تفسير سفر الخروج 3 ++ العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير  سفر الخروج 3 ++ العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا ++ القمص تادرس يعقوب

 1. العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا:

بينما كان موسى يرعى غنم حميه يثرون ساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب، إذا به يرى عُلِّيقة تتقد نارًا ولا تحترق فقال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" . هنا دخل موسى النبي إلى مرحلة جديدة هي مرحلة اللقاء مع الله الذي هو سرّ القوة، والراعي الخفي الذي يعمل لخلاص العالم وبنيان الكنيسة.

والآن إلى أي شيء تشير هذه العُلِّيقة المُتَّقدة؟

 أ. إن كلمة "العُلِّيقة" بالعبرية كما جاءت في العددين(2، 3) تعني "العُلِّيقة المملوءة شوكًا The thorny bush" لذا رأى اليهود في هذه العُلِّيقة رمزًا لإسرائيل وقد أحاطت به الأشواك والأتعاب التي تلحق به. وقد أخذ بعض الآباء الأولين ذات الفكر، فرأى العلامة ترتليان في العُلِّيقة إشارة إلى الكنيسة التي تشتعل فيها نار الاضطهاد ولا تُبيدها، ونادى بذات الرأي القديس هيلاري أسقف بواتييه.

كما يقول القديس هيبوليتس الروماني: يتحدث الله مع قديسيه في الكنيسة كما في العُلِّيقة. وكأن موسى النبي رأى في العُلِّيقة كنيسة السيِّد المسيح المتألمة تحوط بها الأشواك، لكنها ملتهبة بنار الروح الإلهي فلا يصيبها الموت... هذه هي الخدمة التي دُعي إليها!

ب. يرى القديس أغسطينوس أنها تشير إلى مجد الله الذي حلَّ في الشعب اليهودي لكنه لم يبيد قساوة قلبهم المملوءة أشواكًا.

ج. يرى القديس إكليمنضس الإسكندري في العُلِّيقة إعلانًا عن الميلاد البتولي، فقد وُلد السيِّد المسيح من البتول، وبميلاده لم تُحل بتولية العذراء. هذا أيضًا ما عناه القديس غريغوريوس أسقف نيصص إذ قال: نور اللاهوت الذي أشرق منها نحو الحياة البشرية خلال ميلادها (ليسوع المسيح) لم يحرق العُلِّيقة المُتَّقدة، وذلك كما أن زهرة البتولية فيها لم تذبل بإنجابها الطفل. وفد نادى ثيؤدورت أيضًا بذات الرأي.

 د. يرى القديس كيرلس الإسكندري أن العُلِّيقة حملت سرّ "التجسد الإلهي"، فقد اتحد اللاهوت بالناسوت دون أن يُبتلع الناسوت. فإنه ما كان يمكن لموسى النبي أن يبدأ هذا العمل الخلاصي ما لم يتلمس ظلال التجسد الإلهي، فيتعرف على "الكلمة الإلهي" المتجسد كصديق للبشرية، صار واحدًا منا، عاش بيننا يحمل جسدنا وإنسانيتنا حتى يدخل بنا إلى أمجاده الإلهية.

في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: لم يشرق النور خلال كوكب مضيء بل خلال عُلِّيقة أرضية، لكنه كان يفوق في بهائه الأنوار السماوية، وفي نفس الوقت لكي لا يظن أحد أنه ليس صادرًا عن مادة ملموسة، أي لئلاَّ ينكر حقيقة تجسده.

ه. أخيرًا رأي القديس يوحنا الذهبي الفم في العُلِّيقة صورة حيَّة لقيامة السيِّد المسيح، الذي حمل جسدًا حقيقيًا، ومات فعلًا، لكنه لم يُمسك في الموت على الدوام.

وفي هذه المناسبة نذكر ما كتبه القديس جيروم إلى أبيفانيوس كاهن Beatrice بأسبانيا يواسيه لأنه كفيف لا يبصر، قائلًا: يليق بك ألاَّ تحزن لأنك حُرمت من الأعين الجسدية التي يشترك فيها النمل والحشرات الطائرة والزواحف مع الإنسان، بل بالأحرى تفرح أن لك العين المذكورة في سفر نشيد الأناشيد... هذه التي بها تنظر الله، والتي أشار إليها موسى حين قال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم"

ويلاحظ أن الكتاب يقول: "وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عُلِّيقة" . وهنا كلمة ملاك تعني "مرسل"، وتشير إلى الأقنوم الثاني، الابن الذي أُرسل من قبل الآب ليعلن هذا العمل ويرسل موسى النبي... فلو أن الذي ظهر ملاك وليس الأقنوم الثاني لما قال: "ناداه الله من وسط العُلِّيقة... ثم قال: أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله".

يرى بعض الآباء أن الآب لا يُرى، لكن كلمته تُعلن هنا في العُلِّيقة كنار ملتهبة، وهو بعينه الذي يأتي في آخر الأزمنة متجسدًا "لكي يخبر" عن الآب!

2. خلع الحذاء:

يقول الرب لموسى: "لا تقترب إلى هنا. اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليها أرض مقدسة".

 في حديثنا عن قدسية الهيكل قلنا أننا إلى يومنا هذا ندخل الهيكل حفاة الأقدام كوصية الرب لموسى النبي. وخلع الحذاء يشير إلى الشعور بعدم تأهلنا حتى للوقوف في هذا الموضع المقدس الذي فيه تقدم الذبيحة المخوفة التي تشتهي الملائكة أن تطلع إليها. خلع الحذاء أيضًا - عند الآباء - يحمل معانٍ أخرى كثيرة وعميقة، نذكر منها:

أ. كانت الأحذية في القديم تصنع من جلد الحيوان الميت، وكأن الله بوصيته هذه يطلب منا أن نخلع عنا محبة الأمور الزمنية الميتة لنلتصق بالسمويات الخالدة حتى نلتقي به. هذا ما نادى به العلامة أوريجانوس، وأخذ عنه كثير من الآباء.

فيقول القديس أغسطينوس: أي أرض مقدسة مثل كنيسة الله؟! إذن لنقف فيها ونحن خالعين أحذيتنا، أي رافضين الأعمال الميتة.

ويقول القديس أمبروسيوس:كان موسى رمزًا للشعب لم يحتذي بحذاء الرب (مت 3: 11)، بل بنعل رجليه! لذا أمره الرب بخلعه حتى يحرر خطوات قلبه وروحه من قيود ورباطات الجسد، ويسير في طريق الروح.

ويقول القدِّيس غريغوريوس النزينزي: ليت من يقترب إلى الأرض المقدسة التي هي قدس الله يخلع نعليه كما فعل موسى حتى لا يدخل بشيء ميت إلى هناك، ولا يكون بينه وبين الله شيء... أما من يهرب من مصر(محبة العالم) والأشياء التي بها فليحتذي لأجل سلامته، حتى لا تلدغه العقارب والحيات الكثيرة الموجودة بها، فلا تؤذه تلك التي تطلب عقبه (تك 3: 15) وإنما كما أُوصى يطأها بقدميه (لو 10: 19).

ب. الجلد الذي تصنع منه الأحذية -كما يقول العلامة أوريجانوس- يستخدم في الطبول. هنا إشارة إلى عدم استخدام الطبول أو حب الظهور في العبادة، إنما خلال الجهاد الروحي المملوء اتضاعًا يمكن للنفس أن تدخل إلى المقدسات الإلهية وتلتقي بإلهها.

ج. يرى العلامة أوريجانوس أيضًا أن خالع النعلين مرتبط بما ورد في العهد القديم، أنه إن رفض إنسان أن يتزوج أرملة أخيه كوصية الله ليقيم لأخيه الميت نسلًا، تأتي الأرملة إليه في حضرة الشيوخ وتخلع حذاءه من رجليه، ويسمى "بيت مخلوع النعلين" (تث 25: 5-10)، هكذا إذ خلع موسى نعليه أعلن أنه ليس بعريس الكنيسة. وفي كل مرة يخلع الأسقف أو الكاهن أو الشماس حذاءه عند دخوله الهيكل إنما يدرك حقيقة نفسه أنه ليس عريس الكنيسة الحقيقي بل صديق العريس وخادمه.

 أخذ القديس أمبروسيوس ذات الرأي عن العلامة الإسكندري أوريجين فقال: لم يكن موسى العريس لذلك قيل له: "اخلع حذاءك من رجليك" حتى يترك المكان لربه. ولا يشوع بن نون كان العريس لذا قيل له؟ "اخلع نعلك من رجلك" (يش 5: 16)، لئلاَّ بسبب تشابهه مع الاسم (يسوع) يظن في نفسه أنه يسوع المسيح عريس الكنيسة. ليس أحد هو العريس إلاَّ السيِّد المسيح الذي وحده قال عنه يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 29). لذا خلع هؤلاء أحذيتهم من أرجلهم، أما حذاء السيِّد المسيح فلا يمكن أن يُحل إذ قال القدِّيس يوحنا: "لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" (يو 1: 27).

د. ربط القديس غريغوريوس أسقف نيصص بين خلع الحذاء الجلدي وثوبيّ الجلد اللذين لبسهما آدم وحواء (تك 3: 21) بعد سقوطهما في العصيان، إذ يقول: يعلمنا هذا النور(الذي للعُلِّيقة) أنه يليق بنا أن نقف أمام النور الحقيقي. لكن الأقدام التي بها أحذية لا تقدر أن ترتفع إلى العلو الذي من خلاله ترى الحق. لهذا يلزمنا أن نخلع عن قدمي النفس الغطاء الجلدي الأرضي الميت، الذي وُضع حول طبيعتنا في البداية حين تعرينا بسبب عصياننا للإرادة الإلهية. بهذا تكون لنا معرفة الحق التي تعلن عن ذاتها لنا، فنتحقق كمال المعرفة للأمور الموجودة (الحق)، بتطهير أفكارنا عن الأمور غير الموجودة (غير الحق أو الشر).

 وقد احتل تعليم القديس غريغوريوس عن "ثوبي الجلد" مركزًا هامًا في كتاباته، فيقول مثلًا: الختان يعني خلع الجلد الميت الذي لبسناه حين طُردنا من الحياة الفائقة الطبيعة بعد عصياننا . لذا فالعمودية في نظره هي خلع هذا الثوب الجلدي المحيط بطبيعتنا، أي خلع أعمال الإنسان القديم، هذا الذي يعلن عن موتنا وشهواتنا التي دخلت إلينا بعدما كنا على صورة الله.

 3. دعوة موسى:

من خلال العُلِّيقة الملتهبة نارًا دُعيَ موسى وهو واقف حافي القدمين ليتسلم خدمة شعب الله، وهنا نلاحظ:

أ. تطلع موسى النبي إلى العُلِّيقة وإذا كلها أشواك، لكن النار الإلهية ملتهبة خلالها دون أن تحترق... لعله رأى في ذلك عمل الله الناري الذي يستخدمنا بكل ما فينا من أشواك، يلهب قلوبنا ويعمل بنا بالرغم من كل ضعفاتنا. وكما يقول القديس أمبروسيوس: لماذا نيأس، إن الله يتحدث في البشر، هذا الذي تكلم في العُلِّيقة المملوءة أشواكًا؟! إنه لم يحتقر العُلِّيقة! إنه يضيئ في أشواكي!.

حقًا إن المتحدث نار آكلة (إش 10: 7)، والدعوة صدرت عن النار الإلهية، لكنها لا تؤذي موسى بل تسنده وتلهبه.... كما فعل الروح القدوس الناري في التلاميذ، الذي أحرق ضعفاتهم وأعطاهم قوة للحياة الجديدة الكارزة (مت 3: 11، أع 2).

 ب. إذ دعى الله موسى النبي لم يحدثه عن مؤهلاته للخدمة وإمكانياته البشرية بل حدثه عن نفسه، الإمكانيات الإلهية المقدمة له، قائلًا له: "أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب" .  وكانت هذه الكلمات تخرج بسلطان وقوة نارية حتى "غطَّى موسى وجهه لأنه خاف".  تحدث أيضًا عن قيامه هو بالخلاص، فقد رأى وسمع وعلِم مذلة شعبه، لذا فهو ينزل لإنقاذهم...

أما سرّ قوة موسى النبي فهو "إني أكون معك" . وهو ذات الوعد الذي يعطيه لجميع أنبيائه ورسله وكل العاملين في كرمه. فيقول ليشوع بن نون: "كما كنت مع موسى أكون معك. لا أهملك ولا أتركك" (يش 1: 5)، ويؤكد لإرميا النبي "لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 16)، ويقول لتلاميذه: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).

 4. اعتذار موسى:

أراد موسى أن يعتذر عن الخدمة قائلًا: "من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أُخرج بنى إسرائيل من مصر؟!".

طبيعة موسى الضعيفة بالرغم من كونه من رجال الإيمان جعلته يتردد في قبول الدعوة، وربما كان ذلك من آثار فشله الأول حين خرج إلى الخدمة متكلًا على ذراعه البشري. فما كان له أن يقول: "من أنا؟!" بعد أن عرف أن الله نفسه هو الذي يرسله وهو الذي ينزل ليخلص.

أصر موسى على إعفائه أكثر من مرة، تارة يضع أسئلة واعتراضات، كأن يقول: "فإذا قالوا ما اسمه، فماذا أقول لهم"  والرب يُجيبه، وأخرى يقول: "ولكن ها هم لا يُصدقونني" (4: 1). فيعطيه الرب إمكانية عمل آيات ومعجزات... الخ، وثالثة يعترض بسبب ضعفه الشخصي قائلًا: "أنا ثقيل الفم واللسان" (4: 10). والله يؤكد له أنه هو خالق الفم واللسان "اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به" (4: 12). إذ لا يجد أي حجة يقول: "استمع أيها السيِّد، إرسل بيد من ترسل" (4: 13)، حتى حميَ غضب الله (4: 14) فأعطاه هرون شريكًا معه في الخدمة.

هكذا إذ يدعونا الله للخدمة لا يتركنا نستعفى بل يقدم لنا إجابات عملية لكل تساؤلاتنا، ويسند كل ضعف فينا، ويكمل كل نقص في إمكانياتنا، فهو الراعي الخفي لقطيعه المقدس.

5. اسم الله:

عرف موسى أن الذي يحدثه هو الله، فسأله عن اسمه "فقال الله لموسى أهيه الذي أهيه، وقال هكذا قل لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم... إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق إله يعقوب أرسلني إليكم" .

حملت إجابة الله لموسى شقين:

أولًا: "أن الله غير مُدرَك وفوق كل تسمية" أهيه أي أنا هو".

ثانيًا: أنه الله المنتسب للبشرية، مُنتسب لخاصته الأحباء "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب".
أولًا: أهيه الذي أهيه AHIAH:

يرى فيلون اليهودي الإسكندري أن هذا الاسم "أهيه" يكشف عن جانبين في الله: أولًا أنه هو الكائن وحده الذي بجواره يكون الكل كأنه غير موجود. ثانيًا أنه ليس اسم يقدر أن يعبَّر عنه. في هذا يقول: إخبرهم أولًا إني أنا هو الكائن حتى يعرفوا الفارق بين من هو كائن وما هو ليس بموجود. كما قدم لهم الدرس الآخر أنه لا يمكن لاسم ما أن يُستخدم ليليق بي أنا الذي إليه وحده ينسب الوجود.

 ويرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة تعني أنه إذا قورنت كل الأمور الزمنية بالله تصير "باطلًا" أو "لا شيء"، وأنها تعلن عن الله بكونه الوجود الأول والسامي غير المتغير.

هذه العبارة تُظهر الله أنه حاضر على الدوام، ليس فيه ماضٍ انتهى ولا مستقبل منتظر، لكنه فوق الزمن "حاضر دائم"... في هذا الحاضر الدائم، أو الأبدية الحاضرة "نجد لنا ملجأ، فنهرب إليه من كل تغيرات الزمن ونبقى فيه إلى الأبد".

 إن كان الله هو الوجود الدائم، [إذن من يأخذ الاتجاه المضاد لله إنما يسير نحو العدم.

في حديث الأب ميثوديوس عن البتولية وعظمة البر المسيحي يقول: لا يقدر أحد أن يرى بعينيه عظمة أو شكل أو جمال البرّ ذاته أو الفهم أو السلام، إنما تظهر هذه جميعها كاملة وواضحة في ذاك الذي قال أن اسمه "أنا هو".

 ثانيًا: إله آبائكم:

قول الله لموسى: "إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" . وتكرارها ثلاث مرات في هذا اللقاء بين الله وأول قائد للشعب (خر6، 15، 16)سحب قلب آباء الكنيسة، فقد رأي القديس إكليمنضس الإسكندري علامة الصداقة الإلهية الإنسانية فمع أن الله هو إله العالم كله، إله السمائيين والأرضيين، لكنه ينسب نفسه للأخصاء أصدقائه. إنه لا يود أن يكون سيِّدًا بل صديقًا فنراه يكلم موسى وجهًا لوجه كما يُكلم الصديق صاحبه (خر 33: 11)، ويطلب منه "قف عندي هناك" (34: 2).

 ويقول القدِّيس أفراهات: أسماء الله متعددة ومكرمة... أما الاسم الذي تمسك به والذي هو عظيم ومكرم فليس ما يخص بره، إنما ما يخص علاقته بالبشر كخليقته "الخاصة به".
ويقول القديس أغسطينوس: برحمته ربط نعمته بالبشر قائلًا: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب"، حتى يُفهم من هذا أن هؤلاء الذين هو إلههم إنما يعيشون معه إلى الأبد. إنه ينطق بهذا حتى يفهم أولاده أنه يلزمهم بقوة الحب أن يعرفوا كيف يطلبون وجهه إلى الأبد، ويدركوا قدر ما يستطيعون هذا الذي هو "أهيه الذي هو أهيه".

والآن إذ نربط الاسمين معًا "أهيه"، "إله أبائكم"  نقول إن الله غير المدرَك ولا متغير، الذي فوق كل حدود الزمن، يقدم ذاته للبشرية ليتعرفوا عليه كإلههم الخاص، المشبع لكل احتياجاتهم. لذا لم يتحدث قط أي نبي عن نفسه كأنه شيء يقتنونه، أما السيِّد المسيح فهو "كلمة الله" الذي جاء يقدم ذاته في أكثر من موضع، قائلًا: "أنا هو"... قدم نفسه الصديق والعريس، والأخ البكر والمخلص، والخبز النازل من السماء والينبوع الحيِّ، والقيامة والباب، والطريق والحق والحياة، وأخيرًا قال "أنا هو الألف والياء" أي مشبع كل حياتنا.

وأخيرًا، نلاحظ أن السيِّد المسيح استخدم الاسم الثاني ليؤكد للصدوقيين القيامة، فإن الله إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، إله أحياء وليس إله أموات: (مت  22: 31-32). فإن كان الله هو الحيّ إنما ينسب لنا، واهبًا إيَّانا الحياة لنبقى معه إلى الأبد.

6. سرّ الأيام الثلاثة:

أمر الله موسى أن يطلب مع الشيوخ من فرعون قائلين: "الرب إله العبرانيين التقانا، فالآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا".

لقد طلب الرب منهم أن يخرجوا سفر ثلاثة أيام في البرية ويذبحوا للرب، وكان فرعون يطلب من موسى وهرون أن تقدم الذبائح في أرض مصر، لكن موسى أجابه "لا يصلح أن نفعل هكذا... نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا كما يقول لنا" (8: 26، 27). وأخيرًا سمح لهم بالخروج، لكنه كان يقول لهم "لا تذهبوا بعيدًا" (8: 28)، أما موسى فأصر على السفر ثلاثة أيام... لماذا؟

الطريق الذي يخرج فيه الشعب ليقدم لله ذبيحة إنما هو السيِّد المسيح نفسه الذي قام في اليوم الثالث، وخلال قيامته تقبل كل عبادة وتقدمة منا للآب.

للعلامة أوريجانوس أحاديث طويلة عن سرّ الأيام الثلاثة، نقتطف منها العبارات التالية: يلزمنا أن نخرج من مصر ونترك العالم إن كنا نريد أن نخدمه! لا نتركه جسمانيًا بل نتركه من جهة أفكارنا؛ ليس بالخروج من الطرق العادية الملموسة وإنما بالتحرك الإيماني. اسمعوا ما يقوله القدِّيس يوحنا في هذا الشأن: "يا أولادي لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون" (1 يو 2: 15-16)...

ماذا يقول موسى؟ "نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية نذبح للرب إلهنا" (5: 3). ما هو هذا الطريق الذي يقطعه في ثلاثة أيام للخروج من مصر والذهاب إلى الموضع الذي ينبغي أن نذبح فيه للرب؟ إنه الرب نفسه القائل: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). ينبغي أن نسير في هذا الطريق ثلاثة أيام، لأنك "إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت" (رو 10: 9). هذه هي الأيام الثلاثة التي تقطعها في الطريق لتصل إلى الموضع الذي يُذبح فيه للرب وتُقدم "ذبيحة التسبيح" (مز 49: 14).

هذا هو المعنى السري، أما المعنى السلوكي (الأخلاقي) وهو أهم، فإننا نترك مصر مسيرة ثلاثة أيام حين نكون أنقياء في الجسد والروح، كقول الرسول: "احفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح" (1 تي 6: 14). إننا نترك مصر مسيرة ثلاثة أيام حين نفصل عقلنا وطبيعتنا وإحساساتنا عن أمور هذه الحياة لنلتصق بوصايا الله. نترك مصر ثلاثة أيام حين تتنقى أفعالنا وكلماتنا وأفكارنا، إذ توجد ثلاث فرص للخطية (خلال العمل والكلام والفكر).

يُريد إبليس (فرعرن) ألاَّ نبتعد كثيرًا، فلا نسير ثلاثة أيام (8: 28)... لأن عمل عدو الخير هو حرماننا من التمتع بقوة قيامة السيِّد المسيح في داخلنا. هذا من جانب، ومن جانب آخر ألاَّ نسير في الرب ثلاثة أيام، أي لا نتنقى في أفعالنا وكلماتنا وأفكارنا، إنما يريد أن يكون له موضع فينا إن لم يكن بالعمل فبالكلام، وإن لم يكن باللسان فبالفكر. وعلى حد تعبير العلامة أوريجانوس: يريد أن يضمن أنهم يخطئوا إن لم يكن بالفعل فليكن بالقول وإلاِّ فعلى الأقل بفكرهم. إنه لا يريدهم أن يبتعدوا عنه ثلاثة أيام كاملة. يريد أن يرى له فينا ولو يوم واحد على الأقل، إذ له في بعض الأشخاص يومان وفي الآخرين له الأيام الثلاثة كلها. لكن طوبى لمن ينفصل عنه الأيام الثلاثة بأكملها، ولا يكون له فيه يوم واحد.

بخروجنا ثلاثة أيام ندخل إلى معرفة "القيامة" فتستنير بصيرتنا الداخلية بنور المعرفة الحقيقية. فإن كان فرعون يمثل إبليس "رئيس ظلمة هذا العالم" (أف 6: 12)، فإنه لا يُريدك أن تخرج من دائرة الظلمة إلى نور المعرفة. إنما يُريدك أن تبقى في ظلمة القبر ولا تنعم بنور القيامة. لذا نجده في حديثه مع موسى يعترف بعدم معرفته أي بظلمته قائلًا: "لا أعرف الرب" (5: 2).

خبرة الأيام الثلاثة أي القيامة مع السيِّد المسيح اختبرها قبلًا إبراهيم أب الآباء، هذا الذي خرج من بيته ثلاثة أيام وعندئذ رأى العلامة فقدّم ابنه ذبيحة حب لله (تك 22: 4)، ما هي هذه العلامة التي خلالها يقدم إبراهيم ابنه الوحيد إسحق إلاَّ علامة قيامة المصلوب، لذا يقول معلمنًا بولس الرسول عنه إنه: "آمن بالله القادر على الإقامة من الأموات" (عب 11: 19). رأي قيامة السيِّد المسيح فقدم ابنه إسحق مؤمنًا أن الله قادر أن يقيمه من الأموات.

 7. يدّ الله القوية:

من حين إلى آخر يؤكد الله لموسى قدرته على الخلاص قائلًا: "فأمدّ يديّ وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها وبعد ذلك يطلقكم".

وفي خروجهم لا يخرجهم فارغين، بل يعطيهم نعمة في أعين الشعب فيُعيروهم أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا ... أولًا إشارة إلى قوة الخلاص في حياة المؤمن، ليس فقط نفسه تتقدس، لكنه في خروجه نحو كنعان السماوية يحمل معه غنائم كثيرة، طاقاته الداخلية وعواطفه وأحاسيسه ودوافعه، يصير كل ما في داخله مما كان مكرسًا للشر وعلّة موت له مقدسًا ومباركًا. ومن جهة أخرى إن كان الشعب قد سلبت أُجرتهم وأذلوهم في السخرة وبناء بيوت لهم، فإن الله يعطيهم نعمة في أعينهم لكي يقدموا لهم بإرادتهم هذه الأمور: ذهبًا وفضة وثيابًا.

أما غاية هذا العمل الإلهي الخلاصي فهو "أصعدكم... إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا" ، يجد الأطفال البسطاء قوتهم، والناضجون الأقوياء غذاءهم. فاللبن والعسل إنما هما إشارة إلى حياة الشبع واللذة الروحية، لهذا كان المعمَّدون في الكنيسة الأولى يشربون أثناء طقس المعمودية لبنًا ويأكلون عسلًا، إذ بالمعمودية صار لهم حق الدخول إلى كنعان السماوية الموعود بها.

تفسير سفر يهوديت 1 ... الأسفار القانونية الثانية من الكتاب المقدس +++ الأنبا مكاريوس الأسقف العام



تفسير سفر يهوديت 1 ...  الأسفار القانونية الثانية من الكتاب المقدس  +++ الأنبا مكاريوس الأسقف العام

انتصار نبوخذ نصر على أرفكشاد ورفض الممالك التحالف معه

1 كانَ ما كانَ في السَّنَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِن مُلْكِ نَبوكَدْنَصَّر الَّذي مَلَلثَ على الأَشّورِيَينَ في نينَوى المَدينةِ العَظيمة، وفي أَيَّامِ أَرْفَكْشادَ الَّذي مَلَكَ على الميدِيِّينَ في أَحْمَتا2 فبَنى حَولَها أَسْوارًا مِن حِجارةٍ مَنحوتةٍ عَرضُها ثَلاثةُ أَذرُع وطوُلها سِتَّة، وجَعَلَ آرتفاعَ السُّور سَبْعينَ ذِراعًا وعَرضَه خَمْسين،3 وشَيَّدَ على أَبْوابِها أَبْراِجًا بِمِائَةِ ذِراع، وأَرْسى أُسُسًا في عَرْضِ سِتِّينَ ذِراعًا،4 وجَعَلَ أَبْوابَها أَبْوابًا يَبلُغُ آرتفاعُها سَبْعينَ ذِراعًا وعَرْضُها أَرْبَعين، لِخُروجِ مُعظَمِ قُوَّاتِه وآستِعْراضِ مُشاتِه.

المقصود هنا بنبوخذ نصر، هو أسرحدون بن سنحاريب، فقد تعهد بالانتقام من كل اليهود، بعد أن ذاق أبوه سنحاريب مرارة الهزيمة أمامهم، في الواقعة التي قتل منها مائة وخمس وثمانين ألفًا من جنوده، والانتقام من أرفكشاد المذكور، باعتباره صديق لليهود وعونهم.

إن المبالغة في تجهيز الأسوار والقلاع والأبراج، هي من عادة ملوك الأشوريين والبابليين وقدماء الملوك في العهد القديم، ويبدو حجم الحجارة هنا كبير جدًا، وقد حذر الله بنى إسرائيل من استخدام الحجارة المنحوتة في أعمال البناء لاسيما المذابح، إذ يعد ذلك اشتراك مع الوثنيين الذين اعتادوا صنع التماثيل ورسم آلهتهم على حجارة مبانيهم (راجع حز 20: 25، 26، تث 27: 5، 6 يش 8: 31).

و يسمى التحصين Fortification وفي اللغة العبرية (ميبار) ثم تطور المعنى ليصبح Inaccessible بمعنى(متعذر بلوغه) وفي اليونانية يأتي بمعنى (أكرا) أي قلعة Citadel، هذا وقد عثر في الحفائر الحديثة على بعض حوائط لحصون بلغ عرضها سبعة أمتار ونصف المتر، ومازال باقيًا من ارتفاعها اثني عشر مترًا، مقواة بدعامات سميكة 1 وإذا كان الذراع المستخدم 2 في تلك البلاد في ذلك الوقت يساوى 6، 17 من البوصة، أي حوالي 45 سم، فإن ارتفاع سور المدينة يصل إلى الثلاثين مترًا.

 أَبْراِجًا: قد يظن أيضًا أن الأرقام - فيما يتعلق بالأبراج - مبالغ فيها، حيث يصل ارتفاع البرج الواحد إلى مائة ذراع، أي يعادل خمسة وأربعون مترًا، ولكن هذه الأبعاد سوف تبدو مقبولة، إذا علمنا أنه قد عثر في الحفائر الحديثة التي تمت على أماكن كباني هيرودس الكبير على قاعدة لأحد أبراجه يبلغ طول الضلع فيها إلى ثمانية عشر مترًا، ومازال باقيًا من ارتفاع البرج، مسافة عشرين مترًا، بينما بلغ قطر برج آخر من الخارج خمسة وخمسين مترًا، ومن الداخل خمسة وأربعين مترًا، كما كان داخل البرج مقسمًا إلى حجرات واسعة حيث دفن هيرودس هناك.

أما بالنسبة لأبراج أرفكشاد، فقد كانت مساحة قاعدة البرج تصل إلى سبعة أمتار، وقد أقيمت حول الأبواب الرئيسية للمدينة، وكانت تلك الأبواب من السعة والضخامة بحيث تصلح كأقواس النصر ومرور استعراضات الجيش والغنائم، هذا ويمكننا، نعتبر هذه الأبعاد، رقمًا قياسيًا جديدًا في التحصينات المذكورة في الكتاب المقدس، بدلًا من أن ننظر إليها بعين الشك.

كان من شأن كل ذلك بما فيه من حصون وعظمة، أن يجعل أرفكشاد سعيدًا في ملكه فخورًا بعتاده، قبل أن يُذل وينزع منه أسباب فخره ويذبح على يدي نبوخذ نصر، ولكن من هو أرفكشاد هذا؟

أَرْفَكْشادَ: الاسم على هذه الصورة غير مألوف، ولكنه صيغة للاسم فرارتس Phraortes ملك مادي في القرن السابع قبل الميلاد، وقد أضيفت إلى الاسم بعض الصفات (راجع مقدمة السفر: الرد على الاعتراضات) وقد نسب إليه السفر، بناء مدينة أحمتا وتحصينها، وهي مدينة "حمدان" الحالية في إيران، وعلى الرغم من المؤرخ هيرودتس 1 ينسب بناءها إلى ديوسيسDeioces  الذي جعل منها عاصمة لمادي سنة 700 ق.م. في المنطقة الواقعة شرق أشور، إلا أنه وكما ذكرنا في المقدمة فإن أرفكشاد (فرارتس) هو ابن ديوسيس هذا، وقد أكمل بناء المدينة وتحصينها بعد موت أبيه، وهكذا فقد نسب بناء المدينة إلى كليهما.  

 5 في تِلكَ الأَيَّامِ شَنَّ نَبوكَدْنَصَّرُ المَلِكُ حَرْبًا على أَرْفَكْشادَ المَلِكِ في السَّهْلِ الكَبير وهو السَّهْلُ الَّذي في أَرضِ رَعاوى.6 فآنضَمَّ إِلَيه جَميعُ سُكَّانِ النَّاحِيَةِ الجَبَلِيَّة وجَميعُ السَّاكِنينَ على الفُراتِ ودِجلةَ ويادَسون وفي سُهولِ أَرْيوكَ مَلِكِ عَليم. فآجتَمَعَت أُمَمٌ كَثيرةٌ لِمُحاربةِ بَني كَلْعود. 7 فأَوفَدَ نَبوكَدْنصَّر، مَلِكُ أَشّور، إِلى جَميعِ سُكَّانِ بلادِ فارِس وجَميعِ سُكَّانِ النَّاحِيَةِ الغَربِيَّة وَسُكَّانِ قيِليقية ودِمَشْقَ ولُبْنان ولُبْنانَ الشَّرقِيِّ وجَميعِ سُكَّانِ السَّاحِل8 والَّذينَ مِن أُمَمِ الكَرمَلِ وجِلْعاد والجَليلِ الأَعْلى وسَهْلِ يِزرَعيلَ الواسعِ.9 وجَميعَ الَّذينَ مِنَ السَّامِرَةِ ومُدُنِها وعِبْرِ الأُردُنِّ إِلى أُورَشَليمِ وبَيت عَنوت وكِلُّود وقادِش ونَهْرِ مِصْرَ وتَحْفَنْحيس ورَمْسيس وأَرضِ جاسانَ كُلِّها، 10 إلى ما وَراءَ صوعَن ونُوف وجَميعِ سُكَّانِ مِصْرَ إِلى حُدودِ الحَبَشة.

ليس معروفًا على وجه الدقة السبب الذي دفع نبوخذ نصر إلى التحرش بأرفكشاد، سوى أن تلك كانت عادة ملوك القدماء لاسيما في تلك الحقبة وفي تلك المنطقة التي سادها القلق والقلاقل، وقد أعد أرفكشاد العدة لتلك الحرب المنتظرة فجمع الجيوش من منطقتيّ مادي وبلاد ما بين النهرين والسكان بجوار نهر يادسون أريوك ملك عليم وتكتب أيضًا أريوخ، وهي كلمة مأخوذة عن اللفظة السومرية (أرى كو) ومعناها (عبد إله القمر) وهو اسم ملك ورد في (تك 14: 1 - 9) حيث كانت مملكته تقع في الإقليم الشرقي لفارس، أي المنطقة التي دارت فيها رحى المعركة، وكاتب السفر يصف الميدان ناسبًا إياه إلى أريوخ هذا نظرًا لشهرته.

و قد ظهر الاسم في فترة الألف الثاني قبل الميلاد، في صور أخرى مثل (Arriwuk ) و(Ar - ri - uk - ki) كما وجد الإسم في مخطوطة ترجع إلى عام 1750 ق.م. على أنه الابن الخامس لـ(زمرى / ليم) Zimri - lim

أما عليم فهي عيلام أي المايسى، وهي الأسماء التي أطلقت على هذه البقعة (راجع 1 مكا 6: 1).

و أما بنى كلعود المذكورين هنا فهم الكلدانيين، الذين ذكروا في الكتاب المقدس وفي التاريخ باعتبارهم البابليين وسكان المنطقة المعروفة بـ(بابل).

 شَنَّ نَبوكَدْنَصَّرُ المَلِكُ حَرْبًا:

راسل نبوخذ نصرالكثير من البلاد للتحالف معه ضد أرفكشاد، معزيًا إياهم بالغنائم التي سيغنمونها بنصرتهم معه على أرفكشاد، فأرسل إلى البلاد الواقعة إلى الغرب وإلى الجنوب وحتى حدود الحبشة، ومن هذه البلاد التي طلب منها المساعدة:

قيِليقية: وهي مقاطعة تقع جنوب شرق آسيا الصغرى وكانت تسمى وقتها (من قويه) وقد ورد في آثار آشور بانيبال، الاسطوانة الأولى عامود 2 ما يلي: (سودا رزمى:  ملك قيلقية أتى إليَّ ومعه ابنته لتكون لي زوجة وسجد لي وقبل قدميّ، وقدم لي هدايا كثيرة مع أنه لم يخضع لآبائي).

ودِمَشْقَ: وهي أكبر مدن سوريا وتقع شرق البحر المتوسط وشمال أورشليم، وهي مدينة قديمة جدًا ذكرت أيام أبينا إبراهيم (تك 14: 15) وتعرضت للغزو من الأشوريين سنة 824 ق.م. ثم سنة 734 ثم تحولت إلى الكلدانيين ثم إلى الفرس.

ولُبْنان: اسم سامي معناه (أبيض) و(لبان) وهو بلد سياحي جميل تنتشر فيه قمم الجبال العالية، وقد راسل نبوخذ نصر جميع الذين حوله أيضًا.

الكَرمَلِ: اسم عبري معناه (مثمر) وهو عبارة عن سلسلة من الجبال يبلغ طولها خمسة عشر ميلًا، كانت أهله بالسكان في ذلك الزمان.

 وجِلْعاد: اسم عبري معناه (صلب وخشن)

 والجَليلِ: اسم عبري معناه (دائرة) سكنته أغلبية من الوثنيين، لاسيما الكنعانيين، وفي العصر الأشوري امتد الاسم ليشمل كل منطقة يزرعيل.

 السَّامِرَةِ: الاسم مأخوذ عن شامر وسامر ومعناه (حارس)، وكانت السامرة مدينة محصنة جدًا، ذات أبراج عالية وإلى وقت السبي كانت عاصمة للمملكة الشمالية.

وعِبْرِ الأُردُنِّ إِلى أُورَشَليمِ: وتسمى أيضًا أرض يسى (النسخة اللاتينية - الفولجاتا) وهي المساحة التي شملت كل الأرض التي استولى داود عليها وترد في بعض النسخ للتعبير عن شمال مصر.

وبَيت عَنوت:  وهي بيت عنيا أي بيت العناء، وتقع على بعد 4 كيلومترات جنوب شرق أورشليم وهي القرية التي كان ينزل فيها المسيح ليستريح في بيت لعازر وتسمى حاليًا (ألعازرية) نسبة إلى لعازر.

كلود Chellus: 1 وكِلُّود وقادِش: موقع في جنوب فلسطين وردت في الترجوم تحت اسم (هلوصة) وكانت على الطريق الجنوبي من أورشليم بين غزة وأدوم وربما تكون هي شور المذكورة في تك 7: 6، خروج 15: 22.

قادش: اسم سامي معناه (مقدس) وهي البقعة التي تمركز عندها بنو إسرائيل في خروجهم من مصر، وخاصموا فيها موسى لأجل الماء، وتقع بالقرب من أدوم وعلى مسافة 80 كم جنوب بئر سبع.

 وتَحْفَنْحيس: مدينة تقع على الحدود الشرقية لمصر من جهة مدينة القنطرة، وكانت مدينة قوية ذكرها أرميا في (2: 16) وتسمى حاليًا (تل دفنة).

 ورَمْسيس وأَرضِ جاسانَ: ورعمسيس وأرض جاسان المنطقة التي سكن فيها بنو إسرائيل بالقرب من فاقوس في الشرقية حاليًا وكانت عاصمة ملك رمسيس الثاني في الدلتا.

صوعَن ونُوف: صوعن هي المدينة التي أطلق رمسيس عليها اسمه فيما بعد في المنطقة السابق ذكرها، أما نوف وتكتب أيضًا (موف) هي مدينة مصرية قديمة على الضفة الغربية لنهر النيل، بناها (ينيس) أول ملوك مصر وهي الآن (ميت رهينة). هكذا راسل نبوخذ نصر جميع تلك البلاد، وهي بلاد كان لها اسمًا وتمتلك جيوشًا وعتادًا علّها تسانده ضد أرفكشاد حتى يظفر به.



11وآستَهانَ جَميعُ سُكَّانِ الأَرضِ كُلِّها بِأَوامِرِ نَبوكَدْنَصَّرَ مَلِكِ أَشُّور ولم يَنضَمُّوا إِلَيه لِلقِتال، لِأنّهم لم يَكونوا يَخافونَه، بل قاوَموه مُقاوَمةَ رَجُلٍ واحِد، ورَدُّوا الرُّسُلَ فارِغي الأَيدي خَزايا الوُجوه .12 فغضبَ نَبوكَدْنَصَّرُ غَضَبًا شديدًا على تِلكَ الأَرضِ كُلِّها وحَلَفَ بِعَرْشِه ومُلكِه ليَنْتَقِمَنَّ من جَميعِ بِلادِ قيليقية والشَّامِ وسورية وُيهلِكَنَّ أَيضًا بِسَيفِه جَميعَ السَّاكِنينَ في أَرضِ موآب وبَني عَمُّون وكُلِّ اليَهودِيَّة وجَميعَ الَّذينَ في مِصْرَ إلى حدودِ البَحْرَين.

و لكن حكام وشعوب تلك البلاد، لم يستجيبوا لا لتوسله ولا لتهديده، وردوا رسله خائبين، إما لأن علاقتهم به لم تكن على ما يرام، وإنما لأنهم شعروا أنهم بذلك سوف ينطوون تحت لوائه، لتتسع إمبراطوريته من راجيس شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا ومن بلاده وحتى حدود الحبشة جنوبًا، وهكذا رفضوا جميعهم والأرجح أن ذلك كان باتفاق سابق فيما بينهم.

و قد عبروا عن رفضهم لمقترحاته بإهانتهم لرسله، وهي الطريقة المألوفة في التعبير عن الاستياء من الرسالة، والنتيجة بالتالي كانت واحدة، وهي انتقام المرسل من المناهضين له (راجع 2 صم 10: 4، 5).

فإزاء هذا الرفض أقسم بعرشه وملكه أن ينتقم منهم، وكأنه ملك عرشه واستحق ملكه!

لم تسعه الأرض، ولكنه ذهب فيما بعد وكرامته معه، وحفنات قليلة من التراب غطت جسده، لقد سعى في إذلال الآخرين ليصبح إلهًا للأرض، ولكن إله السماء والأرض أذله وكسر شوكة كبريائه، لقد حاول أن يصبح إلهًا ولكن الله غار على مجده.


13 وصَفَّ جَيشَه لِمُحاربةِ أَرفَكْشادَ المَلِكِ في السَّنةِ السَّابِعةَ عَشرَةَ، فغَلَبَه في القِتال ودَحَرَ جَيشَ أَرْفَكْشادَ كُلُّه وجَميعَ فُرْسانِه وجَميعَ مَركَباتِه، 14 وأَخضَعَ مُدُنَه وزحَفَ على أَحْمَتا فآستَولى على أَبْراجِها ونَهَبَ ساحاتِها وحَوَّلَ زينَتَها إلى عار، 15 وقَبَضَ على أَرْفَكْشادَ في جِبالِ رَعاوى وطَعَنَه بِرِماحِه وأَبادَه لِلأبَد 16 ثُمَّ عادَ مع جَيشِه الخَليطِ الغَفيرِ جِدًّا مِنَ المُحارِبينَ الَّذينَ آنضَمُّوا إلَيه، وأَقامَ هُناكَ مِائةً وعِشْربنَ يَومًا لا يُبالي بِشَيء وَيتَنَعَّمُ بِالمَآكِلِ هو وجَيشُه

استمرت التهديدات بين نبوخذ نصر وأرفكشاد مدة خمس سنوات (قارن 1: 1 مع 1: 13) وهي المدة التي تمت فيها الاتصالات بين نبوخذ نصر والبلاد السابق ذكرها لتعضيده والتحالف معه.. ولكنه قرر أخيرًا مواجهة أوفكشاد بجيشه وحده.

و قد التحم الجيشان في منطقة رعاوى وهي راجيس (راجع عدد 5، 6) والتي تقع شرق ميديا وجنوب بحر قزوين Caspian sea بالقرب من طهران الحالية، وقد انضم إلى أرفكشاد جيوش من الهضبة الإيرانية الساكنين في سهل وادي النهر، وأخرى من منطقة نهرى دجلة والفرات، ونهر يادوسون Hydaspes وهو الاسم اليوناني لبحى جيلوم Gelum (في غرب باكستان الحالية، وربما هو نهر كوسبس Choaspes أي الكرخ، وهو أشهر نهر في عيلام (شرق بابل).

باقة مختارة من اقوال الاباء القديسين عن يوحنا المعمدان والسيد المسيح رقم 13


باقة مختارة من اقوال الاباء القديسين عن يوحنا المعمدان والسيد المسيح رقم 13

قال يوحنا المعمدان عن المسيح: "في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه"، لأنه كان لائقًا بالمسيح أن يختلط بالشعب كواحدٍ من كثيرين، إذ يعلمنا في كل موضع طبيعته الخالية من الكبرياء.++ القديس يوحنا الذهبي الفم

ليس أحد هو العريس سوى المسيح الذي يقول عنه القديس يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 29:3). لذلك هؤلاء (موسى ويشوع بن نون وغيرهما) خلعوا أحذيتهم، أما حذاؤه فلا يقدر أحد أن يحل سيوره، وكما قال القديس يوحنا: "أنا لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه"  +++ القديس أمبروسيوس

يستعير البابا غريغريوس الكبير عن العلامة أوريجينوس فهمه للحذاء أنه يشير إلى الجسد القابل للموت، لأنه مصنوع من جلد الحيوانات بعد ذبحها. وكأن الكلمة بتجسده ارتدى الجسد القابل للموت مخفيًا لاهوته. ولم يكن ممكنًا ليوحنا أن يحل سيوره، أي أن يتعرف بعد على أسراره خلال روح النبوة.

"هوذا حمل الله". إنه ليس بفرعٍ ممتدٍ من آدم، إنما استمد منه الجسد ولم يأخذ خطية آدم. إنه لم يأخذ الخطية عليه من العجين الذي لنا، إنما هو الذي ينزع خطايانا ++ القديس اغسطينوس

قول المعمدان: "مجيئي ليس له هدف إلا أن يعلن عن المحسن العام لكل العالم المسكون، وأن يقدم معمودية الماء،أما هذا فيطّهر كل البشرية ويهب طاقة الروح. يأتي بعدي ذاك الذي يظهرأكثر مني بهاءً، "لأنه كان قبلي" +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

المعموديّة هي الكُور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يُسبك الناس ليصيروا غير أموات ++ القديس يعقوب السروجي

إنها المعموديّة التي فيها يموت الإنسان القديم، ويولد الإنسان الجديد كما يُعلن الرسول مؤكّدًا أنه خلصنا بغسل التجديد ++ القديس كبريانوس

  كان يوحنا يعمدّ بالماء لا بالروح القدس، فبكونها عاجزة عن غفران الخطايا، تغسل أجساد من يعتمدون بالماء، أمّا نفوسهم فلا تقدر أن تغسلها. إذن لماذا كان يوحنا يعمّد...؟ إنه في ميلاده كان سابقًا لمن يولد، وبالتعميد كان سابقًا للرب الذي يعمّد، وبكرازته صار سابقًا للمسيح! ++ القديس غريغوريوس الكبير

جاء في الأمثال: "لا تمل يمينًا أو يسارًا" (أم ٤: ٢٧). فمن يميل إلى أحد الجانبين يفقد الاستقامة، ولا يعود يتأهل للرعاية الإلهية عندما يتعدى استقامة الطريق. فإن الرب عادل ويحب العدل، ووجهه يتطلع إلى الاستقامة (مز ١٠: ٧) وما ينظره ينيره ++ العلامة اوريجينوس

جاء إلى المعموديّة بدون خطيّة تمامًا، وهكذا لم يكن بدون الروح القدس، لقد كُتب عن خادمه وسابقه يوحنا نفسه أنه من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو 1: 15)، فإن كان وقد وُلد من أبيه (من زرع بشر) تقبَّل الروح القدس وهو يتشكَّل في الرحم، فماذا يمكننا أن نفهم ونعتقد بالنسبة للمسيح نفسه الذي حبل به، لا بطريقة جسدانيّة بل بالروح القدس؟!+++ القديس اغسطينوس

الماء يطهِّر الجسد، والروح يطهِّر القلب من الخطايا، نحن نقوم بالعمل الأول ونصلِّي لكي يتم العمل الثاني حيث ينفخ الروح في الماء فيقدِّسه، الماء وحده ليس دليلًا على التطهير وإن كان الاثنان لا ينفصلان: الماء والروح، لذلك اِختلفت معموديّة التوبة (ليوحنا) عن معموديّة النعمة التي تشمل العنصرين، أما الأولى فتشمل عنصرًا واحدًا. إن كان كل من الجسد والروح يشتركان في الخطيّة فالتطهير لازم لكيهما +++ القديس أمبروسيوس

الروح القدس هو نار كما جاء في أعمال الرسل، إذ حلّ على المؤمنين على شكل ألسنة ناريّة. وهكذا تحقَّقت كلمة المسيح: "جئت لأٌلقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرَمَت؟!" (لو 12: 49). يوجد تفسير آخر وهو أننا نعتمد حاليًا بالروح، وبعد ذلك (في يوم الرب) بالنار كقول الرسول: "ستمتَحِن النار عمل كل واحد ما هو" (1 كو 3: 13) ++ القديس جيروم

المسيح يوُلد، والروح هو المهيئ له! ... إنه يعتمد، والروح يشهد له! ... إنه يُجرب، والروح يقوده (4: 1، 18)! ...إنه يصنع معجزات، والروح يرافقها! ...إنه يصعد إلى السماء، والروح يحل محلُّه! ++ القديس غريغوريوس النزينزي

اغتسل المسيح لأجلنا، أو بالحرى غسلنا نحن في جسده، لذا يليق بنا أن نُسرع لغسل خطايانا... دُفن وحده ولكنه أقام الجميع، نزل وحده ليرفعنا جميعًا، حمل خطايا العالم وحده ليطهِّر الكل في شخصه، وكما يقول الرسول: "نقُّوا أيديكم إذن وتطهَّروا" (يع 4: 8)، فالمسيح غير محتاج إلى التطهير، تطهَّر لأجلنا. ++ القديس أمبروسيوس

يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم؛ يُشير هنا إلى الأمم، إذ هم‎‎‎ حجارة بسبب قسوة قلوبهم. لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم ) حز 26 : 36 )". فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوّة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا ++ القديس جيروم

اعتمد الرب ذاته... لم يعمد ليطهر، وإنما ليطهر الماء، فإذ نزل إليها المسيح الذي لم يعرف خطية صار لها سلطان على التطهير، بهذا كل من يدفن في جرن المسيح يترك فيه خطاياه. +++ القديس أمبروسيوس

يأتي المسيح؛ والروح يهيئ طريقه. يأتي في الجسد والروح لا ينفصل عنه قط، يعمل عجائب ويمنح أشفية من الروح القدس. الشياطين تخرج بالروح القدس. حضور الروح يفسد الشيطان. غفران الخطايا يعطى بعطية الروح. لقد اغتسلتم وتقدستم... باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11) ++ القديس باسيليوس الكبير

المسيح كما سبق وقلت هو حقًا ابن الله الوحيد، وإذ صار شبهنا أعلنت بنوته لا من أجل نفسه، لأنه كان ولا يزال وسيبقى الابن، لكن هذه البنوة أُعلنت من أجلنا نحن البشر الذين صرنا أبناء الله، لأن المسيح بكرنا وسندنا. هو آدم الثاني، إذ ورد: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17). لقد طرحنا عتق آدم الأول، واستبدلنا بها جدّة آدم الثاني الذي به ومعه لله الآب المجد والسلطان مع الروح القدس من الآن وإلى أبد الآبدين +++ القديس كيرلس الكبير

من كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ +++ أربع جولات للشيطان ضد أيوب وعتاب ايوب مع الله +++ البابا شنودة الثالث




من كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ +++  أربع جولات للشيطان ضد أيوب وعتاب ايوب مع الله +++ البابا شنودة الثالث

 كان الشيطان يبذل كل جهده لتحطيم أيوب من كل ناحية:

في التجربة الأولي، أمكن أن يحطمه ماديًا وعائليًا. وفي التجربة الثانية، أمكن أن يحطمه صحيحًا. وكان كل ذلك بسماح من الله (أي 1، 2). ولكن تتعبه جدًا عبارة قالها الرب عن أيوب وهي " إلي الآن هو متمسك بكماله" ((أي 2:3). فكيف يمكن إذن زحزحته عن هذا الكمال؟

 كانت الجولة الثالثة للشيطان، هي أن يحطم أيوب إيمانيًا.

واستخدم ذلك امرأة أيوب، لتثنيه عن إيمانه، وهي متعجبة كيف هو "متمسك بعد بكماله" (أي 2:9). وقطعًا كان الشيطان يتكلم من فمها.. غير أن أيوب البار صدها صدها في حزم، قائلًا لها: "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات.." (أي 2: 10). وبدا أن الشيطان قد انهزم في الجولات الثلاث كلها. ولكنه -كعادته- لم ييأس واستمر في محاربة أيوب..

 وكانت الجولة التالية للشيطان أن يحطم أيوب نفسيًا وروحيًا وأن يستخدم في ذلك أصحاب أيوب من ناحية، وقسوة المرض وطول مدته من ناحية أخرى..

وقد شملت هذه الجولة باقي سفر كله.

فما هي الفكرة الخطيرة التي وضعها الشيطان في أذهان أصحاب أيوب وزودها ببراهين، ونطق بها ألسنتهم..؟ الفكرة التي أثار بها الجو كله. وكانت موضع حوار بين أيوب وأصحابه استمر 28 إصحاحا، وخرج بها أيوب عن هدوئه؟

تلك الفكرة الشيطانية، هي أن التجربة سببها الخطية.

وبالتالي لابد أن يكون أيوب خاطئًا.. ولولا ذلك ما كان الله قد سمح بأن يجرده من أولاده، ومن ماله ومملكاته كلها، ومن صحته أيضًا! وكان ذلك يبدو كلامًا منطقيًا يتفق مع عدل الله..! وهكذا كانت كلمة الشيطان علي فم الشيطان علي أليفاز التيماني، أول المتكلمين من أصحاب أيوب " أذكر من هاك وهو برئ؟! وأين أبيد المستقيمون؟" (أي 4: 7). وبالتالي يكون أيوب في كل شفائه، إنما يحصد نتيجة طبيعته لما زرعه من إثم. وهكذا أكمل أليفاز حديثة قائلًا " كما قد رأيت: أن الحارثين إثمًا، والزارعين شقاوة يحصدونها" (أي 4: 8).

وكان اتهام أيوب بأنه خاطئ يستحق تأديب الله أمرًا يسعد الشيطان.

يسعده كلون من الشماتة في أيوب، ولو بطريق الإدعاء! ويسعده أن ذلك رد علي وصف أيوب بأنه " رجل الكامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر" (أي 1: 8)، وأنه "إلي الآن هو متمسكٌ بكماله" (أي 2: 3). كما أن هذا الاتهام سوف يثير أيوب ويتعبه. وهذا أيضًا يسعد الشيطان، وبخاصة لو كثرت الاتهامات ومست بر أيوب وسمعته التي يحرص عليها..

وقد كان. بدأ أصحاب أيوب يكيلون له الاتهامات في قسوة.

وأحدثت الاتهامات تأثيرها، وبدا أيوب يثور ويرد..

مشكلته أنه قيل الإثارة. تأثر بها، وأخذ يدافع عن نفسه. وكان خيرًا له لو أنه صمت، وترك الله يدافع عنه... نعم، ليته صمت فما أعمق قول سليمان الحكيم " لا تجاوب الجاهل حسب حماقته لئلا تعدله أنت (أم 26: 4). في بادئ الأمر، رد علي أصحابه في هدوء. ولما زادت اتهاماتهم له بأنه خاطئ. ويحتاج إلي توبة، وسردوا عليه ألوانًا من الاتهامات، حينئذ ثار عليهم وقال لهم "أما أنتم فملفقو كذب، أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتًا، ويكون ذلك لكم حكمة" (أي 13: 4، 5). إلي أن قال لهم "معزون متعبون كلكم. هل من نهاية لكلام فارغ "(أي 16: 2، 3).

وكان الشيطان فرحًا جدًا بهذا الصراع بين أيوب وأصحابه، يغذيه أحيانًا. وكان سعيدًا بإثارة أيوب. ولكن القصة لم تتم فصولًا. هناك ما هو أخطر. لم يكن سبب الإثارة فقط أنه خاطئ. بل بالأكثر إن الله ضده يعاقبه، "ويغرمه بأقل من إثمه" (أي 11: 6).

ويبدو أن أيوب - للعجب الشديد - دخلت الفكرة إلي ذهنه أن الله يقف ضده، وأنه سبب كل متاعبه!! فدخل في عتاب شديد وطويل مع الله..!

إنها مشكلة جديدة وقع فيها أيوب: أن الله قد جعله خصمًا له وأن الله يستذنبه، لكي يتبرر فيما أوقعه فيه من متاعب!! والظاهر أن تكرار ما سمعه من أفواه أصحابه، جعل هذا الفكر يزحف إلي ذهن أيوب وإلي قلبه ومشاعره، ويعاتب الله عليه.. كيف حدث ذلك؟ .

ربما بسبب إيمانه أن كل شيء من الله..

سواء كان بإرادة الله، أو بسماح منه.. لذلك قال قبلًا" هل.. الشر من الله لا نقبل؟‍ (أي 2: 10). إذن هو مؤمن أن كل الشرور (أي المتاعب) التي أصابته هي من الله "وفي كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي 2: 10). وهكذا فإن في التجربة الأولي، لما أخذت منه أملاكه كلها وأولاده قال ".. الرب أخذ" (أي 1: 21).

أيوب يعاتب الله عتابًا طويلًا شديدًا

فماذا كان موقفه من الرب الذي أخذ، والشر الذي أصابه؟
يبدو أنه لم يقبل ذلك الشر كما قال، بل عاتب الرب عليه.

أكبر دليل، وأول دليل، أنه بعد الكآبة الشديدة التي حلت عليه، أخذ يسب يومه، ويقول " ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه.." (أي 3: 3). ولماذا؟ " لأنه لم يغلق أبواب بطن أمي، ولم يستر الشقاوة عن عيني "(أي 3: 10). لأني إرتعابًا أرتعب فأتاني، والذي فزعت منه جاء علي "" لم أطمئن، ولم أسكن، ولم استرح، وقد جاء الرجز" (أي 3: 25، 26).

إذن هو لم يقبل ذلك الشر، بل اكتأب كآبة عظيمة جدًا (أي 2: 13). وارتعب وفزع، ولم يطمئن بشفتيه" (أي 2: 10). شفتاه لم يصدر منهما خطأ. أما قلبه فلم يسترح!

 وفي عتابه مع الله، نسب إليه كل المتاعب..

"يرضي الله أن يسحقني. يطلق يده فيقطعني" (أي 6: 9). "ذاك الذي يسحقني بالعاصفة، ويكثر جروحي بلا سبب "(أي 9: 17).
"لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر "(أي 69: 18).
"وقال للرب " كتبت علي أمورًا مرة، وورثتني آثام صباي" (أي 13: 26).

"جعلت رجلي في المقطورة، ولا حظت مسالكي.. وأنا كمتسوس يبلي، كثوب أكله العث" (أي 13: 27، 28) , وكان يشعر بشدة ما فعله الله به، ويشكو..

ويقول "أزل عني كرامتي، ونزع تاج رأسي" (أي 19: 9). " كنت مستريحًا فرعرعني ونصبني له غرضًا. شق كليتي ولم يشفق. سفك مرارتي علي الأرض" (أي 16: 12، 13).

"أوقفني مثلًا للشعوب. وصرت للبصق في الوجه" (أي 17: 6).
"هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا. فقط أزكي طريقي قدامه" (أي 13: 15). " في عذاب لا يشفق. أني لم أجحد القدوس "(أي 6: 10)

هو أيضًا يطلب من الله أن يكف عنه، يريحه قبل موته.
فيقول له " قد ذبت.. كف عني، لأن أيامي نفخة" (أي 7: 16).

"حتي متي لا تلتفت عني ولا ترهبني ريثما أبلغ ريقي ؟‍" (أي 7: 19). " بعد يديك عني، ولا تدع هيبتك ترعبني" (أي 13: 21). (أن كان (الإنسان) أيامه محدودة، وعدد أشهره عندك، وقد عينت أجله فلا يتجاوزه، عنه، إلي أن يسر كالأجير بانتهاء يومه" (عب 14: 5، 6).

" ليرفع عني عصاه، فلا يبغتني رعبه" (أي 9: 34). ويقول لله أيضًا " أليست أيامي قليلة؟ اتركني. كف عني فأتبلج قليلًا، قبل أن أذهب فلا أعود" (أي 10: 20)

 ويعلن أيوب أن الله يعاديه، ويخاصمه:

فيقول له "لماذا تحجب وجهك عني، وتحسبني عدوًا لك؟‍ (أي 13: 24). ويقول " أضرم علي غضبه وحسبني كأعدائه" (أي 13: 24). ويقول " أضرم علي غضبه، وحسبني كأعدائه" (أي 19: 11). ويقول أيضًا " فاعلموا إذن أن الله قد عوجني، ولف علي أحبولته. ها أني أصرخ ظلمًا فلا استجاب. أدعو وليس حكم. قد حوط طريقي، فلا أعبر سلبي ألقي ظلامًا" (أي 19: 6- 8) ويقول له " لا تستذنبني. فهمني لماذا تخاصمني؟" (أي 10: 2) ويقول " غضبه افترسني. واضطهدني" (أي 16: 9).

 ويقول لله: تستذنبني، وأنت تعلم أني برئ..

"في علمك أني لست مذنبًا، ولا منقذ من يدك" (أي 10: 7).
" كم لي من الأثام والخطايا ؟‍ علمني ذنبي وخطيتي" (أي 13: 23).

ويقول لأصحابه".. أريد أن كلم القدير، وأن أحاكم إلي الله" (أي 13: 3). ثم يقول لله " أدع أجيب، أو لم أتكلم فتجاوبني" (أي 13: 22).

" تبحث عن إثمي، وتفتش عن خطيتي" (أي 10: 6).
" أن تبررت يحكم علي فمي. وأن كنت كاملًا يسيذنبني ‍ (أي 9: 20).
" أن قلت أنسي كربتي، وأطلق وجهي وأتبلج، أخاف من كل أوجاعي، عالمًا أنك لا تبرئني" (أي 9: 27، 28).

" أنا مستذنب، فلماذا أتعب عيثًا ؟‍ ولو اغتسلت في الثلج، ونظفت يدي بالأشنان، فإنك في النقع تغمسني، حتي تكرهني ثيابي ‍‍ (أي 9: 29-31) " أحسن عندك أن تظلم ؟‍ أن ترذل عمل يديك ‍ وتشرق علي مشورة الأشرار" (أي 10: 3).

 ويقول له: وإن فرض وأخطأت أليست عندك مغفرة؟‍

فيقول لله "أن أخطأت تلاحظني، ولا تبرئني من إثمي" (أي 10: 14). " إن أذنب فويل لي. وأن تبررت لا أرفع رأسي "، " أني شعبان هوانًا، وناظر مذلتي" (أي 10: 15). " أأخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس ؟‍ لماذا جعلتني عاثورًا لنفسك حتى أكون علي نفسي حملًا؟‍‍!" (أي 7: 20).

" ولماذا لا تغفر ذنبي، ولا تزيل إثمي ؟‍! لأني الآن اضطجعت في التراب. تطلبني فلا أكون" (أي 7: 21).

ويقول".. كيف يتبرر الإنسان عند الله؟! إن شاء أن يحاجه، لا يجيبه عن واحد من ألف. هو حكيم القلب وشديد القوة" (أي 9: 2- 4).

 ويعاتب الله قائلًا أنك قوي. فماذا أفعل إزاء قوتك وعظمتك؟!

" لأني وأن تبررت، لا أجاوب، بل أسترحم دياني" (أي 9: 15).
" هوذا يمر علي فلا أراه. ويجتاز فلا أراه. ويجتاز فلا أشعر به. إذا خطف،فمن يرده؟! ومن يقول له: ماذا تفعل؟! " الله لا يرد غضبه. ينحني تحته أعوان رهب. فكم بالأقل أنا أجاوبه، وأختار كلامي معه!!" (أي 9: 11- 14).

إن كان من جهة قوة القوى، يقول هأنذا.وأن كان من جهة القضاء، يقول: من يحاكمني؟!" (أي 9: 19).

" عنده الحكمة والقدرة. له المشورة والفطنة. هوذا يهدم فلا يبني. يغلق علي إنسان، فلا يفتح. يمنع المياه فتيبس. يطلقها فتقلب الأرض "، " يحل مناطق الملوك، ويشد أحقاءهم بوثاق.." (أي 12: 13- 18).

ثم يقول لله " إن ارتفع تصطادني كأسدًا! ثم يعود وتتجبر عليّ" (أي 10: 16).

 ثم يقول له: مَنْ أنا حتى تطاردني؟!

"أتُرعِب ورقة مندفعة؟! وتطارد قشًا يابسًا؟!" (أي 13: 25).
" ما هو الإنسان حتى يعتبره، وحتي تضع عليه قلبك، وتتعهده كل صباح وكل لحظة؟!" (أي 7: 17، 18).
" إن قلت إن فراشي يعزيني، مضجعي ينزع كربتي، تريعني بالأحلام، وترهبني برؤى" (أي 7: 13، 14).

 ثم يسأل: لماذا إذن ولدت. ويقول لله: تذكر أنك جبلتني.

"يدك كونتانى وصنعتاني كلي جميعًا. أفتبتلعني؟! أذكر أنك جبلتني كالطين. افتعيدني إلي التراب؟! (أي 10: 8، 9).
" فلماذا أخرجتني من الرحم؟! كنت قد أسلمت الروح، ولم ترني عين. فكنت كأن لم أكن، فأقاد من الرحم إلي القبر" (أي 10: 18، 19).

 ثم يحتار، إذ ليس مصالح بينه وبين الله.

فيقول عن السيد الرب "فإنه ليس إنسانًا مثلي، فأجاوبه، فنأتي جميعًا إلي المحاكمة. ليس بيننا مصالح، يضع يده علي كلينا!!" (أي 9: 32، 33).

كل ذلك يقوله أيوب، شاعرًا أن الله قد اقتحمه ، وأنه قد سلمه إلي أعدائه.

فيقول "يقتحمني أقتحامًا علي اقتحام. يعدو علي كجبار" (أي 16: 14). ويقول أيضًا دفعني الله إلي الظالم، وفي أيدي الأشرار طرحني.أحاطت بي رماته (أي 16: 11، 14).

ويقول له " خربت كل جماعتي. فبضت علي. وجد شاهد" (أي 16: 7، 8). ولعله يقصد أصحابه الذين شهدوا ضده..

وفي كل ذلك يبرر أيوب نفسه.

تأمل من سفر تشيد الاناشيد ++ أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟ (نش 1: 7) جزء 2+++ البابا شنودة الثالث



تأمل من سفر تشيد الاناشيد ++ أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟ (نش 1: 7) جزء 2+++ البابا شنودة الثالث

 قالت العروس للرب، الذي هو الراعي الصالح: "أخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟. فأجابها إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة" (نش1: 7،8).

 أين ترعى؟
هنا نجد نفسا تبحث عن الله, وتسأل عن طرقة, وتقول له: "أين أنت يا رب؟" إنني أبحث عنك؟ أين أجدك؟".

العجيب إن هذه النفس التي تبحث عن الله، ليست باستمرار نفسا خاطئة، إنما هي نفس تحب الله وقد دعاها "الجميلة بين النساء". إنها تذكرني بداود النبي الذي قال الرب: "عرفني يا رب طرقك, فهمني سبلك,، أين تربض وقت الظهيرة؟ طلبت وجهك, ولوجهك يا رب ألتمس. لا تحجب عني"..

هذا النداء. هو نفس نداء النفس التي في مفترق الطرق.

أخبرني يا من تحبه نفسي, أين ترعى؟ أين أجدك؟ هل في البتولية أم في الزواج؟ في العمل أم في التكريس؟ في الخلوة أم في الخدمة؟ في الدير أم في العالم؟ أين تربض.. ؟ أين ألتقي بك. في الصلاة؟ في الصوم؟ في التداريب الروحية؟ في التناول؟ في الكنيسة؟ أين ترعى.. ؟

وقد تقول هذا الكلام النفس البعيدة عن الله.
إنها تذكرني بأوغسطينوس الذي كان بعيدًا لفترة طويلة، ثم أخذ يبحث عن الله، أين يجده؟ هل بالعقل؟ بالفلسفة بالمنطق؟ أم بالإيمان, بالقلب؟ أين ترعى؟ فأجابه الرب: هناك في داخلك, تجدني. وأعترف أغسطينوس قائلًا: نعم لقد كنت معي، ولكني من فرط شقاوتي لم أكن معك..

حقًا هناك أشخاص يسألون أين الرب. وهو معهم.
كان المسيح مع تلميذي عمواس, ولم تكن عيونهما منفتحة لمعرفته, كذلك ظهر لمريم المجدلية، وهي لا تزال تسأل عنة: أين هو. وقيل عن معاصري السيد وقت ميلاده أن "النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه".. حقًا, كثيرًا ما تسأل الرب (أين ترعى), ويكون الرب في داخلنا ونحن لا ندري!

ما أعجب قول المسيح لفيلبس "أنا معكم زمانًا هذه مدته, ولم تعرفني يا فيلبس"؟ وكذلك المولود أعمى قال له السيد "أتؤمن بابن الله؟ فأجابه " من هو يا سيد؟ كان الرب يكلمه, وقد شفاه, ومع ذلك لم يكن يعرفه, ويسأل أين يرعى؟ (يو9).

أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟
لوط لم يقل للرب أين ترعى؟ وإنما اختار لنفسه مكانًا معشبًا يعيش فيه, لذلك ضاع منه كل شيء, بعكس إبراهيم الذي ترك للرب أن يختار له، فقال له "أترك أهلك وعشيرتك, وأذهب للأرض التي أريك إياها (تك 12: 1). سأذهب إليه يا رب, مادمت سترعاني هناك. نعم هناك "أباركك وتكون بركة, وبك تتبارك جميع قبائل الأرض" (تك12: 2, 3).

حينما تسأل عن الله أين ترعى؟ يقول أحيانًا: هناك عند الجلجثة. ويرينا طرقًا ما كنا نظن إطلاقًا إنه سيرعانا فيها..

وكأنه يقول ليوحنا الحبيب: أتسألني أين أرعى.. هناك في المنفى في جزيرة بطمس, سأرعاك, وسأكشف لك بابًا مفتوحًا في السماء, وأريك العرش الإلهي والقوات السمائية, وما لابد أن يكون.

وكأني بالثلاثة فتية قد سألوه أين ترعى؟ فقال لهم هناك في أتون النار.. وفرحوا بالأتون, وعندما ألقوهم فيه رأوا معهم رابعًا شبيهاُ بابن الآلهة, يتمشى معهم في الأتون. وشعرة من رؤوسهم لم تحترق, ولا رائحة النار كانت في ثيابهم.. (دا 3).
وبنفس الوضع كان جب الأسود بالنسبة إلي دانيال النبي. رعاه الله هناك، وأرسل ملاكه فسد أفواه الأسود. (جا 6).

 في إحدى المرات أثناء المجاعة, لم يقل إبرام للرب " أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟" بل ذهب من تلقاء نفسه إلي مصر يلتمس المعونة. وهناك أخذوا امرأته سارة, وكاد يضيع لولا تدخل الرب لإنقاذه..

ونفس الوضع عندما سكن بين قادش وشور وتغرب في جرار (تك 20: 1) دون أن يسأل هل يرعى الرب هناك فكانت النتيجة أنه وقع في تجربة ثقيلة, وأخذوا امرأته سارة. لأن ذلك الموضع لم يكن فيه خوف البتة" (تك 20: 1).

 هناك عبارة جميلة في سفر النشيد، يقول فيها الرب: "تعال يا حبيبي لنخرج إلي الحقول, ونبيت في القرى".. هناك أريك حبي (نش2: 12).

نعم هناك وليس في أي مكان أخر.. إذن يا رب فليكن لي كقولك.. سأذهب إلي الحقول وإلي القرى وإلي أقاصي الأرض, مادمت هناك ستريني حبك. سأدخل إلي أتون النار, وسأنزل إلي جب الأسود, مادمت أعرف أين ترعى..

سأسير بمبدأ "حيث قادني أسير" سأترك كل شيء من أجلك, وأتبعك حيثما كنت.. مثلما تركت رفقة بلادها وأهلها وذهبت وراء إسحق (تك24: 58), وكما يقول المزمور للنفس البشرية: أسمعي يا ابنتي، وأصغي, وإنسي شعبك وبيت أبيك, فأن الرب قد أشتهى حسنك, وله تسجدين (مز 45: 10،11).

 أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى, لأنك في مراع خضر تربضني, وإلي ماء الراحة توردني. ترد نفسي وتهديني إلي طرق البر (مز 23).. لقد التحقت نفسي وراءك فقل أين ترعى, وأنا سأتبعك حتى إن سرتُ في وادي ظل الموت لن أخاف شرًا، لأنك ستكون معي, هناك تريني حبك..

أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى أين تربض وقت الظهيرة؟

أين تربض وقت الظهيرة؟
في وقت الظهيرة, حيث يريد كل إنسان أن يستظل, وأنا تحت ظللك اشتهيت أن أجلس, وأخشى من شيطان الظهيرة (مز 91: 6), وأتعب من هذا اللهيب, لأن الشمس قد لوحتني وقت الظهيرة.
أحيانًا يستغيث الإنسان بهذه العبارة, أين ترعى؟ يقولها في أوقات الفتور والجفاف, وفترات تخلي النعمة الإلهية..

يشعر الإنسان إن نفسه ليست كما كانت قبلًا، لم تعد لهل الحرارة الأولى, ولا الصلة ولا الدالة الأولى, ولا الحب القديم, فتقول نفسه للرب: "لماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك" (نش1: 7)

أين أيام شبابي الروحي, حينما كنت أقول "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني".. أين الأيام التي كنت أصلي فيها بعمق وكلماته حلوة في حلقي (نش2: 3), كالعسل والشهد في فمي. أيام كنت أرفع يدي, فتشبع نفسي كما من لحم ودسم (مز63: 4).. أشعر كما لو كنت ضللت الطريق, فاخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض..؟

أريد يا رب أن أرجع إليك, فأخبرني أين ترعى؟
أنا بعيد عنك, ولكني أحبك, بعدت عنك سلوكًا, ولم أبعد عنك قلبًا "أنت تعلم يا رب كل شيء, أنت تعلم إني أحبك".. من الجائز أنني تركت نشاطي, وتركت ممارستي, وعباداتي، وخدمتي, ولكني لم أترك محبتك.. ربما تكون صورتي قد تشوهت, ولكن لا تزال تشتاق إلي شبهك ومثالك, أنا أحبك على الرغم من خطيئتي, ليتك تردني إليك, وتخبرني أين ترعى..

ربما تقول هذه العبارة "نفوس في السبي، قد جلست على أنهار بابل، ولكنها تبكي كلما تذكرت صهيون" (مز 137: 1).

لم تعد تستطيع أن تسبح تسبحة الرب في أرض غريبة، قيثارتها على الصفصاف (مز 137: 2, 4). وهي تصرخ من عمق القلب, ومن عمق الرغبة, استغاثة غريق إلي قارب النجاة, تقول اخبرني يا من تحبه نفسي, أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة..

أريد أن أدخل إلي هيكلك, إلي مذابحك, لكي تنضح عليَ بزوفاك فأطهر، وتغسلني فابيض أكثر من الثلج..

 أين ترعى أيها الراعي الصالح؟ ضللت مثل الخروف الضال, فأطلب عبدك (مز 119: 176).
أسرع وأعني, لأنه على ظهري جلدني الخطاة وأطالوا إثمهم (مز 129: 3).. أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد, والتهبوا كنار في شوك (مز 118: 12).. في الطريق التي أسلك أخفوا لي فخًا (مز140: 5).. 

 ولكنني مشتاق إليك, أريد أن أصل إليك, ولا أعرف..

ما أعجب الله الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع إليه, الذي كل من يقبل إليه، لا يخرجه خارجًا, إنه يقول لهذه النفس الباحثة عنه, على الرغم من إن الشمس قد لوحتها: إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وإرعي جداءك عند مساكن الرعاة..

عجبًا يا رب أن تسميها "جميلة" وهي خاطئة! أنا أسميها جميلة, ليس من أجل خطيئتها, وإنما من اجل توبتها.. من أجل سعيها وطلبها, من أجل عبارة أين ترعى؟

 أخرجي على أثار الغنم:
غنيمات كثيرة, سرن في طريقي من قبل, ووصلن إليَ, أثار هذه الغنيمات لا تزال ثابتة على الطريق, فتتبعيها (ومن سار على الدرب, وصل).
وما أثار الغنم, سوى سير القديسين.. وقت ترك لنا القديسين نموذجًا في كل مجال لكي نحتذي به. متشبهين بأعمالهم.

وقد يجد إنسانًا نفسه بلا مرشد في الطريق, والذين بلا مرشد يسقطون كأوراق الشجر.. هذا الإنسان لا ييأس، هناك أثار الغنم إن تعذر وجود الرعاة..
 لم يطلب إلينا الرب أن نقبع في مكاننا, وندرس سير القديسين, إنما أن نخرج ونسير متبعين أثارهم.

لا تجلسي في مكانك متأملة وتقولي ما أجمل الغنيمات القديسات, وما أحلى طرقها, كلها بر وكمال, وتعب وجهاد.. ! كلا, بل أخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة.. جداءك هي خطاياكِ, اذهبي إلي مساكن الرعاة, تجدي هناك حلًا وحلًا.

 أخرجي على أثار الغنم, لا تبتدعي طريقًا جديدًا, ولا تنقلي التخم القديمة, وإنما اتبعي ما رسمه الآباء من طرق..

"إن بشرناكم نحن وملاك من السماء, بغير ما بشرناكم به, فليكن أناثيما" (غل1: 8).
"إن كان احد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم, فلا تقبلوه في البيت, ولا تقولوا له سلامًا, لأن من يسلم عليه, يشترك في أعماله الشريرة (2يو1: 11).

إذن ماذا نفعل؟ "كونوا متمثلين بيَّ, كما أنا أيضًا بالمسيح" (1كو11: 1). نعم أيتها الجميلة "أخرجي على أثار الغنم".

 وإن لم تسيري على أثار الغنم, لا تكوني جميلة بين النساء.
"إن لم تعرفي أيتها الجميلة.. فأخرجي على أثار الغنم". ترينا هذه العبارة, أنة حتى النفس الجميلة, هناك أشياء لا تعرفها, هناك جداء قد اختلطت بغنمها, تحتاج أن تذهب بها إلي مساكن الرعاة. لا تعتمدي على نفسك, فهؤلاء الرعاة قد أقامهم الرب, لأجلك.

تأمل من سفر تشيد الاناشيد ++ من هذه الطالعة من البرية؟ كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبان (نش 8: 5؛ 3: 6) +++ البابا شنودة الثالث



تامل من سفر تشيد الاناشيد ++ من هذه الطالعة من البرية؟  كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبان (نش 8: 5؛ 3: 6) +++ البابا شنودة الثالث

 كأعمدة من دخان:

هنا يتأمل الرب كنيسته في برها, وفي عبادتها، وفي آلامها من اجله. فيقول: من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان؟!

لا شك ان عبارة "أعمدة من دخان" لا يمكن ان تعني ذلك الغزل الرخيص الذي يتهمون به سفر النشيد. فلا يمكن أن تقبل امرأة من حبيبها هذا الوصف! ثم هل يتفق هذا التعبير من قوله عن عروس أنها "جميله كالقمر, مشرقة كالشمس" (نش 6: 10).

نعم، المعنيان يتفقان في المفهوم الروحي.

إن عبارة "كأعمدة من دخان" تحمل معنى روحيًا جميلًا يليق بالنفس العابدة، في علاقتها مع الله. فكيف يكون هذا؟
 تصور انك أمام المجمرة (الشورية). واتيت بحفنة من البخور وضعتها فيها. فما الذي يحدث؟ يحترق البخور من لهيب النار، ويصعد كأعمدة من دخان زكية الرائحة، وهكذا الكنيسة.

نعم تصور معي هذا المنظر الجميل: مجمرة مملوءة من النار المقدسة، التي هي الحب الإلهي. والمحبة تشبهها سفر النشيد فيقول: " مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش 8: 7).

 هذه المجمرة وضعت فيها حبات من البخور، هي شخصيات القديسين.

حبة اسمها القديس انطونيوس الكبير، وحبة اسمها آبامقار الكبير. وحبة اسمها الأنبا بيشوى, وأربعة اسمها القديس أثناسيوس الرسولي. وخامسة اسمها الشهيد مارجرجس..

وحبات أخرى كثيرة من السواح والمتوحدين والشهداء والبطاركة والأساقفة، والأبرار في كل جيل..

هذه الحبات اشتعلت بالحب، وطلعت إلى فوق كأعمدة من دخان، كرائحة بخور، تتسم منها الله رائحة الرضا (تك 8: 21).

وتنسمها الملائكة، فأعجبت برائحتها الزكية، وغنت في فرح "من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان؟!".

 مُعطرة بالمرّ واللبان:

كان المرّ من العطور التي تدخل في تركيب الدهن المقدس الذي كان يُستخدم في المسحة المقدسة في العهد القديم. تلك التي مُسحت بها خيمة الاجتماع وتابوت العهد، وكل أواني الخدمة و كما مسَحَ بها هرون رئيس الكهنة وبنوه (خر 30: 23-30).

كما كان المر واللبان من تقدمات المجوس للمسيح.
اللبان كان يرمز إلى الكهنوت.
والمر كان يرمز الآلام، وإلى رائحة الحياة الطيبة.
وبكل هذا تعطرت الكنيسة، وتعطرت النفس البشرية التي تحب المسيح.
ومن العطور المقدسة الميعة والسليخة. لذلك فإن المرتل قال للكنيسة في المزمور " المرّ والميعة والسليخة من ثيابك " (مز 45: 8).
لذلك لم يكتفِ سفر النشيد بأن يجعل العروس معطرة بالمر واللبان ْ فقط، وإنما أضاف " وبكل أذرة التاجر "، بكل العطور جميعها..

 وكل أذرة التاجر:

وأنت أيها الابن المبارك - بعد عمر طويل- عندما تصعد روحك إلى فوق: هل تكون زكية الرائحة " معطرة باللبانْ وبكل أذرة التاجر"؟ أم تفوح منها رائحة الخطية البشعة , لا سمح الله..

لأن بعض الناس حينما يموتون، تمتلئ حجراتهم برائحة بخور. وآخرون تتعفن أجسادهم بسرعة. ويحاول أقرباؤهم أن يدفنوهم قبل أن تفوح الرائحة!

 والآن نسأل: ما هي أذرة التاجر التي تتعطر بها الروح؟

هي ثمار الروح التي قال عنها الرسول "وأما ثمر الروح: فهو محبة، فرح, سلام, طول أناة، لطف, صلاح, إيمان، وداعة، تعفف" (غل 5: 22، 23).. هي الطهارة والنقاوة والقداسة، وحرارة الروح، والشوق إلى الله. هي زيت العذارى الحكيمات، وشركة الروح القدس، وهي البذل والعطاء، والجهاد.. هي ثمر الإيمان، وثمر التوبة..

 وترى من هو التاجر؟

هو الذي قال عنه الرب " يشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها" (متى 13: 15، 16).

هو التاجر الذي يقول الرب في اليوم الأخير " يا سيد، خمس وزنات سلمتَني. هوذا خمس وزنات أُخر ربحتها فوقها" (متى 25: 20).

وأيضا التاجر هو كل خادم للرب يقدم للناس الروحيات، ويقول مع القديس بولس الرسول "صرت لكل شيء، لأخلص على كل حالٍ قومًا" (1 كو 9: 22).

هؤلاء التجار الحكماء ملأوا الكنيسة عطرًا ولبانًا ومرًّا، وميعة وسليخة، وقرفة وعودًا وقصب ذريرة" (خر 30: 23-25).. وكل أذرة التاجر.. كل فضيلة وبر من كل نوع..

 أعمدة من دخان:

وهكذا ارتفعت الكنيسة إلى الرب " أعمدة من دخان " وهو:
دخان الذبائح والمحرقات:
كانت الذبائح والمحرقات توضع على المذبح، وتوقد النار فترتفع أعمدة من دخان. وقد طلب إلينا القديس بولس الرسول أن نتشبه بتلك الذبائح عندما قال " أطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1).

فيا ليتنا نعيش على الأرض كذبيحة، كمحرقة على الذبح تلتهمها النار المقدسة.
وتصعد كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر.

وتقديم النفس كذبيحة أمر واضح في صلواتنا: يقول المرتل "فلتستقم صلاتي كالبخور قدامك. وليكن رفع يديّ ذبيحة مسائية" (مز 63: 4، 5). فلتستقم صلاتي كالبخور، أي كأعمدة من دخان، كذبيحة مسائية. وكما قال المرتل أيضا " باسمك ارفع يديّ، فتشبع نفسي كما من لحم ودسم".

أبعد هذا يقول إنسان إن سفر النشيد يعثرني!!

بل تعثرك يا أخي أفكارك الجسدانية، التي لم ترتفع بعد عن هذا المستوى الجسداني.
ولم تصعد إلى فوق، كأعمدة من دخان.

 الطالعة من البرية:

عبارة " الطالعة من البرية coming out of the wilderness قد تطلق على كنيسة العهد القديم، كما تطلق أيضا على كنيسة العهد الجديد، المزينة بالفضائل، التي يعمل فيها الروح القدس بكل مواهبه، بكل أذرة التاجر.

فأنه قيل " بالروح يعطى لواحد كلام حكمة، ولآخر كلام عِلم، ولآخر مواهب شفاء، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز أرواح، ولآخر ترجمة ألسنة.. هذه كلها يعملها الروح الواحد، قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء (1 كو 12: 8-11).. هذه كلها من أذرة التاجر.

وعبارة الطالعة من البرية، ربما تقصد بها الصلوات.

الكنيسة ليلًا ونهارًا تصعد منها صلوات وألحان وتسابيح.. كلها تصعد إلى فوق.
فتستقبلها الملائكة بهذا النشيد "الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر.. صلوات معطرة بالحرارة، والإيمان والخشوع، والفهم, والتأمل، والشكر.. وكل أذرة التاجر..

فهل كنيستنا اليوم لا تزال -كما كانت في القديم- كنيسة صلاة؟

هل كل نفس فيها، ترتفع منها كل يوم صلوات وتسابيح، وتراتيل، ومزامير، وأغاني روحية (كو 3: 16؛ أف 5:19). أم ان الملائكة ينتظرونها بلا جدوى، وكأنها في عطلة وغفوة!! لا مرّ ولا لبان، ولا شيء من أذرة التاجر! هل كل بيت من بيوتنا تصعد منه أعمدة دخان المقدسة، كأعمدة الهيكل، معطرة بالمسحة المقدسة، بالمر واللبان..

ما أجمل أن يقول الملائكة بعضهم لبعض: هلم ننظر مصانع الروحيات في هذا البلد المقدس، تطلع منها أعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، يكملون بعضهم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبهم للرب " شاكرين كل حين على كل شيء (أف 5: 19، 20).

 هناك أشياء مهما حاولت أن تكتمل لا تستطيع.

روائح عطرة جميلة لا يمكن أن تخفيها. لا يمكن أن تخفي مدينة كائنة على جبل (مت 5: 14). ولا يمكن أن تكتم روائح بستان مملوء بالورد والفل والريحان.. هكذا الكنيسة – العالم الآخر يتأمل جمالها العجيب، في قدسيتها وطهرها، في حرارتها وعبادتها, في محبتها لله والناس، في كل ما فيها من أذرة التاجر..

تصوروا أن الكنيسة أصبحت موضع دهشة الملائكة..

أصبحت موضع دهشة السماء، بل موضع دهشة العالم كله. ينظر إليها فينذهل: ما هذا الجمال؟ ما هذا السمو والعلو؟ ما هذا الصبر في الجهاد؟ ما هذه المثالية؟ لم نرى قبل مثل هذا.. من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة دخان، معطرة بالمرّ واللبان. مثلما دخل المسيح أورشليم، فقالوا من هذا.. ؟! (متى 21: 10) "وارتجت المدينة كلها".

موقف روحي يتميز به عمل ما، فينظر إليه الكل في دهشة:

ويقولون: قد رأينا اليوم إنسانًا عجيبًا، شخصية من نوع فريد! من هذا الإنسان؟ في أمانته، في دقته؟ في رقته، في أدبه، في محبته، في فهمه..؟ تُرى من تكون هذه الشخصية؟ من هذه الطالعة من البرية، معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر.

 عبارة كل أذرة التاجر, تشير إلى كمال الكنيسة:

ليست متحلية بفضيلة واحده فقط، وإنما بالكل أذرة التاجر.. بكل بركات النعمة، بكل ثمر الروح..

كنيسة "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان" (2 تي 4: 7). جمعت كل الخير، جمعت الإيمان والأعمال "تعبت من أجل الرب ولم تكلّ" (رؤ 2: 3).

 أما نحن فقد دخلنا على ما لم نتعب فيه. آخرون تعبوا ونحن دخلنا على تعبهم.

أننا ننظر إلى الكنيسة الآباء في إعجاب شديد، وهي معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر، مستندة على حبيبها، ونقول من هذه التي طلعت من البرية؟ وكيف وصلت إلى هذه الدرجة؟!

من كتاب تاملات في الميلاد ++ مُصالحة السماء مع الأرض ++ البابا شنودة الثالث


من كتاب تاملات في الميلاد ++ مُصالحة السماء مع الأرض ++ البابا شنودة الثالث  

 مُصالحة السماء مع الأرض

 وفي صلح السماء مع الأرض الذي جلبته بركة الميلاد لم تقتصر الصلة على ظهور الملائكة والأحلام المقدسة والظهورات المقدسة، بل أيضًا رجعت روح النبوة مرة أخري، ورجع عمل الروح القدس في الناس وامتلاؤهم منه.

نقرأ عن يوحنا المعمدان في بشارة الملاك عنه أنه: " من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" (لو1: 15). ونقرأ في بشارة الملاك للعذراء قوله لها: "الروح القدس يحل عليك، وقوة العليّ تظللك" (لو1: 35).

ونقرأ في زيارة العذراء مريم للقديسة أَلِيصَابَات أنه: "لما سمعت أليصابات سلام مريم، إرتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس" (لو1: 41). ونقرأ عن زكريا الكاهن بعد انقضاء فترة صمته " وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلًا..." (1: 67). ونقرأ أيضًا عن سمعان الشيخ أنه كان رجلًا بارًا: "والروح القدس كان عليه وكان قد أوحي إليه بالروح القدس..." (لو2: 25: 26).

 عجيب جدًا هذا العمل الواسع للروح القدس في الناس في تلك الفترة المقدسة. وعجيب هذا الإمتلاء من الروح القدس وهذا الحلول، وهذا التنبؤ أيضًا... لقد تنبأ زكريا الكاهن، وتنبأت إمراته أَلِيصَابَات، وتنبأ سمعان الشيخ، وتنبأت حنّة بنت فنوئيل (لو2: 36). وبدا أن الله رجع يتكلم في أفواه الأنبياء وكل ذلك كان من بوادر انتهاء الخصومة بميلاد السيد المسيح، أو كانت هذه هي تباشير الصلح الذي تم على الصليب.

 وكان من تباشير الصلح أيضًا رجوع المعجزات. والمعجزات دليل عمل يد الله مع الناس...

كان انفتاح رحم أليصابات العاقر هو المعجزة الأولي. وكان صمت زكريا الكاهن ثم انفتاح فمه بعد تسعة أشهر معجزتين أخريين.

وكانت معجزة المعجزات هي ولادة السيد المسيح من عذراء. وكان ارتكاض الجنين بابتهاج في بطن أَلِيصَابَات تحيه للجنين الإله الذي في بطن العذراء هو معجزة أخري. ولا نستطيع أن نحصي المعجزات التي رافقت ميلاد المسيح وطفولته. أما معجزاته في أرض مصر، فلعل أبرزها هو ما يشير إليه إشعياء النبي قائلًا: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر. فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها" (إش19: 1). وفعلًا سقطت أوثان مصر بدخول الرب إليها...

 كل هذا يدل على أن يد الرب قد بدأت تعمل، وأن ميلاد السيد المسيح كان مقدمة لصلح السماء مع الأرض، الصلح الذي قلنا إن أولي تباشيره كان ظهور الملائكة. ويحسن أن نقف وقفة تأمل بسيطة عند ظهورات الملائكة هذه...

 أول ملاك ظهر وذكره الإنجيل المقدس، كان هو الملاك الذي ظهر لزكريا الكاهن. إنها لفته كريمة من الرب يعطى بها كرامة للكهنوت، فيكون ظهور الملائكة أولًا للكهنة، بعد فترة الاحتجاب الطويلة. ولفته كريمة أخري للكهنوت، أن يظهر الملاك في مكان مقدس: "واقفًا عن يمين مذبح البخور " وفي لحظة مقدسة عندما كان زكريا البار يكهن للرب ويرفع البخور أمامه (لو1: 8-10)...

جميل من الرب أنه عندما أرسل خدامه السمائيين أولًا إلى بيته المقدس وإلى خدام مذبحة الطاهر. ولا شك أن هذا كله يشعرنا بجمال المذبح الذي وقف الملاك عن يمينه في أول تباشير الصلح. كم بالأكثر جدًا مذبح العهد الجديد في قدسيته الفائقة للحد، حيث ملاك الذبيحة الصاعد إلى العلو يحمل إلى الله تضرعنا...

تأمل من سفر نشيد الأناشيد ++ أنا نائمة وقلبي مستيقظ (نش 5: 2) جزء 2 +++ البابا شنودة الثالث


تأمل من سفر نشيد الأناشيد ... أنا نائمة وقلبي مستيقظ جزء 2 (نش 5: 2) +++ البابا شنودة الثالث

 تقول العروس في النشيد "أنا نائمة، وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل" "قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! قد غسلت رجليَ، فكيف أوسخها؟! حبيبي مدّ يده من الكوة، فأنت عليه أحشائي.." (نش5: 2-4).

أنا نائمة وقلبي مستيقظ:

يقول الرب "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" "اسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ابن الإنسان" (لو12: 40) "لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا" (مر13: 36)..

إذن فكل نفس نائمة هي ساهية عن خلاص نفسها، غفلانة كسلانة لا تدري ما هي فيه. ونسيت تحذير الكتاب: لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا"..

 أما هذه النفس التي تقول أنا نائمة وقلبي مستيقظ، فإن حالها عجيب.. هل هي تخدع نفسها، وتدعى اليقظة بينما هي نائمة؟!.

كيف تظن أنها مستيقظة القلب بينما هي نائمة؟! كثير من الناس يقول الواحد منهم "أنا أحب الرب من كل قلب. الله هو كل شيء في حياتي". فإن سألته عن صلواته وتأملاته وقراءاته الروحية واعترافاته وتناوله، يقول لك..

حقًا، إنني مقصر جدًا في كل هذا، ولكني مع ذلك أحب الله.. روحياتي واقفة، نفسي نائمة، ومع ذلك فقلبي مستيقظ.

والأعجب من هذا، إنسان آخر، يقول لك إنني في عمق الخطية، ومع ذلك فأنا أحب الله. نفسي نائمة، وقلبي مستيقظ..

 وتتعجب أنت من هذا: كيف تكون محبة الله في قلب هذا الإنسان، وهو في عمق الخطية؟! ألم يقل الرب "من يحبني، يحفظ وصاياي" فكيف لا يحفظ وصاياه، ويقول "أنا أحبه".. ألم يقل يوحنا الحبيب "كل كم يخطئن لم يبصره ولا عرفه" (1يو3: 6)..

الظاهر أن هناك أناسًا يظنون أن عاطفة المحبة نحو الله تكون في القلب فقط، دون أن تظهر في الأعمال ولا في السيرة والسلوك، ودون أن يعبروا عن محبتهم تعبيرًا عمليًا يظهرها ويؤكدها..

لا تكفي يقظة القلب، إن كانت الحياة نائمة.. المفروض أن القلب المستيقظ يدفع الإنسان باستمرار إلى العمل الروحي.. إن الإيمان دون أعمال ميت كما قال الرسول (يع2: 26). ما فائدة محبة القلب، وما معنى محبة القلب، إن كنت نائمًا وكسلانًا ولا تعمل ما تستوجبه تلك المحبة؟ ما معنى أن يكون الغصن حيًا، إن كان لا يزهر ولا يثمر.. ؟!

 والغرابة أنه على الرغم من هذا الكسل والنوم، ما تزال النفس تقول "حبيبي".. "صوت حبيبي قارعًا" "حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي"، "قمت لأفتح لحبيبي.. فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر"..

أهو حبيب حقًا، إذن هو "تعب المحبة"؟!

الله أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد.. الرب أحبنا فمات عنا، أنت تحبين، فماذا فعلت في التعبير عن حبك؟!

هذا الحبيب الذي أحبك يقرع على الباب، ولا تفتحين.. !! يظل في انتظارك حتى تمتلئ رأسه من الطل، وقصصه من ندى الليل، وأنت نائمة، تحتجين بأنك قد خلعت ثوبك، وغسلت رجليك، وتتركينه، مقدمة له شتى الأعذار.. ثم تجرئين أن تُسَمَّي هذا حبًا؟!

إن الحب النظري لا ينفع شيئًا، لابد أن يكون حبًا عمليًا لقد قال يوحنا الرسول "لا نحب بالكلام، ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1يو 3: 18).

هذه النفس تفكر في ذاتها أكثر مما تفكر في الله.. تفكر في ثوبها وفي رجليها وفي راحتها، ولا تفكر في حبيبها الواقف منتظرًا الذي امتلأ رأسه من الطل.. الذاتية تمنعها من البذل، وحب الراحة يعطلها.

هذه النفس تريد أن تجمع بين الله والعالم بين محبة الله ومحبة ذاتها. لا تريد أن تتعب. لا تريد أن تدخل من الباب الضيق. تريد حبًا بدون صليب..

 ماذا لو أن الله أحبنا، دون أن يصعد على الصليب؟!

ماذا لو أحبنا دون أن يبذل ذاته عنا؟!..

إذن لماذا لا نفعل مثله في المحبة الباذلة؟! ولكن هذه النفس المسكينة في سفر النشيد، تريد أن تحب الله وهي نائمة. و: انها تقول لله "أحبك يا رب، وأحب النوم أيضًا. أتراني أجمعكما معًا؟"

هذه العروس تقول في النشيد "قلبي مستيقظ". أهي بالفعل يقظة حقيقية؟  وإن كانت كذلك، فما هي فاعليتها؟

 هناك يقظة عقلية، ويقظة أخرى عملية.

قد يكون القلب مستيقظًا: يحس أن هذا خطأ، ومع ذلك يقع فيه. يستطيع أن يميز صوت الله من صوت الغرباء، ومع ذلك لا يتبع صوت الله.. إنها صورة شرحها بولس الرسول في رسالته إلى رومية "الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي أريده فإياه أفعل" (رو7: 18، 19).

إذن قد يكون القلب مستيقظًا، والإرادة ضعيفة. الضمير متيقظ، ولكن لا عزيمة ولا إرادة. ونتيجة الضعف يسقط الإنسان في الشر الذي لايريده، كبطرس حينما أنكر سيده.

صوت حبيبي قارعًا، أفتحي لي..

إن قول الرب لها "افتحي لي" يعني إنها مغلقة أمامه. قد أغلقت نفسها على ذاتها تحوصلت داخل هذه الذات.. داخل عبارات ثوبي، ورجلي، وراحتي، ونومي..

 كثيرًا ما تقف الذات عقبة في طريق الله..

تسأل إنسانًا أن يصلي، فيقول لك: وقتي، شغلي، دروسي.. تسأله أن يصوم. فيقول لك: رغباتي، شهواتي، غرائزي، جسدي، أفكاري.. دائمًا قبل كل شيء، والله هو آخر الكل..

وقد يصلي الإنسان، ولكن ذاته تكون كل شيء في صلاته، ينسى الله في صلاته، ولا يتذكر سوى طلباته. هي ذاته موضع اهتمامه، وليس محبة الله.

هذه الأعذار تدل على أن النفس "تركت محبتها الأول، المحبة التي كانت مشتعلة قبلًا. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها. وأعذار كثيرة لا يمكن أن تعوقها.

إنها في القلب فقط، لأن القلب مستيقظ، ولكنه ليس في الإرادة لأنها نائمة.

 "افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. فإن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل".

كلام عاطفي ومؤثر، قد يلين الحجر. ولكن هناك نفوسًا قاسية لا تلين مهما كلمها الرب بحب ورفق..

كثيرًا ما تقف قساوة القلب حائلًا بين الإنسان والله. لذلك ينصحنا الرسول قائلًا "إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (عب3). وفي قصة عذراء النشيد، نجد أنها على الرغم من قساوة قلبها، ومن رفضها وعم استجابتها، لا تزال تبرر أخطاءها بالأعذار.

 أدخلي في الخدمة، وواجهي العثرات والمعطلات، وثقي أن يد الله ستكون معك، وستغسل كل ما يتسخ فيك.. موسى النبي الوديع الذي كان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس، دخل في الخدمة (غلا4: 2)، وغضب، وكسر لوحي العهد المكتوبين بأصبع الله. وبولس الرسول أضطر أن يغير صوته في الخدمة، وأن يقول أفيأتيكم بعصا، وقال "أيها الغلاطيون الأغبياء" (غلا3: 10) وقال أيضًا "قد صرت غبيًا وأنا أفتخر، أنتم ألزمتونى" (2كو12: 11).

وفي كل ذلك غسل المسيح أرجل رسله وتلاميذه..

 "أنا نائمة وقلبي مستيقظ"

هل تدل هذه العبارة على حب بغير عمل، أم على حالة فتور، أم تدل على النفس البشرية، أم اعتذارها عن الخدمة؟