تامل من مراثي أرمياء 3 جزء 2 ++ القمص تادرس يعقوب


تامل من مراثي أرمياء 3 ++ القمص تادرس يعقوب
رجاء مشرق وسط الظلمة
آلام السيد المسيح جزء 2

بَنَى عَلَيَّ (ضدي)،وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ.

لعله يقصد هنا المتاريس والاستحكامات التي قام الكلدانيون ببنائها حول أسوار مدينة أورشليم للهجوم على الهاربين منها، أو للاستعداد للاستيلاء على المدينة متى أتيحت لهم الفرصة أثناء حصارهم لها.

هكذا ظن عدو الخير إبليس خلال قوات الظلمة التي بذلت كل الجهد، ووضعت كل الخطط ألا يفلت السيد المسيح من الموت، بل وحتى بعد موته ودفنه طلبوا حراسة مشددة على القبر، ووُضع ختم حتى لا يدَّعى تلاميذه أنه قام كما سبق وقال.

حوصرت المدينة حتى سقطت. أما بالنسبة لإرميا فكرمزٍ للسيد المسيح، فحاصره الجميع: الملك والكهنة ورجال الدولة والأنبياء الكذبة والشعب حتى أهل قريته اتهموه بالخيانة الوطنية.

بنى عليّ أو ضدي، صار الآب كعدو لابنه وحيد الجنس، لأنه يمثل البشرية الساقطة مع أنه بلا خطية وحده، وهو واحد مع الآب في الجوهر.

"وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ". سبق أن حذرهم موسى النبي من الانحراف وراء الآلهة الغريبة، على مستوى الفرد أو الجماعات، قائلًا: "لئلا يكون فيكم رجل أو امرأة أو عشيرة أو سبط قلبه اليوم منصرف عن الرب إلهنا، لكي يذهب ليعبد آلهة تلك الأمم، لئلا يكون فيكم أصل يثمر علقمًا وأفسنتينا" (تث 29: 18). وأيضًا يقول إرميا النبي: "أسقانا ماء العلقم، لأننا قد أخطأنا إلى الرب (ار 8: 14). كما يحذرنا معلمنا بولس: "ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله، لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع انزعاجًا، فيتنجس به كثيرون" (عب 12: 15). فإن الخطية تثمر "علقمًا وأفسنتينًا". وإذ حمل السيد المسيح خطايانا، قال على لسان المرتل: "يجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21).

حتى إن وجد جذر من هذا النوع (المُرّ) لا تدعه ينمو بل اقطعه، حتى لا يحمل ثمره الخاص به، وحتى لا ينجس الآخرين أيضًا ويفسدهم.
بسبب صالح دعا الخطية مرارة، فإنه لا يوجد شيء ما أكثر مرارة من الخطية +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

من بين الأمور الأخرى التي تنبأوا بها عنه، مكتوب: "يجعلون في طعامي علقمًا (سمًا)، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). نحن نعرف في الإنجيل كيف حدثت هذه الأمور. أولًا قدموا علقمًا. أخذه وذاقه وتفله. فيما بعد وهو على الصليب معلقًا، فلكي تتحقق هذه النبوات قال: "أنا عطشان" (يو 19: 28). أخذوا إسفنجة مملوءة خلًا ووضعوها على قصبة، وقدموها له حيث كان معلقًا. أخذها وقال: "قد أكمل" (يو 19: 30). ماذا يعني: "قد أكمل"؟ كل ما قد تنبأوا به عني قبل آلامي قد تحقق ++ القديس اغسطينوس

أَسْكَنَنِي فِي ظُلُمَاتٍ كَمَوْتَى الْقِدَمِ.

لعله يشير هنا إلى موقف الرؤساء حين كان يحذر بالسقوط تحت السبي ، إذ قالوا للملك: "ليُقتل هذا الرجل، لأنه بذلك يُضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة وأيادي كل الشعب". فسلمه بيدهم، فألقوه في جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن، ولم يكن في السجن ماء، بل وحل، فخاص إرميا في الوحل (إر 38: 1-6).

نبوة عن دفن السيد المسيح في قبرٍ (مي 7: 8)، وبالنسبة لإسرائيل فقد اختاروا الظلمة ورفضوا النور الإلهي.

"أسكنني في ظلمات كموتى القدم". يا للعجب فإن ذاك الذي هو القيامة والحياة، والذي بسلطانه أقام موتى، من أجلنا يدخل إلى الموت كما في الظلمات. يقول القديس مار أفرام السرياني إنه الحمل الذي افترسه الموت كذئبٍ، لكن لم يكن ممكنًا للموت أن يحبسه فيه، ففجرَّ معدة الموت، وأطلق الذين سبق أن افترسهم وحبسهم في معدته.

سلم الرب جسده للموت، لكي نتقدس خلال مغفرة الخطايا التي تتحقق برش دمه...

يلزمنا أن نشكر الرب من الأعماق، لأنه أخبرنا عن الأمور الماضية، وأعطانا حكمة بخصوص الأمور الحاضرة، ولم يتركنا بغير فهمٍ بخصوص الأمور المستقبلة ++ الرسالة إلى برناباس

الموت أقام الموتى من الموت، إذ حمل اللعنة مخلصًا إيانا منها +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

سَيَّجَ عَلَيَّ،فَلاَ أَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ.ثَقَّلَ سِلْسِلَتِي.

إذ حدث السبي البابلي صار يهوذا كمن في سجن مغلق لا رجاء له في الخروج منه. "سيَّج حولي"، كسجين مجرم مقيد بالسلاسل حتى لا يهرب. لقد اقتادهم الكلدانيون مربوطين بسلاسل كسبايا إلى بابل.

أحكم الكلدانيون الحصار حول أورشليم، حتى صار مصيرها الدمار الشامل، لا يفلت أحد من الجوع والأوبئة في الداخل، والسيف في الخارج. وإن أرادوا بقاء أحد لخدمتهم ففي مذلة يقودونه إلى السبي، أو يتركونه في أعمال حقيرة مقابل جزية ثقيلة.

قيل عن مملكة إسرائيل الزانية: "لأن أمهم قد زنت... قالت: أذهب وراء محبيّ الذين يعطون خبزي ومائي وصوفي وكتاني، زيتي وأشربتي، لذلك هانذا أسيج طريقكِ بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها" (هو 2: 5-6). هذا قد يليق بزانية تُصر على الخروج من وراء رجلها. أما أن يُحاط السيد المسيح بالأشرار كما بسياجٍ، ويربط كمن يود الهروب، وهو القدوس الذي جاء بإرادته ومسرة أبيه لخلاص العالم، فهذا يمثل صورة غاية في الألم، الأمر الذي قبله برضاه حبًا فينا.

قبل السيد المسيح أن يُحاكم ويصلب، لكي نتبرر فيه ونتحرر.

"سيَّج عليّ، فلا استطيع الخروج، ثقل سلسلتي". بلا شك أن موت الصليب، من أصعب أنواع الموت. حسبوه قد سيَّج الله حوله فلا يستطيع أن يخلص نفسه من الموت، ولا أن يخرج من الهاوية بل يبقى مربوطًا في سلاسلها.

"كان المجتازون عليه يسخرون به قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك. وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتّكل على الله فلينقذه إن أراده" (مت 27: 40-43).

رأوه قائمًا من القبر ومع ذلك لم يريدوا أن يؤمنوا أنه كان قادرًا أن ينزل من خشبة الصليب. أين هو افتقاركم للإيمان أيها اليهود؟ فإنني أستدعيكم أنتم أنفسكم قضاة لأنفسكم! كم بالأكثر يكون مستحقًا للدهشة أن يقوم ميت من بين الأموات عن أن يختار الحيّ أن ينزل من الصليب! لقد طلبتم أمرًا صغيرًا فحدث ما هو أعظم، لكن افتقاركم للإيمان لم يكن ممكنًا أن يُشفى بالآيات أكثر مما رأيتم ++ القديس جيروم

بالحق أراد المخلص ربنا أن يُعرف مخلصًا لا بخلاص نفسه بل بخلاصه الآخرين. فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بإبراز مهارته مع المرضى. هكذا الرب بكونه المخلص لا يحتاج إلى خلاص نفسه. فليس بنزوله من على الصليب يصير مخلصًا بل بموته. فإنه بالحق يتحقق خلاص عظيم للبشرية بموته أكثر من نزوله عن الصليب ++ القديس البابا أثناسيوس الرسولي

أَيْضًا حِينَ أَصْرُخُ وَأَسْتَغِيثُ، يَصُدُّ صَلاَتِي.

إذ صرخوا حين سقطوا تحت السبي، لم يسمع الله لصرخاتهم، لأنها لم تكن عن توبةٍ صادقة، واشتياق للرجوع إلى الله.

إذ صار السيد المسيح ممثلًا البشرية، يدفع ثمن عصيانها، صرخ: "إلهي إلهي، لماذا تركتني؟"، صار كمن قد صُدت صلاته!

لم يكن المسيح متروكًا من الآب ولا من لاهوته كما يظن البعض، أو كما لو كان خائفًا من الآلام فانفصل بلاهوته عن ناسوته أثناء آلامه...؛ وإنما كما قلت إنه كان ينوب عنا في شخصه. نحن كنا قبلًا متروكين ومرذولين، أما الآن فبآلام ذاك الذي لا يسوغ له أن يتألم (حسب اللاهوت) أقامنا وخلصنا ++ القديس غريغوريوس النزينزي

ماذا يعني ربنا؟ الله لم يتركه إذ هو نفسه الله... فلماذا استخدم هذه الكلمات لو لم نكن نحن حاضرين (فيه)، لأن الكنيسة هي جسد المسيح (أف 1: 23)؟ ماذا يقصد بقوله: "إلهي إلهي لماذا تركتني" إلا أن يستلفت أنظارنا، قائلًا لنا: "هذا المزمور إنما كُتب عني؟"

بموت البار الذي تم بمحض اختياره، نزع موت الخطاة الذي حدث بالضرورة كحكمٍ نستحقه ++ القديس أغسطينوس

اختار أن يمشي في جميع طرق البشر حتى دخل في باب الموت ليحل آدم! بدأ بالميلاد وكمل الطريق حتى التقى بالموت!

سار بتواضعٍ بوطأة آدم، إلى حيث سقط آدم في أعماق الهاوية، فدخل هو وسقط من أجله وجذبه وخرج. ++ القديس يعقوب السروجي

سَيَّجَ طُرُقِي بِحِجَارَةٍ مَنْحُوتَةٍ.قَلَبَ سُبُلِي.

بالنسبة لمن يرفض السير في طريق الله، فإن الله يسيج حوله ليعوقه عن السلوك في الشر، ويرجع إلى طريق الحق.

"لرجلٍ قدْ خفي عليْه طريقه، وقدْ سيّج الله حوْله" (أي 3: 23). لم يكن له أمل في تحسين حاله؛ لم يرَ بابًا للنجاة، ولا طريقًا يسلكه، إذ كان الله قد سيَّج حوله، فصار كمن في موضعه عاجزًا عن الحركة. وكما قيل في هوشع: "هأنذا أُسيج طريقك بالشوك، وأبني حائطها، حتى لا تجد مسالكها" (هو 2: 6).

"سيج طرقي بحجارة منحوته. قَلَبَ سبلي"، إنه كمن وُضع في طريقه عوائق لا يمكن أن تُقهر، وكمن يُمنع بكل الطرق من وجود منفذٍ للخلاص مما هو فيه.

هُوَ لِي دُبٌّ كَامِنٌ،أَسَدٌ فِي مَخَابِئَ.

إذ تحل الضيقة بالبار، يسبح الله ويطلب مراحمه، أما الشرير فيحسبه دبًا كامنًا. أو أسدًا في مخابئ يطلب افتراسه.

إذ قبل السيد المسيح بسرورٍ أن يحمل عار الصليب عوضًا عنه، يرى فيما حلّ به كإنسانٍ كأن دبًا أو أسدًا يود افتراسه. إنه تألم حقًا، ولم تكن الآلام بلا تعب لجسده ونفسه كإنسانٍ، أما من جهة خطته مع الآب وتدبيره الإلهي فهي موضع سروره!

أنا نفسي كنت فريسة الأسد، عندما أمسك بي وقادني للموت، وهو يزأر: "أصلبه، أصلبه" (يو 19: 6).

"أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني" (مز 22: 12). هؤلاء هم الشعب وقادته؛ الشعب أو الثيران التي بلا عدد؛ وقادتهم الثيران القوية. ++ القديس اغسطينوس

تامل من مراثي أرمياء 3 جزء 1 ++ القمص تادرس يعقوب


تامل من مراثي أرمياء 3 ++ القمص تادرس يعقوب
رجاء مشرق وسط الظلمة

آلام السيد المسيح جزء 1

أنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ .

من جهة مشاعر الشعب نحوه، الكل من ملوك وكهنة وأنبياء كذبة وشعب، أذاقه مرارة المرّ، من سجن ومؤامرات لقتله وإلقاء في الجب ومقاومة لنبوَّته، ومع ذلك كان يحبُّهم! أقول، إن سيطرة روح الرب على إرميا وشعوره بالأبوَّة، وفهمه لرسالته، وإدراكه لقيمة أولاده الروحيِّين، جعله يشعر بضيقاتهم ويتألَّم لآلامهم ولو لم يشعروا هم بها، فصار في مذلةٍ حين سقطوا تحت ذل السبي.

بالنسبة لإرميا النبي، في مشاعر الأبوَّة الصادقة يدرك أن مرارة الشعب في أثناء السبي نصيبه هو، مع أنه حذرهم مرة ومرات، لكنَّه كأب يشعر بمرارة حالهم كما لو كان هذا حاله هو. لذلك رفض بإباء أن تُعطى له كرامة في بابل، مصرًا أن يبقى مع الشعب مذلولًا، صارخًا إلى الله في مرارة نفسه، قائلًا: "أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الذي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ" (مرا ٣: ١). من هو هذا الرجل إلا كلمة الله الذي تجسد ليحمل كل آلامنا عنا، فرأى مذلة، وتحمل قضيب سخط الآب عوضًا عنا.

يتحدث إرميا في هذه المرثاة باسم ذاك الذي حمل المذلة عن البشرية كلها. قبل تجسد الكلمة كان آدم الأول يُحسب البكر بين بني البشر، وبسقوطه زاغوا وفسدت طبيعتهم، وانهارت إرادتهم، وتشوه مفهومهم عن الله، إذ نظروا إليه كعدوٍ، فصاروا تحت الغضب الإلهي. جاء آدم الثاني ليحتل مكانه، يقبل أن يتمم المصالحة بدمه الثمين. هو ابن الله الوحيد الذي به يُسر، يضمنا إليه فننعم بمسرة الآب لنا.

صار إنسانًا بالحقيقة، وقَبِلَ المذلة وتألم، أخذ مالنا، لنأخذ نحن ما له.

"قضيب سخطه": يترجمها البعض العصا الثقيلة لسخطه أو غضبه، وكأن الله لم يستخدم السيف لقتل كل شعبه للتدمير الكامل، وإنما عصا التأديب الثقيلة لتدربيهم وإصلاحهم (عب 12: 7-11).

في نفس الوقت يشير إلى جانب من جوانب الصليب، بكونه ذبيحة إثم. حقًا إنه ذبيحة رضا ومسرّة لدى الآب الذي أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16). هذا الصليب الذي هو قضيب سخطه، قبله كلمة الله، بل وهو موضوع مسرّته، أطاع حتى الموت موت الصليب. حمل الصليب أيضًا جانبًا آخر، وهو الطاعة للآب.

ليس له شكل ولا جمال في أعين اليهود، أما بالنسبة لداود فهو أبرع جمالًا من بني البشر (مز 45: 2). على الجبل (أثناء التجلي) كان بهيًا ومضيئًا أكثر من الشمس (مت 17: 2)، مشيرًا إلينا نحو سرّ المستقبل ++ القديس غريغوريوس النزينزي

ذاك الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر رآه البشر على الصليب بلا شكل ولا جمال؛ كان وجهه منكسًا، ووضعه غير لائق. مع هذا فإن عدم الجمال هذا الذي لمخلصك أفاض ثمنًا لجمالك الذي في الداخل، فإن مجد ابنة الملك من داخل (مز 45: 2) ++ القديس اغسطينوس

قدر أن يحتمل الإهانة لكونه محترمًا، لأنه عندما يُهان من هو مكرم لا يُحسب هذا إهانة.
إنها إهانة لمن أعماله هي خزي، فلو توقفوا عن إهانته فهو مهان وساكت.
إذًا، إن أهين المكرم، ويُسخر منه وهو غير مستحق ينتصر بين المتميزين.
لو كانوا قد تفلوا في وجه آدم، لكانت إهانة له وخزيًا، لأنه تجاوز الوصية.
وكان يُسقطه الخزي والبصاق اللذين يستحقهما... لأنه خجل واتضع بذنبه.
وبما أن ربه أشفق على الضعيف، فقد دخل وقبل الخزي بدلًا منه، وإذ لم يذنب لم يكن يخجل.
كان يهان ويُسخر منه ولم يكن يتوجع: عندما يُهان من ليس مذنبًا فهذا مجد له.
كان يُشتم ويضرب ويهان وهو هادئ ولطيف ومتواضع ونقي وغير مضطرب ++ القديس يعقوب السروجي

قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ، وَلاَ نُورَ.

بالنسبة لإرميا وضعوه في جُب مظلم، وبالنسبة للشعب، فإنهم إذ رفضوا الله حرموا أنفسهم من نوره، وصاروا يتخبطون في الظلمة. أما بالنسبة للسيد المسيح فقد أراد عدو الخير أن يحبس النور ويطفئه في قبرٍ بعد موته، ولم يدرك أن النور يبدد الظلمة.

بقوله: "قادني وسيرني" يُعلن أنه جاء ليطيع الآب وهو واحد معه في ذات الجوهر، حتى بتمتعنا بالعضوية في جسده، لا نعود نُحسب أبناء المعصية، بل أبناء الطاعة. لقد أراد أن يخلصنا، لكنه حقق الخلاص من أجل طاعته لأبيه، لنحمل شركة سمة الطاعة التي له.

ما معنى "في الظلام، ولا نور". إن كان الظلام يشير إلى الضيق الشديد، والنور يشير إلى الازدهار، فإنه لم يحقق الخلاص وهو في سماواته بإصدار أمرٍ بالعفو، إنما بدخوله طريق الآلام حتى الموت موت الصليب.

هذا وقد أعلن عن نفسه أنه نور العالم، فإذ صرنا نحن ظلمة، قبِلَ أن يحمل آثامنا لكي يبدد الظلمة التي تسللت إلى طبيعتنا، ويهبها من نوره وبهائه، فتستطيع أن تشاركه مجده الأبدي.

كأنه يقول: قادني إلى ظلمة القبر، لكي بقيامتي أهب الجالسين في الظلمة التمتع بالنور السماوي.

الله نور، ومن يلتصق به يسلك في النور حسنًا (1 يو 1: 7). أما من يعطي القفا لله فيسلك في الظلمة (عا 3: 3).

نحن ننظر ونتعجب بالظافر الذي وقف في المحكمة. ابن الأحرار الذي لُطم على خده،الشمس الذي احتضن العمود (الذي رُبط السيد حوله ليُجلد)...النار التي تُجلد بالسياط (مت 27: 26)،النور الذي تحتقره الظلمة (يو 8: 12؛ 1: 5)،اللهيب يُطعن بالحربة (يو 19: 34).
مكلل الشمس بالأشعة، وُضع على رأسه إكليل شوكٍ (مت 27: 29) ++ القديس مار يعقوب السروجي

حَقًّا إِنَّهُ يَعُودُ وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ الْيَوْمَ كُلَّهُ.

بالنسبة لإرميا النبي كانت حياته كلها، إلى آخر نَفَسْ له سلسلة لا تنقطع من المتاعب والضيقات حتى من أهل قريته عناثوث.إذ كانوا يتطلعون إليه كإنسان متشائم على الدوام، يحطّم نفسية القادة والجيش والشعب، وإن ما يهدد به إنما هو كلام. اُتهم كخائنٍ لوطنه، لا يستحق حتى الحياة في وسط مجتمعه!

أما بالنسبة للسيد المسيح فإن ما حلّ به منذ الحبل به إلى دفنه في القبر، إنما هو طريق الآلام والصليب. يبدو كأن الآب الذي بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، قد امتدت يده عليه بالضيقات، حتى يتحقق خلاص العالم.

بقوله "اليوم كله" يشير إلى حياته على الأرض، فهي سلسلة لا تنقطع من الآلام. كما يُقصد به يوم الصليب، حيث تكتلت الآلام من كل صنفٍ لتحل به.

أما بالنسبة لكل مؤمنٍ منا، فيبدو كأن الله ضدي، يؤدب يومًا فيومًا، لكنه لن يوقف حبه لي، فهو ليس ضدنا بل ضد خطايانا.

أَبْلَى لَحْمِي وَجِلْدِي.كَسَّرَ عِظَامِي .

بالنسبة لإرميا فإلى وقت كتابة هذه المراثي لم نسمع عنه أن جسمه وجلده قد بليا، ولا أن عظامه قد انكسرت وتبعثرت، فالحديث هنا لا يؤخذ بالمعنى الحرفي. نفس الأمر بالنسبة للسيد المسيح، فإن جسده لم يرَ فسادًا، وعظامه لم تنكسر واحدة منها. لكن ما حلّ به من متاعب وجلد واهانات وصلب لا يُمكن وصفه، كأن جسمه وجلده قد بليا تمامًا، وعظامه لم تعد لها قوة؛ صارت كأنها قد انسحقت وتبعثرت! الآلام التي حلت به جعلته كإنسانٍ غير قادر أن يحمل الصليب. كل الطريق، فأتوا إليه بمن يحمل معه الصليب.

بالحقيقة احتمل آلامًا لا تُحتمل، حتى لا يترك لإنسانٍ أن يعتذر بآلامه. لقد دفع السيد الثمن غاليًا لكي يهبنا المجد السماوي، للنفس والجسد معًا!

يشبه النبي الشعب برجلٍ مُسِنٍّ جلده مجعّد، لا أمل في إصلاحه، بل وعظامه قد كُسرت، فلا يستطيع التحرك.

يرى بعض الآباء أن التلاميذ وجماعة المؤمنين هم عظام السيد المسيح، فقد تبعثروا في ضعفٍ في لحظات الصلب، لكنهم بالقيامة اجتمعوا كجسدٍ واحد لم تنكسر منه عظمة واحدة.

"تبعثرت كل عظامي" (مز 22: 14). بالرغم من أن عظام جسمه لم تتبعثر، ولم يُكسر منها واحدة. لكنه إذ تحققت القيامة، قيامة جسد المسيح الكامل الحق، فإنه يجتمع معًا أعضاء جسد المسيح الذين يكونون في ذلك الوقت عظامًا جافة، كل عظم من عظمه، فيلتصق الكل ويرتبط معًا (لأن من كان عاجزًا عن الترابط معًا لن يبلغ الإنسان الكامل)، وهكذا يبلغون إلى قياس ملء قامة المسيح. حينئذ يصير الأعضاء الكثيرون جسدًا واحدًا، مع كثرتهم يصير الكل أعضاء الجسد الواحد +++ العلامة أوريجينوس

لقد سُحق وجُرح، لكنه شَفى كل مرض وكل ضعف ++ القديس غريغوريوس النزينزي

مجموعة اقوال مختارة للاباء القديسين 3


مجموعة اقوال مختارة للاباء القديسين 3

أراد يسوع أن يُظهر في نفسه كل التطويبات، إذ قال: "طوبى للباكين"، وقد بكى هو نفسه لكي يضع أساس هذا التطويب حسنًا ++العلامة أوريجينوس

"للبكاء وقت وللضحك وقت". وقت البكاء هو زمان الألم، كقول الرب: "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون" (يو 16: 20)، أما الضحك فيخص القيامة، إذ يقول: "ولكن حزنكم يتحوّل إلى فرح" (يو 16: 20). ++ الأب ديُّونسيوس السكندري

من يقتنى فرحًا عظيمًا إلا ذاك الذي يبكي كثيرًا، وكأنه نعمة المجد العتيد بثمن دموعه ++ القديس أمبروسيوس

إن لم يقصد الإنسان أولًا التجرُّد لا يستطيع أن يدنو من الحزن والنوح، لأن حياتنا لا تستطيع أن تدوم في صحَّة الروح، مادمنا مالكين في أنفسنا شيئًا معوَّقًا، إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يقتني حب الله إذا كان حب الاقتناء يتحرَّك فيه، لأنه مكتوب: من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني (مر 8: 34). لا يستطيع الإنسان أن يحمل الصليب دون أن يجحد العالم، بل ينبغي له أن يبتعد عن كل الأشياء، إذ أن العزاء الخارجي يعطِّله عن الشيء الذي يقتنيه، فلا يمكن أن يثبت الحق في إنسانٍ إلا إذا قطع أولًا من ضميره أصل محبَّة المال، ولا يستطيع أن يسكن حب المسيح في الضمير إن لم يتجرَّد أولًا من حب المال... لا تندم ولا تحزن أيها الإنسان عندما تكون فقيرًا ومحتاجًا من أجل الله، لأن رجاء عزائك هو في الملكوت، ولا تصغر روحك إذا تضايقت بالجوع والعري، ولا تضجر بل اِفرح واِبتهج بالرجاء الموضوع لك ++ القديس يوحنا التبايسي

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن المسكنة (أو الفقر) بأنه التواضع بكونه رأس كل فضيلة، قائلًا: إنه المذبح الذهبي، وهو موضع الذبيحة الروحي، لأن الروح المنسحق ذبيحة لله (مز 51: 17). التواضع هو والد الحكمة، إن كان للإنسان هذه الفضيلة فتكون له بقيّة الفضائل .

يقول القديس كيرلس الكبير عن تطويب السيِّد المسيح للباكين بالتمتُّع بحياة الفرح، لكن ليس لكل الباكين، إذ يوجد غير مؤمنين يبكون بسبب الهَمْ والغَم .

عندما يُصاب المرء بمرض خطير لا يشعر بالجوع، فالألم يَبتلع الجوع. لكن ما هو هذا الجوع الذي للبِر؟ وما هي الخيرات التي يجوع إليها البار؟ أليست تلك الخيرات التي قيل عنها: "كنتُ فتى وقد شخت الآن، ولم أر صدِّيقًا تُخُلِّيَ عنه، ولا ذُرِّيَّة له تلتمس خبزًا" (مز 36: 22). من يشعر بالجوع يود أن تنمو قوَّته وتتقوَّى الفضيلة. ++ القديس أمبروسيوس

أنظر كيف تتألّم الأم التي تفقد ابنها بالموت، فيُلقى في القبر، فإنَّها تبكي لرحيل محبوبها. بالحري يلزم أن يكون الحزن أشد بالنسبة للإنسان الذي تفصله الخطيّة عن الله، فيفقد صورة صلاحه المحبوبة... يحزن الله بسبب فقدان الإنسان للصورة، فإنَّ النفس عنده أعزْ من كل بقيّة خليقته. بالخطيّة تموت النفس، وأنت ألاَ تُفكر في هذا يا خاطي! بالحري يلزمك أن تحزن من أجل هذا الإله الذي يحزن عليك! نفسك ميَّتة بالرذيلة، اِذرف الدموع وأقمها. لتُفرِّح الله بقيامة نفسك ++ القديس مار افرام السرياني

كان آباؤنا السعداء الطوباويُّون تأتيهم الدموع بسهولة في وقت التضرُّع، لأنهم كانوا على الدوام يتألِّمون ويتفرَّسون في آلام سيِّدنا، حاسب نفسك كم ليلة سهرت لأجل الدموع، أو كم من الأعمال قدَّمت إلى الله ليجود عليك بحزن الدموع ، كثرة حزن الدموع هي موهبة من الله تُعطى باجتهاد طلبات السائل ++ القديس يوحنا التبايسي

يقول القديس جيروم ++ الزمان الحالي هو وادي الدموع. هذا العالم هو موضع الحزن لا الفرح... العالم العتيد هو عالم الفرح، أما الآن فساحة الصراع والاحتمال.
في العام الحاضر لا يوجد الفرح الأبدي، إنما يكون فرحنا سريع الزوال.
من لا يبكي في العالم الحاضر سيسكب الدموع في الحياة العتيدة

إننا إذ نتوب بصدق تغفر لنا خطايانا بسبب حب الله لنا. نذكر هذه الخطايا على الدوام حتى لا نسقط فيها. لقد غفرت تمامًا، لكننا نقول مع المرتل: "خطيَّتي أمامي في كل حين" ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

جاء عن الأب بفنوتيوس تلميذ القدِّيس مقاريوس أنه كثيرًا ما كان يردّد هذا القول عن الشيخ: عندما كنت صغيرًا، اعتدت أن آكل مع الأطفال الآخرين، وقد اعتادوا أن يذهبوا ويسرقوا قليلًا من التين. وإذ كانوا يجرون سقطت تينة منهم، فأمسكتها وأكلتها. كلما أذكر هذا أجلس وأبكي.

يقدِّم لنا القديس يوحنا التبايسي تداريب عمليّة تسند المؤمن لممارسة البكاء والتمتَّع بالدموع منها: تذكُّر آلام المخلِّص، المحاسبة للنفس، تذكر الدينونة، توقُّع الموت، وطلب الدموع من الله.

إنه لأمر صالح أن تبكي وتحزن من أجل العدل، بهذا تحمل شهادة لأعجب شريعة ، يؤكِّد التزامنا بعدم المبالغة في الدموع كما في الضحك ++ القدِّيس إكليمنضس السكندري

عندما خلق الله كل الأشياء... لم يكن محتاجًا إلى أية مادة لكي يعمل، ولا إلى أدوات في إقامة الخليقة، لأن قوة الله وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوة الله وحكمة الله به كل الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء مما كان كما يشهد يوحنا (يو 3:1) ++ القديس غريغوريوس أسقف نيصص

لقد نزل كلمة الله من السماء، لكي يصير عريسًا للطبيعة الإنسانية، فأخذها مسكنًا له، لكي يخطبها ويقودها إليه فتلد ثمار الحكمة الروحية. ++ القديس كيرلس الكبير

يقول آخر أن الحقل هو مسيح الله الذي بالحقيقة مملوء. أمّا الكنز المُخفى فيه فهو ما قال عنه بولس إنها مخفية في المسيح: "المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم"، الأمور السماويّة ++ العلامة أوريجينوس

اترك كل رغباتك. ذاك الذي صنع السماء والأرض أكثر جمالًا من الكل. ذاك الذي خلق كل الأشياء أفضل من الكل، سيكون بالنسبة لك كل ما تحبُّه. تعلَّم أن تحب الخالق في خليقته، في العمل الذي صنعه هو. لا تسمح لما فعله أن يمسك بك فتفقد ذاك الذي هو نفسه قد خلقك ++ القديس اغسطينوس

عندما يرى أب محبّ الإنسان الذي قتل ابنه، فإنَّه ليس فقط يعاقب المجرم، وإنَّما يدمِّر أيضًا السلاح نفسه الذي استخدمه. هكذا عندما يجد المسيح أن الشيطان قد ذَبح إنسانَّا فإنَّه ليس فقط يعاقب الشيطان، وإنَّما يدمِّر السلاح نفسه ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

قيل: "أنتم هيكل الله، والروح القدس يسكن فيكم" (راجع 1 كو 16:3). لنعد هيكلنا حتى يأتي المسيح ويجد مسكنه فينا، وتصير نفوسنا صهيون، وتكون برجًا يُقام في الأعالي، فتكون دومًا إلى فوق وليس إلى أسفل ++ القديس جيروم

يقول الأب سيرينوس عن عدم توقّف حرب الشيّاطين ضدّنا، قائلًا: تسقط الأرواح (الشرّيرة) في الحزن، إذ تهلك بواسطتنا بنفس الهلاك الذي يرغبونه لنا، ولكن هزيمتهم لا تعني أنهم يتركوننا بلا رجعة.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:بعد انتصاراتك النابعة عن انتصاراته تستقبلك الملائكة أيضًا وتمدحك وتخدمك كحرّاس لك في كل شيء .

يجب أن يختفي الرب في أعماق نفوسنا لنقبل حقيقة الحكمة السماويَّة في داخلنا ++ القديس أمبروسيوس

الحكمة والبصيرة ++ القمص تادرس يعقوب



مقدمة في سفر الحكمة ++ القمص تادرس يعقوب
الحكمة والبصيرة

يقول الرواقيون أنه يوجد اختلاف بين الحكمة والبصيرة. يقولون: "الحكمة هي معرفة الأمور الإلهية والبشرية، وأما البصيرة فهي معرفة ما هو مائت وحده".

بحسب هذا التمييز ينطبق تعبير بولس "الحكمة" على ما هو غير منظور وما هو منظور، والبصيرة على ما هو منظور وحده ++ القديس جيروم

"المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3)
كشف العهد الجديد عن الحكمة التي صارت لنا في المسيح يسوع، إذ هو نفسه حكمة الله، يهبنا ذاته.

هو نفسه يعطي الحكمة والمعرفة. الآن بقوله "كنوز" (كو 2: 3) يظهر عظمتها، بقوله "كل" يظهر أنه لا يجهل شيئًا، وبقوله "المخفية" يظهر أنه وحده يعرفها.

عجبًا! أية صداقة هذه؟! إذ يخبرنا بخفاياه، إذ يقول "بسرّ مشيئته"، لأن أحدًا يقول بأنه عرّفنا بالأشياء التي في قلبه. هنا حقًا السرّ المملوء حكمة وفطنة. فأية حكمة مثل هذه؟ الذين كانوا لا يساوون شيئًا رفعهم في لحظة إلي الغنى والفيض. أي تدبير حكيم هكذا؟! الذي كان عدوًا ومُبغضًا في لحظة ارتفع إلي العلا... هذا تم في الوقت المعين؛ إنه عمل الحكمة، تحقق بواسطة الصليب. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

إنه لا يخفي كنوز الحكمة والمعرفة لكي يحرمنا منها، وإنما لكي يثير اشتياقنا إلى ما هو مخفي.

نحترس، بوجه خاص، لئلا ونحن نجاهد في طلب للحكمة، التي هي كائنة في المسيح وحده المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة - أقول نحترس لئلا باسم المسيح ذاته، يخدعنا الهراطقة أو أية أحزاب فاسدة الذهن ومُحبة لهذا العالم ++ القديس اغسطينوس

يجب أن يختفي الرب في أعماق نفوسنا لنقبل حقيقة الحكمة السماويَّة في داخلنا ++ القديس أمبروسيوس

صارت الأذهان الجديدة حكيمة بحكمة جديدة، جاءت هذه الأذهان إلى الوجود خلال العهد الجديد حيث نزعت الغباوة القديمة++ القدِّيس إكليمنضس السكندري

يا ربنا يسوع المسيح، حكّم عبيدك في تجارب الشياطين المردة. هب لهم معرفة حكمة ربوبيتك، ولتلبسهم قوتك المقدسة، بها يذلون ذخر الشياطين، ويقهرونهم بقوتك المقدسة في كل قتالهم معهم. آمين ++ الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)

طوبى لهم حقًا، الذين في احتياجهم لابن الله، قد تجاوزوا الحاجة إليه كطبيب لشفاء أمراضهم، أو كراعٍ، أو كفادٍ، وصار احتياجهم إليه كحكمة ولوغوس، أو كأحد الألقاب الأخرى التي يقدمها لأولئك الذين لهم الفصح الروحي الذي يهيئهم لأسمى النعم.

"يشبِه ملكوت السماوات كنزًا مُخفى في حقل" (مت 13: 44)... الحقل كما يبدو لي حسب ما جاء هنا هو الكتاب المقدَّس الذي فيه زُرع ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقيَّة الأفكار؛ فإنها عظيمة ومتنوعة هي نباتات الكلمات التي في كل الكتاب! أمّا الكنز المُخفى في الحقل فهو الأفكار المختومة والمخفية وراء الأمور المنظورة، الحكمة المَخفية في سِرّ، المسيح "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (1كو 2: 3).

يقول آخر أن الحقل هو مسيح الله الذي بالحقيقة مملوء. أمّا الكنز المُخفى فيه فهو ما قال عنه بولس إنها مخفية في المسيح: "المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم"، الأمور السماويّة ++ العلامة أوريجينوس

لقد نزل كلمة الله من السماء، لكي يصير عريسًا للطبيعة الإنسانية، فأخذها مسكنًا له، لكي يخطبها ويقودها إليه فتلد ثمار الحكمة الروحية. ++ القديس كيرلس الكبير

من يؤمن حقًا يتحد تمامًا بذاك الذي فيه الحق واللاهوت والجوهر والحياة والحكمة، ويرى فيه كل هذه والتي ليست فيمن لا يؤمن. فإنه بدون ابن الله لا يكون لك وجود ولا اسم، ويصير القوي بلا قوة، والحكيم بلا حكمة. لأن المسيح هو "قوة الله وحكمة الله" (1كو24:1)، فإن من يظن أنه يرى الله الواحد بلا قوة ولا حق ولا حكمة ولا حياة ولا نور حقيقي إما أنه لا يرى شيئًا بالمرة أو بالتأكيد يرى ما هو شر.

عندما خلق الله كل الأشياء... لم يكن محتاجًا إلى أية مادة لكي يعمل، ولا إلى أدوات في إقامة الخليقة، لأن قوة الله وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوة الله وحكمة الله به كل الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء مما كان كما يشهد يوحنا (يو 3:1) ++ القديس غريغوريوس أسقف نيصص

أنت مسكن لله، وهيكل للروح القدس ++ البابا شنودة الثالث



من كتاب حياة التوبة والنقاوة ++ البابا شنودة الثالث
أنت مسكن لله، وهيكل للروح القدس

أنت يا أخي لست فقط ابن الله، ونفخه قدسية قد خرجت من فم الله، وإنما أنت أيضًا هيكل لله، والله يسكن فيك. وهكذا يقول لنا الرسول "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله ساكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل اله، فسيفسده الله. لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو"(1 كو 3: 16، 17). "أنتم هيكل الله الحي. كما قال الله إني سأسكن فيهم وأسير بينهم" (2 كو 6: 16).. شهوة الله منذ البدء أن يسكن فيك، ينظر إلي قلبك، ويقول "ها هو موضع راحتي إلي الأبد. ههنا أسكن لأني اشتهيته" (مز 132: 14).. تقول له "عندك يا رب الكنائس، عندك الهياكل والمذابح. سكناك في السماء وسماء السموات هي عرشك"، فيقول لك: ولا واحدة من هذه تعجبني مثل سكناي في قلبك "يا ابني أعطني قلبك" (أم 23: 26).

أنت أيها الأخ المبارك أهم عند الله من كنيسة مبنية.. إن تهدمت إحدى هذه الكنائس فما أسهل علي البشر أن يعيدوا بناءها، بجمع المال تبني.. إما إذا تهدم إنسان مثلك، فلا يمكن أن يعاد بناؤه إلا بدم المسيح. لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبيًا، يقدر أن يردك إلي رتبتك الأولي، ليس غير دم المسيح، فبدونه لا يكون لك خلاص.. أنت يا أخي أهم عند الله من كنيسة مبنية. أنت كنيسة حية، أهم من الطوب والحجارة، أنت هيكل للروح القدس.. لقد سمح الله أن يتحطم هيكل سليمان، ولا يترك فيه حجر إلا وينقض.. أما أنت هيكل للروح القدس.. لقد سمح الله أن يتحطم هيكل سليمان، ولا يترك فيه حجر إلا وينقض.. أما أنت فمن أجلك أرسل الله الرسل الأنبياء والملائكة، وعين الرعاة والكهنة والمعلمين، ورتب كل وسائط النعمة، وقدم استحقاقات الفداء العظيم "لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16).

إن كنت إذن بيتًا لله، والله يسكن فيك، فتذكر قول الكتاب "ببيتك يا رب تليق القداسة" (مز 93: 5). واعرف أنك بالخطية تنجس بيت الله، الذي هو أنت..

أذكر إذن قول الرسول:
" كونوا انتم أيضًا مبنيين -كحجارة حية- بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح (1 بط 2:5).. إن السيد المسيح يبحث عن مكان يسكن فيه وهذا المكان هو أنت. وعندما قال الرب عن نفسه انه "ليس له أين يسند رأسه" (لو 9: 58)، لم يكن يقصد فقط البيوت المادية، وإنما بالأكثر قلوب الناس.

إن قلبك هو المكان الذي يريد الرب أن يسند فيه رأسه.. حقًا عن لذته في بني البشر..((أم 8: 31) وهو ما يزال يقرع علي بابك لتفتح له.. وفي اشتياقه إلي قلبك يقول "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلًا" (يو 14: 23). وهكذا يأتي الآب والابن ويسكنان في قلبك، وأنت من قبل هيكل للروح القدس.

فيصير قلبك بهذا الوضع مسكنًا للثالوث القدوس.. هنا ويعقد الصمت لساني، هيبة، وإجلالًا، لهذا القلب المقدس.." ما أرهب هذا المكان!!! ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء" (تك 28: 17).. هذا هو المسكن الإلهي العجيب الذي يأتي إليه الله من بعيد "طافرًا علي الجبال، قافزًا علي التلال" (نش 2:8)، ينادي نفسك العزيزة في حب "افتحي يا أختي، يا حبيبتي يا حمامتي، يا كاملتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندي الليل" (نش 5: 2). فإلي متى تنتظر يا أخي ولا تفتح..!

تصور يا أخي أن الله الذي لا تسعه السموات كلها، ولا الكون أجمعه، الله الذي قال عنه داود "للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها" (مز 24: 1)، الله هذا يقرع علي بابك، ويشتهيك مسكنًا له.. هو يريد أن يعيش أنت في قلبه، يثبت فيك وأنت فيه، وتصير كنيسة مقدسة له..أذكر أنني في يوم ما أرسلت خطابًا إلي أحد الأخوة المباركين، قلت له فيه "سلم علي الكنيسة المقدسة التي في قلبك". لأني كنت أعرف أن في قلبه كنيسة تصعد منها رائحة بخور، وتخرج منها ألحان وتسابيح، وترتفع فيها ذبائح روحية.

ألم يقل المرتل "فلتستقم صلاتي كالبخور قدامك وليكن رفع يدي ذبيحة مسائية" (مز 141: 2). أن عرفت يا أخي هذا، أنك هيكل للروح القدس، فلا تخطئ، لئلا تحزن روح الله فيك وتطفئ حرارته.

بل أن أتاك الشيطان يومًا بخطية، تقول له:
اذهب عني بعيدًا، فلست أنا لك..
أنا بيت الله، أنا مسكن لله.. أنا موضع مقدس للرب..
أنا الذي يقرع الله علي بابي لكي أفتح له..
أنا هيكل للروح القدس، أنا كنيسة مقدسه.
إنا الذي يأتي إلي الآب والابن، وعنده يصنعان منزلًا..
أنا مسكن للثالوث القدوس..
هل أنا شيء هين، يمكن أن ينجسه الشيطان؟! كلا،
أنا سماء ثانية.. عرش لله يجلس عليه..
أنت يا أخي لست هذا كله فقط، بل أيضًا: أنت أخ للمسيح، شريك للمسيح، ووارث معه.

كيف أبتعد عن الظلمة؟ ++ البابا شنودة الثالث



من كتاب معالم الطريق الروحي ++ البابا شنودة الثالث


إن لم تستطع أن تعتزل عمليًا عن الخطاة، فعلي الأقل اعتزل عن طرقهم... إن كنت لابد لك أن تعيش في بيئة غير روحية، إذ العالم غالبيته هكذا، وليس بإمكانك أن تخرج من العالم كما قال معلمنا بولس الرسول...

وإن كنت لا تستطيع الانفصال عن الخطاة جسديًا، فانفصل بالقلب والفكر...

افصل قلبك عن شهوة شريرة، وافصل عقلك عن كل فكر خاطئ. وافصل حواسك بقدر الإمكان عن رؤية وعن سماع ما يتعبك روحيًا. وتذكر قول القديس بولس الرسول " والذين يستعلمون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه" (1كو7: 31). واستمع أيضًا إلى قوله: "لا تشاكلوا أهل هذا الدهر" (رو12: 2).

أي لا تصيروا في شكله وشبهه، بل كونوا مميزين بطريقكم الروحي. وكما قيل "لغتك تظهرك" (متى26: 73) أو كما قال القديس يوحنا الحبيب "كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية... بهذا أولاد الله ظاهرون، وأولاد أبليس (ظاهرون)" (1يو3: 9، 10). أولاد الله قد ارتفعوا عن مستوي العالم وشهواته، لأنهم ركزوا كل محبتهم في الله وحده يرفضون الوضع الذي انتقده إيليا النبي حينما قال:

" حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان الرب هو الله فاتبعوه. وإن كان البعل فاتبعوه "

(1مل18: 21).

لا يمكن للمؤمن الحقيقي أن يجمع بين الأمرين معًا: الله والعالم. فيعطي ساعة للصلاة، وأخري للمتع العالمية دون أن يثبت على حال.. فقد قال الكتاب " تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل قدرتك" (تث6: 5). وعبارة " كل " هنا، تعني أنه لا توجد محبة أخري إلى جوار الله تنافسه.. لا توجد ظلمة تشترك مع نوره العجيب داخلك. وانفصالك عن الظلمة، ليس هو مجرد عمل سلبي، وإنما له إيجابياته حسبما قال الرسول:

" لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبخوها" (أف5: 11).

وتوبيخ الظلمة يعني أنك لا تقبلها فيك ولا غيرك، وتعنى حرصك على ملكوت الله وانتشاره. وتوبيخ الظلمة يعني قوة في القلب من الداخل، لا تضعف أمام سلطان الظلام (لو22: 53)، وإنما تتصدى للظلمة وتقاومها، ومثلما وقف إيليا ضد آخاب وأنبياء البعل" (1مل18). ومثلما وقف المعمدان ضد هيرودس وهيروديا (متى14: 3، 4).

أنت نور. والخطية ظلمة. النور يستطيع أن يقشع الظلام.

أنت نور، لأن السيد المسيح قد قال لنا " أنتم نور العالم" (متى5: 14). وقال بعدها " فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروأ أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السموات (متى5: 16). ونورك هذا حينما يضئ، سيبدد الظلمة التي حوله. لا تغطي هي عليه، بل هو الذي يبددها.

فهل لك هذه الهيبة الروحية التي تبدد الظلمة التي حولها؟

هل في مجرد وجودك يشعر من حولك أنهم لا يستطيعون أن يلفظوا بكلمة خارجة أو كلمة نابية، ولا يستطيعون أن يتصرفوا أي تصرف غير لائق.

هل وجودك يشعرهم أنك تنقل إليهم حضور الله في وسطهم فيقولون لك العبارة التي قيلت لذلك المتنيح... إننا عرفنا الله اليوم عرفناك..؟
هل أنت لا تنفصل فقط عن الظلمة أم أنت تقضى على الظلمة؟

هل أنت مصباح يوضع على المنارة، فلا تكون ظلمة، لأنه ينير لكل من في البيت (متى5: 15) أو هل أنت حتى مجرد شمعة، تضئ فتطرد الظلمة.

قد يكون تعليمك نورًا. وهذا حسن، وما هو بأحسن من ذلك أن تكون حياتك نفسها نورًا تضئ للآخرين.

ولا يمكن أن تكون نورًا، إلا إذا أحببت النور. ولا يمكن أن تبدد الظلمة إلا إذا كنت تكرهها من أعماقك.

لذلك افحص قلبك جيدًا، وتأكد من سلامة مشاعره، واطرد منه كل ظلمة، بمحبة الله التي إن دخلت قلبك طردت منه كل محبة للعالم وللخطية.

وينبغي أن تثق بأن الخطية ظلمة. يكفي أنك لا تستطيع أن تفعلها إلا في الظلام، في الخفاء، في غير ملاحظة الناس لك... وإن تكشفت لأحد، تحاول أن تغطيها بالأعذار أو التبريرات، أو الكذب، أو بإلصاقها بغيرك، لكي تبقي في الظلام لا يراها أحد فيك...

ومادام الله نورًا، إذن فالخطية وهي ظلمة تفصلك عن الحياة مع الله.

لأنه كما قال الرسول " أية شركة للنور مع الظلمة"...

وإن كان الأبرار سيقومون في اليوم الأخير بجسد نوراني روحاني، وسوف يضيئون كالجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البر يضيئون كالكواكب إلى أبد الدهور (دا12: 3)، فماذا نقول عن قيامة الخطاة الذين كانوا ظلمة في حياتهم؟

هؤلاء سيطرحون في الظلمة الخارجية فلا يمكن أن تكون أرواحهم مضيئة.

وهكذا يكون الله قد فصل في الأبدية أيضًا بين النور والظلمة، ليس فقط من جهة المسكن، حين يسكن الأبرار في المدينة المنيرة التي لا تحتاج إلى شمس ولا إلى قمر، لأن مجد الله يضيئها (رؤ21: 32).

وإنما أيضًا من جهة طبيعة الأرواح الأبرار الأبرار منيرة، وأرواح الخطاة مظلمة...

ولا يمكن أن تكون أرواح الأشرار منيرة، لأنهم انفصلوا عن الله الذي هو النور الحقيقي، ولأنهم يعيشون في الظلمة الخارجية، ولا شركة للنور مع الظلمة.

إني أقوم وأطوف في المدينة (نش 3: 2) ++ البابا شنودة الثالث



من كتاب تأملات في سفر نشيد الأناشيد ++ البابا شنودة الثالث
إني أقوم وأطوف في المدينة (نش 3: 2)

تقول عذراء النشيد "في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق وفي الشوارع، أطلب من تحبه نفسي" (نش3: 1، 2). هذا يدل علي أن الإنسان – مهما بعد عن الله – ففي قلبه إشتياق إلي هذا الإله، حتى لو دخل في الليل، ورقد علي فراشه.. !

إشتياق إلي الله:

لا يزال في القلب حنين إلي الله.. فينا نفخة إلهية تشتاق إلي مصدرها (تك2: 7). فينا روح علي صورة الله، كشبهه (تك1: 26، 27). وهذه تجعل الإنسان بطبيعته يشتاق إلي الله.

فالإشتياق إلي الله، جزء من طبيعة الإنسان ومن فطرته.

فإن قلنا إن محبة الأم لطفلها جزء من طبيعتها يجري في دمها، وكذلك محبة الأب لابنه.. نقول كذلك إنه أمر طبيعي بالأكثر، أن الأنسان يحب الله ويشتاق إليه. وليس هذا عند الشعوب المتحضرة المتمدينة فحسب، بل حتى عند الشعوب البدائية أيضًا..

ومن الناحية الأخري، محبة العالم شيء دخيل علي الإنسان، ليس في طبعه الأصلي. أما محبة الله فهي طبيعته الأصلية.

لذلك مهما بعد الإنسان عن الله لابد أن يعود فيشتاق إليه.
مثل عقرب البوصلة، لابد أن يتجه إلي الشمال، مهما بعد عنه.
لهذا لا يصح أن ييأس الإنسان، مهما طال بعده عن الله.

لا تيأس، فطبيعتك بفطرتها ميالة. لذلك حتى في الليل – وأنت علي فراشك – يعود إشتياقك إليه. مثل الابن الضال: ذهب إلي كورة بعيدة، ثم عاد واشتاق إلي أبيه، ورجع إليه. ومثل أوغسطينوس: بعد متاهة طويلة في الفلسفة وفي ملاذ العالم، عاد أخيرًا ليقول للرب: تأخرت كثيرًا في حبك، أيها الجمال الذي لا يوصف..

وأنت مهما تهت وبعدت، في أعماقك بذرة محبة الله.

فلا تظنوا أن الرعاة والوعاظ والمرشدين والآباء الرسل، هم وحدهم الذين دخلت محبة الله إلي قلوبهم! كلا، فمحبته فيكم من الأصل. كل ما في الأمر، أنك تزيل ما ترسب فوقها وأخفاها.

" في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي".

هناك لحظات تمر علي الإنسان، يجد نفسه مشتاقة إلي الله.

لا يعرف متي تأتي تلك اللحظات؟ ولا كيف؟ ولا أين؟ ولا يستطيع أن يحدد مواعيد لهذا الإشتياق. والكتاب يقول "ملكوت الله لا يأتي بمراقبة" (لو17: 20). كما قال الرب أيضًا " الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلي أين تذهب" (يو3: 8)

إنها زيارة من زيارات النعمة، لا تأتي بمراقبة.

أنت لا تعرف متي يتحرك شعورك نحو الرب. ولكنك في وقت ما، تسمع صوتًا يناديك في داخلك، ويحركك نحو الله، مهما كنت خاطئًا، ومهما بعدت، ومهما ضللت.. زيارة النعمة هذه تثير مشاعر الحب الإلهي وتعيدها.

عدم الإحساس بوجود الله:

من العجيب أن هذه العروس تقول "طلبته فما وجدته" بينما الله في داخلها، وهو الذي حرك قلبها لكي تطلبه!

بدونه ما كان ممكنًا لها – وهي علي الفراش – أن تطلبه! هو الذي مد يده من الكوة، فأنّت عليه أحشاؤها (نش5: 4). ولكن لماذا – علي الرغم من وجوده فيها – تقول "فما وجدته"؟!

أحيانًا يكون الرب فينا، ونحن لا نشعر به!!

مثلما حدث لتلميذي عمواس، إذ كان الرب يسير معهما ويتحدث إليهما، وهما لا يعرفانه (لو24: 15، 16). ومثلما قيل في تجسد السيد الرب:

إن "النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه" (يو1: 5). وأيضًا مثلما قال القديس أوغسطينوس للرب:

"كنت معي، ولكنني من فرط شقاوتي لم أكن معك!".

إبراهيم أبو الآباء ظهر له الرب مع ملاكين (تك18: 2، 17) .

ولكنه لم يدرك وجود الرب، وإلا ما كان أحضر للثلاثة لحمًا ولبنًا (تك 18: 7، 8). وهكذا قال الكتاب "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون!" (عب13: 2).

أحيانًا يكون الله معك، وأنت غير شاعر بوجوده. وقد تظن أنه قد تخلي عنك. بينما أنت الذي ينقصك الإدراك الروحي لوجود الله معك. وقد تقول له "إلي متي يا رب تنساني؟ إلي الإنقضاء! (مز13: 1).

ولا يكون الرب قد نسيك. لأنه إن نسيت الأم رضيعها لا ينساك (أش49: 15). إنما أنت الذي لم تعد تحس وجود الله فيك!

بالإيمان تستطيع أن تدرك وجوده معك. كما قال داود "تأملت فرأيت الرب أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع" (مز16: 8). وكما قال إيليا النبي "حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه" (1مل18: 15).

البحث عن الله:

أحيانًا يخفي الله ذاته عنك، لكي تبحث عنه.. لا يسمح لك أن تراه، لكي تشتاق إلي رؤيته. يظهر حينًا، ويختفي حينًا آخر مثل النجم الذي ظهر للمجوس (مت2: 9).. لكي يتحرك القلب فيبحث ويسأل.

الله لايريد أن تكون المحبة من طرف واحد: هو يحبك، وأنت راقد علي فراشك. يريدك أن تحبه كما يحبك، فتبحث عنه..

لهذا تجد أن العروس لما طلبته فلم تجده، قالت للتو: "إني أقوم وأطوف في المدينة، في الشوارع وفي الأسواق. أطلب من تحبه نفسي". ولاحظوا إنها لم تقل أقوم، بل إني أقوم، كنوع من التأكيد والإصرار علي البحث. وهكذا زال تكاسل النفس، إذ شعرت بالتخلي، ولو كان شكليًا..

يا ليت كل واحد منكم يخرج من إجتماعنا هذا (أو من قراءة هذا المقال) وهو يقوم ويطوف يبحث عمن تحبه نفسه، أعني الله الذي يحبه. كما قالت عذارء النشيد.

في الأسواق

اذهب واشتر لك زيتًا، لكي لا ينطفئ مصباحك (مت25: 9). وكما قيل في سفر الرؤيا "اشير عليك أن تشتري ذهبًا مصفي بالنار، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك" (رؤ3: 18). وكما قال الرب "ومن ليس له سيف، فليبع ثوبه ويشتر سيفًا" (لو22: 36).. اذهب إذن إلي الأسواق، وادفع ثمن ما تشتريه. وابحث عن الرب هناك.

طف وأبحث أين تجد الله.. هل في الكنائس في الأديرة، في بيوت الخلوة وفي أماكن الخدمة.. أم حيث تراه..

المهم أن تنشط وتبحث، ولا تستمر راقدًا علي فراشك.

أنظر إلي طريق يوصلك إلي الله، وسر فيه: طريق التوبة، طريق الصلاة والتأمل، طريق الخدمة، طريق القراءة والإجتماعات..

الطرق المؤدية إلي الله كثيرة. إختر ما يناسبك منها.

كلمة "أقوم" تعطينا معني طيبًا. فعلي الرغم من أن الخلاص يقوم بقه الله وحده، إلا أنه لابد لك من أن تشترك معه، من جهة الاستجابة لعمله فيك: أن تشترك معه، أن تطلبه وتبحث معه.. "اقوم واذهب إلي أبي" (لو15: 18) هكذا قال الابن الضال.. أقوم وأرد أربعة أضعاف لكل من ظلمته، كما قال زكا العشار (لو19: 8).

حقًا، إننا في بعض أوقات نقول "قم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك" (عد10: 35). والرب نفسه يقول "من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم يقول الرب، اصنع الخلاص علانية" (مز12: 5).

ولكن علي الرغم من كل ذلك، لابد أن تقوم مع المسيح، وأن تعمل مع الرب: ترفع الحجر، لكي يقيم الرب لعازر (يو11: 41).

أنت تقدم الخمس خبزات، والرب يباركها ويشبع بها الألوف (يو6: 9- 12). أنت ترمي الشبكة، والرب يأتي بالسمك. أنت تغرس وتسقي، والله هو الذي ينمي (1كو3: 6). المهم أن تقوم وتعمل مع الرب.

إنني حينما أعمل عملًا، إنما أبرهن علي محبتي للرب ورغبتي في الخير. فالله لا يرغمني إرغامًا علي عمل الخير، ولكني أقوم من نفسي.

علي فراشي قد أحلم بالرب. ولكني لا أجده إلا إذا قمت.

تأكدوا أن الملائكة يفرحون في السماء، وهم يرون هذه النفس تقوم وتطوف في المدينة وفي الشوارع بحثًا عن الرب (لو15: 7).

هناك أشخاص يبدلون عبارة "وعلمنا طرق الخلاص" في القداس الإلهي بعبارة "طريق الخلاص" علي الرغم أن الكلمة في القبطية (التي تعني طرق)، مفسرين ذلك بأن الخلاص طريقًا واحدًا هو الفداء.

هذا حق أنه من جهة الله هناك طريق واحد، هو الصليب وقد تم. ولكن من جهتنا لا ننال بركات الفداء إلا بطرق الإيمان والمعمودية والتوبة وحفظ الوصايا.

كما أن حياتنا الروحية اللازمة للخلاص لها طرق تؤدي إلي الله: منها الخدمة والوحدة، الزواج والبتولية، الحزم والطيبة.. والمهم أن يتخذ كل واحد نوع الطريق الذي يناسبه.. وكما قال ماراسحق: "لمعرفة الله باختلاف الطبائع البشرية، لم يجعل طريقًا واحدًا مؤديًا إلي الخلاص، لئلا يفشل من لا يستطيع السير فيه. وإنما جعل أمام الإنسان طرقًا عديدة. حتى أن الذي لا يناسبه طريق لصعوبته، يسير في الآخر لسهولته".

ومادامت هناك طرق عديدة فلا تيأس. إن لم تجد في نفسك قابلية للصلاة، الجأ إلي القراءة والتأمل. وإن لم تجد قابلية للقراءة، رتل. وإن لم تستطع شيئًا من ذلك كله، اخرج وافتقد واخدم.

وكلن لا تيأس أبدًا. أبحث في الطرقات والشوارع والأسواق..
ولهذا لا يجوز لأب الاعتراف أن يجعل أبناءه صورة منه!
ولا يجوز أن يجعلهم كلهم صورة واحدة من بعضهم البعض!

فربما ما يناسب واحدًا منهم، لا يناسب غيره.. لإختلاف نفسياتهم.. كذلك أنت: إن أعجبك طريق في الحياة، لا تشجع كل إنسان علي السلوك فيه! ربما ما يناسبك، لا يناسبه.

عروس النشيد طافت في الطرقات، ولم تجد الرب. فلم تعتذر بذلك وتكف عن البحث. وإنما قابلت الحرس الطائف وسألتهم (نش3: 3). هؤلاء الحرس، هم حراس المبادئ والقيم. أقامهم الرب علي شريعته وعلي رعيته، يرشدون الناس إلي الطريق.. وما أن جاوزتهم قليلًا، حتى وجدت من تحبه نفسها.. لم تقل شيئًا مما قالته للحرس، ولا ما قد قالوه لها، إنها ركزت علي هدفها، وهو الوصول إلي حبيبها..

يوجد أشخاص يكفي أن تقول لهم المشكلة فتنحل..

حتى بدون إرشادات وحلول تسمعها منهم. تكفي بركتهم وصلواتهم.

الملاحظة الأخيرة، هي أن هذه العروس تعبت كثيرًا حتى وجدت من تحبه نفسها، ولم تجده من أول طلب، ولا من أول بحث. وكانت وراء ذلك حكمة إلهية. لكي تتمسك بمن تعبت لأجله.

قال القديس باسيليوس الكبير: إن الأشياء التي تحصل عليها بسهولة، قد تفقدها أيضًا بسهولة. لهذا أحيانًا لا يستجيب الله بسرعة.

ولأن هذه العروس تعبت حتى وجدت من تحبه نفسها، لذلك عندما وجدته قالت "أمسكته ولم أرخه" (نش3: 4).

انتصار الملك ( التجربة علي الجبل ) ++ القمص تادرس يعقوب



من تاملات انجيل متي 4 ++ القمص تادرس يعقوب
انتصار الملك

التجربة الأولى أي تجربة الخبز


"فتقدّم إليه المجرِّب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا. فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله"

لعلّ الشيطان قد صار في حيرة إذ رأى ذاك الذي قال عنه الآب السماوي: "هذا هو ابني الحبيب" أثناء العماد، يجوع! فتشكّك في أمره، لهذا في كل تجربة كان يودّ أن يتأكّد من بنوّته لله، قائلًا: "إن كنت ابن الله" وكما يقول القديس جيروم: [يقصد إبليس بكل هذه التجارب أن يعرف إن كان هو بحق ابن الله، ولكن المخلّص كان مدققًا في إجابته، تاركًا إيّاه في شك.

ولعلّه أراد أن يستخدم ذات السلاح الذي يهاجم به البشريّة، سلاح التشكيك في أُبوّة الله لنا ورعايته وعنايته بنا... أمّا سلاح السيّد المضاد فهو كلمة الله. إذ كان في كل تجربة يستند على الكلمة الإلهيّة المكتوبة بقوله: "مكتوب..."، وهو بهذا يحملنا إليه ككلمة الله المتجسّد لنختفي فيه، ونتمسّك بالكلمة المكتوبة التي بها ندين الشيطان نفسه، كقول الرسول: "ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة؟" (1 كو 6: 3).

كانت التجربة الأولى هي تجربة الخبز، أو تجربة البطن، لكن النفس الشبعانة تدوس العسل، فلا يستطيع العدوّ أن يجد له في داخلنا موضعًا مادامت نفوسنا ممتلئة بالسيّد نفسه، في حالة شبع بل وفيض. إذ بهذا ندخل إلى شبه الحياة الملائكيّة فلا يكون للبطن السيادة علينا!

الإنسان الأول إذ أطاع بطنه لا الله، طُرد من الفردوس إلى وادي الدموع. ++ القديس جيروم

كما أن القيامة تقدّم لنا حياة تتساوي مع الملائكة، ومع الملائكة لا يوجد طعام، فإن هذا يكفي للاعتقاد بأن الإنسان الذي سيحيا على الطقس الملائكي يتبرّر من هذا العمل (العبوديّة للطعام والشراب) ++ القديس غريغوريوس النيسي

تأكّد تمامًا أن العدوّ يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن. ++ الأب يوحنا من كرونستادت

لقد طلب إبليس منه أن يحوّل الحجارة خبزًا، لكن كما يقول القديس جيروم:اعتزم المخلّص أن يقهر إبليس لا بالجبروت (تحويل الحجارة خبزًا)، وإنما بالتواضع.

لقد رفض أيضًا تحويل الحجارة خبزًا ليُعلن أن من لا يتغذّى بكلمة الله لا يحيا .

كن سيدًا على معدتك قبل أن تسود هي عليك، الذي يرعى شرّهه ويأمل في التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بزيت +++ القديس يوحنا كليماكوس

عيسو خلال النهَم فقد بكوريته وصار قاتلًا لأخيه! ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

التجربة الثانية، على جناح الهيكل

"ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدّسة، وأوقفه على جناح الهيكل. وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك. قال له يسوع: مكتوب أيضًا لا تُجرِّب الرب إلهك"

يقدّم لنا الشيطان تجاربه بكلمات معسولة مملوءة سمًا، فإن كلماته "أنعم من الزيت وهي سيوف مسلولة". يستخدم كلمة الله بعد أن يحرّفها، فما جاء في المزمور: "لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك" (مز 91: 11-12) كعلامة عن رعاية الله لنا المستمرّة، استخدمها الشيطان لكي يدفع السيّد المسيح ليجرِّب أباه، أو لكي يفسد رسالته بعيدًا عن حمل الصليب، مهتمّا باستعراض إمكانيّاته، بطلب الملائكة لتحفظه عِوض الدخول في حياة الألم.

يقول القديس جيروم: يفسّر الشيطان المكتوب تفسيرًا خاطئًا... كان يليق به أن يكمّل ذات المزمور الموجَّه ضدّه إذ يقول: "تطأ الأفعى وملك الحيّات وتسحق الأسد والتنين". فهو يتحدّث عن معونة الملائكة كمن يتحدّث إلى شخص ضعيف محتاج للعون ولكنه مخادع إذ لم يذكر أنه سيُداس بالأقدام .

الأمر المرير هو أن الشيطان يدخل لمحاربة أولاد الله في المدينة المقدّسة على جناح الهيكل، وفي أعلى الأماكن المقدّسة؛ هكذا لا يتوقّف عن محاربتنا أينما وجدنا!

كانت كلمات إبليس "اطرح نفسك إلى أسفل"... وكما يقول القديس جيروم: هذه هي كلمات إبليس دائمًا إذ يتمنى السقوط للجميع .

اهتزّ القديس يوحنا الذهبي الفم أمام طول أناة السيّد المسيح حتى في تعامله مع إبليس أثناء التجربة، إذ يقول: لم يسخط ولا ثار، إنّما برقّة زائدة تناقش معه للمرة الثانية من الكتاب المقدّس... معلّما إيّانا أننا نغلب الشيطان لا بعمل المعجزات، وإنما بالاحتمال وطول الأناة، فلا نفعل شيئًا بقصد المباهاة والمجد الباطل .

التجربة الثالثة، الطريق السهل

"ثم أخذه إبليس إلى جبل عالٍ جدًا، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها. وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي. حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد"

دُعي إبليس بالكذاب وأبو الكذاب، فإنه لا يكف عن أن يخدع بكذبه. هذه هي طبيعته التي لا يقدر أن يتخلّى عنها. لقد ظنّ أنه قادر أن يخدع السيّد بقوله "أعطيك هذه جميعها" فلا حاجة إلى الصليب، إنّما يكفي أن تخر وتسجد لي.

هذه أمر الضربات التي يصوّبها العدوّ للكثيرين، وهو فتح الطريق السهل السريع لتحقيق أهداف تبدو ناجحة وفعّالة. لكن السيّد لم ينخدع، لأنه يعرف حقيقة سلطان أبيه، وأن ما لأبيه إنّما هو له، فهو ليس في عوز. هكذا إذ يُدرك المؤمن غنى أبيه السماوي، وتنفتح بصيرته ليرى أنه وارث مع المسيح، لن يمكن للعدو أن يغويه بطريق أو آخر، مهما بدا سهلًا أو سريعًا أو محقّقًا لغنى أو كرامة زمنيّة.

يقول القديس جيروم: أراه مجد العالم على قمّة جبل، هذا الذي يزول، أمّا المخلّص فنزل إلى الأماكن السفليّة ليهزم إبليس بالتواضع.

كما يقول: يا لك من متعجرف متكبّر! فإن إبليس لا يملك العالم كلّه ليعطي ممالكه وإنما كما تعلم أن الله هو الذي يهب الملكوت لكثيرين !

ويرى القدّيس أنبا أنطونيوس في كلمات السيد: "اذهب يا شيطان" مِنحة يقدّمها السيّد لمؤمنيه، يستطيعون كمن لهم سلطان أن ينطقوا بالمسيح الذي فيهم ذات الكلمات، إذ يقول: ليخزى الشيطان بواسطتنا، لأن ما يقوله الرب إنّما هو لأجلنا، لكي إذ تسمع الشيّاطين منّا كلمات كهذه تهرب خلال الرب الذي انتهرها بهذه الكلمات .

هذه التجارب الثلاث التي واجهها السيّد وغلب، إنّما هي ذات التجارب التي واجهت آدم وسقط فيها وهو في الفردوس، ألا وهي: النهم، والمجد الباطل، والطمع، فقد أغواه العدوّ بالأكل ليملأ بطنه ممّا لم يسمح به له، وأن يصير هو وزوجته كالله، وبالتالي أن يملك شجرة معرفة الخير والشر .

ما سقط فيه آدم الأول غلب فيه آدم الثاني، حتى كما صار لنا الهلاك الأبدي خلال آدم الترابي، يصير لنا المجد الأبدي خلال آدم الأخير.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه التجارب الثلاث تحوي في طيّاتها كل بقيّة التجارب: [يبدو لي أنه بالإشارة إلى التجارب الرئيسيّة يتحدّث عن جميع التجارب كما لو كانت محواة فيها. لأن قادة الشرّير غير المحصيّة هي هذه: عبوديّة البطن، والعمل من أجل المجد الباطل، والخضوع لجنون الغنى .

ختم الإنجيلي حديثه عن التجارب بقوله: "ثم تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" . يقول لوقا الإنجيلي أن إبليس "فارقه إلى حين" (لو 4: 13). فالحرب لا تهدأ قط، لكن مع كل نُصرة تفرح الملائكة، فتتقدّم إلينا لتحمل هذه النصرة كإكليل مجد ترفعه إلى السماء لحسابنا الأبدي. إنها تخدمنا هنا ـ لا خدمة الجسد ـ وإنما خدمة الروح، فتعتزّ بنا بكونهم حراسًا لنا.

وكما يقول القديس جيروم: التجربة تسبق لكي تتبعها نصرة، وتأتي الملائكة فتخدم لتثبت كرامة المنتصر .

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:بعد انتصاراتك النابعة عن انتصاراته تستقبلك الملائكة أيضًا وتمدحك وتخدمك كحرّاس لك في كل شيء .

ويتحدّث الأب سيرينوس عن عدم توقّف حرب الشيّاطين ضدّنا، قائلًا: تسقط الأرواح (الشرّيرة) في الحزن، إذ تهلك بواسطتنا بنفس الهلاك الذي يرغبونه لنا، ولكن هزيمتهم لا تعني أنهم يتركوننا بلا رجعة.

مجموعة اقوال مختارة للاباء القديسين 2



مجموعة اقوال مختارة للاباء القديسين 2

إن كنت لا أطيعك لا أكون عبدك. إن كنت أتكلم مما هو عندي (لا مما لك) فأكون كذَّابًا. فالحديث إذن هو مما لك، والحديث أيضًا مما هو من شخصي. أمران، واحد لي، وواحد لك. الحق هو لك، واللغة هي من عندي +++ القديس اغسطينوس


ليتنا لا نغرق في ضيقاتنا بل نقدم التشكرات في كل شيءٍ، فنقتني نفعًا عظيمًا، إذ نرضي الله الذي يسمح بالضيقات ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

إنه هو رافعكم، هو استنارتكم، بنوره أنتم في أمان، بنوره تسيرون، ببرَّه تتمجدون. إنه يرفعكم إلى فوق، إنه يحرس ضعفكم، يهبكم قوته، لا قوتكم. ++ القديس اغسطينوس

المراعي الخضراء هي الفردوس الذي سقطنا منه، فقادنا إليه السيد المسيح، وأقامنا فيه بمياه الراحة، أي المعمودية. ++ القديس كيرلس الإسكندري
من لا يلتجئ إلى بني البشر يلتجئ إلى الله، وكل من يلتجئ إلى الله ينقذه من أعدائه المنظورين وغير المنظورين. ++ الأب أنسيمُس الأورشليمي

الذي لم يستقم قلبه بعد، إنما يوجد فيه انحراف، لن يشكر (يحمد) الله ولا يقبل الرب اعترافه. ++ العلامة أوريجينوس

بعد ضجر روحي، اضطرب فيَّ قلبي في داخلي، لأنك حجبت وجهك عني، وصرت مثل أرض يابسة نحوك. لا تحجب وجهك عني! حجبته عني حين كنت متكبرًا، رده لي فإني الآن في مذلة. إن حجبته عني، أصير مثل من يهبط في الجب... لا تسمح للجب أن يغلق فمه عليَّ ++ القديس اغسطينوس

للمذلة أنواع كثيرة، منها مذلة صالحة وهي التي يذل بها الإنسان ذاته متواضعًا. ومنها التي يُذل بها الإنسان بسبب كبريائه، وكما قال ربنا: إن ارتفع يتذلل ويتواضع. ومنها المذلة بسبب مصائب الدهر، فيُذل الإنسان ويُهان. وأيضًا يُذل ويتواضع من فعل الخطية. ++ الأب أنسيمُس الأورشليمي

الكذب ممنوع بعبارات قوية مملؤة تهديدًا، كقول النبي: "تهلك كل الناطقين بالكذب" (مز ٥: ٧) و"الفم الكاذب يقتل النفس" (حك ١: ١1) ++ الاب يوسف

عظيم هو سلطانك، فأنت خلقت السماء والأرض، وكل الأشياء التي فيها، وأعظم منها هو حنوك، الذي يظهر حقك لكل المحيطين بك ++ القديس اغسطينوس

شاء المسيح ومنحنا نعمة البنوة نحن الذين تحت نير العالم وبطبيعتنا عبيد، أما المسيح فهو الابن الحقيقي، هو بطبيعته ابن الله الآب حتى بعد تجسده. فقد ظل كما قلت لكم كما كان قبلًا بالرغم من أخذه جسدًا لم يكن له قبلًا ++ القديس كيرلس الكبير

كل طرق الرب هي رحمة وحق (مز 15: 10). فالحق في تحقيق الوعود ما كان يمكن أن يظهر ما لم يسبقه أن تتم الرحمة بغفران الخطايا +++ القديس اغسطينوس


قوتي محدودة عندما اجتاز تجربة ما، فلا تتركني إلي النهاية. "ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" 1كو13:10. إنه لا يتركنا إلي "النهاية". يقول للذين تركوه: "أنتم تركتموني وأنا أيضًا تركتكم" 2أي5:12. أما بالنسبة لنا فنطلب ألا نكون مرفوضين، بل نكون في يده لا يتركنا أبدًا "إلي الغاية". إن حدث إن تركنا، فلنستغيث من جديد بالمسيح يسوع. ++ العلامة أوريجينوس

اللَّه هو نور الأذهان الطاهرة، وليس نور الأعين الجسدية. هناك (في السماء) سيكون الذهن قادرًا على معاينة هذا النور، الذي حتى الآن لا تقدر أن تعاينه. ++ القديس أغسطينوس

الشخص الذي بحق يحب اللَّه يحفظ وصاياه، يؤكد بحفظه لها أنه يعرف محبة اللَّه. طاعتنا هي ثمرة حبه. ++ القديس ديديموس الضرير

الذين يهلكون لا يعرفون اللَّه، وسينكر اللَّه أنه يعرفهم، كما قال: "ابعدوا عني لأني لا أعرفكم" (مت 7: 23). ++ هيلاري أسقف آرل

إن كان لديك قضية معروضة أمام قاضٍ ويلزمك أن تقيم محاميًا، وقد قبل المحامي قضيتك، فإنه يشفع في قضيتك قدر استطاعته. فإن سمعت قبل المرافعة أنه هو الذي يحكم كم يكون فرحك أنه يكون القاضي ذاك الذي كان منذ محاميك. ++ القديس اغسطينوس

عندما يعرف الإنسان خطيته يتألم... وإذ تدخل المحبة إلى النفس تبرئ كل جراحات الخوف. فخوف اللَّه يسبب جراحات كما من مشرط الطبيب الذي ينزع الجرح، ولو أدى ذلك إلى اتساعه ++ القديس اغسطينوس


الله هو الكائن الوحيد، الذي إن أحببته، تجده معك في كل مكان، في كل مناسبة. فلا تشعر بالغربة عنه وبالانفصال عنه في أي وقت.
أما أي شخص آخر تحبه، وأي كائن آخر، فمن الجائز أن تنفصل عنه، بالسفر وبالموت وبالأحداث. يفصلكما المكان والزمان ++ البابا شنودة الثالث


عصاك وعكازك هما يُعزيّانني ++ القمص تادرس يعقوب



تامل من مزمور 23 ( مزمور الراعي ) ++ القمص تادرس يعقوب

"عصاك وعكازك هما يُعزيّانني".


العصا هي للقيادة والدفاع أم العكاز فهي للسند.
يرى القديس أكليمندس الإسكندري أنها عصا التعليم، عصا القوة التي أرسلها الرب من صهيون (مز 110: 2): هكذا هي عصا قوة التعليم: مقدَّسة ومُلَطّفة ومُخلّصة.

كيف تِخلّص الحكمة نفس الشاب من الموت؟ ما هي نصيحتها له كي لا يموت...؟ تقول: "إنْ ضرَبْتُه بعصا لا يموت" (أم 23: 13)... ويخبرنا العظيم داود أن تلك العصا تُعزّى ولا تَجْرح! ++ القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يتطَلَّع القديس أمبروسيوس إلى الرعي الصالح الذي يقودنا بعصاه، ويسندنا بعكازه، هذين اللذين هما ختم صليبه الذي قبِلناه في سِرّ الميرون مُنْعِمًا علينا بمسحة البارقليط (المعزّي) التي تُرهِب الشياطين.

في الشرق الأوسط عادة ما يكون للراعي الآتي:

أ. ثوب بسيط يستخدمه أثناء الرعاية بخلاف ثوبه الذي يحضر به الحفلات أو عندما يشترك في المجاملات... هذا الثوب يُشير إلى إخلاء السيد المسيح ذاته إذ أخلَى ذاته عن مجده ليحمل طبيعتنا البشرية ويحتلّ مركز العبد حتى يضمنا نحن العبيد فيه ويّدخل بنا إلى شركة مجده.

ب. عصا تُسْتَخدم في حماية القطيع من الحيات والحيوانات المفترسة. وهي تُشير إلى صليب رب المجد الذي به حَطَّم سلطان عدو الخير، وقتل الخطية، وأفسد سلطان الموت.

ج. عكاز يستخدمه للاستناد عليه، وأيضًا ليمسك به خروفًا جامحًا يحاول الهروب بعيدًا عن القطيع... يُشير إلى تأديب المخلص مؤمنيه بعصا الأبوة الحانية الحازمة.

د. آنية زيت، ليُطبّب بها جراحات خرافه، تُشير إلى المسحة المقدسة.

ه. مزمار يعزف عليه ليعلن بهجته بعمله الرعوي، إشارة إلى الفرح في المسيح يسوع، حيث تُسبّحه النفس مع الجسد كما على قيثارة الحب.

و. سكين يستخدمها عند الضرورة، تُشير إلى عمل الروح القدس الذي يفصل الخير عن الشر.

"عصاك وعكازك هما يُعزيّانني": إذ يملك الرب على شعبه بالصليب كما بقضيب مُلْكِه - يثق المرتل كل الثقة في قيادة الراعي الإلهية، حتى إنْ قاده في سُبُل الجبال الخطرة!

المرأة الحكيمة والمرأة الحمقاء ++ القمص تادرس يعقوب




تامل من امثال سليمان 14 ++ القمص تادرس يعقوب
المرأة الحكيمة والمرأة الحمقاء

المرأة الحكيمة تبني بيتها، والحمقاء تهدمه بيدها (ع 1).

إن كان العالم الحديث يهتم جدًا بحقوق المرأة، فإن هذا الاهتمام هو وليد الفكر الإنجيلي الحي، غير أن ما يشغل الكثيرون هو الحقوق المادية والشكلية. أما الكتاب المقدس بعهديه فيتطلع إلى المرأة سواء بكونها زوجة أو أمًا أو أختًا، أنها العمود الفقري للأسرة، لها فاعليتها القوية على بقية أعضاء الأسرة، وعلى خلق جوٍ من الحب والدفء العائلي والوحدة.

في سلطان المرأة أن تبني بيتها وفي سلطانها أن تهدمه؛ ليس بجمال الجسد ولا بالإمكانيات المادية تُقيم المرأة بيتها، وإنما بالحكمة، كما بالجهالة والحماقة تهدمه. إن حملتْ مسيحها - حكمة الله - في داخلها إنما تجتذب رجلها وأولادها إليه، وينمو بيتها كنيسة مقدسة متهللة، أما إن سلكت خارج المسيح، وعاشت لأجل ملذات العالم، فتحدر بيتها إلى الهاوية.

خلال الحياة المقدسة الحكيمة في الرب تبني الكنيسة كما النفس البشرية مسكنها السماوي بالنعمة الإلهية، أما النفس الشريرة فتهدم المجد المُعد للمؤمنين بيدها، أي بحياتها الشريرة وسلوكها غير اللائق وتمردها.

مكتوب: "المرأة الحكيمة تبني بيتًا، وأما الحمقاء فتهدم بيديها" (أم 14: 1). هذا يعني أن المرأة الحكيمة تشجع قريبتها في مخافة الرب، والمحبة التي في قلبها نحو أختها وأخواتها. ولكن من جانب الآخر المرأة الجاهلة تحطم بكلماتها المملوءة مرارة وكراهية وشرًا واستخفافًا، كما هو مكتوب: "في فم الجاهل قضيب لكبريائه اما شفاه الحكماء فتحفظهم" (راجع أم 14: 3) ++ القديس ويصا

هنا (لقاء السيد المسيح مع المرأة السامرية يو4) أعلنت امرأة عن المسيح للسامريين، وفي نهاية الأناجيل أيضًا امرأة رأته قبل كل الآخرين تخبر الرسل عن قيامة المخلص (يو ٢٠: ١٨) ++ العلامة أوريجينوس

"النساء الحكيمات يبنين بيوتهن". الكنيسة تبني بيتها بصبرها ورجائها في المسيح، أي تنهض الداخلين فيها وتصلحهم بتعليمها وإيمانها. "الجاهلة تهدمه بيدها". هذه هي الهرطقة التي تصير علة لموتهم الأبدي .

إذ يتحدث عن مجد الرجل، يقيم بولس الآن توازنًا هكذا، فلا يفتخر الرجل فوق الحد اللائق، ولا يُضغط على المرأة. ففي الرب المرأة ليست مستقلة عن الرجل، ولا الرجل مستقل عن المرأة. إن كنت تسأل من الذي جاء بعد الآخر، فإن كل منهما هو علة الآخر، أو بالأحرى ليس كل من الآخر بل الله هو علة الكل .

وقفت النسوة عند الصليب، الجنس الضعيف الذي ظهر أكثر قوة، وهكذا تغيرت كل الأمور تمامًا ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

واحدة هي الفضيلة عند الرجل والمرأة، بما أن خلقهما أُحيطا بشرفٍ متساوٍ. اسمعوا سفر التكوين: "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأُنثى خلقهم" (تك 1: 27). فبما أن طبيعتهما واحدة ولهما نفس الأفعال، فمكافئاتهما يجب أن تكون أيضًا واحدة ++ القديس باسيليوس الكبير

هذه التي كانت قبلًا خادمة للموت قد تحرّرت الآن من جريمتها بخدمة صوت الملائكة القدّيسين، وبكونها أول كارز بالأخبار الخاصة بسرّ القيامة المبهج ++ القديس كيرلس الكبير

البركة من مصادر أخرى +++ البابا شنودة الثالث




من كتاب الكهنوت +++ البابا شنودة الثالث
البركة من مصادر أخرى

نذكر في المقدمة بركة الوالدين:

سواء قالوا البركة بألسنتهم، أو نال الابن بركة إكرامهم. وفي ذلك يقول بولس الرسول: "أكرِم أباك وأمك، التي هي أول وصية بوعد" (أف 6: 2). ولعل المقصود هو البركة التي ذكرت في الوصايا العشر "أكرم أباك وأمك، لكي تطول أيامك على الأرض" (خر 20: 12).

هناك بركة أخرى هي بركة خدمة الفقراء والمساكين:
ولعل من أمثلتها قول أيوب الصديق في حديثه عن خدمته للمساكين: "بركة الهالك حَلَّت على" (أى 29: 13). أي أن الشخص الذي كان يهلك، أو كان في حكم الهالك وأنقذته، هذا بركته حلت على.

وهنا بركة، سواء كلمة دعاء من الفقير أو طالب المعونة، تكون بركة للإنسان، أو مجرد بركة الخدمة ذاتها ولو في الخفاء

بركة دعاء من أي أحد:

كقول الرسول: "باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا" (رو 12: 14). ولعله قد أخذ هذا من قول الرب في العظة على الجبل: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم " (مت 5: 44).

وفى هذا المعنى يقول القديس بطرس الرسول: "غير مجازين عن شر بشر، أو عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مباركين" (1بط 3: 9).

فإن كان الإنسان يمكن أن يتلقى كلمة بركة من أي إنسان، حتى ممن قد أساء هو إليه، فكم بالأولى كلمة البركة من الكاهن الذي استؤمن من الله على منح البركة.

إذن عبارة "كيف نأخذ بركة من إنسان "لا تتفق مع الحق الإنجيلي. ومن ناحية أخرى، فإن مباركة الكهنة للشعب عبارة عن وصية أمر بها الرب. وإن لم ينفذوها يكونون مقصرين ومخطئين.

والعجيب أن الذين يحتجون على منح الكاهن للبركة، كثيرًا ما يقول كل منهم لمن يخاطبه " الرب يباركك". وقد يقولها في حديثه مع أحد الآباء الكهنة القسوس، أو أحد الأساقفة، ككلمة دعاء.

روائع التاملات .. لماذا نحب الله؟ ++ البابا شنوده الثالث



روائع التاملات
من كتاب المحبة قمة الفضائل ++ البابا شنوده الثالث
لماذا نحب الله؟

فلنأخذ سفر النشيد الذي يعطينا مثالًا عن محبة النفس لله. فلماذا كانت تحبه؟

1 - أول كل شيء، هو أن حب الله متعتها ولذتها:

نقول له (حبك أطيب من الخمر) (نش2:1). إنها محبة تسكر. تنتشي بها النفس. بل تقول (أني مريضه حبًا) (نش5:2). أي أن محبة الله قد دغدغت جسمها، فلم تعد تحتمل تلك الطاقة الجبارة من الحب الإلهي.

جسدها أضعف من طاقات الروح. فلم تعد طاقة الجسد تحتمل الحب الإلهي، فأصبحت مريضة حبًا..

إنسان ترتفع درجة حرارة جسده، إذ هو مريض جسديًا. وإنسان آخر ترتفع بالحب درجة حرارة روحه، فإذا هو مريض حبًا.. (مدروخ) من الحب الإلهي. مثلما قيل لبولس الرسول (كثرة الكتب حولتك إلى الهذيان يا بولس) (أع26: 24).

هذا الهذيان البولسي المقدس، نشتهي نحن جميعًا أن نصاب به.

إنسان من فرط الحب الإلهي الذي فيه، يتكلم كلامًا لا يفهمه الناس، ويشعر بشعور لا يدركه الناس، فيحسبونه يهذي!

مشكلة أهل العالم، أن محبة العالم تتصارع فيهم مع محبة الله. فالجسد يشتهي ضد الروح التي تشتهي الله (غل5: 17).

فهم يتلذذون بالعالم، فيما يريدون أن يحبوا الله!! وهكذا يجود في حياتهم شيء من التضاد ومن التناقض، ومن الصراع، بغير استقرار.

أما الإنسان الذي يحب الله حقًا، ومحبة الله هي متعته، فليس فيه صراع ولا تضاد. ولا يتعب في تنفيذ وصيه الله، لأنه لذته..

أنه يتغني بوصايا الله، كما تغني بها داود في مزاميره (وصاياك هي لهجي) (سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي) (محبوب هو أسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي) (مز119). أو كما تقول عذراء النشيد (أسمك دهن مهراق) ونترجمها في القداس الإلهي (طيب مسكوب هو أسمك القدوس).

(طيب مسكوب هو أسمك، لذلك أحبتك العذارى) (نش1: 3) ونعني بالعذارى النفوس التي لم تعطي ذاتها لأخر، إذ أحبت الرب من كل القلب. سواء أكانت هذه النفوس من البتوليين، أو المتزوجين. لذلك فإن الكتاب لقب كل اللذين يخلصون بخمس عذارى حكيمات.

2 - النفس تحب الله، لأنها لا تجد له شبيهًا.

كما نغني له في التسبحة ونقول (من في الآلهة، يشبهك يا رب؟! أنت الإله الحقيقي، صانع العجائب).

أن اله، إذا قارنا محبته بكل مشتهيات العالم، وكل آلهته، نجده يفوقها جميعًا، لذلك تقول عذراء النشيد:

( حبيبي أبيض واحمر، معلم بين ربوه) ( نش5: 10).

أبيض في نقاوة قلبه، وفي أنه النور الحقيقي.. وأحمر في الدم المسفوك لأجلنا ولأجل خلاصنا.. وهو مميز بين ربوة، أي أن وضعت حبيبي بين عشرة آلاف، ا جده مميز بينهم.. متى إذن يتميز الله في قلبك عن كل مشتهيات الدنيا وكل سكانها وتجده يفوقهم جميعًا..؟

كل شهوات العالم زائلة، تنتهي بعد حين، أما محبة الله، فتبقي إلى الأبد. شهوات العالم سطحية، أما محبة الله فلها عمق ولها قدسية. وترفع مستوى الإنسان.

في حين أن شهوات العالم تهبط بمستواه..

كلما أحبك يا رب، ترفعني إليك لأعيش في السماوات. أما إن أحببت العالم، فإنه يهبطني معه إلى الأرض، إلى التراب والأرضيات.

3 - نحن أيضاَ نحب الله من أجل بهائه.

إنه (أبرع جمالًا من بني البشر) (مز45: 2).

تناديه عذراء النشيد فتقول (ها أنت جميل يا حبيبي) (نش 1: 16). فهل حقًا نري الله كذلك؟

ربما إنسان يسير في طريق الله، فيجد أن الباب ضيق، والطريق كرب (مت7: 14). ويجد أن الوصية ثقيلة، ولولا خوف الأبدية ما كان يستمر. فيقول للرب: من أول معرفتي لك، عرفت التجارب والضيقات (يو33:16). وعرفت الصليب وهكذا لا يري الحياة مع الله جميلة!!

أما الذي يحب الله، فكل شيء في عينيه: الله وصليبه، وتجاربه ووصاياه.

ويري الطريق حلوًا، مهما كان ضيقًا.. يكفي أنه يوصل إلى الملكوت.. ولا تحزنه التجارب، إذ يري فيها بركاتها، فيغني مع يعقوب الرسول (احسبوه كل فرح يا إخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة) (يع1: 2).
وينشد مع بولس الرسول (افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا) (في 4:4)

ومن أجل محبته لوصايا الله، يقول مع يوحنا الرسول إن (وصاياه ليست ثقيلة) (1يو3:5).

عذراء النشيد تغني بجمال الرب فتقول.

(حلقة حلاوة. كله مشتهيات) (نش16:5) (فتي كالأرز، طلعته كلبنان) (نش15:5).. وتشرح باقي صفاته. حقا إن الوجود مع الله، هو شهوده نشتهيها. وكما قال الآباء إن القداسة هي استبدال شهوة بشهوة، إذ نترك شهوة العالم، لنحظى بشهوة التمتع بعشرة الله.. نشتهي الله وكل ما يتعلق به، وكل ما يوصلنا إليه. ونجد فيه لذتنا وفرحنا ومعه لا يعوزنا شيء..

ما أجمل التأمل في صفات الله. إنها تغرس محبته في القلب.

الله المحب، الطويل الروح، والكثير الرحمة، الجزيل التحنن، الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا (مز103). الله الكلي القداسة، الكلي الحكمة، الكلي القدرة، المخبأة فيه كل كنوز الحكمة والعلم (كو2:3)..

الله الذي نتغنى بصفاته في القداس الغريغوري وفي تحليل آخر كل ساعة، وفي صلوات المزامير.

4 - (نحب الله، لأنه أحبنا قبلًا) 1يو19:4).

هو الذي أحبنا وفدانا. لأنه (هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية) (يو16:3).. هذه هي المحبة. ليس أننا نحن أحببنا الله. بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا) (1يو4: 10).

نحبه لأنه نقشنا علي كفه (أش49: 16). ووعدنا بأن (كل آلة صورت ضدنا لا تنجح) (اش45: 17)، وأن أبواب الجحيم لن تقوي علينا (مت 16: 18). ما أكثر وعوده المعزية..

5 - نحب الله، لأنه أبونا، وراعي نفوسنا.

هو الذي تغنى داود برعايته فقال (الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني. إلى ماء الراحة يوردني. يرد نفسي إلى سبل البر) (مز 23).

هو الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11، 14). وهو الذي قال (أنا أرعى غنمي وأربضها.. وأطلب الضال، واسترد المطرود، واجبر الكسير، واعصب الجريح) (خر 16:34).

وعذراء النشيد تسميه (الراعي بين السوسن) (نش2:16) هو الأب الحاني علي أولاده، الذين يعطيهم خيراته بكل سخاء، ويهتم بهم ويغدق عليهم من عطاياه، حتى أن داود النبي يقول في المزمور (باركي يا نفسي الرب، ولا تنسي كل إحساناته، الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك، الذي يفدي من الحفرة حياتك، الذي يكللك بالرحمة والرأفة، الذي يشبع بالخير عمرك، فيتجدد مثل النسر شبابك) (مز103:1-5).

6 - إننا نحب الله، لأنه قوي، يحرس ويسند.

تشعر النفس المحبة لهم، انه في حمايته، محاطة بقوة عجيبة ينقذها بذراع قوي، وبيد حصينة. فلا تخشي من خوف الليل، ولا من سهم يطير بالنهار. فهو يعزيها بقوله (إليك لا يقتربون، بلا بعينيك تنظر وتري مجازة الأشرار) لذلك فهي تغنى قائلة (الساكن في ستر العلي، وفي ظل القدير يبيت) (مز91:1-8) (إن لم يحرس الرب المدينة، فبطلًا يسهر الحارس) (مز127:1).

7 - إننا نحب الله لأسباب عديدة لا تحصي.

إذ انه بمحبة الله، يعيش الإنسان في فرح دائم: يفرح بأرب الذي يقوده في موكب نصرته (2قو2:14).. وينقله من خير إلي خير. ويفرح لتمتعه بالرب، ولأن الخطية لا مكان لها في قلبه ولا مكانة. ولأن محبة الله طردتها. حقًا قد تحدث له حروب ومقاومات من الشيطان، ولكنه مقاومات من الخارج فقط، أما قلبه من الداخل فيملك عليه السلام. وهكذا تجتمع في قلبه الفرح والمحبة والسلام، والتي هي أولى ثمار الروح (غل5:22).

نحن نحب الله، لأن محبته تطرد الخوف من خارج قلوبنا (1يو4:18). فلو ملكت المحبة علي قلوبنا، لا نعود نخاف الله ولا الدينونة، ولا نخاف الناس، ولا الخطية ولا الشيطان..

نحب الله، لأنمه بمقدار محبتنا له سيكون فرحنا به في الأبدية وستكون سعادتنا.

لأن في الأبدية (نجمًا يمتاز عن نجم في المجد) (1كو15: 41). وهذا الامتياز تحدده المحبة. فحسب مقدار محبتنا يكون امتياز درجتنا ومتعتنا في الأبدية.

يا أخوتي. أريدكم أن تدربوا أنفسكم علي محبة الله. أخرجوا من مظاهر الحياة الروحية، وأدخلوا إلى عمق الحب.

وأعلموا أن محبتكم لله، هي التي تعطي روحياتكم عمقًا..

لقد أنكر بطرس سيده ومعلمه، وسب ولعن وقال لا أعرف الرجل (مت 26: 7- 74). ولكن الرب لما عاتبة بعد القيامة، لم يذكر له موضوع الإنكار، وإنما سأله قائلًا (يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟) (يو 21: 15).

فأجاب بطرس (أنت تعلم يا رب كل شيء. أنت تعلم أني أحبك)..وبهذه المحبة نال المغفرة، ورجع إلى رتبته الرسولية..

أن كانت محبة الله لها كل هذه الأهمية فلعلنا نسال: ما الذي يعوق محبتنا لله؟

من تاملات سفر نشيد الأناشيد .. في الليل ++ البابا شنودة الثالث



من تاملات سفر نشيد الأناشيد ++ البابا شنودة الثالث
في الليل على فراشي طلبت مَنْ تحبه نفسي (نش 3: 1)

تقول عذراء النشيد "في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (نش 3: 1). وقلنا ان هذا يدل علي أنها تجتاز مرحلة من التخلي. وهنا عبارة (علي فراشي). تدل علي الكسل والتهاون.

ذلك أن الحياة الروحية، ليست كلها متعة دائمة مع الله.

فقد تتخللها أحيانا فترات من الضعف والفتور، والمحاربات التي ربما يسقط فيها الإنسان، ويفقد محبته الأولي (رؤ 2: 4). وكما يقول الكتاب " الصديق يسقط سبع مرات ويقوم " (أم 24: 16). فالشيطان يحسد اولاد الله. وقد يحاول أن يغربلهم كالحنطة (لو 20: 31). كما فعل مع الاباء الرسل! لذلك لا تستطيع النفس البشرية أن تحتفظ بثباتها في الرب كل حين، وتقول علي الدوام " شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني " (نش 2: 6).

لعل هذا يذكرنا بما قيل في سفر التكوين " مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال" (تك 8: 22).. فأن وقعت في يوم برد، ومر بك ليل، لا تتضايق. بل استمر ثابتا في الرب. انتظر بعد الليل نهار، وبعد البرد حر.

كلمة (الليل) كما تشير إلي الظلام روحيا، تشير أيضا إلي هدوء الليل.

هدوء الليل وسكونه، وبعده عن الضوضاء وعن المشغوليات، حيث تهدأ الطبيعة بعيدا عن شغب الليل وضجيجه، ويفرغ الإنسان عن دوامة العمل، ومن دوامة الأخبار، ويخلو إلي ذاته، لكي يخلو بذلك مع الله: يتحدث معه، ويتمتع به. لذلك قال أحد الأباء "الليل مفروز لعمل الصلاة، وللعمل مع الله" أي أنه مخصص بهدوئه للعمل الروحي، إذ يصلح سكونه لذلك.

قيل عن اليسد المسيح إنه كان يقضي الليل كله في الصلاة (لو 6: 12). وقيل في المزمور " في الليالي أرفعوا أياديكم أيها القديسون و باركوا الرب" (مز134). وكانوا الأباء المتوحدون ينامون قليلا في النهار ويسهرون الليل كله في الصلاة. كما حكي عن القديس الأنبا أرسانيوس الكبير الذي كان يقف للصلاة وقت الغروب، والشمس وراءه. ويظل في صلاته حتى تطلع الشمس من أمامه..

قال أحد الروحيين: أكسبوا صداقة الليل حتى تكون لكم حياة روحية في النهار. تجترون فيها ما اختزنتم من روحيات أثناء الليل.

حتى علي الفراش ينشغل الإنسان بالله، فيصير فراشه مقدسا..

كما قال داود النبي " كنت أذكرك علي فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك" (مز 63).. أنا يا رب لك باستمرار. في ليلي وفي نهاري. كنت قائما وراكعا علي فراشي.

إن الليل قد لا يكون كله مظلما وحالكا. وداكن العتمة. فأحيانا توجد فيه بعض أضواء.. نور السماء ونور النجوم لإضاءة الليل.
و كلما نذكر أن الله افتقد الليل في ظلامه، وخلق الله القمر والنجوم لإضاءته، ولتخفيف ظلمته. حينئذ نتعزي..

مبارك أنت يا رب. إنك لست إله النهار فقط، وإنما إله الليل أيضا. علي الرغم من ظلامه، لا تتركه رعايتك..
لولا رعايتك لليل، ما استطعت – في خطيئتي وكسلي – أن أقول " في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي"..

طلبت من تحبه نفسي:

وكأن هذه النفس – من علي فراشها – تقول للرب:

حقا إنني في ليل. ولكنني لست بعيدة عنك. وقد تكتنفني الظلمة من الخارج. ولكن روحك لا يزال في الداخل ينير أعماقي.
أنا في الليل. ولكن هذا الليل لابد وراءه فجر، ووراءه نهار .

أنا في حياة الخطية والفتور والكسل. ولكني مع ذلك مازلت أطلب من تحبه نفسي.
هذا الليل لا يجلب اليأس، لأنه ليس مظلما كله. وحتى إن كان مظلما، أنت قادر يا رب أن تنيره , لأنك أنت النور الحقيقي.
إنني أحيانا أقع في الخطية، ولكنني مع ذلك لست أحبها.
بل أحبك أنت. وينطبق علي حالتي قول القديس بولس الرسول " الشر الذي لست أريده، أياه أفعل.. " (رو 7: 19، 15).

الخطية بالنسبة إلي هي عمل خارجي، وليست في داخلي. هي ضعف مني وعجز وإهمال. وأفعلها بحكم العادة، وبضغط ظروف خارجية. ولكنها لا يمكن أن تكون كراهية مني لك يا رب وخيانة!!!

إنني مهما أخطأت وسقطت، فمازلت أحبك يا رب.

ما زلت أطلبك. وأنا علي فراشي. أما الخطية فإنني أجاهد لكي أتخلص منها. وأحيانا لا أجاهد، ومع ذلك أود من كل قلبي أن أتخلص منها. وأحيانا لا أجاهد، ومع ذلك أود من كل قلبي أن أتخلص من كل ضعفاتي وخطاياي. وأكون سعيدا يا رب إن انتشلتني منها مثل " شعلة منتشلة من النار" (زك 3: 2). وحينئذ اسمع منك نشيدك الحلو " اليوم حصل خلاص لهذا البيت" (لو 19: 9).

" في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي "

قد تكون إحدي زيارات النعمة أفتقدتني بها محبتك.

قد يكون عملا لروحك القدوس الذي لا تنزعه مني. قد تكون ثورة مني علي الخطية التي حطمتني، وألقتني علي فراشي..

قد يكون طلبي لك شيئا من هذا كله وغيره، سواء بإرادتي وبتوجيه منك. نطقت أنا، ونطق روحك علي فمي. ولكن الأمر اليقين هو أنني أطلبك من كل قلبي. وكلما أفتقدتك في حياتي ولم أجدك، يزداد طلبي لك، لأنك الوحيد الذي تحبه نفسي. سواء كنت أعمل في بيتك , وكنت في كسل علي فراشي.

علي أن رقادي علي فراشي، هو فترة مؤقتة ومحددة من حياتي، لابد أن تنتهي بإنتهاء هذا الليل.

إنني متمرد علي هذا الفراش. وإن كنت لا أستطيع أن أقوم منه، فأنت يا رب تستطيع أم تقيمني منه. إنني حاليا راقد علي فراشي، ويرن في أذني قول المرنم " قوموا يا بني النور، لنسبح رب القوات " قومي يا نفسي، لكي تلاقي " من تحبه نفسي".

من تحبه نفسي:

إنها نبضة القلب نحو الله. عبارة تكررت كثيرا في سفر النشيد. تقولها عذراء النشيد في داخل نفسها، وتصرح بها أمام الناس, وهي تبحث عن الله قائلة " هل رأيتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3).

إنه الله الذي تحبه النفس. فالكتاب يقول: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" (تث 6: 5).

مسكين هو الإنسان الذي يعلِّق قلبه بغير الله. لابد سيتعب.

الله هو الكائن الوحيد، الذي إن أحببته، تجده معك في كل مكان، في كل مناسبة. فلا تشعر بالغربة عنه وبالانفصال عنه في أي وقت.

أما أي شخص آخر تحبه، وأي كائن آخر، فمن الجائز أن تنفصل عنه، بالسفر وبالموت وبالأحداث. يفصلكما المكان والزمان.

كذلك يتميز الرب عن جميع المحبين بالمحبة الكاملة الحقيقية.

كثير من الناس لا تثبت محبتهم. قد يتغيَّرون، وتبرد محبتهم وينحرفون. ويصدقون فيك الأقاويل، وتؤثر عليهم عوامل خارجية.. أما الله فثابت في محبته حتى لو تغيَّرنا نحن.

ومحبته مقدسة، تسمو بالإنسان وتهدف إلى منفعته وخلاصه.

تقول عذراء النشيد: "مَنْ تحبه نفسي"، وهي تقصد المحبة التي تملأ كل القلب والفكر، وكل محبة أخرى تكون داخلها.

فالقلب الطاهر يحب جميع الناس، دون أن تنقص محبته الكاملة لله.

سعيد هو الإنسان الذي ينادي الله دائمًا بعبارة "يا مَنْ تحبه نفسي"، دون أن يبكِّته ضميره على أنه خان هذه المحبة في شيء..

اسأل نفسك إذن: هل هل محبة الله هي الغالبة المُسَيطرة في حياتك؟ هل هي القائدة لكل تصرّفاتك وأفكارك، وكل معاملاتك..؟

من كتاب كلمة منفعة .. الصليب +++ البابا شنوده الثالث



من كتاب كلمة منفعة ++ البابا شنوده الثالث

الصليب

يرمز الصليب إلى الألم.  والصلبان الثلاثة ترمز إلى ثلاث حالات صليب المسيح يرمز إلى الألم من أجل البر.  والصليبان الآخران يشيران إلى الألم بسبب الخطية كعقوبة.  وينقسمان إلى نوعين.  نوع يتألم بسبب خطاياه، فيتوب ويرجع.  والآخر يتألم بسبب خطاياه، ولكنه يشكو ويتذمر ويموت في خطاياه.

والصليب الذي لأجل البر، هو أيضًا على أنواع: منها صليب الحب والبذل، مثل صليب المسيح، الذي تحمل الألم لكي ينقدنا " وليس حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه عن أحبائه"

 وهناك صليب آخر في العطاء، وأعظم عطاء هو العطاء من العوز، حيث تفضل غيرك على نفسك، وتعتاز لكي يأخذ غيرك، مثلما أعطت الأرملة من أعوازها..

وهناك أيضًا صليب الاحتمال: تحويل الخد الآخر، وسير الميل الثاني.

  ليس فقط أن يحتمل الإنسان إساءات الناس إليه، بل أكثر من هذا أن يحسن إلى هؤلاء المسيئين، بل أيضًا أن يحبهم..!  من يستطيع هذا..؟  إنه صليب..

هناك صليب آخر في الجهاد الروحي: في انتصار الروح على الجسد، في احتمال متاعب وحروب العالم والجسد والشيطان..  في صلب الجسد مع الأهواء..  في الانتصار على الذات، في الدخول من الباب الضيق..

والصليب هو التألم لأجل البر.  هذا فقط للمبتدئين..  أما للكاملين فيتحول الصليب إلى لذة ومتعة.. 

نشعر بضيق الباب في أول الطريق.  ولكننا بعد ذلك نجد لذة في تنفيذ الوصية، ونحبه.  وحينئذ لا يصير الطريق كربًا..  والصليب الأول يصير متعة.

كان الاستشهاد صليبًا، ثم تحول إلى متعة.  وصار القديسون يشتهون الاستشهاد، ويشتهون الموت، ويفرحون به..  والتعب من أجل الرب أصبح لذة ومتعة، والألم أيضًا.

وهكذا اعتبر الكتاب أن الألم هبة من الله..

"وهب لكم، لا أن تؤمنوا به فقط، بل أن تتألموا لأجل اسمه" متى يصبح الصليب في حياتنا متعة؟

حبيبي تحوَّل وعبر (نش 5: 6) ++ البابا شنودة الثالث



من تاملات سفر نشيد الأناشيد ++ البابا شنودة الثالث
حبيبي تحوَّل وعبر (نش 5: 6)

تقول عذراء النشيد "خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟! غسلت رجليَ, فكيف أوسخهما؟! حبيبي مدّ يده من الكوة: فأنّت عليه أحشائي. قمت لأفتح لحبيبي, ويداي تقطران مرًّا, وأصابعي مرّ قاطر على مقبض القفل, فتحت لحبيبي, لكن حبيبي تحول وعبر, نفسي خرجت حينما أدبر. طلبتة فما وجدته, دعوته فما أجابني" (نش5: 3-6).

آفة كبرى, أن يخطئ الإنسان, ولا يحس إنه أخطأ, فيكون ضميره نائمًا, وقلبه نائمًا أيضًا: لا يوبخ, ولا ينتهر, ولا يبكت, ولا يبث شعور الندم والخزي.

أما هذه العذراء, على الرغم من نومها, كان قلبها مستيقظًا, كانت لها الحساسية القلبية المرهفة, على الرغم من أن الإرادة كانت ضعيفة..

كانت نائمة, كسلانة, لا تريد أن تقوم وتفتح الباب.. وعلى الرغم من هذا الكسل, كانت تلتمس لها الأعذار! " قد خلعت ثوبي, فكيف ألبسة؟ قد غسلت رجليّ, فكيف أوسخهما".. ؟

كثيرًا ما يأتي على النفس شعور, أنها تريد أن تستريح, وهكذا يصبح كل عمل روحي وقتذاك, ثقيلًا عليها. إن هذا العمل الروحي سيكون على حساب راحتها وهدوئها واستجمامها.. جاء صوت الله متأخرًا!! بعد أن خلعت ثوبها وذهبت لتنام. بعد أن تعبت من ثقل النهار وحرة, ودخلت لتستريح.. كيف تقوم مرة أخرى؟! وكيف تسير لتفتح الباب؟

هل تشاء يا رب أن تفتح بابًا جديدًا للجهاد، بعد أن خلنا ثوب الحرب ودخلنا نستريح؟!

ألا تتركُنا لنستريح من هذا الجهاد؟ ونغفوا ولو قليلًا؟ حقًا إن الروح نشيط (القلب مستيقظ), ولكن الجسد ضعيف لذلك فأنا نائمة. صعب أن يأتينا الامتحان ونحن في وقت راحتنا، ونحن في برودة روحية, حينئذ تكون الحرب شديدة, لأننا غير مستعدين لها، ولعلة من أجل هذا السبب, قال لنا الرب

" صلوا لكي لا يكون هربكم في الشتاء ولا في سبت" (مت24: 20). الشتاء وقت البرودة, والسبت وقت الراحة..

هذه العذراء أتتها الدعوة الإلهية في وقت رأته غير مناسب. كان ممكن أن يجيئني الرب قبل أن أدخل إلي حجرتي, وأخلع ثيابي, وأغسل رجلي, وأعطر يديِ, وأغفوا لأستريح.. !

هنا يبدو أن الدعوة الإلهية تحتاج إلي بذل, وإلي تضحية, وإلي عطاء,.. إنها طريقة الله..

يطلب من الأرملة أن تعطي من أعوازها (مر12: 44), ويطلب من إبراهيم أن يقدم ابنه الوحيد الذي تحبه نفسه (تك22: 2), ويطلب من أرملة صرفة صيدا أن تعطي لإيليا كل غذائها في وقت المجاعة (1مل17: 13), المسألة تحتاج إذن إلي بذل لأن العطاء من سعة هو عطاء رخيص, لا يمس القلب..

أما البذل فهو دليل الحب, ودليل على إن الإنسان قد خرج من سيطرة الذات, ووضع نفسه في المتكأ الأخير.

وهذا هو محك الاختبار الذي يريده لك المسيح..

يريد أن يثبت حبك عن طريق تعبك وبذلك, وحسبما تتعب تبذل على هذا القدر يعوضك الرب أضعافًا في ملكوته.

وكما قال الرسول: " كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبة" (1كو3: 8).. لا تستلم للراحة, قم وأتعب من أجل الرب.

هكذا يكون الصليب هو علامة محبتك للرب, لابد أن تحمل صليبك في طريقك إليه, ولابد أن تصعد على الصليب..

عذراء النشيد دخلت إلي فراشها لتستريح، وتثاقلت في أن تقوم, ولكن على عكسها كان داود النبي, الذي أقسم قائلًا: " إني لا أدخل إلي مسكن بيتي, ولا أصعد على سرير فراشي, ولا أعطي لعيني نومًا, ولا لأجفاني نعاسًا, ولا راحة لصدغي, إلي أن أجد موضعًا للرب ومسكنًا لإله يعقوب" (مز132: 2 -3).

كانت العذراء نائمة بينما الكتاب يحذرنا من هذا النوم بقوله:
لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا (مر13: 36), " اسهروا إذن وصلوا".
"أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا.. "
أريد أن أتمتع بالنوم, وأتمتع بحبيبي في نفس الوقت!!
أريد أن أحب دون أن أختبر" تعب المحبة"..

إنه حبيبي, وأنا أحبه, وأعرف صوته, وأميز صوته, من صوت الغريب. مشاعري كلها نحوه. ولكن أن افعل الحسنى فلست أجد" (رو7: 18). عندما مد يده من الكوة " أّنت عليه أحشائي". قلبي كله له لكن إرادتي مبتعدة عنه بعيدًا, لا تقوى على الطريق الضيق, ولا تقوى على حمل الصليب..

متى تتصالح الإرادة, مع مشاعر القلب, وتخضع لها؟

متى أسمع صوت حبيبي فأقفز من على فراشي, ولا أطيق أن أنام. إنما أخرج أنا أيضًا معه " ظافرا على الجبال, وقافزًا على التلال" (نش2: 7), أتبعه حيثما كان..

يكفي أنه تنازل وأتى ِ, ويكفي إنه ناداني بأسمى.
إن نداء الرب له تأثيره العميق مهما تكاسلت عنه.
إن كلمة الرب حية وفعالة, وأمضى من كل سيف ذي حدين (عب4: 12), ولا يمكن أن ترجع إليه فارغة (أش55: 11).. هذا الصوت الذي رنّ في أذني, قد رن بالأكثر في قلبي, ومهما كنت نائمة لابد, سأقوم..

" قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرًا" (نش5: 5), (والمر هو عطر سائل).

هذه النفس المتدللة, كانت يداها تقطران مرًا.. أي لم تكن تكتفي بأن ترش شيئًا من العطر على يديها, بل كانت تغطسهما في إناء مملوء من عطر المر, وهي راقدة على فراشها, حتى تقوم ويداها " تقطران مرًا"..

هذه النفس المتدللة المتكاسلة التي أعتذرت عن القيام للرب بقولها: " خلعت ثوبي فكيف ألبسة؟ غسلت رجلي فكيف أوسخهما.. ؟! وكانت عندها نظافة رجليها, أكثر من تفكيرها في الرب, وفتح مكان له في حياتها.

هذه النفس المتدللة, حينما قامت أخيرًا لتفتح للرب, قامت متأخرة, وكان حبيبها قد تحول وعبر, وتركها لفترة مريرة من فترات التخلي..

لقد زارتها النعمة, ثم تركتها بسبب تكاسلها وتراخيها..

كثيرًا ما تزور النعمة إنسانًا, ولكنها تنظر إلي مدى تجاوبة مع عملها فيه. إن وجدته حارًا في الروح, يشترك في العمل الإلهي مع نعمة الرب, ألهبته النعمة بالحب, وصار بعملة معها شريكًا للروح القدس. أما إن تراخى وتكاسل, واستهان بدعوة الله, فأن النعمة تتركة. ويبقى هذا الإنسان وحيدًا, ويقاسى مرارة التخلي.

وسنضرب مثلًا لهذا التكاسل الذي يسبب التخلي..

قد تستيقظ من النوم, وتسمع صوتًا عميقًا يناديك من الداخل " قم صلي" قف وتكلم مع الله, ليكن الله هو أول من تحادثة في هذا اليوم. لا تتكاسل. لا تهمل الصلاة مثل أمس وقبل من أمس.. " ولكنك تقول "نعم سأصلي, ولكن بعد أن أغسل وجهي، بعد أن أسرح شعري, بعد أن أرتب ملابسي, بعد أن أقضي هذا الأمر وذاك".. ثم تشغلك عوائق كثيرة عن الصلاة, وتقف لتصلي فتجد فكرك مشتتًا, وعدد من الموضوعات قد دخل فيه. ولا تجد الحرارة السابقة فتقول في مرارة " حبيبي تحول وعبر" وتتذكر قول داود: يا الله أنت إلهي, إليك أبكر, عطشت نفسي إليك, " أنا أستيقظ مبكرًا"..

كم مرة لمست النعمة قلوبنا, ولكننا تكاسلنا, فضاع الشعور, وضاعت العاطفة, وبردت الحرارة, وتحول حبيبنا وعبر..

كثير من الناس ضاعت الفرصة منهم, لأنهم قاموا للرب متأخرين, مثل العذارى الجاهلات, جئن بعد أن أغلق الباب.. لماذا إذن تتأخر في الاستجابة للرب؟! لو إن هذه النفس, عندما قالت " صوت حبيبي قارعًا ", قامت بسرعة وفتحت له, حتى قبل أن يتكلم, لكانت قد تمتعت بالوجود مع الرب, وما كانت بكت قائلة: نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني.

عجيب هذا الأمر حقًا.. الله المحب الحنون, الذي يقول " فيما تدعو إني أنا أستجيب". تقول عنه العروس هنا " دعوته فما أجابني"!! الله الذي يقول " أطلبوا تجدوا" (لو11: 9), تقول عذراء النشيد "طلبته فما وجدته"!!

إن الحب يا أخوتي, هو أكثر المشاعر حساسية, وأكثرها تأثيرًا. ولا يوجد شيء أكثر إيلامًا للقلب..، من أن تحب إنسانًا فيتجاهلك, وتقرع بابه فلا يفتح لك. لهذا قال الرب "جرحت في بيت أحبائي" (زك13: 6).

لقد سعى الرب إلي هذا النفس, طافرًا على الجبال, قافزًا على التلال. وخاطبها بأرق الألفاظ " إفتحي لي يا أختي, يا حبيبيتي يا حماماتي, يا كاملتي",.. ومع كل ذلك لم تستجب. لذلك تركها لتختبر البعد عنه.. لعلها وجدت إنه هو الساعي, فتدللت وتثاقلت.. ورأت إنه الطارق, فتناومت وتكاسلت, وكما يقول المثل: إذا كثر العرض قل الطلب.

لذلك أبتعد الرب عنها, لكيما تشتاق له, وتركها لكي تسعى إليه, وحرمها هذا الحب حتى لا تحسبه رخيصًا فتهمله. وجعلها تقاسي مرارة البُعد, حتى تقدر حلاوة الحب.

إن المحبة يا ابنتي ليست ضريبة تفرض عليك, ليست أمرًا ترغمين عليه, وتغصبين نفسك على ممارسته, بل هو اشتياق وانجذاب.. أنت لا تريدين أن تفتحي لي, لا مانع, سأتركك إلي حريتك, إلي أن تشعري بأهمية وجودي في حياتك, إلي أن تفهمي مدى حاجتك إلي الوجود معي. وحينئذ ستندمين على بعدك, وسترجعين..

فترات التخلي:

ستندم تلك النفس على تكاسلها, وبعدها عن حبيبها, وحينئذ ستبحث عنه, وترجع إليه.

وسوف تدرك إن التخلي كان اختبارا نافعًا لها..

فترات التخلي هذه تأتي على كثيرين, فيشعرون إن هناك حائلًا كبيرًا بينهم وبين الله. يشعر الشخص منهم إنه واقف وحده, بعيدًا عن الله, بجفاف في حياته, وعدم إحساس بالعزاء الداخلي, يشعر إن عبادته بلا عاطفة, بلا حرارة, بلا حب, بلا روح, بلا صلة, بلا استجابة, بلا دالة..

والناس في مراحل التخلي على نوعين:

نوع إذ مر بمرحلة، يلوم نفسه وليس الله:

يقول: أنا السبب. أنا سلكت نحو الله مسلكًا جعله يتخلى عني. والأفضل أن أرجع إلي علاقتي الأولي بالله. إن الله في كمال محبته, لا يستحق مني هذه المعاملة السيئة. وفي إحساناته الكثيرة لا يصح أن أتذمر عليه هكذا. ليتني أصطلح معة.

ونوع أخر إذ وجد في مرحلة التخلي يتذمر على الله:

ويجدف على الله ويحتج ويقول: أين ما يقولونه عن حنانك وعن محبتك؟! وأفرض أنني أخطأت, لماذا لا تسامح؟ ولماذا لا تغفر؟ لماذا تعاملني هكذا؟ لماذا أنت شديد وقاسي وعنيف؟! وبمثل هذه التجاديف تزداد الخطية وتستفحل الخطية.

وإنسان أخر في مرحلة التخلي لا يتذمر على الله, ولا يسترضيه, وإنما ينساه, يتركه..

يقول له: إن كنت أنت تتخلى عني, وتتركني, وأنا كذلك. حسن إن هذا الأمر قد جاء منك.. !! وهكذا يسلك بعيدًا عن الله, ويتمادى في تركه, ويتحول ما فيه من جفاف إلي انحراف.. وهكذا ينهار ويضيع, كما لو كان يعاند الله..

إن فترات التخلي, غالبًا ما تكون بسبب الإنسان.. وفي قصة عذراء النشيد كانت بسبب التراخي والكسل.

هناك نوع أخر من التخلي, يكون بسبب الكبرياء.

يسلك إنسان في كبرياء القلب, ينتفخ من الداخل,يظن في نفسه إنه شئ, تكبر مواهبه في عينيه. حنان الله الذي حفظه من الخطية فترة من الزمن, بسببه يشهر إنه بلا خطية!! وأن عنصرة فوق مستوى الخطأ, وإن الخطية خاصة بالمبتدئين فقط.

وهكذا بسبب كبريائه, تتخلى عنه النعمة ليعرف ضعفه.

وفي مرحلة التخلي يبحث عن نفسه فلا يجده, ويسقط في خطايا المبتدئين. ويحاول أن يصلي فلا يعرف, ويجاهد لكي يتوب فلا يقدر. ويصرخ من أعماق قلبه " طلبته, فما وجدته. دعوته, فما أجابني". ويرجع إلي الله ليقول له: أنا ضعيف ومسكين. أنا أضعف من أن أقاتل أصغرهم.

وهذا التخلي يقود إلي الانسحاق والاتضاع..

حينئذ يعرف أنه في الموازين إلي فوق. وإنه خير له أن يأخذ موقف العشار المتذلل, وليس موقف الفريسي المنتفخ.. ويقول للرب: " وأخيرًا يا رب, عرفت أن الباطل المنسحق, خير من الحق المنتفخ"..

حقًا إنه قبل الكسر كبرياء, وقبل السقوط تشامخ الروح (أم16: 8), وإن هذا الكبرياء من أسباب التخلي.

سبب أخر للتخلي, هو إدانة الآخرين..

أحيانا ندين الآخرين على خطية معينة, فيسمح الله بتخليه عنا, أن نقع في نفس الخطية, لكي ندرك إننا لسنا أقوى من غيرنا, ولكي نعرف إن ثباتنا كان سبب عمل النعمة فينا, ولم يكن بسبب قوتنا الخاصة. ولي نعرف أيضًا قوة العدو المحارب, وعنفه وقسوته في حروبه, فنشفق على الساقطين بدلًا من أن ندينهم.

حقًا, أن فترات التخلي تعطي القلب شفقة على الخطاة..

فيدرك تمامًا إن مغزى قول الرسول" أذكروا المقيدين كأنكم مقيدين أيضًا مثلهم, والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب13), وهكذا إذ وجد إنسانًا ساقطًا يبكي عليه كأنه هو الساقط. وهكذا كان يفعل القديس يوحنا القصير: كان إذ رأى إنسانًا ساقطًا يبكي ويقول: إن العدو قوي, وكما أسقط أخي اليوم قد يسقطني غدًا, وقد يقوم أخي من سقطته, وأنا لا أقوم, لذلك أبكي.

إن تخلي النعمة قد يكون ظاهريًا وليس حقيقيًا..

ربما يكون مجرد حرب سمح فيها الله للشيطان أن يضرب هذا الإنسان, دون أن تتخلى النعمة عنه, فيطن هذا الإنسان إنه قد سقط من يد الله.. بينما الله كضابط للكل يراقب الموقف بعمق شديد, وقد حوَّط بنعمته حول الإنسان حتى لا يضيع. مثال ذلك قصة أيوب الصديق. ظن في تجربته إن الله قد تخلى عنه, ولم يكن الأمر كذلك, وأنقذ الله أيوب.

من الجائز أن يكون هذا التخلي, لونًا من الحكمة الإلهية في تدريب الإنسان وتربيته.

مثال هذا الأم التي تعلم أبنها المشي. تمسكه بيدها ليمشي قليلًا, ثم تتركه فيقع ويصرخ ولا تقيمه بل تتركه حتى يقف ويتابع المشي, ولو حملته باستمرار على كتفيها, وأمسكته باستمرار في مشيه, ما تعلم المشي قط..

هكذا أيضًا تفعل الطيور في تعليم فراخها للطير, وهكذا يفعل الآباء في تعليم أبنائهم العوم. وهكذا يفعل الله في تربية الإنسان:

بالتخلي يعلمه الحرب, كما قال داود النبي " مبارك الرب.. الذي يعلّم يديّ القتال, وأصابعي الحرب" (مز144: 1).

نهاية التدليل والكسل والفتور في حياة هذه العروس, كانت تخلي الرب عنها. وفي فترات التخلي, ذاقت كم فعل العدو بها.

إننا نصمد أمام العدو, طالما كانت قوة الرب معنا, فإن فارقتنا قوة الرب, وقعنا في أيدي أعدائنا.

مثال ذلك شمشون الجبار, لم يستطع أحد أن يقوى عليه, طالما كانت قوة الرب معه. فلما كسر نذرة, وفارقته القوة الإلهية, استطاع أعداؤة أن يذلوة. كذلك قيل عن شاو ل الملك " وفارقت روح الرب شاو ل, وبغتة روح ردئ من قبل الرب" (1صم16: 14).

هذا الروح الردئ لم يكن له عليه سلطان قبل أن يفارقه روح الرب.

إن العدو ينتهز فترات التخلي, لكي ليضرب ضرباته بلا رحمة..

وهكذا تقول عذراء النشيد "ضربوني, جرحوني, رفعوا إزاري عني.." لقد كنت مصانة أيها العروس داخل بيتك, وكان الرب يقرع على بابك ويناديك.. أما الآن فقد ضاعت هيبتك الروحية في شوارع المدينة.. لقد وجد العدو فرصته وانتهزها. بدأ العدو يضربك, ويعريكِ, وينزع عنك ثوب البر الذي ألبسك الرب إياه من قبل.

الابن الضال أيضًا أذله العدو وهو في كورة بعيدة..

عندما ابتعد هذا الابن عن الأب, استطاع العدو أن يضربه وبلا سلاح. واستطاع أن ينزع إزاره عنه. إنها فرصته وقد سمح له الرب بها.

ولكن هل يمكن أن يسمح الله للعدو بأن يفعل هذا؟

نعم يمكن لأجل, فائدة الإنسان, يمكن أن " يسلم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد, لتخلص الروح في يوم الرب" (1كو5: 5).. لقد سمح الله مرة للشيطان أن يضرب أيوب البار, أفلا يسمح له بأن يضرب الكسالى والمتهاونين والمخالفين وصاياة؟!

وهكذا ممكن أن يسلم الله إنسانًا لأيدي أعدائه..

عندما أخطأ بنو إسرائيل, سلمهم الرب لأيدي أعدائهم أكثر من مرة, وتكررت هذه العبارة مرارًا أكثر من مرة في العهد القديم, مثلما ورد في سفر القضاة " فحميّ غضب الرب على إسرائيل. فدفعهم إلي أيدي ناهبين نهبوهم, وباعهم بأيدي أعدائهم حولهم. ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم.. فضاق بهم الأمر جدًا" (قض2: 14, 15), سمح الله أيضًا أن يدفعهم إلي أيدي نبوخذ نصر, وان يسلمهم إلي سبي بابل وسبي أشور.

كان خيرًا لهم أن" يبكوا على أنهار بابل, وأن يعلقوا قيثاراتهم على أشجار الصفصاف" (مز 137).

كانت فترة التخلي نافعة روحيًا. وكما قال الكتاب " أملأ وجوههم خزيًا, فيطلبون أسمك يا رب.. "

وهكذا حدث مع عذراء النشيد: لولا التخلي ومتاعبه, ما كان ممكنًا أن نقول "أحلفكن يا بنات أورشليم, إن وجدتن حبيبي, أن تخبرنه بأنني مريضة حبًا".

من أين أتت عبارة " مريضة حبًا".. ؟ إنه إحساس الاشتياق جاء كثمرة طبيعية للتخلي والبعد والحرمان..

كانت النعمة تسعى إلي هذه العروس المتدللة المتكاسلة, وتقرع بابها, ولكنها لم تشعر بقيمة هذه النعمة. فلما قاست مرارة التخلي, ولما ضربت وجرحت من الحرس الطائف, حينئذ أحست إنها كانت في نعمة لم تقدرها.. وحينئذ شعرت بحاجتها إلي الرب الذي لم تفتح له قبلًا فقالت: " إنني مريضة حبًا"

حسن أن هذه العروس, لمل تحول عنها الرب وعبر, لم تتركه هي أيضًا. فمن داخلها قالت " نفسي خرجت حينما أدبر". ومن جهة العمل قالت " طلبته فما وجدته, دعوته فما أجابني " ولما لم تجده ولم يجبها, لم ينته بها الأمر عند هذا الحد.. بل سعت إليه.