من كتاب شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، وأهم مبادئنا في الأحوال الشخصية ... واقوال الاباء +++ البابا شنودة الثالث


من كتاب شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، وأهم مبادئنا في الأحوال الشخصية ...  تشريع المسيحية بخصوص الطلاق واقوال الاباء القديسين بخصوص الزوجة الواحدة +++ البابا شنودة الثالث

 1- الشريعة التي وضعها السيد المسيح بخصوص الطلاق هي شريعة واضحة لا لبس فيها، وهو قوله في العظة على الجبل  وأما أنا فأقول لكم أن من طلق امرأته إلا لعله الزنا يجعلها تزني. ومن تزوج بمطلقه فإنه يزني" (متى 5: 32) وهذا الأمر أيدته وفسرته قوانينه الكنسية وأقوال الآباء...

2- ولكن السيد المسيح لم يكتفي بهذا. إنما أتي إليه الفريسيون مره فسألوه في موضوع الطلاق، فكان من ضمن إجابته لهم "وأقول لكم أن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى، يزني..." (متى 19: 9، لوقا 16: 18). وهذه الآية تظهر بطريقة لا تحتمل الجدل شريعة "الزوجة الواحدة". لأنه أن كان مسموح للرجل أن يتخذ زوجات عديدات، فإنه لا يعتبر زانيًا أذا تزوج بأخرى. لأنه سواء أكان تطليقه للأولي قانونيًا أو غير قانوني، قائمًا أو باطلًا، فإن الزوجة الثانية -بمبدأ تعدد الزوجات- تعتبر زوجة قانونية أخرى تحل له.

 ولا يوجد من هذه الناحية ما يقف ضد شرعية هذا الزواج.

3- ولكن متى يعتبر الزواج بعد التطليق كعلاقة زنا؟ يعتبر كذلك إن كان هناك قانون ينص على عدم الجمع بين زوجتين في وقت واحد، واعتبر مثل هذا الشخص جامعا بين زوجتين في وقت واحد بسبب بطلان الطلاق من الأولى.

وهذا هو الذي قاله السيد المسيح وعلم به إذ قال"... وتزوج بأخرى يزنى". ولذلك فإن القديس مرقس الرسول أورد لنا أكثر وضوحا من هذا، فبعد سؤال الفريسيين للسيد المسيح وإجابته لهم، يقول القديس مرقس في إنجيله " ثم في البيت سأله تلاميذه أيضا عن ذلك. فقال لهم: "من طلق امرأته وتزوج بأخرى، يزنى عليها

وإن طلقت امرأة زوجها وتزوجت بآخر تزني" (مرقس11،10:10). هذا هو الشرح الذي نطق به السيد المسيح نفسه. فإنه إذا ما اعتبر الطلاق باطلًا لسبب كونه لغير عله الزنا وتبعًا لذلك اعتبر الزواج الأول مازال قائمًا وعلاقة الزواج بمن طلاق مازالت علاقة زوجية لم تنفصل، فإنه إن تزوج غيرها يزني عليها. وكلمه "عليها" تدل علي جرم هذا الذي أتخذ زيادة علي زوجته الواحدة التي لا تحل له زوجه أخري عليها.

ومن الشق الثاني للآية التي أوردها القديس مرقس، نري أن السيد المسيح قد ساوي بين المرأة والرجل في وحده الزواج. فكما آن المرأة لا تستطيع أن تجمع بين زوجين، وان تزوج بأخر في حالة قيام الزوج الأول لبطلان الطلاق يعتبر زانية؛ كذلك الرجل الذي لا يحل له هو أيضًا سوي زوجه واحده.

أقوال آباء الكنسية وعلمائها بخصوص الزوجة الواحدة

"كانت الزوجات الكثيرات للآباء رمزا لكنائس مستقبلة من شعوب كثيرة تخضع لعريس واحد هو المسيح. أما سر الزواج بواحدة في أيامنا فيشير إلى وحدتنا جميعا في خضوعنا لله، نحن الذين سنصبح فيما بعد مدينة سمائية واحدة". +++ القديس اغسطينوس

"سر الزواج في أيامنا حدد برجل واحد لامرأة واحدة". +++ القديس اغسطينوس

"حتى حينما كان النساء يلدن بنين في القديم، كان مصرحا بتزوج نساء أخريات للحصول على ذرية أكثر. ولكن هذا الآن بالتأكيد غير شرعي. لأن الاختلاف بين الأزمنة يحدد جواز الشيء أو عدم جوازه". +++ القديس اغسطينوس

"لا يمكن أن يتزوج شخص بأكثر من زوجته الحية".  +++ القديس اغسطينوس

"لأنه لم يقل إنه صنعهما رجلا واحدا وامرأة واحدة، بل هو أيضًا أعطى وصيته أن رجلا واحد يرتبط بامرأة واحدة". +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

"ولكن سواء عن طريق الخلق أو عن طريق التشريع، أظهر أن رجلا واحد ينبغي أن يعيش مع امرأة واحدة على الدوام ولا ينفصل عنها". +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

"ولو كان هناك مسيحيان كان يمكن أن يكون هناك زوجان أو زوجتان. ولكن إن كان المسيح واحد، الرأس الواحد للكنيسة، فليكن هناك إذن جسد واحد، وليرفض الثاني".++++ القديس اغريغوريوس الناطق بالإلهيات

"إن خلق الإنسان الأول، يعلمنا أن نرفض ما هو أكثر من زيجة واحدة. إذ لم يكن هناك غير آدم واحد وحواء واحدة". +++ القديس "جيروم" ايرونيموس

"إذا مات واحد من الاثنين المتصلين، فالآخر محالل أن يتزوج فإذا تزوج الواحد من قبل موت الآخر، فهو مدان مداينة الفاسق". +++  القديس باسيليوس الكبير " قانونه العاشر"

"لا يتزوج واحد وله زوجة. وهذا المثال الواحد يكون لمن ماتت زوجته". ++ القديس باسيليوس الكبير " قانونه العاشر "

"تعدد الزواج بالنسبة لنا خطية أكثر من الزنا، فليتعرض المذنبون به للقوانين". +++ القديس باسيليوي الكبير - القانون 80 " من رسالته القانونية الثالثة "

"من بدء الخليقة أعطى الله امرأة واحدة لرجل واحد " ++ الآباء الرسل

"من صفات المسيحي... ولا يكون نهما، ولا محبًا للعالم، ولا محبًا للنساء. بل يتزوج بامرأة واحدة". +++ القديس ابوليدس " القانون 38من مجموعة قوانينة "

"ولا يتزوج مؤمن بغير مؤمنة، ولا بالثابتة في الزنا... ولا يجمع بين زوجتين أو أكثر". +++  البابا كيرلس بن لقلق " رقم 8 في الزيجات الممنوعة- من قوانينة "

"إن أصل الجنس البشرى يزودنا بفكرة عن وحدة الزواج. فقد وضع الله في البدء مثالا تحتذيه الأجيال المقبلة، إذ صنع امرأة واحدة للرجل على الرغم من أن المادة لم تكن تنقصه لصنع أخريات، ولا كانت تنقصه القدرة". +++ العلامة ترتليان

"من البدء خلق رجلا واحد وامرأة واحدة. ولم يحل الاتحاد بين الجسد والجسد". +++ الفيلسوف اثيناغوراس " ناظر الاكليريكية في القرن الثاني "

"إما أن يبقى الإنسان كما ولد. وإما أن يقنع بزواج واحد. لأن الزواج الثاني ما هو إلا زنا". + +++ الفيلسوف اثيناغوراس " ناظر الاكليريكية في القرن الثاني "

"... ولكن حاشا أن تكون مثل هذه الأعمال عند المسيحيين، لأن عندهم يقطن الاعتدال، ويمارس ضبط النفس، وتلاحظ وحدة الزواج، وتحرس العفة..." ++ القديس ثاوفيلوس الانطاكى

 والسؤال الآن هو:

هل أخطأ كل هؤلاء : الرسل، والآباء القديسون، والعلماء، والفلاسفة، في فهم المسيحية فصرَّحوا -في جهل- بشريعة الزوجة الواحدة؟!

ولسنا في حاجة إلى جواب.

من كتاب شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، وأهم مبادئنا في الأحوال الشخصية الجزء الثاني +++ البابا شنودة الثالث




من كتاب شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، وأهم مبادئنا في الأحوال الشخصية +++ البابا شنودة الثالث

بحث تعدد الزوجات في العهد القديم وإلغائه في المسيحية جزء 2

( و ) لم يكن مناسبًا أن يلغي تعدد الزوجات في شريعة موسى

1- كل هذا حدث ولم تكن الشريعة المكتوبة قد أعطيت بعد ونريد أن نعرف في أي ظروف أعطيت هذه الشريعة علي يد موسي النبي، لكي نفهم مدي مناسبتها للناس وللظروف المحيطة بهم. أعطيت الشريعة منحة لشعب مؤمن. ولكنه علي الرغم من كونه وقت ذاك الشعب الوحيد الذي يعرف الله الحقيقي ويعبده، فإنه كان شعبًا قاسيًا (متى 19: 8) عنيدًا " صلب الرقبة " بشهادة الله نفسه عنه ( خروج 32: 9، 33: 5) وبشهادة موسي النبي أيضًا (خروج 34: 9). كان شعبًا متذمرًا كثير الشهوات (خروج 15: 24؛ 16: 3) أتعب موسي النبي جدًا، علي الرغم من المعجزات التي رآها، حتى قال لهم هذا النبي العظيم، "ليس تذمركم علينا بل علي الرب" ( خروج 16: 8).

 لقد أعطيت الشريعة أيام موسي لشعب قال الله لموسي عنه " دعني أفني هذا الشعب". ولولا شفاعة موسي، لأهلك الله الشعب كله في البرية وأفناه (خروج 32). نعم أعطيت الشريعة لهذا الشعب، الذي لم أبطئ عليهم موسي مع الله -إذا كان علي الجبل يستلم الشريعة- قال هذا الشعب لهارون " قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن موسي هذا الرجل الذي أصعدنا من ارض مصر، لا نعلم ماذا أصابه "(خروج 32: 1) وهكذا لم نزل موسي من علي الجبل، وجد الشعب يعبد عجلًا من ذهب! هذا الشعب الذي قال الله عنه فيما بعد " ربيت بنين وبنات ونشأتهم وأنهم فعصوا علي. الثور يعرف قانية، والحمار معلف صاحبه. وأما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فعلي الشر أولاد مفسدين" (إشعياء 1: 2-4) لم يكن ممكنًا لمثل هذا الشعب الذي أوضحنا شيئًا من حالته، أن يحتمل مستوي عاليًا، فكان لابد أن يتدرج الله معهم.

 هذا الشعب الذي بكي بدموع مشتهيًا أن يأكل لحمًا (عدد 11: 4، 10،15)، والذي عادي فأشتهي العبودية من أجل اكلأ اللحم (خروج 16: 3)، هل كان ممكنًا أن يمنع الله عنه تعدد الزوجات؟! مثل هذا الشعب الذي ارتكب الزنا في بيت الرب نفسه، والذي بسبب زناه عبد آلهة أخرى وسجد لها في حياة موسي نفسه (عدد 25)، هل كان ممكنًا آن يمنع عن تعدد الزوجات؟!... لم يكن مناسبًا أذن أن يمنع تعدد الزوجات في شريعة موسي، علي الأقل لسببين:

 أولًا: لأن ذلك لم يكن مناسبًا لمستوي الشعب الإسرائيلي ذاته، وألا اقتيد إلي الزنا.

 ثانيًا: لأن ذلك لم يكن مناسبًا للرغبة في مقاومة الجو الوثني الطاغي المحيط بالشعب.

وإنما كان لابد من سياسة تدرج، يسمح فيها لمن يريد من الشعب باتخاذ النساء كزوجات، مع رفع فكرة ليتسامي بفكرة الزواج فيتخذها بغرض روحي، لتكوين شعب لله، بدلًا من التفكير في الزواج كمادة لإشباع شهوة جسدية.

فما الذي فعل الله في سياسة التدرج هذه؟

( ز ) سياسة التدرج التي اتبعها الله

1 - بدأ الله في شريعة موسي يغسل هذا الشعب من نجاسته ويرفع مستواه، حتى يستطيع أن يصل به في المسيحية إلي الطهارة التي أرادها له منذ البدء، والتي كانت شريعة "الزوجة الواحدة" أحد مظاهرها. فماذا شرع له حتى أقتاده إلي ذلك؟

أ‌- حرم الله علي الشعب كثيرًا من الزيجات:

حرم عليه التزوج بالأخت، وكان ذلك ممارسًا في القديم. فإبراهيم أبو الآباء أتخذ سارة زوجه له ( تكوين 20: 12). وحرم عليه الزواج لأختين وكان ذلك أيضًا ممارسًا في القديم، كما حدث مع يعقوب أبي الأسباط الاثني عشر (تكوين 29: 26، 27). وحرم عليه زيجات أخرى كثيرة، بلغت في سفر اللاويين 17 حاله (أصحاح 18). وهكذا لم يعد الزواج مطلقًا كما كان من قبل. وقد تدرج هذه المحارم وتطور حتى وصلت إلي حد اكبر فيما بعد. ومن يكسر هذه المحارم كان في الغالب يقتل.

ب‌- أمره بالابتعاد عن النساء في ظروف روحية معينه:

 فقبل أن يقترب الشعب من جبل سيناء لسماع الشريعة، أمره موسي آن يتطهر ويغسل ثيابه، ولا يقرب النساء ثلاثة أيام (خروج 19: 15). وكان محرمًا علي أي فرض من الشعب آن يتقدم ليأكل من ذبائح الله المقدسة، إلا وهو طاهر لم يقرب امرأة (لاويين 22: 6). وهكذا كانت هناك أيام عامه، يتعفف فيها الشعب كله، ويتفرغ للعبادة وهي موسم الرب وأعياده، التي تقدم فيها ذبائح عامه وكانت كثيرة (لاويين 23) تضاف إليها المناسبات الخاصة بالأفراد التي يقدمون فيها ذبائح للرب عن أمور خاصة بهم.

وهكذا عندما طلب داود النبي من أخيمالك الكاهن خبزًا، أجابه ذاك "... يوجد خبز مقدس، إذ كان الغلمان قد حفظوا أنفسهم ولاسيما من النساء". ولم يعطيه إلا بعد أن أجابه داود " أن النساء قد منعت عنا منذ أمس وما قبله" (صموئيل الأول 21: 4، 5).

 ج- كان أمر الله الشعب بالابتعاد عن النساء في ظروف خاصة بهن:

مثال ذلك "أيام طمث المرأة". أن مسها وهي "في نجاسة طمثها" يصبح هو أيضًا نجسًا إلي المساء وكذلك أن كانت ذات سيل، في الغير أيام طمثها (لاويين 15: 19، 27). أما إذا أضطجع رجل مع امرأة طامث فكلاهما يقطعًا من بين الشعب (لاويين 20: 18). كذلك كانت المرأة لا تمس في أيام نفاسها حتى تطهر (لاويين 12).

د- ولكي يمنع الله الشعب من الانغماس الشهواني في المعاشرات الجنسية اعتبر أن "كل من اضطجع مع امرأة أضطجع زرع يكون نجسًا إلي المساء" (لاويين 15: 16) فيغتسل الاثنين ويغسلًا ملابسهما هذا إذا كانا زوجيين، أما آن لم يكونا كذلك فإنهما يقتلان (لاويين 20: 10) . فكأن الله شرع لهم أن الابتعاد عن النساء طهارة، حتى الزوجات! فإن كانت هذا مع الوحدة، فكم بالأكثر في حالة تعدد الزوجات؟!

 ه - وهكذا حتى في شريعة موسي كشف الله للشعب ولو من بعيد قبسًا من جمال البتولية وسموها عن الزواج.

وكمثال لذلك قال عن الكاهن الأعظم "هذا يأخذ امرأة عذراء أما الأرملة والمطلقة والمدنسة والزانية، فمن هؤلاء لا يأخذ بل يتخذ عذراء من قومه امرأة (لاويين 21: 13، 14). وتدرج الله حتى بارك الخصيان وقال "لا يكن الخصي أني شجرة يابسة... أني أعطيهم... أسمًا أفضل من البنين والبنات" (إشعياء 56: 3، 5).

 و- أصلاح آخر قام به الله في شريعة الزواج وهو يختص بالطلاق:

وقد شرحنا قبلًا ما اتبعه الله فيه من تتدرج أنتها إلي أنه قيل في سفر ملاخي النبي "لأنه يكره الطلاق قال الرب إله إسرائيل" (2: 16). هذه أمثلة قليلة من التدرج الذي أحدثه الله في شريعة الزواج، ورفع به الشعب من الممارسات البدائية التي تشابه الوثنين إلي درجات قربتهم إلي شريعة المسيحية التي رجعت فيها الوضع الإلهي الأصلي. أما تعدد الزوجات فإن وقت إلغائه لم يكن قد حان بعد.

( ح ) السبب الروحي الثاني لتعدد الزوجات

عمليًا سمح الله بتعدد الزوجات لأن مستوى الشعب لم يكن يتفق وإلغاءه. ولكنه لكي يسمو بهم وجههم إلي اتخاذ الزواج لإنجاب البنين لسببين.

 أ- لينمو شعب الله ويقف أمام قوة الوثنيين.

وفي ذلك يقول القديس أوغسطينوس "إن الآباء في العهد القديم كان واجبًا عليهم أن ينجبوا أولادًا لأجل تلك الأم أورشليم... حتى الأنبياء الذين كانوا لا يعيشون حسب الجسد كانوا أيضًا مضطرين أن يجتمعوا بأجساد".

ب‌- لأنه بهذا النسل ستتبارك الأرض، إذ أن منه سيخرج المسيح.

 كان مجيء المسيح أو "المسيا المنتظر" هو أمل كل فرد من أفراد الشعب. حتى إن المرأة السامرية -على الرغم من أنها كانت خاطئة- قالت للسيد المسيح قبل أن يعلن لها ذاته "أنا أعلم أن المسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء" (يوحنا 25:4).

وهكذا كانت قلوب جميع أبناء إبراهيم معلقة بالمسيا ومجيئه. وكانوا يعرفون أنه المقصود بوعد الله لإبراهيم "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تكوين 18:22)، وهو نفس الوعد الذي سمعه إسحق أيضا (تكوين 4:26)، وكذلك يعقوب (تكوين 14:28).

كل رجل كان يتمنى أن يأتي المسيح من نسله وكل امرأة كانت تذوب شوقًا في أن يكون المسيا من ثمرة أحشائها. ولهذا يقول القديس أغسطينوس "فاشتعلت النساء القديسات -ليس بالشهوة وإنما بالتقوى- للإنجاب". وقال عن الآباء القديسين "كان الزواج واجبًا علي القديسين، ليس طلبًا له في ذاته وإنما لأجل شيء أخر". من أجل أي شيء؟ يريد القديس في نفس كتابة " ليوا من أجل العالم، وإنما من أجل المسيح صاروا أزواجًا ومن أجل المسيح صاروا أباء". لذلك فما أصدق القديس أوغسطينوس عندما قال في موضع آخر "كانت الرغبة في إنجاب الأولاد روحيه وليست جسدية".

ولهذا أصبحت قلة النسل عارًا. فرحيل زوجة يعقوب، لما كانت عاقرًا قالت ليعقوب "هب لي بنين وإلا فإنا أموت"! (تكوين 30: 1) . ولم فتح الله رحمها فولدت، قالت "قد نزع الله عاري" (تكوين 30: 23). وأليصابات العاقر لم ولدت أبنها يوحنا المعمدان سبحت الله قائلًا "نظر إلي لينزع عاري من بين الناس" (لوقا 1: 25) وعلي عكس ذلك كان كثرة البنين بركة. فقيل "البنون ميراث من الرب..." (مزمور 127: 3).... وكان من البركة أن يقال " امرأة مثل كرمه مخصبه في جوانب بيتك، وبنيك مثل غصون الزيتون الجدد حول مائدتك... "(مزمور128: 3)...

لذلك فعلي الرغم من أن الزواج بامرأة الخ كان محرمًا حسب الشريعة (لاويين 18: 16) ، فإنه كان يتحول إلي واجب حتمي أذا مات الأخ بدون نسل، فيضطر أخوه إلي اتخاذ أرملته زوجه ليقيم نسلًا للأخ المتوفى، فالبكر الذي تلده يحسب أبنًا للمتوفى "لئلا يمحي اسمه من إسرائيل" (تثنية 25: 5- 10).

( ط ) تطور الأمور وزوال أسباب تعدد الزوجات

إذن لم يكن تعدد الزوجات في قصد الله منذ البدء، بل انه وضع للبشرية شريعة "الزوجة الواحدة" ورأي أنه حسن. ولكن لما سقط الناس في الفساد في تعدد زوجاتهم تنازل الله إليهم ويرفعهم إليه، وتسامح في هذا المر محاولًا آن يوجه أفكارهم في اتجاه روحي. فسار هذا الأمر فتره من الزمن، ثم استجاب لهم القديسون فقط الذين قال عنهم أوغسطينوس "كان الآباء يستطيعون أن يضبطوا أنفسهم لكنهم -لأجل الإنجاب وليس لمرض الشهوة- اتخذوا لهم نساء. ولنا في السماء شركاء زاهدون.. لم يستعملوا نساءهم أطلاقًا للحبل". وقال عنهم أيضًا " لم يتقدموا في المعاشرة الجنسية أكثر من حاجة أنجاب البنين". أمام غالبيه الشعب فلم تسر في هذا الطريق الروحي، وإنما انحرف عن الطريق السليم، واستغلت سماح الله استغلالًا رديئًا.

وكما قال العلامة ترتليانوس في كتابه إلي زوجته "هناك احتياجات أسيء استعمالها". ولم يقف الناس عند هذا الحد بل تدنسوا بالزنا وخالفوا وصايا الله وعبدوا آلهة أخري وسجدوا للأصنام. لذلك أسلمهم الله للسبي، فسباهم نبوخذ نصر ملك بابل. وأورشليم ذاتها أنهدم سورها وأحرقت أبوابها والذين نجوا من السبي وبقوا فيها صاروا في شر عظيم وعار (نحميا 1: 2، 3).

 وسمح برجوع المسبيين وبناء سور أورشليم، ولكن الشعب لم يتحول عن فساده حتى قال الله لارمياء النبي أكثر من مرة "لا تصل لأجل هذا الشعب للخير. حين يصومون لا أسمع صراخهم، وحين يصعدون محرقه لا أقبلهم. بل بالسيف والجوع والوباء أنا أفنيهم" (ارمياء 14: 11، 12). وبالفعل أسلمهم الله فعلًا لليونان فحكمهم الإسكندر الأكبر وخلفائه البطالمة، ومن بعد هؤلاء أسلمهم إلي الرومان فاستعبدوهم. وجاء المسيح وهم كذلك.

هكذا لم تستمر فكرة "شعب الله الذي يصمد أمام الوثنيين" فإذا قد سلموا المسيحية وديعتهم العقائدية من نبوات ورموز وتقاليد وكتب موحي بها، انتهت فكرة الشعب المختار، وأصبح المؤمنون في العالم كله هو شعب الله، ولم يعد هناك فرق بين يوناني ويهودي كما قال بولس الرسول (كولوسي 3: 11)

 وفكرة إنجاب المسيح تطورت هي الأخرى.

إذ ما لبثوا أن عرفوا من النبوءات أنه سيأتي من سبط يهوذا، وهو واحد فقط من الأسباط الاثني عشر. ثم عرفوا أيضًا أنه سيأتي من قرية بيت لحم، من بيت داود بالذات، وهو فرع من سبط. ثم عرفوا أخيرًا أنه سيولد من عذراء. وهكذا زال هذا السبب أيضًا كما زال سابقه . وهكذا يقول القديس أوغسطينوس في كتابه De Bonon Viduitetis عن حنة النبية، التي تفرغت للعبادة وهى بعد شابة بعد ترملها المبكر، عابدة بأصوام وصلوات مدى 84 سنة لم تفارق الهيكل " كانت حنة كنبية تؤمن أن المسيح سيولد من عذراء، ولذلك لم تتزوج ثانية".

ثم ولد المسيح أخيرًا، وانتهى هذا السبب أيضًا.

بل أننا وجدنا ظاهرة أخرى قد جدت في تاريخ شعب الله، وهى البتولية. فإذا بأنبياء كثيرين عاشوا بتوليين، مثل يشوع وإيليا وأليشع ودانيال والفتية الثلاثة القديسين وكثيرين غيرهم، وأخيرا يوحنا المعمدان الذي عمد السيد المسيح.

ولم يعد عدم الإنجاب عارًا، بعد دعوة المسيحية إلى البتولية وإلى البقاء في الترمل. والشعب اليهودي نفسه، بدأ يقلل من تعدد الزوجات، إذ لم يجد داعيا إليه ، حتى إنه ندر في الفترة التي سبقت ولادة المسيح. " وقد ألغته الآن طائفة اشكنازيم אַשְׁכֲּנָזִים ولم تعد تسمح به. كما ألغته غيرها من الطوائف". وهكذا في مجيء المسيحية، كان الجو معدا من كل ناحية، ولم يعد هناك سبب واحد للإبقاء على تعدد الزوجات، الذي كان كسرا للنظام الذي وضعه الله منذ البدء.

( ي ) الزمن الآن قد تغير

عرضنا في الفصول السابقة، الظروف التي نشأ فيها تعدد الزوجات في العهد القديم قبل المسيحية، والأسباب التي كانت تدعو إليه وكيف زال بزوالها. وبقى أن نردد الآن ما سبق فقاله القديس ايرونيموس: "ما شأننا وهذا؟! نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، الذين قيل لنا: الوقت مقصر، لكي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم" (1كو29:7). وأيا كانت الحالة في العهد القديم فإننا نضع إلى جوارها قول بولس الرسول " الأشياء القديمة قد مضت، وهو ذا كل شيء صار جديدًا".

فما أعجب قول من يقول آن المسيحية توافق على تعدد الزوجات مستدلًا على ذلك بأن إبراهيم أبا الأنبياء كانت له أكثر من زوجة! إن كان المسيحي إذن يقلد إبراهيم فيتخذ لنفسه زوجات، فهل يستطيع المسيحي أن يتزوج أخته لأن إبراهيم كان متزوجا أخته؟! وهل يستطيع المسيحي أن يتخذ له سراري ومحظيات مثل إبراهيم وسليمان؟! وهل يحق للمسيحيين أن يملأوا هياكلهم ذبائح ومحرقات لأنه هكذا كان أيام موسى والأنبياء؟!

 لا شك أن الزمن غير الزمن، والشريعة القديمة اليهودية قد كملت في المسيحية، والسيد المسيح نفسه قال إنه جاء ليكمل (متى17:5).

قال القديس أغسطينوس "سمح للأزواج باتخاذ نساء عديدات، ولم يكن سبب ذلك شهوة الجسد ولكن فكرة الإنجاب... أما الآن فلم يعد إنجاب البنين واجبًا كما كان في القديم". ويقول أيضًا "حتى حينما كان النساء يلدن بنينا كان مصرحا بتزوج نساء أخريات للحصول على ذرية أكثر، ولكن هذا الآن بالتأكيد غير شرعي، لأن الاختلاف بين الأزمنة يحدد جواز الشيء أو عدم جوازه.

الآن يعمل الرجل أحسن لو أنه لم يتزوج حتى زوجة واحدة، إلا إذا كان لا يستطيع أن يضبط نفسه" (اكو1:7، 9).

من كتاب شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، وأهم مبادئنا في الأحوال الشخصية الجزء الاول +++ البابا شنودة الثالث


من كتاب شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، وأهم مبادئنا في الأحوال الشخصية الجزء الاول  +++  البابا شنودة الثالث

بحث تعدد الزوجات في العهد القديم وإلغائه في المسيحية جزء 1

( أ )  فساد الجنس البشري وتدهوره

لكي يتضح هذا الأمر جيدًا، علينا أن نعرف أولًا ظروف قيامه، حينئذ تظهر لنا حكمة الله فيه:
فساد الجنس البشرى وتدهوره:
 1-  كان آدم بتولًا في الفردوس، وكذلك كانت حواء. ويقول عنهما الكتاب المقدس "وكان كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان" (تكوين25:2). ولكنهما -بعد الخطية- فقدا حالتهما الأولى السامية الفائقة للطبيعة، وأحسا بعريهما فكساهما الله وستر عريهما. وبعد أن طردا من الفردوس، يقول الكتاب "عرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين..." (تكوين1:4).

 ولم يكتف الإنسان بالنزول من سمو البتولية إلى عفة الزواج الواحد، بل تدرج البعض إلى تعدد الزوجات (تكوين19:4)، وبدأت الشهوة الجسدية تسيطر على الرجال "فرأوا بنات الناس أنهن حسنات"، "فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا" (تكوين2:6)، ويصف الكتاب الحالة السيئة التي وصلت إليها البشرية فيقول "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم... فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته" (تكوين7،5:6). وكان الطوفان...

 ولكن حتى نسل نوح الذي أنقذ من الطوفان أخطأ أيضًا إلى الرب. وعاد الشر فكثر في الأرض. ولم يكتف الناس بالزنا، بل انحطوا أكثر من ذلك إلى الشذوذ الجنسي، كما ظهر ذلك ببشاعة في أهل سادوم التي أحرقها الله بالنار هي وعامورة (تكوين24،5:19). وظهرت بشاعة الزنا في حادث سبط بنيامين (قضاة29:20-33).

وانحدرت البشرية إلى هوة أخرى فعبدت الأصنام دون الله، حتى أن لابان خال يعقوب أب أسباط إسرائيل الاثني عشر، كان هو أيضًا يعبد الأصنام (تكوين30،19:31). وظهر التسري وانتشر (تكوين2:16و 9،3:30). وتطور الزنا بالناس، حتى عرف بينهم البغاء أيضًا (تكوين16،15:38).

ووسط هذا الجو الوثني الفاسد، كان تعدد الزوجات يعتبر عملًا شريفًا جدًا إذا قيس بالممارسات الأخرى. وهكذا كانت البشرية تتطور -في البعد عن الله- من سيء إلى أسوأ. ولم تكن الشريعة المكتوبة قد أعطيت لهم بعد. فماذا يفعل الله؟ هل يفني الإنسان مرة أخرى من على وجه الأرض، ويتوالى تكرار قصتي الطوفان ونار سدوم؟! أم هل كان هناك حل آخر تقوم به مراحم الله لأجل إنقاذ الإنسان؟.. كان هناك حل آخر. فما هو؟

( ب )  كان لا بُد من سياسة تدرُّج لإنقاذ الإنسان

 1- انتقى الله من البشرية إبراهيم أبا الآباء، لكي يجعله نواة لشعب جديد، ينشأ بتربية إلهية خاصة، ويكون كمتحف حي للديانة الإلهية وللعبادة الحقة، وسط الشعوب الوثنية التي تملأ الأرض. ونظرًا إلى حالة البشرية المنحطة لم يثقل الله بوصايا صعبة على الشعب الناشئ المحاط فكريًا وعمليًا بألوان من خطايا الوثنيين.

وحتى في هذا الشعب المختار ظهر تعدد الزوجات أيضًا. لم يأمر الله به، ولكنه تسامح فيه: إذ كانت له ظروفه الخاصة من جهة، ومن جهة أخرى فإن المستوى البشرى المعاصر لم يكن يسمح وقتذاك بالسمو الذي أراده الله للإنسان منذ البدء. لابد من سياسة تدرج يتخذها الله الرحيم الشفيق، لكي يأخذ بيد البشرية الساقطة، ويقودها خطوة خطوة إلى الوضع الإلهي الذي كان في البدء.

 وكمثال لسياسة التدرج التي عامل بها شعبه تشريع الطلاق مثلًا: في البدء لم يكن هناك طلاق، ولكنه ظهر لما فسدت البشرية. فلم يلغه الله دفعة واحدة، وإنما تدرج مع الناس. تركهم فترة طويلة في حريتهم المطلقة، يستخدمون الطلاق بدون قيد ولا شرط. ثم قيدهم في الشريعة بكتاب طلاق يُعطى للمطلقة. ويقول القديس اوغسطينوس إنه "في هذا الأمر كان يظهر التوبيخ أكثر من الموافقة على الطلاق. فمن المعروف أن إجراءات قسيمة الطلاق كانت نوعًا من التعطيل، لأنه تستغرق وقتًا يراجع فيه الزوج نفسه. ومع ذلك فقد قال السيد المسيح لليهود "من أجل قساوة قلوبكم، أذن لكم أن تطلقوا نساءكم" (متى8:19).

إذن فلم يكن السبب أن الأمر كان يتمشى مع قصد الله، وإنما هو تنازل من الله ليتمشى مع ضعف الإنسان. وقد قال ذهبي الفم: "أن الزوجة المكروهة، وإذا لم يكن يؤذن بطلاقها، كان يمكن أن يقتلها الزوج، لأنه هكذا كان جنس اليهود الذين قتلوا الأنبياء . فسمح الله بالأقل ليزيل الشر الأكبر... فيخرجوهن بدلًا من أن يذبحوهن في البيوت".

 ولكن الله صبر على ذلك زمنًا، ثم وبخ الشعب علانية على الطلاق، مُظهرًا لهم كراهيته لهذا الأمر (ملاخى16:2). وأخيرًا ألغى الطلاق في العهد الجديد، إلا لعلة الزنا، لأن هذه الخطية بالذات تكسر جوهر الزوج من أساسه، كما سيظهر ذلك عند كلامنا عن "الجسد الواحد".

تنازل الله إذن في تشريعه مع مستوى الناس، لكي يرفعهم تدريجيًا إلى المستوى الذي يريده لهم: سمح لهم بأكثر من زوجة، سمح لهم بالطلاق، سمح لهم بالتسري، سمح لهم برجم الزناة... كل ذلك لأنهم كانوا وقتذاك لا يحتملون السمو الذي أراده لهم.

وكان من غير المعقول أن يعطى الله الناس شريعة فوق مستواهم لا يستطيعون تنفيذها. ولذلك حسنًا وبخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين بقوله عنهم "يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس" (متى4:23).

 وهكذا اختار الله نقطة بدء منخفضة تتفق ومستوى الناس، مع عرضه الكمال عليهم يختاره مَنْ يشاء ومَنْ يحتمل، دون أن يكون إجباريًا. ولكنه تدرج شيئًا فشيئًا في تشريع هذا الكمال حتى تم ذلك في المسيحية. وحتى في هذه أيضًا ترك درجات عليا من الكمال اختيارية، لأنه كما قال "ليس الجميع يحتملون" (متى11:19). غير أنه احتفظ في المسيحية بسمو للحد الأدنى.

من أجل هذا قال العلامة ترتليانوس "كل واحد يعلم الآن، أنه قد سمح لآبائنا -حتى رؤساء الآباء أنفسهم- ليس فقط بالزواج وإنما بتعدد الزيجات أيضًا، بل إنهم احتفظوا كذلك بسراري. ولكن على الرغم من استعمال الطريقة الرمزية في الكتاب في الكلام عن الكنيسة والمجمع، فإننا سنشرح هذا الإشكال في بساطة بقولنا إنه "كان من الضروري في الأزمنة الماضية، أن تقوم ممارسات ينبغي إبطالها فيما بعد أو تعديلها". بقى علينا أن نشرح لماذا كان ذلك ضروريًا في تلك الأزمنة.

( ج ) فكرة "شعب الله" وبركة النسل

1- كان تعدد الزوجات يتمشى إلى حد كبير مع فكرة "شعب الله"، هذا الشعب الذي علمه الله الشريعة، وأرسل إليه الأنبياء ليحفظ فيه العقائد السليمة إلى أن يحين انتشارها في الأرض كلها، فتصبح جميع الأمم هي شعب الله.

 وكان لابد أن يكثر هذا الشعب: ليس فقط ليستطيع الصمود أمام شعوب الوثنية القوية، وإنما أيضا ليستخدمه الله في القضاء على الوثنية. كما حدث فيما بعد، عندما طرد الوثنيين من الأرض وسكنها، فصارت مقدسة، إذ أنها كانت المركز الوحيد لعبادة الله الحقيقية في العالم كله.

 من أجل هذا كانت كثرة النسل بركة توارثها الآباء وسعوا لنيلها. وهكذا نسمع أن الله قال لإبراهيم أبى الآباء"... وأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إن استطاع أحد أن يعد تراب الأرض فنسلك أيضا يعد" (تكوين 16:13). وقال له أيضا "انظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها... هكذا يكون نسلك" (تكوين5:15). وقال له ثالثة "من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وحيدك "عنى"، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر . ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تكوين 16:22-18). وأقام الله عهدًا مع إبراهيم قال له فيه " لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرًا جدًا وأجعلك أممًا، وملوك منك يخرجون. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم..." (تكوين 5:17-7).

ونفس هذه البركة منحها الله لإسحق بن إبراهيم فقال له "فأكون معك وأباركك... وأكثر نسلك كنجوم السماء وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تكوين 3:26،4). وكرر الله هذه البركة عينها ليعقوب بن إسحق (12:32،11:35).

( د ) زيجات إبراهيم ويعقوب وفكرة الرمز

 1- "أعجيب"... بعد كل هذه المواعيد بكثرة النسل كنجوم السماء ورمل البحر... أن يتخذ إبراهيم له أكثر من زوجة؟! ظانًا في نفسه أن هذا قد يتفق ومشيئة الله في مباركة نسله!

ولم يفعل إبراهيم ذلك عن شهوة جسدية، وهو رجل كان قد شاخ واجتاز الثمانين من عمره بسنوات، دون أن يتخذ لنفسه امرأة أخرى غير سارة زوجته الوحيدة العاقر! إلى أن أعطته هي أمتها هاجر سرية قائلة له "هوذا الرب قد أمسكني عن الولادة. ادخل على جاريتي لعلى أرزق منها بنين" (تكوين2:16). وكانت له ست وثمانون سنة من العمر حين ولدت له هاجرا ابنا" (تكوين16:16)

 وقد قال القديس اغسطينوس في كتابه Bono Conjugali عن أبينا إبراهيم انه عاش في حالة الزواج بعفاف. وكان في مقدوره أن يعيش عفيفا بدون زواج، ولكن ذلك لم يكن مناسبا في ذلك الزمان. فأي زمان يقصده أوغسطينوس؟ إنه ليس زمنا وثنيا فاسدا تكتنفه ظلمة الجهل فحسب، وإنما تسرى إبراهيم في عصر خافت فيه ابنتا قريبه لوط من انقرض العالم بعد حرق سادوم وعمورا، وهرب هذه العائلة الصغيرة وحيدة في الأرض، فأسكرتا أباهما، وأنجبتا منه نسلًا دون آن يعلم (تكوين 19: 31-38)... ليس عن شهوة ولا دنس، وإنما رغبة في النسل، وخوفًا من انقراض الأسرة في الأرض... ليست المسألة أذًا شهوة حسية أو عدم ضبط نفس. فإن القديس أغسطينوس في الإجابة عن هذه النقطة "وهي زواج إبراهيم بأكثر من واحدة يصيح متسائلًا في تعجب" هل لم يضبط نفسه، هذا الذي قدم أبنه ذبيحة"؟!

 أما العلامة ترتيليانوس فيضيف رأيًا أخر بقوله "كان زواج إبراهيم مثالًا ورمزًا" وهذه الفكرة شرحها أيضًا القديس ايرونيموس بالتفصيل في رسالته إلي أجيروشيا. وكلا هذين الكاتبين المسيحيين الكبيرين لم يتكلم من ذاتيهما، وإنما أعتمد علي شرح القديس بولس الرسول بهذه النقطة بذات في رسالته إلي غلاطية (4: 22- 30). في الواقع كانت كثير من الأشياء في تصرفات وحياة الآباء الأول والأنبياء هي -كما قال القديس ايرونيموس- "رموز لأمور ستأتي". وهذا الموضوع شرحه بالتفصيل القديس هيلاري أسقف بواتيبية الذي كان يلقب "أثناسيوس الغرب" في كتابه Tractatus Mysteriorum  فتحدث عن هذه الرموز منذ آدم، وتعرض فيه الزيجات إبراهيم ولزيجات يعقوب أيضًا. وهذا الامر أوضحه القديس أوغسطينوس في عبارة موجزة قال فيها " كانت زوجات الإباء الكثيرات رمز لكنائس مستقبله من شعوب كثيرة تخضع لعريس واحد هو المسيح. أما سر الزواج بواحدة في أيامنا، فيشير إلي وحدتنا جميعًا في خضوعنا لله، نحن الذين سنصبح فيما بعد مدينة سمائية واحدة".ومع ذلك فإن إبراهيم لم تجده زوجاته الكثيرات شيئًا إذ قال له الله "بإسحق يدعي لك نسل" (تكوين12:21). ولما مات لم يدفن كما لاحظ القديس أمبروسيوس إلا مع زوجته سارة وحدها.

وابنه اسحق لم يتخذ في حياته كلها التي بلغت 180 عامًا (تكوين 35: 28) غير زوجه واحده هي رفقة ، التي كانت حياتها هي الأخرى تحمل رموزًا كثيرة بالأخص في زواجها وفي إنجابها.

أما يعقوب أبو الأسباط الاثني عشر، فمعروف أنه خدع من خاله لابان الذي زفه إلي زوجه من ابنتيه غير التي أختارها لنفسه. وفي الصباح اكتشف يعقوب أنها ليست خطيبته التي أختارها، وإنما هي أختها الكبرى. وأجابه لابان عن هذه الخدع بقوله "لا يفعل هكذا في مكانًا آن تعطي الصغيرة قبل البكر" (تكوين 29: 36). وعلاجًا للمشكلة زواجه الصغرى أيضًا. وتسري يعقوب بنفس السبب الذي من أجله تسري إبراهيم: دفع إلي ذلك دفعا من زوجتيه أن يتخذ له جاريتهما سريتين لينجب لهما نسلًا (تكوين 30: 3،9). وكانت في تلك الزيجات أيضًا رموز لأمور ستأتي، شرحها القديس ايرونيموس في رسالته الآنفة الذكر.

وهكذا نري أن الأب الكبير لم يطلب تعدد الزوجات ولم يشتهيه، ولكنه أيضًا لم يرفضه عندما دفع إليه دفعًا بحكم ظروفه الخاصة. بل علي العكس سري بأن ير له نسلًا كثيرًا كان يرن في إذنيه وعد الله له ولأبيه وجده بأن نسله سيصير كنجوم السماء ورمل البحر لا يعد من الكثرة، وأن به ستتبارك جميع قبائل الأرض.

( ه ) العنصر الروحي الأول لتعدد الزوجات

 1- كانت هناك أسباب روحية خطيرة من أجلها تسامح الله في قيام تعدد الزوجات.

أما السبب الأول الخطير فهو مقاومة طغيان الوثنية:

تلك الوثنية التي كانت قد انتشرت بشكل مريع، حتى كادت تكتسح العالم كله بدون استثناء. ولذلك كانت فكرة الله في اختيار شعب يعبده تقوم على ثلاثة عمد أساسية، وهى عزل هذا الشعب، وإنماؤه، وتعليمه. أما سياسة العزل فبدأت عندما قال الله لإبراهيم "اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك..." (تكوين1:12،2). وكان العزل لازما حتى لا يتأثر شعب الله بالوثنية فيعتنقها نتيجة لاختلاطه بالوثنيين.

وكان من مظاهر هذه السياسة: السكن المنفرد، وعدم التزاوج مع شعوب الأرض الوثنية، وعدم التعامل معهم. وحرص إبراهيم على تنفيذ هذا في  تزويجه لابنه إسحاق (تكوين3:24-4) كما حرص عليه اسحق في تزويج ابنه يعقوب (تكوين 1:28-4). وعندما كان شعب الله يكسر قاعدة العزلة هذه، كان يقع في عبادة الأوثان ويحل عليه غضب الله، كما حدث ذلك مرات سجلها سفر القضاة. ولكن سياسة العزل وحدها عن الشعوب الوثنية لا يكفى، لأن الشعب المؤمن إذ كان قليلًا وضعيفًا، حتى إن هو اعتزل عن الوثنيين يمكن أن يطغوا هم عليه ويستعبدوه لهم ويخضعوه لعبادتهم. فكان لابد أن تصحب عملية العزل عملية إنماء في العدد، حتى يستطيع الصمود أمام قوة أعدائه، وحتى يرث أرضهم وينشر فيها عبادة الله. وعملية الإنماء صحبها بالضرورة تعدد الزوجات، لأن الأمر لم يكن سهلًا، إذ هو تكوين شعب من فرد واحد.

 ولهذا كان إنجاب البنين وقتذاك عملًا مقدسًا. لأن المقصود به كان حفظ الإيمان بالله من الضياع، والوقوف أمام خطر العبادات الفاسدة. وهكذا نرى حقيقة هامة وهى:

في تعدد الزوجات -قبل مجيء السيد المسيح- لم يكن المقصود هو الزوجات، وإنما البنين الذين تلدهم الزوجات والبنون لم يقصدوا لذاتهم، وإنما لحفظ الإيمان في عالم وثنى. فخرج الأمر إذن عن الغرض الجسدي إلى الغرض الديني. ومن الواضح أن هناك فرقا بين الحالة هنا، والحالة أيام آدم وأيام نوح بعد الطوفان. ففي هذه الحالة الأخيرة كانت الأرض خالية، ولكنها كانت نقية ليست فيها وثنية تهدد الإيمان السليم بالفناء فكان يمكن للإنسان أن ينمو على مهل في ظل قصد الله السامي بشريعة "الزوجة الواحدة". أما في أيام إبراهيم فكان العكس هو السائد: كانت في الأرض شعوب كثيرة من الناس. وإذ كانوا كلهم وثنيين، صاروا خطرا على القلة الضئيلة جدا التي تعبد الله. ولذلك كان يبدو أن تعدد الزوجات بالنسبة لعابدي الله لازم ليرفع نسبتهم العددية ولو قليلًا