى عِظَامِي فَسَرَتْ فِيهَا.  بَسَطَ شَبَكَةً لِرِجْلَيَّ. رَدَّنِي إِلَى الْوَرَاءِ. جَعَلَنِي خَرِبَةً. الْيَوْمَ كُلَّهُ مَغْمُومَةً .

صورة مُرة لما حلّ بأورشليم، كأن نارًا من العلو، لا تقدر مياه العالم أن تطفئها، نزلت لتحرق عظامها أي صميم كيانها، وبُسطت شبكة لا تقدر أن تفلت منها، وبقوة دفع بها إلى الوراء فتسقط ولا تقوم. بهذا صارت في عزلة يحل بها الحزن وليس من معزٍ لها.

إن كان ما حلّ بأورشليم هو بسبب خطاياها، فإن مسيحنا كمخلص العالم قبل أن يحمل الآلام والمتاعب بالصليب لينقذنا من خطايانا.

يقول الرسول: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). بسرورٍ احتمل هذه النار التي أشعلناها بعصياننا، ونزل إلى الجحيم كما إلى الشبكة التي نصباها لأنفسنا كي يحطمها ويحررنا فيها.

ولعله يقصد بقوله: "من العلاء أرسل نارًا أرسل إلى عظامي فسرت فيها" أن جراحاتهم صارت خطيرة، لا تصلح لها بعض المهدئات، ولا الترطيب بزيت، وإنما تحتاج إلى الحزم بنارٍ. وذلك كما جاء في إشعياء: "من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة، بل جُرح وإحباط وضربة طريّة لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُليّن بالزيت. بلادكم خربة. مدنكم محرقة بالنار" (إش 1: 6-7).

 توجد بعض الجراحات تُشفى بواسطة مهدئات وأخرى بواسطة زيت، وأخرى تحتاج إلى عصابة (ضمادة)، ومع ذلك توجد جراحات قيل عنا: "لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُليّن بزيت، بلادكم خربة، مدنكم محرقة بالنار" (إش 1: 6-7). هكذا توجد خطايا تدنس النفس تحتاج إلى محلول غسيل للكلمة، وصابون الكلمة، وبعض الخطايا لا تُشفي هكذا ++ العلامة أوريجينوس

ثالثًا: شباك وفخاخ شَدَّ نِيرَ ذُنُوبِي بِيَدِهِ. ضُفِرَتْ. صَعِدَتْ عَلَى عُنُقِي. نَزَعَ قُوَّتِي. دَفَعَنِي السَّيِّدُ إِلَى أَيْدٍ لاَ أَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ مِنْهَا .

سبق فهدد الله العصاة المصرِّين على عصيانهم: "تُستعبد لأعدائك الذين يرسلهم الرب عليكِ في جوعٍ وعطشٍ وعريٍ وعوز كل شيء، فيجعل نير حديد على عنقك حتى يهلكك" (تث 28: 48). أما شد النير باليد، فبعد وضع النير على الثور العنيف يربطه بشده بيده، ويجعل الرباط مضاعفًا حتى لا يفلت الثور، هذا الرباط ليس من ألياف معينة أو حديد، وإنما هو من صنع الخطايا التي يرتكبها الإنسان الشرير. لا يقدر التخلص منها سوى بالتوبة، فيحرره الرب بمراحمه.

يقول الحكيم: "الشرير تأخذه آثامه، وبحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22)، أما السيد المسيح كمخلصٍ لنا حسب النير الذي أعددنا لأنفسنا بخطايانا كأنه نيره، يحمله عنا ليقدم لنا نير حبه الحلو (مت 11: 30). عندما يضع الفلاح النير على عنق الحيوان يوجهه كيفما يريد، هكذا يسمح الله أن نحمل النير، ليوجهنا إلى حيث خلاصنا.

يليق بالإنسان الذي يظن أن نير العبودية يحطمه ألا يتذمر على الله الذي سمح له بذلك، ولا على العدو الذي وضع النير عليه وأوثقه بسلاسل مضاعفة، إنما يلوم نفسه، حاسبًا أن ما حلّ به هو من صنع آثامه.

يليق بالأشرار أن يدركوا أن السيد المسيح قد جاء ليعلن الحرية، مقدمًا قيود الحب الإلهي ونيره الحلو الذي يعتقنا من نير العبودية للحرف، فنعيش بإنجيله المفرح لا تحت حرفية الطقس الناموسي.

لعل الله أمرهم بذلك لكي يكتشفوا خلال المذلة لنير بابل النير الداخلي الذي سقطوا تحته، وهو نير الخطية. فبإذلال الجسد وظروف الحياة القاسية وحرمانهم من بلدهم ومدينتهم المقدسة وهيكل الرب... يدركون ماذا يفعل نير سبي الخطية. فيقولون مع إرميا النبي: جعلني ضربة اليوم كله، مغمومة؛ شَدَّ نير ذنوبي بيده، صعدت على عنقي. نزع قوتي، دفعني السيد إلى الأبد لا أستطيع القيام منها (مرا 1: 14).

عند القبض على السيد المسيح أوثقوه (مت 27: 2) كمن نالوا نصرة عليه، ولعلهم خشوا أن يصنع معجزة فيفلت من أيديهم، لذلك أحكموا الوثق جدًا. يُقال أنه إذ سلم نفسه أرادوا ضمان السيطرة عليه فقيدوه بعنفٍ شديدٍ، حتى كان الدم يخرج من أطراف أصابعه. أوثقوا يديه خلفه، ووضعوا قيودًا حديدية في رقبته، وصاروا يجرونه. بدأت سلسلة العذابات والإهانات بكل وسيلة ممكنة. كان العبيد وحدهم هم الذين يوثقون قبل إثبات دينونتهم. لقد قبضوا على يسوع وأوثقوه ليس عن ضعف أو عجز، ولا عن عدم قدرة للهروب، ولكن لأنه كان يريد خلاصنا بالصليب. ما كان يمكنهم أن يوثقوه لو لم يوثق نفسه بقرون المذبح بحبال الحب الفائق، كحملٍ ليُقدم ذبيحة عن العالم. لم يدركوا أنه قد رُبط عوضًا عنا نحن الذين تربطنا حبال آثامنا (أم ٥: ٢٢) ونير العصيان (مرا ١: ١٤)، فإن الشر هو رباطات النفس التي تسحبنا أمام قضاء الله. الفساد هو رباط النفس الذي يقودنا إلى مملكة إبليس. وإذ صار مسيحنا خطية من أجلنا قبل أن يُربط بالحبال لكي يحررنا من قيودنا. صار تحت القيود لننعم نحن بالحرية.

  يحمل اليهود نير الناموس بأعمالهم المادية... أما نحن فأخذنا نير المسيح الذي وضع على عاتقنا نير حبه الإلهي، وليس نير الخمسة أزواج من البقر (ذبائح حيوانية)، التي هي كتب الناموس الخمسة، كقول الرب للسامرية "كان لكِ خمسة أزواج" (يو 5: 18) ++ القديس أمبروسيوس

رابعًا: تحطيم في معصرة رَذَلَ السَّيِّدُ كُلَّ مُقْتَدِرِيَّ فِي وَسَطِي. دَعَا عَلَيَّ جَمَاعَةً لِحَطْمِ شُبَّانِي. دَاسَ السَّيِّدُ الْعَذْرَاءَ بِنْتَ يَهُوذَا مِعْصَرَةً .

ما هذه الجماعة التي تحطم شبان أورشليم سوى جيش الكلدانيين الذي يتألف من جنود من أمم مختلفة.

لم تكن أورشليم تنقصها القوة العسكرية، فقد وُجد شبان مقتدرون في وسطها، لكن الخطية دفعت بهم إلى المعصرة ليُداسوا تحت أقدام الوثنيين كالعنب في المعصرة.

إنهم لم يسقطوا في معركة حربية، بل في وسط المدينة، في داخل قلبها، علامة غضب الرب عليهم.

في كبرياء وتشامخ يمارس الشرير الخطية، يحسب نفسه مقتدرًا، ويفتخر بعصيانه، لكن الله في محبته يسمح لهم بالتأديب فيدوسهم العدو كما يدوسون العنب لعصره، ويفقدون طاقاتهم وقدرتهم لعلهم يرجعون إلى الله ويطلبونه! لم يجمعهم الرب كعادته للاحتفال بعيدٍ مفرح، بل للقاء مع جيش بابل الذي يدوسهم تحت الأقدام، وتنسكب دماؤهم كعصير العنب في المعصرة.

اعتادت أورشليم أن تستقبل جماعات قادمة من كل بقاع العالم لتحتفل بالأعياد بفرحٍ عظيمٍ، أما الآن فتستقبل جماعات وثنية تدوس بأقدامها شبان أورشليم وتنجس هيكلها ومقدساتها.

خامسًا: تَجَبَّرَ الْعَدُوُّ عَلَى هَذِهِ أَنَا بَاكِيَةٌ. عَيْنِي عَيْنِي تَسْكُبُ مِيَاهًا، لأَنَّهُ قَدِ ابْتَعَدَ عَنِّي الْمُعَزِّي رَادُّ نَفْسِي. صَارَ بَنِيَّ هَالِكِينَ، لأَنَّهُ قَدْ تَجَبَّرَ الْعَدُوُّ .

صار البكاء لا يفارقها لأنه هكذا صار حالها:

أ. ليس من أحدٍ يعزيها وسط آلامها ولو بمجرد الاقتراب إليها والنطق بكلمات تشجيع وسط آلامها.
ب. فقد أبناؤها الرجاء في القيامة حتى في المستقبل.
ج. أعلن العدو نصرته عليها.

من هم أبناء أورشليم الهالكون إلا رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون وغيرهم من القادة، الذين عوض تقديم معونة وتعزيات صاروا هالكين، ودفعوا بالشعب إلى جحد المخلص، مصدر كل تعزيات سماوية.

بَسَطَتْ صِهْيَوْنُ يَدَيْهَا. لاَ مُعَزِّيَ لَهَا. أَمَرَ الرَّبُّ عَلَى يَعْقُوبَ أَنْ يَكُونَ مُضَايِقُوهُ حَوَالَيْهِ. صَارَتْ أُورُشَلِيمُ نَجِسَةً بَيْنَهُمْ .

بعد أن تحدث النبي باسم أورشليم كلها، الآن يتحدث باسمه الشخصي ليكشف سرّ ما حل بشعبه.

يدعو شعبه "يعقوب" لكي يقتدوا بأبيهم يعقوب رجل الله الذي صارع مع الله والناس وغلب، ليتطهروا من النجاسة التي سقطوا فيها.

بسط اليدين هنا يشير لا إلى احتضان القادمين لتملأهم فرحًا وتعزية، وإنما إلى التوسل والإعلان عن الحاجة إلى معزٍ.

كان يليق بصهيون أن تبسط يديها لتكرز للعالم بالمخلص، إذ تسلمت النبوات والوعود الإلهية والرموز عنه، لكنها عوض أن تبسط يديها لتسند العالم، صارت مفتقرة إلى من يعزيها. صارت في يأسٍ تطلب عونًا من العالم، بيلاطس ورجاله. انفضحت أمام الأمم، وصارت في أعينهم فاقدة للقداسة.

بَارٌّ هُوَ الرَّبُّ لأَنِّي قَدْ عَصِيتُ أَمْرَهُ. اسْمَعُوا يَا جَمِيعَ الشُّعُوبِ، وَانظروا إِلَى حُزْنِي. عَذَارَايَ وَشُبَّانِي ذَهَبُوا إِلَى السَّبْيِ .

بعد أن حثهم النبي على الاقتداء بابيهم المجاهد كرجل الله، اعترفت أورشليم نفسها بصوتٍ عالٍ أمام جميع الشعوب أن ما حلّ بها إنما هو ثمرة عصيانها للرب. صارت تلوم نفسها لا الرب (2 أي 12: 5-6؛ أم 5: 22).

كان رجاء أورشليم منصبًا في شبابها الذي يدافع عن مدينة الله، لكنهم إذ تنجسوا ذهبوا إلى السبي، فاعترفت بأنها عاصية وتستحق التأديب. لكن هل رجعت إلى الله مخلصها؟

بدأت أورشليم العاصية تعترف بخطاياها، وتبرر الله الذي يسمح بتأديبها لأجل خلاصها. وكأنها تصرخ مع المرتل: "إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت، لكي تتبرر في أقوالك، وتزكو في قضائك" (مز 51: 4). ومع دانيال النبي: "لك يا سيد البرّ. أما لنا فخزي الوُجوه" (دا 9: 7).

سادسًا: موت القادة نَادَيْتُ مُحِبِّيَّ. هُمْ خَدَعُونِي. كَهَنَتِي وَشُيُوخِي فِي الْمَدِينَةِ مَاتُوا، إِذْ طَلَبُوا لِذَوَاتِهِمْ طَعَامًا لِيَرُدُّوا أَنْفُسَهُمْ.

يصور النبي حال يهوذا فقد تأرجحت بين التحالف تارة مع مصر وأخرى مع أشور أو غيرهما، لكن مثل هذا التحالف صار كالسراب حينما حلت الضيقة، إذ لم يتحرك أحد لمساندتها. أما في الداخل فالكهنة كرؤساء دينيين والشيوخ كرؤساء مدنيين فتركوا الرب وماتوا روحيًا، إذ طلبوا ما هو لشهوات قلوبهم وليس ما هو لمجد الله وبنيان الشعب.

تعترف أورشليم أنها عوض العودة للرب بالتوبة صرخت إلى حلفائها ومحبيها لمساندتها، فإذا به تكتشف أنهم خدعوها طول هذا الزمان، وإنهم يطلبون ما هو لأنفسهم في أنانية ولا يبالون بالهلاك الذي حلّ حتى بالكهنة والشيوخ.

سابعًا: ضيق في الداخل والخارج انظر يَا رَبُّ فَإِنِّي فِي ضِيقٍ. أَحْشَائِي غَلَتْ. ارْتَدَّ قَلْبِي فِي بَاطِنِي، لأَنِّي قَدْ عَصِيتُ مُتَمَرِّدَةً. فِي الْخَارِجِ يَثْكُلُ السَّيْفُ، وَفِي الْبَيْتِ مِثْلُ الْمَوْتِ .

يُقدم النبي صلاة باسم أورشليم كلها، طالبًا أن ينظر الرب إلى ما حل بالشعب من ضيق بسبب عصيانه له. تعترف أورشليم بأنها متمردة، فحلّ الدمار من الخارج كما في الداخل.

باسم الشعب يعلن النبي بأن أحشاءه قد غلت بسبب التمرد على الله والعصيان، فالداخل مُر، والخارج هلاك ودمار. في الداخل أوبئة ومجاعة، وفي الخارج سيف الجيش المحاصر للمدينة.

أما النبي فامتلأ مرارة عميقة تمس أحشاءه، كما أعلن في سفر إرميا 4: 19.

 ليت هؤلاء الذين يتوبون يعرفون كيف يقدمون التوبة، بأية غيرة، وبأية مشاعر، وكيف تبتلع كل تفكيره، وتهز أحشاءه الداخلية، وتخترق أعماق قلبه، إذ يقول إرميا النبي: "انظر يا رب فإني في ضيق، أحشائي غلت، ارتد قلبي في باطني" (مرا 1: 20). ++ القديس أمبروسيوس

ثامنًا: معاقبة العدو المتشامخ سَمِعُوا أَنِّي تَنَهَّدْتُ. لاَ مُعَزِّيَ لِي. كُلُّ أَعْدَائِي سَمِعُوا بِبَلِيَّتِي. فَرِحُوا لأَنَّكَ فَعَلْتَ.  تَأْتِي بِالْيَوْمِ الَّذِي نَادَيْتَ بِهِ، فَيَصِيرُونَ مِثْلِي .

سمعت الأمم المحيطة بيهوذا مثل بني أدوم وعمون وموآب، هؤلاء الذين تنتظر قلوبهم يوم دمار أورشليم لا ليشمتوا فيها فحسب، بل وتمتد أياديهم لمساعدة الأعداء بكل وسيلة لتدميرها، فتفقد أورشليم عظمتها وقدسيتها وتصير مثلهم.

ما حلّ بأورشليم لأجل تأديبها بسبب خطاياها، سيحل بالأمم الوثنية سواء التي هاجمت أورشليم أو شمتت فيها، ولكن في الوقت المعين حين يأتي دورها في العقوبة. وكما قيل عن بابل والمدن المقاومة للحق الإلهي: "مدن الأمم سقطت، وبابل العظيمة ذُكرت أمام الله ليعطيها كأس خمر سخطه" (رؤ 16: 19).

هؤلاء الأعداء يشيرون إلى إبليس وكل قوات الظلمة، فمع ما يبدو لهم من قوة وسلطان، إلا أنهم في مرارة المر ينتظرون يوم الرب برعبٍ شديد، يشتهون أن يصير كل البشر مثلهم يشاركونهم هلاك الأبدي.

لِيَأْتِ كُلُّ شَرِّهِمْ أَمَامَكَ. وَافْعَلْ بِهِمْ كَمَا فَعَلْتَ بِي مِنْ أَجْلِ كُلِّ ذُنُوبِي، لأَنَّ تَنَهُّدَاتِي كَثِيرَةٌ، وَقَلْبِي مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ .

يختم المرتل المرثاة بالاعتراف بكل ذنوبه، حاسبًا أيضًا كل ما يفعله شعبه ورؤساؤهم كأنه قد فعله هو، ويطلب أن يحل العقاب على الأعداء، أي على إبليس وملائكته.

هذا وسيحل العقاب على الأشرار في يوم الدينونة، هؤلاء الذين أصروا على عدم التوبة حتى النفس الأخير.

 سوف لا يوجد من يقف بجانبهم، ليس من يخلص، ولا يكون وجه المسيح (بالنسبة لهم) لطيفًا ورقيقًا. إنما كما أن الذين يعملون في المناجم يُسلَّمون لأناسٍ قساة، ولا يرون أحدًا من أصدقائهم، إنما أولئك الذين يسخرونهم، هكذا سيكون الحال بل وأردأ من هذا وأخطر! ++ القديس يوحنا الذهبي الفم