تامل من سفر اللاويين 2 ++ تقدمة القربان ++ ابونا تادرس يعقوب


تامل من سفر اللاويين 2  ++ ابونا تادرس يعقوب
 تقدمة القربان

 إن كانت ذبيحة المحرقة تقدم رائحة السيد المسيح المصلوب في طاعته الكاملة للآب، فإن تقدمة القربان بكل أنواعه تكشف عن جانب آخر من جوانب عمل السيد المسيح الخلاصي، وهو أنه فيما تقدم الكنيسة ذبيحة المسيح للآب للرضا عنها يقدمه الآب للكنيسة كسرّ حياتها الجديدة وموضوع شبعها، الآب يفرح بطاعة الابن الوحيد الجنس والكنيسة تفرح بابن الله المتجسد الذبيح كواهب حياة أبدية ومشبع حياتها.

هذا وقد ارتبطت التقدمات الطعامية بالذبائح الدموية لتأكيد الحاجة إلى دم الفادي للخلاص.

 1. تقدمة من الدقيق:

"وإذا قرب أحد قربان تقدمة للرب يكون قربانه من دقيق، ويسكب عليه زيتًا ويجعل عليه لبانًا" .

يعلق العلامة أوريجانوس على كلمة "أحد" إذ جاءت في اليونانية "نفس". فيرى أن ذبيحة المحرقة هي ذبيحة الإنسان الروحي الذي يقدم ذبيحته على مذبح الرب فتتقبلها النار المقدسة بكاملها، أما الإنسان "النفساني" الذي قيل عنه هنا "إذا قربت نفسي"، وهو إنسان ليس بروحي ولا في نفس الوقت بجسداني، لا يمتص قلبه بالروحيات ولا يميل بجسده للرجاسات لكنه إنسان منهمك في المشاغل اليومية التي تلهيه عن أبديته. هذا هو الإنسان النفسي أو الطبيعي الذي يقول عنه الرسول: "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأن عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه إنما يُحكم فيه روحيًا، أما الروحي فيحكم في كل شيء" (1 كو 14: 15). مثل هذا إذ يقدم تقدمة قربان للرب من الدقيق ومن خبز الفطير، أي يقدم حياته اليومية العادية يحتاج إلى زيت المراحم الإلهية لتسحبه من ارتباكات الحياة.

 كأن العلامة أوريجانوس يود أن يقول إن كنت عاجزًا عن أن تقدم كل حياتك مكرسة للرب كمحرقة فقدم عملك اليومي مقدسًا له كقربان دقيق أو فطير صارخًا لله أن يسكب فيك زيت رحمته بلا انقطاع حتى لا يلهيك العالم عن أبديتك.

ويقدم كثير من الآباء تفسيرًا آخر للتقدمة، إذ يرون فيها "حياة السيد المسيح" كعطية الآب لنا، فيه ننعم بالشركة مع الآب ونتمتع بالسلام الفائق، خاصة وأن كلمة "قربان" في العبرية تعني "منحة" أو "هبة" أو "هدية". فالسيد المسيح هو عطية الآب لنا، وحياته فينا هي عطيته المجانية. وقد جاء طقس التقدمة يكشف عن هذا المفهوم بوضوح، والذي يمكن إبرازه في النقاط التالية:

 أولًا: يقدم الإنسان دقيق قمح فاخر للكهنة بني هرون بأسم الرب، فيأخذ الكاهن مقدار قبضة يده ليقدمه مع زيت وكل اللبان على النار، فيتقبل الله هذا القليل الذي هو ملء القبضة "وقود رائحة سرور للرب"

كتذكار من الشعب لله على إحساناته. أما بقية التقدمة من دقيق وزيت فمن نصيب الكهنة: "لهرون وبنيه، قدس أقداس من وقائد الرب".


إن كان الدقيق الفاخر يُشير إلى السيد المسيح "خبز الحياة" (يو 6: 35)، فإن الكاهن إذ يأخذ ملء قبضة يده ليقدمه مع زيت وكل اللبان إنما يمثل الكنيسة التي ليس لها ما تقدمه للآب عطية من جانبها سوى ذاك الذي نزل إلينا وصار كواحد منا، كمن في يد الكنيسة وليس كغريب عنها. إنها تجد فيه تقدمة للآب فتحمله إليه لتتقبل منه رضاه ومسرته. "المسيح المصلوب" هو ذبيحة الكنيسة وتقدمتها خلاله تقدم عبادتها من تسابيح وطلبات وصلوات ومطانيات وأصوام... وبدونه لا تقدر أن تبسط يديها لتتعبد.

 وفيما هي تقدم هذه التقدمة الفريدة إذا بها تتقبل السيد المسيح نفسه في حياتها "قدس أقداس"، تتناول جسده ودمه المبذولين كسرّ حياتها وشعبها الروحي. إن ربنا يسوع المسيح كوسيط عنا بدمه أرسله الآب إلينا ليقدم حياته بإسمنا وفي نفس الوقت نقبله في حياتنا عطية إلهية تشبع الأعماق!

 ثانيًا: إن كان مسيحنا القدوس قد صار خبزًا ليشبع نفوسنا به، فإن سكب الزيت عليه  يُشير إلى مسحه بروحه القدوس أزليًا كمسيح الرب الذي كرس عمله لخلاصنا، ليقوم بدوره كرئيس كهنة أعظم سماوي يشفع بدمه عنا لغفران خطايانا.

إسم "المسيح" مشتق من "المسحة"... بأي زيت مُسح إلاَّ بزيت روحي؟! فالزيت المنظور هو علامة، أما غير المنظور فهو السرّ، وهو داخلي.

مُسح الله لأجلنا وأرسل، فصار إنسانًا مع بقائه هو الله+++ القديس أغسطينوس

لم يُمسح المسيح بزيت بل بالروح. يقدم لنا الكتاب المقدس أمثلة لدعوة البعض مسحاء، لكن الموضوع الرئيسي هو المسح بالروح، وقد استخدم الزيت (كرمز) من أجله. ++القديس يوحنا الذهبي الفم

 دُعى هرون مسيحًا بسبب المسيحية، التي لما استخدمت روحيًا صارت تناسب اسم الرب الممسوح بالروح بواسطة الآب، وكما هو مكتوب في سفر الأعمال: "لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته" (أع 4: 27). وهكذا بالنسبة لنا يُمسح الجسد لكن النفع الروحي، وذلك كما في المعمودية نفسها حيث يغطس الجسد في الماء لكن فاعليتها روحية حيث نتحرر من الخطايا ++ العلامة ترتليان

 ثالثًا: إن كان مسيحنا القدوس يُقدم لنا خبزًا سماويًا يشبع النفوس قد مسحه الآب لخلاصنا وشبعنا بروحه القدوس، فإننا نحن أيضًا إذ نتحد به نصير أشبه بخبز تقدمه للرب، ننعم في استحقاقات دمه بالمسحة المقدسة، مسحة روحه القدوس الذي يسكن فينا ويقدسنا ويكرس قلبنا وكل طاقتنا لحساب مملكته السماوية، فنحسب قطيع المسيح وجنده الروحيين الحاملين سمته فينا وعلى جباهنا... لا نخاف الخطية ولا نرهب إبليس الذي يحطمه ربنا تحت أقدامنا.

 العلامة التي تتسمون بها الآن هي علامة إنكم قد صرتم قطيع المسيح ++ الأب ثيؤدور المصيصي

 كما يطبع الختم على الجند هكذا يطبع الروح القدس على المؤمنين ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ قدم السيد المسيح نفسه على الصليب محرقة حب وتمجّد وهبنا إمكانية سكب هذا الزيت علينا كعطية مجانية يقدمها لكنيسته من عند الآب، إذ قال لتلاميذه "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد ليّ" (يو 15: 26). هذا الزيت الجديد الذي وهبه السيد المسيح لعروسه من عند الآب بعد صعوده هو السند لها في غربتها على الأرض، به تُغفر الخطايا في استحقاقات الدم، وبه يتقوى المؤمنون في جهادهم الروحي ضد الخطية...

وكما يقول القديس أمبرسيوس: للكنيسة زيت به تضمد جراحات أبنائها لئلا تتعمق أكثر. للكنيسة الزيت الذي تتقبله سرًا! بهذا الزيت غسل أشير قدميه، إذ قيل: "مبارك من البنين أشير، ليكون مقبولًا من إخوته، ويغمس في الزيت رجله" (تث 33: 24). به تدهن الكنيسة عنق أبنائها فيحملون نير المسيح، وبه تدهن الشهداء لتنقيهم من تراب هذا العالم. به تدهن المعترفين أيضًا فلا ينهاروا من الآلام ولا يسقطوا تحت القلق ولا تؤذيهم حرارة هذا العالم.

إنها تدهنهم بالزيت السماوي! أما المجمع اليهودي فليس له هذا الزيت، إذ ليس له زيتون، ولا يفهم الحمامة التي رجعت بعد الطوفان تحمل غصن الزيتون (تك 8: 11)، إذ نزلت هذه الحمامة بعد ذلك عندما اعتمد المسيح واستقرّت عليه، كما شهد بذلك يوحنا في الإنجيل، قائلًا: "إنيّ قد رأيت الروح نازلًا مثل حمامة من السماء فاستقرت عليه" (يو 1: 32). كيف يرى الحمامة من لا يرى ذاك الذي نزلت عليه الحمامة؟!

بهذا الزيت الذي أعطى للكنيسة يلين قلب المؤمن ليحمل لطفًا ومحبة وعوض القساوة، بهذا اللطف تقبل تقدماته وعطاياه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن الإنسان الذي لا يسلك بالروح القدس: كما أن الحجر لا يخرج زيتًا، هكذا لا تنتج القساوة لطفًا، فإن كان للعطاء جذر قساوة كهذه فلا يُحسب عطاءً.

 مرة أخرى يتحدث عن فاعلية هذا الزيت الذي بدونه تفقد مصابيحنا الداخلية قيمتها وبهاءها، فيقول:لنسكب في هذه المصابيح زيتًا حتى يصير اللهيب أكثر بهاءً ويظهر نورًا عظيمًا. فإن هذا الزيت لا يحمل قوة عظيمة هنا فحسب وإنما حتى عندما ترتفع به الذبائح تصير مقبولة، إذ قيل: "أريد رحمة لا ذبيحة" (مت 12: 7، هو 6: 6).

 إن كان الروح القدس هو الزيت الروحي الذي به تلين قلوبنا عن قسوتها وتمتلئ حبًا، وبه تلتهب مصابيحنا الداخلية بالنور الإلهي فتصير تقدماتنا وذبائحنا مقبولة لدى الله، فإن الخطاة أيضًا لهم زيتهم الذي يسكبونه لخداع البسطاء، يحمل روح إبليس المخادع المتملق، لذا يقول المرتل: "زيت الخاطئ لا يدهن رأسي" (مز 141).

ويعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة بقوله: لا تنمو رأسي بالتملق، فإن المديح في غير محله هو تملق، إنه زيت الخاطئ...! ليكن لكم زيت في داخلكم فلا تطلبون زيت الخاطئ.

 بمعنى آخر لتمتلئ مصابيحنا بزيت الروح القدس الذي نلناه في مسحة الميرون فلا نشتهي زيت الشر المخادع!

 رابعًا: عند التقدمة يقدم الكاهن كل اللبان ، فإن كان يتقبل مع إخوته الكهنة الدقيق والزيت المتبقيان لكنه يلتزم بتقديم كل اللبان. فإن كان ترك الدقيق والزيت يُشير إلى تمتعنا بجسد الرب خبز الحياة ومسحة الروح القدس، فاللبان هو يشير إلى الصلاة (مز 141: 2) والعبادة، فلا يجوز لنا أن نبقي لأنفسنا شيئًا، إذ نقدم كل عبادة لله وحده خلال المذبح!

خامسًا: بقوله "قدس أقداس من وقائد الرب" ، يعني أنها كاملة القداسة، لا يأكلها سوى الكهنة وحدهم فهي من نصيبهم دون نساءهم، يأكلونها في دار خيمة الاجتماع وهم مقدسون... لا يمسها أحد أو شيء غير مقدس!

إن كانت التقدمة تُشير إلى جسد ربنا يسوع المسيح، خبز الحياة، فلا يجوز أن يتناوله إلاَّ من نال الكهنوت العام خلال المعمودية (سبق لنا الحديث عن الكهنوت العام الذي يشترك فيه كل المؤمنين والكهنوت الخاص بسرّ الكهنوت لممارسة الأسرار الكنسية). لا يأكله إلاَّ الذكور أي المجاهدين غير المدللين، يأكلونه وهم مقدسون بالرب خلال التوبة والاعتراف، يأكلونه في الخيمة المقدسة أي خلال كنيسة الله المقدسة.

حينما يقال عن الأنصبة أنها "قدس" فقط وليس "قدس أقداس"، تكون من نصيب الكهنة وعائلاتهم، ولا يشترط أن تؤكل في دار خيمة الاجتماع، وذلك كباكورات الزيت والخمر وأنصبتهم من ذبائح عيد الفصح ومن ذبائح السلامة في الأعياد وغيرها (لا 23: 20، عد 6: 20).

 2. تقدمة من المخبوز في تنور:

النوع الثاني من التقدمات هو الفطير سواء كان مخبوزًا في تنور (فرن) على شكل أقراص ملتوتة (معجونة) بالزيت، أو بكونه رقاقًا مدهونًا بالزيت... ويشترط فيهما ألاَّ يُستخدم الخمير.

في التقدمة السابقة كان الزيت يُسكب على الدقيق إشارة إلى المسحة المقدسة بالنسبة للسيد المسيح الممسوح أزليًا بروحه القدوس، أما بالنسبة لنا ففيه صار لنا حق المسحة بالميرون كأعضاء جسده المقدس نحمل روحه فينا. أما في هذه التقدمة فالزيت يعجن به الفطير أو يدهن به الرقاق. العجن بالزيت يُشير إلى عمل الروح القدس في التجسد الإلهي، إذ قيل لها: "الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تظللك" ودهنه بالزيت يُشير إلى أنه ممسوح لخلاصنا... أما دخوله التنور فيُشير إلى احتماله نار الآلام من أجلنا.

 3. تقدمة من المخبوز على الصاج:

النوع الثالث من التقدمة هو أيضًا فطير مخبوز لا في فرن وإنما على صاج أي على لوح من الحديد أو النحاس... وكانت التقدمة تفتت ويُسكب عليها زيت.

 4. تقدمة من الطاجن:

هذه التقدمة من الدقيق المطبوخ في طاجن أي في إناء فخاري ربما يُشير إلى السيد المسيح الذي تأنس في أحشاء البتول بكونها الإناء الفخاري الذي تقدس ليتحقق فيها تجسد كلمة الله (الدقيق الفاخر) بالروح القدس (الزيت).

وقد اشترط في هذه التقدمات جميعًا ألا يستخدم الخمير والعسل مادامت توقد على المذبح، وإنما يستخدم الملح، ويعلل ذلك للأسباب الآتية:

أولًا: كثيرًا ما يُشير الخمير إلى الشر الذي يؤثر على الآخرين كخمير وسط العجين، ولما كان السيد المسيح ليس فيه عيب إنما حمل شرورنا نحن وخطايانا لهذا ففي سرّ الأفخارستيا يُستخدم الخبز المختمر الذي يدخل النار إشاره إليه كحامل خطايانا خلال نار صليبه.

ثانيًا: يرمز العسل إلى الملذات الزمنية، فلا ننعم بالشركة مع الله في ابنه الذبيح مادمنا نحيا في ملذات العالم بروح التدليل.

وكما يعلق القديس جيروم على عدم تقديم العسل إذ يقول: لا يُسر الله بالأمور اللذيذة والحلوة، إنما يطلب أن يكون الإنسان جادًا يعمل بتعقل، إذ يليق أن يؤكل الفصح على أعشاب مرة (خر 12: 8) .

ثالثًا: يستخدم الملح في حفظ الطعام من الفساد، وكأن الله إذ يرفض الخمير والعسل بينما يطلب الملح يود ألا تتعرض تقدماتنا للفساد خلال الإختمار بالخميرة أو العسل إنما تحفظ بالملح من الفساد. هذا الحفظ يُشير إلى حفظنا العهد مع الله بلا فساد. ولعله لهذا السبب اعتاد الناس في الشرق عند إقامتهم العهد أن يأكلوا ملحًا مع الطعام إشارة إلى حفظ عهد المحبة ثابتًا. وقد شُبه المؤمنون بالملح أيضًا .

يتحدث القديس جيروم عن استخدام الملح في الذبائح فيقول: الملح جيد لذا يجب أن تُرش كل تقدمة به، كما يقول الرسول الوصية: "ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحًا بملح" (كو 4: 6)، ولكن "إن فسد الملح يطرح خارجًا" (مت 5: 13)، فيفقد قيمته تمامًا ولا يصلح حتى لمزبلة، بينما يجلب المؤمنون سمادًا يغني تربة نفوسهم القاحلة.

 5. تقدمة الباكورات من الفريك:

"وإن قربت تقدمة باكورات للرب ففريكًا مشويًا بالنار، جريشًا سويقًا (ناعمًا) تقرب تقدمة باكوراتك، وتجعل عليها لبانًا. إنها تقدمة!".

يربط العلامة أوريجانوس بين هذه التقدمة ويوم الخمسين أي عيد العنصرة، إذ كانت الباكورات تقدم حسب الناموس في عيد الحصاد أو يوم الخمسين (خر 23: 16، تث 16: 9)، إذ يقول: نال اليهود الظل في ذلك اليوم (عب 10: 1) أما الحق فحفظ لنا. لأنه في يوم الخمسين بعد تقدمة الصلوات نالت كنيسة الرسل الباكورات من الروح القدس بحلوله عليها (أع 2: 4).

كانت بالحقيقة تقدمات جديدة، إذ كان كل شيء جديدًا... كان الرسل ملتهبين بالنار، لأن ألسنة من نار كانت منقسمة على كل واحد منهم (أع 2: 3) منقسمة في الوسط لتفصل الحرف عن الروح. لقد قيل هنا "مشويًا بالنار" أي نقيًا للغاية، لأن حضور الروح القدس ينقي من الأدناس بمنح غفران الخطايا. على هذه الذبيحة يسكب زيت المغفرة ويوضع عليها اللبان ذو الرائحة الجميلة لنصير به "رائحة المسيح الذكية" (2 كو 2: 15) .

في ختام حديثنا عن تقدمة القربان ككل نود أن نؤكد أن نصيبًا منها دائمًا كان يقدم على المذبح ليحرق فيختلط بدم الذبائح المقدمة بلا انقطاع، فلا تحرم التقدمة من فاعلية الدم المقدس لغفران الخطايا.

تامل من ملاخي 4 ++ إشراق شمس البرّ ++ القمص تادرس يعقوب


من تاملات ملاخي 4  ++ إشراق شمس البرّ ++ القمص تادرس يعقوب


1- يوم ناري:

تحدث في الأصحاح السابق عن روح التمييز الذي به ندرك أن الله أبونا، فهو يشفق علينا كأبناءٍ له، أرسل كلمته متجسدًا ليضمنا إليه برجوعنا بعمل نعمته. لكن يليق أيضًا أن ندرك أنه القدوس الذي لا يُهادن الخطية، بل يحرقها كما في التنور (فرن). جاء ليبسط يديه بالحب لكل البشرية، فإن صمم إنسان على كبرياء قلبه وفعل الشر يلقي بنفسه تحت الدينونة الأبدية فيهلك.

فَهُوَذَا يَأْتِي الْيَوْمُ الْمُتَّقِدُ كَالتَّنُّورِ وَكُلُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَكُلُّ فَاعِلِي الشَّرِّ يَكُونُونَ قَشًّا، وَيُحْرِقُهُمُ الْيَوْمُ الآتِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، فَلاَ يُبْقِي لَهُمْ أَصْلًا وَلاَ فَرْعًا.

 يتنبأ ملاخي النبي عن يوم مجيء الكلمة المتجسد ليحقق الخلاص، فإنه وإن كان يبسط ذراعيه لكل البشرية، إلا أنه جاء ليلقي نارًا. فمن يؤمن به يتمتع بالحياة الأبدية، أما الذي يتشامخ عليه ويرفضه فيحترق كالقش وسط النار. هذا ما تنبأ عنه المرتل عن المسيا: "تجعلهم مثل تنور نارٍ في زمان حضورك؛ الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار" (مز 21: 9).

الله الذي يعرف القلوب هو وحده يقدر أن يفرز القش عن الذهب، المتكبرين عن المتواضعين. الأولون يُحسبون فاعلي شر يحترقون بالنار، فلا يبقي لهم أصلًا ولا فرعًا، والأخيرون يزدادون بهاءً ونقاءً.

لقد سبق فطوّب البعض المستكبرين لأنهم سعداء في هذا العالم (3: 15)، الآن تظهر حقيقتهم أنهم قش يحترق في التنور، فيصير رمادًا.

لعله يقصد بالمتكبرين هنا من هم على شاكلة جماعة الفريسيين الذين كانوا متشامخين بمعرفتهم وبرِّهم الحرفي، فقاوموا السيد المسيح، وفي مقاومتهم صاروا كالقش الذي لا يحتمل مواجهة لهيب النار. أما فاعلو الشر فيقصد بهم بقية اليهود الرافضين للمخلص.

لم يُبقِ الرب لهم أصلًا ولا فرعًا حيث سمح لتيطس فيما بعد بهدم أورشليم وإبادة الهيكل تمامًا. هذا يتحقق في صورة كاملة يوم مجيء السيد المسيح الأخير لدينونة الأشرار ومكافأة المؤمنين الحقيقيين، خائفي الرب ومتقيه.

ولكن متى يأتي يوم الانتقام الإلهي للدم البريء، هذا يعلنه الروح القدس بملاخي النبي: "هوذا يأتي يوم الرب، المتقد كالتنور..." (مل 4: 1) ++ القديس كبريانوس

ستكون الأرض كلها كرصاصٍ ينصهر في النار، عندئذ تُكشف أعمال الناس الخفية والعلنية ++ إكليمنضس الروماني

 المجيئان له: واحد بالحقيقة فيه صار إنسانًا يخضع للجلدات... والثاني فيه سيأتي على السحاب (دا 7: 13)، حيث يأتي باليوم الذي فيه يحرق كنارٍ (مل 4: 1)، ويضرب الأرض بسيف فمه (إش 11: 4)، ويقتل الأشرار بنسمة شفتيه، ومعه نفخة في يديه، وينقي بيدره، ويجمع الحنطة في جرنه بالحق، ويحرق القش بنارٍ لا تُطفأ (مت 3: 12، لو 4: 17) +++ القديس إيرينيؤس

ينبئ الرب أن المخالفين سيحترقون ويهلكون، إذ هم غرباء عن الجنس الإلهي، مُدنِسون للمقدسات، هؤلاء الذين لم يُولدوا من جديد روحيًا ويصيروا أولاد الله. فإن هؤلاء وحدهم يمكنهم أن يهربوا: الذين ولدوا من جديد، وسيموا بعلامة المسيح. يقول الله في موضع آخر عند إرساله ملائكته لهلاك العالم وموت الجنس البشري، مهددًا بأكثر رعبٍ في الزمن الأخير: "اعبروا في المدينة وراءه واضربوا، لا تشفق أعينكم ولا تعفوا، الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء، اقتلوا للهلاك، ولا تقربوا من إنسانٍ عليه السمة" (حز 9: 5). علاوة على هذا: ما هي هذه السمة، وفي أي جزء من الجسم موضعها...؟ هذا أوضحه الله في موضع آخر، قائلًا: "أعبر في وسط المدينة في وسط أورشليم، وَسيم سمة على جباه الرجال الذين يئنون ويتنهدون على كل الرجسات المصنوعة في وسطها" (حز 9: 4). أما كون العلامة تخص آلام المسيح ودمه، وأن كل من توجد فيه هذه العلامة يُحفظ في أمانٍ ولا يصيبه ضرر، فتؤكده أيضًا شهادة الله: "ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر" (خر 12: 13). ما قد سبق حدوثه قبلًا في رمزٍ بذبح الحمل تحقق في المسيح، الحق الذي جاء بعد ذلك، وكما أنه عندما ضُربت مصر لم يكن ممكنًا لليهود أن يهربوا إلا بدم الحمل وعلامته، هكذا عندما يبدأ العالم في الدمار ويُضرب، من يوجد فيه دم المسيح وعلامته هو وحده يهرب (حز 9: 4، رؤ 7: 3، 9: 4) ++ القديس كبريانوس

 2- إشراق شمس البرّ:

لئلا يسقط أحد في اليأس بسبب خطاياه يعلن الرب عن مجيئه كشمس البرّ، يشرق على النفوس فيبدد ظلمتها، لكن ليس قسرًا بغير إرادتها. إنه الطبيب السماوي الإلهي الذي ينزل إلى مرضاه، فيشفيهم أن قبلوا عمله فيهم.

وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ، وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا. فَتَخْرُجُونَ وَتَنْشَأُونَ كَعُجُولِ الصِّيرَةِ.

 كما جاء السيد المسيح ليلقي نارًا تنقي المؤمنين به، وتحرق الجاحدين، المصرين على جحودهم حتى النفس الأخير، فإنه يكون نورًا لكل إنسان يقبله، ويُحسب خائف الرب ومتقيه. أشرق على العالم في مجيئه الأول كما بجناحين ليشفي كل نفسٍ مريضةٍ، ويشرق بنور بهائه في مجيئه الثاني ليهب خائفيه شركة أمجادٍ أبدية. هذا اليوم يكون يوم ظلامٍ وقتامٍ لرافضيه ويوم عرسٍ مبهج ونورٍ لا ينقطع لمن آمن به وتمتع بالحياة الجديدة فيه.

"تخرجون" إذ يتمتع المرضى بشمس البرّ، وينالون الشفاء يخرجون كما إلى أعمالهم. عوض الرقاد الطويل في عجز عن العمل لحساب ملكوت الله، يخرجون للشهادة ولبنيان النفوس في الرب المخلص.

"تنشأون" أو "تنمون"، إذ تعود إليهم الصحة، فيتحركون متقدمين في النعمة والمعرفة والحكمة الإلهية، لعلهم يبلغون إلى قامة ملء المسيح، إلى "إنسانٍ كاملٍ" (أف 4: 13).

يشبههم هنا "بعجول الصيرة" أو عجول المعلف، التي سرعان ما تنمو وتقوى وتصير نافعة لأصحابها. يرى البعض أن الإنسان الذي يتمتع بنور شمس البرّ ينطلق كما إلى الحقل كعجل المعلف الذي يثب في الهواء الطلق في مرحٍ، يقفز فرحًا.

يرى القديس هيبولتيس أن السيد المسيح شمس البٌر لا يترك كنيسته في أيام الشدة العظيمة، في وقت ضد المسيح، إنما يشرق عليها بنوره... هذا الذي يبسط يديه على الخشبة المقدسة، يفرد جناحيه، اليمين واليسار، ويدعو إليه كل الذين يؤمنون به، ويغطيهم كما تفعل الدجاجة بفراخها. فيقول بفم ملاخي هكذا: "ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البٌر، والشفاء في أجنحتها" (مل 4: 2).

 هوذا قد جاء الآن مخلصك ليخلصك، والمسيح شمس البٌر قد قام إليك لكي ينيرك ++ اعمال فيلبس

 يُفهم القمر رمزيًا أنه الكنيسة، لأنه ليس لها نور من ذاتها، إنما تستنير بابن الله الوحيد، الذي ذُكر عنه في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس رمزيًا أنه الشمس (مل 4: 2 الخ).

 متى يمجد قرن شعبه؟ عندما يأتي الرب، وتُشرق شمسنا، ليست الشمس التي تُرى بالعين، والتي تشرق على الصالحين والأشرار (مت 5: 45)، وإنما تلك التي قيل عنها: إليكم يا من تسمعون الله "تشرق شمس البٌر والشفاء في أجنحتها" (مل 4: 2). هذه التي يقول عنها المتكبرون والأشرار فيما بعد: "نور البٌر لم تضئ علينا، وشمس البٌر لم يشرق علينا" (الحكمة 5: 6) ++ القديس أغسطينوس

(مريم) هي الباب الشرقي الذي تحدث عنه حزقيال النبي أنه دائمًا مغلق ودائمًا مُشرق، وهو مختوم أو معلن لقدس الأقداس، خلالها دخل وخرج "شمس البِر" (مل 4: 2)، رئيس على رتبة ملكي صادق (عب 5: 10)++ القديس جيروم

 إن كان الإنسان الأعمى يعاني من عدم رؤيته الشمس المادية، فإنه يصيب الخاطئ حرمانًا من عدم تمتعه بالنور الحقيقي؟ ++ القديس باسيليوس الكبير

يهب خدامه شركة في اسمه، فكما أنه هو النور، يدعو قديسيه نورًا، إذ يقول: "أنتم نور العالم" (مت 5: 14)، ويدعو خدامه بكونه هو "شمس البٌر" (مل 4: 2) "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس" (مت 13: 43)++ ثيؤدورت أسقف قورش

 لم تُصنع سفينتنا من ألواح خشبية، بل تكوَّنت وتجمعت سريعًا بالكتاب المقدس. 

لا تقودنا النجوم التي في السماء في رحلتنا، بل يقود سفينتنا شمس البرّ في طريقها. فإننا إذ نجلس بجوار ذراع الدفة لا ننتظر نسمات الرياح بل نترقب نسمة الروح الهادئ ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

لا تضع ثقتك في الشمس دون اعتبارات، فإنها بالحق هي عين العالم، بهجة النهار، جمال السماوات، فتنة الطبيعة، روعة الخليقة. عندما تتطلع إليها تتأمل موجدها. عندما تعجب بها تمجد خالقها. إن كانت الشمس كمرافقٍ للطبيعة ومساهمة فيها هكذا مُبهجة، فكم يكون الصلاح الذي في شمس البرّ؟ إن كانت الشمس هكذا سريعة وبدورتها السريعة بالنهار والليل قادرة على اجتياز كل الأشياء، كم بالأعظم ذاك الذي يملأ كل الأشياء على الدوام وفي كل مكان؟ ++ القديس أمبروسيوس

 من الشرق جاءت الكفارة إليكم، فمن هناك جاء إنسان يدعي "الشرق"، صار وسيطًا لله والبشرية، لذلك أنتم مدعوون بهذا أن تتطلعوا دومًا إلى الشرق، حيث يشرق عليكم شمس البرّ، حيث يولد النور لأجلكم، حتى لا تسلكوا بعد في الظلمة، ولكي ما لا تمسك بكم الظلمة في اليوم الأخير. لذلك لا يحل بكم ليل ضباب الجهل، بل تُوجدون دومًا في نور المعرفة، ويكون لكم على الدوام نهار الإيمان، وتحفظون دومًا نور الحب والسلام.

 عندما يتجلى يشرق وجهه كالشمس، حتى يُعْلَنْ لأبناء النور الذين يخلعون أعمال الظلمة ويلبسون سلاح أبناء النور (يو 12: 36؛ رو 13: 12، 13)، ولم يعودوا بعد أبناء ظلمة ولا أبناء ليل، بل أبناء نهار ويسلكون بأمانة كما في النهار (رو 13: 13؛ 1 تس 5: 5). فإذ يكشف عن ذاته، يشرق عليهم ليس كالشمس العادية بل بكونه شمس البرّ.

 لم يكن ليل في بطرس حين اعترف: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ" (مت 16: 16)، عندما أعلن له الآب السماوي ذلك. ولكن كان فيه ليلٍ في لحظة إنكاره (مت 26: 79-74). وفي المثال الحاضر عندما استلم يهوذا اللقمة خرج في الحال (يو 13: 30)، لأن الذي يُدعى "الشروق" لم يكن حاضرًا معه، إذ ترك شمس البرّ خلفه عندما خرج. ويهوذا الذي امتلأ بالظلمة طارد يسوع، لكن الظلمة التي اقتناها لم تدرك النور المُطارد. لهذا أيضًا عندما قال كلمة تبرير: "أخطأت، إذ سلمت دما بريئا" (مت 27: 4) "مضى وشنق نفسه" (مت 27: 5)؛ فإن الشيطان الذي كان فيه قاده إلى الشر وخنقه، إذ لمس الشيطان نفسه في ذلك الحين. إذ لم يكن الرب قادرًا أن يقول للشيطان لصالحه ما قاله لصالح أيوب: "أما نفسه فلا تمسها" (أي 1: 12؛ 2: 6) ++ العلامة أوريجينوس

حينما تعدي الإنسان الوصية ألقى الشيطان على النفس حجابًا مظلمًا. وإذ تأتي النعمة تزيل الحجاب تمامًا، حتى إذ تصير النفس نقية وتستعيد طبيعتها الأصلية، وتُعتبر صافية بلا عيب، تنتظر دائمًا بصفاء -بعينها النقية- مجد النور الحقيقي وشمس البرّ الحقيقية ساطعة بأشعتها داخل القلب نفسه.

 ليس فقط إلى اليوم الذي جاء فيه آدم الأخير بل وحتى إلى اليوم، فإن الذين لم تشرق عليهم "شمس البرّ"، أي المسيح، والذين لم تنفتح عيون نفوسهم وتستنير بالنور الحقيقي لا يزالون تحت نفس ظلمة الخطية، وتحت نفس تأثير الشهوات، وهم تحت العقاب بعينه، إذ ليس لهم إلى الآن عيون لينظروا بها الآب ++  القديس مقاريوس الكبير

  هو شمس البٌر، معلن من السماء، مُحاط بطبيعته المنظورة، ويعود إلى ذاته ++  القديس غريغوريوس النزينزي

 إذ نعرف أن المسيح هو النور الحقيقي (يو 1: 9) لا يُقترب إليه من الباطل نتعلم من هذا ضرورة استنارة حياتنا بالنور الحقيقي. لكن الفضائل هي أشعة شمس البرّ تتدفق لاستنارتنا خلالها نطرح أعمال الظلمة (رو 13: 12) لكي نسير كما يليق بالنهار (رو 13: 13) ونجحد خفايا الخزي (2 كو 4: 2). إذ نفعل كل شيء في النور نصير النور ذاته، يشرق على الغير (مت 5: 15-16)، النور الذي له صبغته الخاصة ++ القديس غريغوريوس النيسي

 ولكن عندما دعانا ابن الله الوحيد نفسه إلى هذه البنوة، إنما دعانا للتشبه به لذلك قال: فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. ولكن ما هي هذه الشمس؟! إما أن تكون شمسًا غير منظورة للعين الجسدية، أي تلك الحكمة التي قيل عنها أنها "ضياء النور الأزلي" (حك 7: 26)، كما قيل عنها "شمس البرً تشرق عليَّ" وأيضًا: "لكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البرّ" (مل 4: 2).

وبالمثل يكون المطر غير منظور، قاصدًا به تعاليم الحق وإروائها لنفوسنا، لأن السيد المسيح جاء للصالحين والأشرار، وبُشّر به للأبرار والظالمين.

  إما أن تكون هي تلك الشمس المنظورة التي تراها جميع المخلوقات، كذلك المطر يكون هو ذلك المطر المنظور الذي عليه تنمو النباتات التي تقّوت الجسد. وهذا التفسير أظنه أكثر احتمالًا، لأن الشمس الروحية لا تشرق سوى على الصالحين والقديسين، إذ نرى في سفر الحكمة الأشرار يبكون قائلين: "لم تشرق علينا الشمس" (حك 5: 6)، كما لا يروي المطر الروحي غير الصالحين، لأنه قصد بالشرير تلك الكرمة التي قيل عنها: "وأوصي الغيم أن لا يمطر عليهِ مطرًا" (إش 5: 6).

"لا تغرب الشمس على غيظكم" (إف 4: 26)، ومع هذا فقد غابت الشمس مرارًا كثيرة. اتركوا غيظكم أيضًا، حيث نحتفل الآن بأيام الشمس العظيم، هذه الشمس التي يقول عنها الكتاب المقدس "لكم ... تشرق شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها" (مل 4: 2). ماذا يقصد ب "في أجنحتها"؟ أي في حمايته، إذ قيل في المزامير: "وبظل جناحيك استرنيّ" (مز 17: 8). وأما أولئك الذين يندمون في يوم الدينونة، ولكن بعد مضي الوقت، والذين سيحزنون ولكن بلا فائدة، فقد سبق أن تنبأ في سفر الحكمة عن ما سيقولونه عندما يندمون ويتأوهون من عذاب الروح "فماذا أنفعتنا الكبرياء، وماذا أفادنا افتخارنا بالغنى. قد مضى ذلك كالظل، لقد ضللنا عن طريق الحق، ولم يضئ لنا نور البرّ، ولم تشرق علينا الشمس" (حك 5: 6، 8، 9). تلك الشمس تشرق على الأبرار فقط، وأما هذه الشمس التي نراها يوميًا، فإن الله يشرق شمسه على الأشرار والصالحين" (مت 5: 45). يطلب الأبرار رؤية تلك الشمس وهي تقطن في قلوبنا بالإيمان. فإن كنتم تغضبون لا تدعوا هذه الشمس تغرب في قلوبكم على غيظكم "لا تغرب الشمس على غيظكم". لئلا تكونوا غاضبين، فتغرب شمس البرّ عنكم، وتمكثون في الظلام ++ القديس أغسطينوس

 هذا ينطبق على المجيء الأول لمخلصنا والمجيء الثاني- أشرق في مجيئه الأول مثل نوع من الشمس بالنسبة لنا نحن الجالسين في الظلمة والظلال، ويحررنا من الخطية، ويهبنا شركة في البرّ، ويغطينا بهبات روحية كأجنحةٍ، ويهبنا شفاء لنفوسنا. وفي مجيئه الثاني فإنه بالنسبة للذين تعبوا في الحياة الحاضرة يظهر لهم إما كما يتفق مع إرادتهم أو ضدها؛ وكديانٍ عادلٍ يقضي بالعدل ويهب الخيرات الموعود بها. كما أن الشمس المادية في إشراق تيقظ من قبض عليهم النوم ليقوموا للعمل، هكذا في مجيئه يقيم الذين في قبضة النوم الطويل للموت. ++ ثيؤدورت أسقف قورش

 حيث أن الله هو نور روحي (1 يو 1: 5)، ويُدعى المسيح في الأسفار المقدسة شمس البٌر (مل 4: 2)، وانبلاج الصباح (الفجر)، فإن الشروق هو الاتجاه الذي يلزم تعيينه لعبادته +++ الأب يوحنا الدمشقي

 3- شمس البرّ واهب الغلبة:

وَتَدُوسُونَ الأَشْرَارَ،لأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رَمَادًا تَحْتَ بُطُونِ أَقْدَامِكُمْ، يَوْمَ أَفْعَلُ هَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.

سرّ فرحهم ومرحهم هو تمتعهم بالنصرة على عدو الخير وملائكته الأشرار، الذين يصيرون رمادًا تحت أقدامهم. ينضمون إلى موكب النصرة تحت قيادة المسيح الرأس القائل: "ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33). إنهم يحققون الوعد "تقدموا وضعوا أرجلكم على أعناق هؤلاء الملوك" (يش 10: 4).

 إننا نثق في ذاك الذي قال: "افرحوا، أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33)، لأننا ننال النصرة على عدونا إبليس، بمعونته وحمايته.

 لماذا يقول لنا: "افرحوا" إلاَّ لأنه قد غلب لأجلنا، وحارب لأجلنا؟
فإنه أين حارب؟ لقد حارب بأن أخذ طبيعتنا له...
لقد غلب من أجلنا نحن الذين أظهر لنا قيامته...
التصق يا إنسان بالله، هذا الذي خلقك إنسانًا. التصق به جدًا، ضع ثقتك فيه.
أدعه، ليكن هو قوتك. قل له: "فيك يا رب قوتي".

عندئذ تتغنى عندما يهددك الناس، وأما ما تتغنى به يخبرك الرب نفسه: "إني أترجى الله، لا أخشى ماذا يفعل بيّ الإنسان" (مز ٥٦: ١١) ++ القديس اغسطينوس

 يسمح لنا نحن أيضًا أن نغلب، متطلعين إلى رئيس إيماننا، ونسير في ذات الطريق الذي قطعه من أجلنا... أننا لسنا مائتين بسبب صراعنا مع الموت، بل نحن خالدون بسبب نصرتنا... هل يفسد الموت أجسامنا؟ ما هذا؟ أنها لن تبقى في الفساد، بل تصير إلى حال أفضل...

إذن لنغلب العالم، لنركض نحو الخلود، لنتبع الملك، لنُعِد النصب التذكاري للغلبة، لنستخف بملذات العالم. لسنا نحتاج إلى تعب لإتمام ذلك.

لنحول نفوسنا إلى السماء، فينهزم كل العالم! عندما لا تشتهيه تغلبه؛ إن سخرت به يُقهر.

غرباء نحن ورُحَّل، فليتنا لا نحزن على أي أمورٍ محزنة خاصة به ++القديس يوحنا الذهبي الفم

 4 - رؤية جديدة للشريعة:

ظن اليهود أنهم حافظون للشريعة الموسوية بتقديمهم تقدمات وذبائح كثيرة معيبة. الآن يطالبهم أن يذكروا الشريعة على المستوى الروحي لكي يصيروا هم أنفسهم بلا عيب، فيقبل الله تقدماتهم.

اذْكُرُوا شَرِيعَةَ مُوسَى عَبْدِي الَّتِي أَمَرْتُهُ بِهَا فِي حُورِيبَ عَلَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ. الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ.

 العبارات التالية (4-6) هي خاتمة لا لسفر ملاخي وحده بل للعهد القديم كله. فقد جاءت هذه الخاتمة تهييء الشعب لانتظار مجيء السيد المسيح، بفحص الشريعة الشاهدة  للسيد المسيح، أو للناموس الذي يقودنا إليه، وكما يقول القديس بطرس: "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منيرٍ في موضع مظلمٍ إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولًا أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسيرٍ خاصٍ، لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسانٍ، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1: 19-21).

 غاية النبي أن يتعلم القرّاء أن يعطوا تفسيرًا روحيًا للشريعة، فيجدون فيها المسيح الديان، الذي يميز الصالحين عن الأشرار. فإنه ليس بدون سبب قال المسيح لليهود: "لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عنيّ" (يو 5: 46). بالحقيقة بسبب تفسيرهم الحرفي وحده للشريعة وعجزهم عن إدراك أن وعودها الوقتية ليست إلا رموزًا للمكافآت الأبدية، سقطوا في امتعاضٍ يحمل تمردًا، فقالوا: "عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره..." (مل 3: 14-15) ++ القديس أغسطينوس

 هذه الشريعة مقدسة جدًا وصالحة، حتى أن مخلصنا في وقت معين إذ شفى أبرص وشفى بعد ذلك تسعة برص قال للأول: أذهب، أرِ نفسك لرئيس الكهنة، وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم" (مت 8: 4؛ مر 1: 44). فإنه لم يبطل الناموس في أي موضع ++ الدسقولية

أول علامة للطاعة تنالونها هي قبول مجيء المسيح الرب، الذي جاء لخلاص كل الشعب. أنه يأتي بالشريعة إلى غايتها ويوضح طريقه للكمال. لذلك فإنه من الصالح لكم أن تؤمنوا به عند ظهوره وتعرفوا أنه هو ذاك الذي تنبأ عنه موسى والأنبياء أنه يتمم غاية الناموس ويعلن عن خلاص الكل عامة ++ ثيؤدور أسقف المصيصة

 5- مجيء إيليا النبي:

أرسل الرب ملاكه -القديس يوحنا المعمدان- قبل مجيئه الأول لتقديم الخلاص. جاء القديس يوحنا المعمدان بروح إيليا الناري، وسيرسل إيليا مع أخنوخ في أيام ضد المسيح ليهيء الطريق لمجيئه الأخير.

هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ

طالبهم بالرجوع إلى الناموس وفحص الشريعة حيث تتوقف إرسالية الأنبياء إلى حين مجيء من له روح إيليا وغيرته ليهييء الطريق لمجيء الرب (لو 1: 17).

انقسم مفسرو اليهود إلى فريقين في تفسيرهم لهذه العبارة، فريق ظن أن إيليا نفسه يأتي إلى العالم ليهيئ الطريق للمسيا. وآخرون حسبوا أن إنسانًا يأتي بروح إيليا.

 هل جاء إيليا النبي ثانية؟

 عندما سُئل القديس يوحنا المعمدان إن كان هو إيليا أجاب بالنفي (يو 1: 22)، بينما قال السيد المسيح: "إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضًا سوف يتألم منهم (مت 17: 12)، "حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" (مت 17: 13). ويعلل القديس أغسطينوس إنه كان يجب أن يأتي قبل المجيء الأول للسيد المسيح وأيضًا الثاني. في المجيء الأول لم يأتِ إيليا بشخصه، وإنما حمل القديس المعمدان فكره وأسلوب حياته، لذلك قال عنه السيد المسيح أنه إيليا وقد جاء (مت 11: 14)، ولكن لم يأتِ بشخصه، لذلك قال يوحنا المعمدان إنه ليس بإيليا. أما في مجيء السيد المسيح الثاني والأخير فيسبق إيليا حيث يأتي بشخصه ويشهد على ضد المسيح ويستشهد .

 حيث أن المخلص هو بدء قيامة كل الشعب، كان لائقًا أن الرب وحده يلزم أن يقوم من الأموات، الذي به أيضًا يدخل القضاء العالم كله، حتى يتكل المجاهدون المستحقون بواسطته بالوسيط الشهير، فإنه هو نفسه تمم الطريق وقُبل في السماوات، وجلس عن يمين الله الآب، وسيعلن مرة أخرى في نهاية العالم بكونه الديان. إنه موضوع لدور معين، وأن السابق له يلزم أن يظهر أولًا كما قال بملاخي والملاك: "هاأنذا أرسل إليكم إيليا التشبيتي قبل مجيء الرب العظيم، والمخوف؛ فيرد قلوب الآباء على الأبناء، والعصاة لحكمة الأبرار، لئلا آتي واضرب الأرض تمامًا" (راجع مل 4: 5-6). إذن هذه ستأتي وتعلن عن ظهور المسيح من السماء. وستحدث آيات وعجائب، حتى يخجل الناس ويعودوا إلى التوبة عن شرهم العظيم ++القديس هيبوليتس الروماني

 ما هو مصدر اعتقادكم بأن إيليا القادم سيُعمِد؟ فإنه لم يعمد الخشب الذي على المذبح في أيام آخاب، عندما احتاج إلى حميم مياه حتى يحترق عندما ظهر الرب في النار (1 مل 18: 21-38). لقد أمر الكهنة أن يفعلوا هذا، ليس مرة، بل يقول: "ثنوا فثنوا" وأيضا: "ثلثوا فثلثوا" (1 مل 18: 34). إذن كيف ذاك الذي لم يعمد في ذلك الحين بل أعطى للآخرين ذلك أن يعمد عندما يأتي عند إتمام الأمور التي يتحدث عنها ملاخي؟ ++العلامة أوريجينوس

"ورأيت ملاكًا آخر صاعدًا من الشرق، له ختم الله الحيّ". إنه يتحدث عن إيليا النبي، الذي هو النذير في أيام ضد المسيح، وذلك لإصلاح الكنائس وتثبيتها في مواجهة الاضطهاد العظيم المفرط. نقرأ أن هذه الأمور تُنبئ عنها في فاتحة العهد القديم والعهد الجديد؛ إذ يقول بملاخي: "هاأنذا أرسل إليكم إيليا التشبيثي، ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء، حسب وقت الدعوى، ليرد اليهود إلى إيمان الشعب الذي خلفه ++ فيكتورينوس أسقف بيتوفيم

 عند اقتراب نهاية الأزمنة، سيُرسل نبي عظيم ليحول البشر إلى معرفة الله، وسينال قوة لعمل عجائب. وإذ لا يسمع له الناس سيغلق السماء، ويجعلها تمنع مطرها، وسيحول ماءهم إلى دمٍ، ويعذبهم بالعطش والجوع. وإذا سعى أحد لأذيته تخرج نار من فمه وتحرقه ++ لاكتانتيوس

 إنه لأمرٍ محتمٍ أن البشيرين (السابقين) لمجيئه يجب أن يظهرا أولًا كما قيل بواسطة ملاخي والملاك (بشارة زكريا الكاهن بميلاد يوحنا السابق)... إنهما (إيليا وأخنوخ) سيأتيان ويعلنان عن ظهور المسيح أنه سيكون من السماء، وسيعملان آيات ويردان الذين غُلبوا بالشر وعدم التقوى إلى التوبة +++ القديس هيبوليتس

 فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ.
يرى الأب فيكتورينوس في هذه العبارة إشارة إلى أن عددًا كبيرًا من اليهود سيقبلون الإيمان بالسيد المسيح خلال شهادة إيليا النبي في الأزمنة الأخيرة عند مجيء ضد المسيح

مختارت من اقوال الاباء +++ بخصوص الروح القدس الذي حلّ على شكل ألسنة ناريَّة




مختارت من اقوال الاباء +++ بخصوص الروح القدس الذي حلّ على شكل ألسنة ناريَّة

كانت (الألسنة) من النار، وذلك ربَّما لقوَّته المطهِّرة (لأن كتابنا المقدَّس يعرف النار المطهِّرة، يجدها أيّ شخص يطلبها)،
أو ربَّما لأجل جوهره. لأن الله نار آكلة، نار تحرق ما هو شرِّير +++ القدِّيس غريغوريوس النزينزي

يليق بخادم الرب أن يكون مجتهدًا وحذرًا. نعم وأكثر من هذا يكون ملتهبًا كاللهيب، حتى أنه بروح غيورة يُدمِّر كل خطيَّة جسدانيَّة، فيستطيع الاقتراب من الله، الذي بحسب تعبير القدِّيسين يُدعى "نارًا آكله" ++ البابا اثناسيوس الرسولي

إن كان الله نارًا، فهو نار لكي ينتزع برد الشيطان +++ القديس جيروم

يظهر إشعياء النبي أن الروح القدس ليس فقط نورًا بل أيضًا هو نار، قائلاُ: "وتصير نور إسرائيل نارًا" (إش 10: 17). هكذا يدعوه الأنبياء نارًا حارقة، لأنه في تلك النقط الثلاث التي تعرضنا لهم بتوسُّع نرى عظمة اللاهوت؛ والتقديس الذي للاهوت، والإنارة كسمة للنور والنار، لهذا فإن اللاهوت يُشار إليه عادة ويُرى في شكل نارٍ، وكما يقول موسى: "الله نار آكلة". ++ القديس القديس أمبروسيوس

موسى نفسه رأى النار في العلِّيقة، وسمع الله عندما جاء الصوت من لهيب النار يقول له: "أنا إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب" (خر 3: 6). خرج الصوت من النار، وكان الصوت في العليقة، والنار لم تؤذها. فالعلِّيقة كانت ملتهبة لكنَّها لم تُستهلك، إذ كان سرّ الرب مُعلنًا، أنَّه يأتي ليُنير أشواك جسدنا، وليس أن يهلك من كانوا في بؤسٍ، بل يزيل بؤسهم. أنَّه ذاك الذي يعمِّد بالروح القدس ونارٍ، فيُعطي نعمة ويحطِّم الخطيَّة (مت 3: 11). هكذا في رمز النار يحفظ الله قصده ++ القديس القديس أمبروسيوس

أنت أيها الرب نار آكلة تحرق اهتماماتهم التي بلا حياة وتجدِّدهم أبديًا ++ القديس اغسطينوس

من تاملات نشيد الانشاد ++ البابا شنودة الثالث ++ شبَّهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون، مرهبة كجيش بألوية (نش 6: 10؛ 1: 9)



من كتاب تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنودة الثالث
شبَّهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون، مرهبة كجيش بألوية
(نش 6: 10؛ 1: 9)

شبهتك يا حبيبتى بفرس في مركبات فرعون مرهبة كجيش بألوية (نش6: 10) (نش1: 9)

يشرح سفر النشيد قوة الكنيسة وقوة النفس المؤمنة، في عديد من الآيات، منها الجبابرة الذين حول تخت سليمان (3: 8). وفي تشبيهها بفرس في مركبات فرعون (1: 9) وفي قوله عنها إنها مرهبة كجيش بألوية" (6: 10).

وكل هذه العبارات لا تدل أن الكلام موجه من شاب إلى عروسه! فمن من العرائس تقبل وتوصف بهذه الأوصاف وما يشابهها؟! إنما هى موجهة من الرب إلى كنيسته، وإلى النفس البشرية التي يريدها أن تكون دائمًا قوية في إرادتها.

فعبارة "جيش بألوية"، تعنى جيشًا مكونًا من عدة لواءات. وكل لواء يشمل جملة من آلايات. وكل آلاى يتكون من عدة كتائب. وكل كتيبة تشمل اكثر من سرية، والسرية، أكثر من فضيلة.. وهكذا يكون الجيش بألويته جيشًا منظمًا مرهبًا قويًا. وبخاصة لو كان جبابرة متعلمين الحرب. كل رجل سيفه علي فخده من هول الليل (نش3: 8).

وهكذا تكون الكنيسة والنفس في قوتها ومحاربتها لعدو الخير.

قد يفهم البعض الوداعة والاتضاع فهمًا خاطئًا يقود إلى الضعف! أما المؤمن الحقيقي فهو إنسان قوى، يحارب ضد الخطية وينتصر.

إن المؤمنين يكونون جيش الله الذي يقف ضد مملكة الشيطان وكل جنوده. لذلك فعندما أمر الرب بإحصاء الشعب في سفر العدد، طلب منهم ان يحصروا "كل ذكر ابن عشرين سنة فصاعدًا، كل خارج للحرب" (عد1: 2، 3). وتكرر هذا الوصف بالنسبة الى المنتخبين من كل سبط. وهكذا كان المختارون المعدودون هم فقط جماعة الاقوياء القادرين على القتال، من كل خارج للحرب (عد1).

لذلك لم يسمح السيد المسيح لتلاميذه أن يبدأوا عملهم الكرازى، إلا بعد أن يلبسوا قوة من الأعالى (لو24: 49). وبعد ذلك يخدمون.

وهكذا قال لهم "ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لي شهودًا.. " (أع1: 8). وبهذه القوة التي أخذوها من الروح القدس، رأينا سفر أعمال الرسل سفرًا للقوة، يشرح كيف أن ملكوت الله كان قد أتى بقوة (مر9: 1). "وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت علي جميعهم" (أع4: 33). "وكانت كلمة الرب تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا في أورشليم.." (أع6: 7).

ونسمع أن ثلاثة مجامع تحاورت مع أسطفانوس الشماس "ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أع 6: 10).

إنها صورة للكنيسة المرهبة كجيش بألوية.

صورة اولاد الله الغالبين المنتصرين، أو علي الأقل المقاتلين.

أو علي أقل الأقل: هم المستعدون للحرب الروحية. هم الجبابرة الخارجون للحرب، الذين لا يخافون إبليس ولا جنوده، بل أن كل واحد منهم سيفه علي فخذه، من هول الليل (نش3: 8). هؤلاء الذين يقودهم الرب في موكب نصرته (2كو2: 14).. هؤلاء هم الساهرون المستعدون: أحقاؤهم ممنطقة، ومصابيحهم موقدة وينتظرون الرب (لو12: 35).

كل أسلحتهم روحية (أف6: 11). والله هو الذي يعلمهم القتال.

وفي ذلك يقول داود النبي "مبارك الرب.. الذي يعلم يدي القتال وأصابعي الحرب" (مز144: 1). وهكذا لا تكون أسلحته بشرية، بل إلهية. هؤلاء هم القديسون الغالبون بأستمرار، الذين ينشد لهم الرب أغنيته المحبوبة" من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة (رؤ2: 7) "من يغلب، فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا، وان أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته" (رؤ3: 5) "من يغلب، فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه" (رؤ3: 21)

فترة وجودنا في العالم هي فترة حرب وجهاد. كل من يغلب، سينال المواعيد. والذين غلبوا نسميهم الكنيسة المنتصرة.

نحن نحارب. وعدونا المقاتل لنا – أي إبليس – مثل أسد يزأر، يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1بط5: 8). لذلك يشجعنا القديس بطرس الرسول قائلًا " فقاوموه راسخين في الإيمان" (1بط5: 9). كما يقول القديس يعقوب الرسول أيضًا " قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يع4: 7) . لاشك أنه يهرب بسبب القوة التي أخذناها من الله، والتي نستطيع بها أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو10: 19).

حقًا إن الحرب للرب (1صم17: 47). والرب يحارب معنا وبنا.

والفرس - مثل السيف – قوة تستخدم في الحرب.

وقد قال سليمان الملك في أمثاله "الفرس معد ليوم الحرب. أما النصرة فمن الرب" (أم21: 31). وليس كل فرس، بل الفرس المدرب المعد ليوم الحرب. وكانت لسليمان "مدن للفرسان" (1مل9: 19). ولعل أقوي الأفراس كانت تلك التي أهداها له فرعون حينما تزوج ابنته، تلك التي كانت تقود مركبات فرعون.

كل فرس منها كان قويًا، ومدربًا علي القتال، وطيعًا في يد الفارس، ويخوض والحرب لا خوف وسط سيوف العدو، وينتصر..

وهكذا تشبهت الكنيسة في سفر النشيد بفرس في مركبات فرعون.. ليس فرسًا عاديًا، بل الفرس المحارب المعد ليوم الحرب، الذي يقوده الرب في يوم نصرته. إنه لا يتحرك في ساحة الحرب من ذاته، بل الله الذي يوجهه، ويكون الفرس مطواعًا في يديه.


إن الكنيسة تشبه الفرس، وأعنتها في يد الله.

والمؤمن يحارب حروب الرب، والله هو الذي يقوده.

إنه لا يحارب وحده، بل الله يحارب به، ويمنحه القوة.

وهكذا قال الرب لأرميا النبي "هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة، وعمود حديد، وأسوار نحاس علي كل الأرض.. فيحاربونك، ولا يقدرون عليك. لأني انا معك – يقول الرب لأنقذك" (أر 1: 18).

إن المؤمنين أشخاص مسلحون بسلاح الله الكامل. لهم قوة من الله ونصرة "أخضع كل شيء تحت أقدامهم" (مز8). منذ أن خلق الله الإنسان، منحه سلطانًا. نجد هذه القوة في أنشودة داود الحلوة:

"إن يحاربني جيش، فلن يخاف قلبي"

" وإن قام عليا قتال، ففي هذا أنا مطمئن" (مز27: 3)

أنا مطمئن: الحصاة والمقلاع في يدي، وجليات تحت قدمي" الله أعطاني سلطان عليه.. "هؤلاء بمركبات، وهؤلاء بخيل، ونحن بإسم الرب ننمو. هم عثروا وسقطوا، ونحن قمنا واستقمنا" (مز20: 7، 8).


نحن مثل "جيش ألوية". كل فرد منا كأنه "فرس في مركبات فرعون"

إن النفس القوية، المرهبة كجيش بألوية، يفتخر بها الرب. وهكذا قال الرب للشيطان "هل جعلت قلبك علي عبدك أيوب؟ فإنه ليس مثله: رجل كامل ومستقيم" (أع1: 8) أتستطيع أن تقوي عليه؟!.. فحاربه الشيطان بأنواع حروب عنيفة جدًا. ولكنه وجده طاهرًا كالشمس، مرهبًا كجيش بألوية، قويًا كفرس في مركبات فرعون.

أين هذا من النفوس الضعيفة، التي تقول يئست تعبت تعقدت!!

تلك النفوس التي لأتفه الأسباب ترتبك وتضطرب وتحتار.. ! ليست هذه صفات الجبابرة المتعلمين الحرب، ولا هذا كلام الأقوياء الذين يلبسون سلاح الله الكامل ويصارعون أجناد الشر الروحية (أف6).


إن القديسين كانت تخافهم الشياطين، وترتعب أمامهم وتصرخ!

نذكر أنه عندما ذهب القديس آبا مقار الكبير إلى جزيرة فيلا، أن الشياطين فزعت منه وصرخت قائلة "ويلاه منك يا مقاره، أما يكفيك أننا تركنا لك البرية، حتى جئت إلى هنا لتزعجنا؟!

نذكر أيضًا قصة ذلك القديس الذي جاءت الشياطين لتحاربه، فربطهم خارج القلاية، فظلوا يصرخون: لا يستطيعون دخول قلايته، ولا أن يتحركوا من مواضعهم. فقال لهم أمضوا واخزوا، وصرفهم.

إن الله ينظر إلى هذه النفس التي ربطت الشياطين ثم صرفتهم، ويقول لها " شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون"..


أيضًا النفس القوية تكون قوية في كل شيء..

ليست في حياتها الروحية فقط، بل في خدمتها أيضًا:

كل كلمة تخرج من الفم، تكون قوية وفعالة (عب4: 12)، فيها قوة الروح" لا ترجع فارغة، بل تعمل ما يسر الرب به" (أش55: 11). وهكذا يتشبه المتكلم بالسيد المسيح، الذي كان يتكلم كمن له سلطان (مت7: 29).

القديس بولس الرسول كان أسيرًا. وكان يتحدث عن الإيمان بالمسيح. أمام فيلكس الوالي. "وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، ارتعب فيلكس الوالي" (أع24: 25).

هنا أمير يرتعب أمام أسيره، بسبب قوة هذا الأسير وتأثيره.

ومن الناحية الاخري، هناك إنسان تشعر أنه قوي، يقدر أن يحملك ويحمل متاعبك وضعفاتك ومشاكلك. وإنسان آخر تجده يتعثر في الطريق، ويحتاج أن تحمله طول الطريق علي كتفيك.


خذوا قوة من الروح القدس، قوة في الصلاة، قوة في الخدمة قوة في السلوك. قوة في التواضع الذي يغلب الشياطين، وتصبح به النفس مرهبة كجيش بألوية.

ليست القوة قوة عالمية كما في جليات، قوة سلاح وجسم. إنما هي قوة في الروح. هي قوة الله العاملة في الإنسان، كما تغني بها داود النبي فقال: "أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد، والتهبوا كنارٍ في شوك، وبأسم الرب انتقمت منهم.. يمين الرب صنعت قوة، يمين الرب رفعتني. فلن أموت بعد بل أحيا" (مز118). هذه أغنية فرس في مركبات فرعون. تغني داود أيضًا فقال "قوتي هي الرب".



إن كانت قوتك هي الرب، فحلول روحك فيه يعني حلول القوة.

كان الشهداء يقدمون لألوان من التعذيب، ويتعرضون للتهديد وللإغراء، ولم يفقدوا قوتهم قط. بل كانوا أقوياء في تحملهم.

فأطلب من الرب قوة: القوة التي تقيم المسكين من التراب، والبائس من المزبلة ليجلس مع رؤساء شعبه (مز113: 7، 8).. قل له ارفعني من التراب، والبسني سلاحك الكامل، واعطني قوة..

أنا لا شيء قدامك. ولكنني بك استطيع كل شيء (في4: 13)


إن اولاد الله لهم قوة، حتى في علاقتهم مع الله نفسه:

إنها قوة الدالة. الدالة التي بها يعقوب أبو الآباء جاهد مع الله وغلب. وجرؤ أن يقول لله "لا أتركك".. "لا أتركك حتى تباركني".. وفعلًا أخذ البركة، اخذ إسمًا جديدًا (تك32: 24 – 28)

نفس الصراع والدالة كانا بين موسى النبي ورب المجد نفسه بعد أن عبد الشعب العجل الذهب وقال الرب لموسى "أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم، فأصيرك شعبًا عظيمًا" وبعد حوار بينهما قال موسى للرب " والآن إن غفرت (لهذا الشعب) خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 1، 32).

وكما تشفع موسى في الشعب، تشفع أبونا إبراهيم في أهل سادوم، وعاتب الرب في قوة قائلا "أديان الأرض كلها لا يصنع عدلًا؟! حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم" (تك18: 25)

هذه أمثلة من أشخاص كانت لهم قوة في الحوار مع الله. يدخلون في محاجة مع الله، ويجادلونه في دالة.. ويكون الله فرحًا بذلك، لأنه يجد راحته فيهم.


إن المؤمنين يصيرون جيشًا بألوية، حينما يتحولون إلى صورة الله ويكونون ابناء حقيقين له. فكل ابن حقيقي لله له قوته.

عيشوا إذن في حياة النصرة الروحية. ولا يكن لكم روح الفشل ولا روح الخوف واليأس.. إنك تخاف حقًا، إذا ما ارتفع قلبك، وظننت أنك قوي بذاتك..!! حينئذ تخاف..

قل: أنا أضعف الناس.. لكن الله سيعطيني قوته.

وحينما يعطيني قوته، أصير فرسًا في مركبات فرعون.

أنا لا أملك سلاحًا. ولكنني بسلاح الله الكامل سوف أنتصر.


إن الذين عاشوا مع الرب، تركوا قوتهم، وأخذوا من قوته.

مثل موسى الذي ترك قوته كأمير، ورفض أن يدعي ابن ابنة فرعون.. (عب11: 24)

وقال "أنا لست صاحب كلام منذ أمس، ولا أول من أمس.. أنا ثقيل الفم واللسان" (خر4: 10). "وأغلف الشفتين" (خر6: 3). حينئذ أخذ قوة من الرب. وصار كليم الله. وأعطاه الرب فمًا وحكمة (لو21: 15).


كن قويًا إذن: بالمعني السليم، وليس بالمعني العلماني.

لأن هناك من يظن أنه قوي بالذكاء والحيلة والسياسة والعمل البشري. ولكن هذه ليست قوة حقيقية. إنها عملة زائفة.. ! لا تستطيع بها أن تشتري ذهبًا مُصفَّى بالنار (رؤ3: 18).

فلتكن لك قوة الإنسحاق أمام الله، وقوة الجهاد ضد الشياطين..

ليست القوة أن تبرر ذاتك، وإنما القوة في اعترافك بخطئك.

ليس القوي من يهزم عدوه. إنما القوي من يحول العدو إلى صديق.

ليست القوة أن ترد الكلمة بكلمتين، إنما القوة هي أن تحول الخد الآخر، وأن تمشي الميل الثاني (مت5: 39، 41)، وأن تحتمل كل شيء (1كو13: 7) وأن تغفر الإساءة وأن تنسي. وكما قال الرسول "يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعف الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا" (رو15: 1)

بهذا تصير كفرس في مركبات فرعون، يصل في قوة إلي هدفه، دون أن يتعثر في الطريق.