تفسير الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي ++ نجاح الكنيسة في تسالونيكي ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي ++ نجاح الكنيسة في تسالونيكي ++ القمص تادرس يعقوب

اعتاد الرسول بولس أن يبدأ رسائله بإبراز الجوانب الطيبة لتشجيع من يكتب إليهم، فلا يتحدث عن المشاكل أو الضعفات مهما تفاقمت أو بلغت خطورتها إلاَّ بعد أن يشجع، فاتحًا باب الرجاء أمام الجميع. وهنا إذ يكتب إلى كنيسة تئن من الضيق، يعلن في وضوح عن نجاحها في حياتها الإيمانية العملية، وشهادتها للسيد المسيح أمام كنائس أخرى.

مقدمة الرسالة

"بولس وسلوانس وتيموثاوس إلى كنيسة تسالونيكي،،في الله الآب والرب يسوع المسيح.نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع" [1].

ليس للرسول بولس مقدمة ثابتة يفتتح بها كل رسائله، وإنما يكتب لكل رسالة المقدمة التي تناسبها. وهنا إذ يكتب إلى كنيسة تئن من الضيق، نلاحظ في مقدمته الآتي:

أ. يذكر الرسول اسمه "بولس" دون الإشارة إلى لقبه الرسولي، لأن الإنسان في وسط الضيق يود أن يجد الكل حوله بلا ألقاب ولا كلفة، إنما يتحدث معهم بروح الصداقة الأخوية. ولعله لذات السبب يضم إلى اسمه سلوانس وتيموثاوس كأنهما شريكان معه في كتابة الرسالة، مع أنه هو الكاتب لها وحده. لقد أراد في تواضع أن يؤكد للمؤمنين أنه ليس وحده يحمل إليهم مشاعر الحب والحنو وسط ضيقتهم، وإنما يشاركه في ذلك كل من اشترك في خدمتهم.

يا له من راعٍ محبٍ مملوء تواضعًا, يدخل وسط الحملان كحمل معهم يشاركهم آلامهم, لا ليربطهم به شخصيًا لحساب كرامته الخاصة، وإنما ليعلن لهم محبة كل راعٍ، فيلمسوا محبة المسيح لهم فيه كما في غيره!

ب. يوجه الكاتب رسالته "إلى كنيسة التسالونيكيين" في الله الآب والرب يسوع. فقد ضمت الكنيسة الحديثة في ذلك أعضاء من اليهود كما من الأمم، لكن الكل صار كنيسة واحدة، بدخولها في "الرب يسوع المسيح" كجسده الواحد المقدس، لتجد لها موضعًا في الله الآب، لأنه حيث يوجد الابن تكون معه كنيسته في الأحضان الأبوية. وكما يقول السيد: "حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا... ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي" (يو 14: 3، 6)

ج. يلقب الرسول الله "أبانا"، فالمؤمنون محتاجون في ضيقتهم إلى التمتع بأبوة الله الحانية، وإدراك اهتمامه بخلاصهم ومن ناحية أخرى إذ يكتب الرسول في صلب رسالته عن أبوته لهم أراد في المقدمة أن يؤكد أبوة الله نفسه التي هي مصدر كل أبوة روحية وجسدية.

د. يطلب لهم الرسول النعمة والسلام؛ فإن السلام الحقيقي الداخلي لا يتحقق برفع الآلام التي تحل بنا، وإنما بتمتعنا بنعمة الله الخفية. ففي وسط الضيق يحاصر الإنسان بأفكار قاتمة قادرة على تحطيم سلامه الداخلي، لكن نعمة الله تستطيع أن ترفع الفكر فوق الأحداث، وتسنده ضد كل هجوم فيمتليء بسلامٍ إلهيٍ فائقِ. عندئذ ينفتح لسان القلب الداخلي ليرنم، قائلًا: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19).

نجاح الكنيسة

إذ كانت الكنيسة مُحاصرة بالضيق من اليهود كما من الأمم سحب الرسول فكرها بالروح القدس إلى النجاح الذي حققته في حياتها الروحية بالرب، فحدثها عن ثلاثة أمور:

أ. شكره لله على نجاحهم وصلاته من أجلهم [2].
ب. ابرز الجوانب الطيبة في حياتهم [٣-٦].
ج. صيرورتهم قدوة للجميع [٧-١٠].

أ . شكره لله على نجاحهم وصلاته من أجلهم

"نشكر الله كل حين من جهتكم، ذاكرين إياكم في صلواتنا" [٢]. إذ يرى الرسول نجاح كنيسة التسالونيكيين الناشئة يقدم هو ورفيقاه، القديسان تيموثاوس وسيلا، الشكر لله في كل حين، كما يصلون من أجلهم ليزدادوا نموًا. حقا إنه راعٍ حكيم لا تسحبه الآلام عن النظر إلى النفع الروحي للمتألمين، لهذا وإن كان يئن معهم مشاركًا إياهم آلامهم، لكنه في نفس الوقت يقدم الشكر لله من أجل البركات الروحية التي ينعمون بها وسط ضيقتهم. بهذه الكلمات أيضًا يرفع الرسول شعبه فوق الآلام الخارجية، الأمر الذي كما أظن كان غاية هذه الرسالة، ومن ناحية أخرى يؤكد لهم أن سرّ كل بركة روحية ونجاح في حياتهم هو الله نفسه، رافعًا إياهم نحو التواضع. وأخيرًا فإنه إذ يذكرهم في صلواته يعلن صدق حبه لهم.

ب . إيمانهم ورجاؤهم ومحبتهم

يحول الرسول بولس أنظار شعبه عن التفكير في الأحداث الجارية إلى التأمل في عمل نعمة الله داخلهم خلال الإيمان والرجاء والمحبة، إذ يقول: "متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم ربنا يسوع المسيح أمام الله وأبينا" [٣]. كأنه يسألهم إلاَّ ينشغل فكرهم في شيءٍ غير هذه الأمور، متذكرين بلا انقطاع عمل الله فيهم خلال أعمال إيمانهم وتعب محبتهم وصبر رجائهم. إنه يود أن يتأملوا على الدوام في الإيمان والمحبة والرجاء، لا خلال مفاهيم نظرية عقلية بحتة، وإنما كما يعيشونها عمليًا، ناسبًا للإيمان العمل، وللمحبة التعب وللرجاء الصبر.

ماذا يقصد بقوله "عمل إيمانكم"؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يؤمن يحتمل الكثير، فإن إيمان الإنسان يظهر خلال أعماله. لهذا بحق يُقال أن الإيمان ليس أمرًا مجردًا، وإنما يعلن خلال أعمالكم وثباتكم وغيرتكم[3].]

ويتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن "تعب المحبة"، قائلًا: [أي تعب هو للمحبة...؟حينما تثور آلاف الأمور لتسحبنا بعيدًا عن المحبة، فنقف نحن أمام جميعها، أفلا يحسب هذا تعبًا؟[4]]

لعل الرسول يشير بقوله "تعب محبتكم" إلى ما ورد في سفر الأعمال (١٧ : ٥-٦) عن ياسون وأهل بيته كيف احتملوا الكثير من أجل محبتهم للرسولين بولس وسيلا، ومن أجل محبتهم للإنجيل، عندما ثار الأشرار عليهم وقدموهم أمام حكام المدينة.

أخيرًا إذ لم يتوقف الضيق الذي حلَّ بالكنيسة منذ بدء انطلاقها، بل استمر حتى بعد ترك الرسولين المدينة، واجهت الكنيسة الناشئة حديثًا بصبر من أجل رجائها في الملكوت، وانتظارها لعريسها الحقيقي ربنا يسوع المسيح، لهذا يكمل الرسول: "وصبر رجائكم ربنا يسوع المسيح أمام الله وأبينا".

هذه هي الأمور الثلاثة التي من أجلها يقدم الرسول الشكر لله، والتي يركز أنظاره عليها أثناء صلواته عن هذه الكنيسة: عمل إيمانهم، تعب محبتهم، وصبر رجائهم. هذه الأمور في الحقيقة تمثل وحدة واحدة لا يمكن تقسيمها أو فصلها عن بعضها البعض، فإن كان الإيمان بكلمة الحق يدفع المؤمن للعمل لحساب الملكوت الأبدي، فإنه يفتح القلب بالحب لله والناس، فيشتهي المؤمن لا أن يعمل بل يتعب، مسرعًا بنفسه إلى الصليب عوض الراحة الزمنية، وإذ يفتح قلبه بالحب يرى السماوات كأنها مُعلنه قدامه فيترجى التمتع بكمال مجدها. فلا يئن من الضيق والتعب، بل يحمل صبر المسيح الذي "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب ١٢: ٢). حقًا تحل الأبدية فيزول الإيمان إذ نرى الله وجهًا لوجه، وينتهي الرجاء إذ ننعم بما كنا نترجاه، لكنه تبقى المحبة التي لا تسقط أبدًا (١ كو ١3: ٨)، هذه التي قامت على أساس الإيمان، وانطلق لهيبها خلال الرجاء. في بقاء الحب الأبدي تكريم للإيمان وتتويج للرجاء!

أما سرّ نجاح مؤمني تسالونيكي وتمتعهم بالإيمان الحي والمحبة والرجاء فهو اختيار الله لهم كأولاد له، إذ يقول الرسول: "عالمين أيها الإخوة المحبوبون من الله اختياركم" [٤]. وكأن الرسول يؤكد لهم أن سرّ القوة فيهم وسط آلامهم ليس منهم بل من الله الذي أحبهم ويحبهم. إنه العامل فيهم من أجل اختياره لهم وهكذا بقدر ما خشي الرسول لئلا يتحطموا بسبب ثقل الضيقات المحيطة بهم وبه كان يحدثهم عن نجاحهم الروحي مفتخرًا بهم. كان حريصًا أيضًا لئلا يسقطوا في الكبرياء بسبب صبرهم على التجارب، فكان يوجه أنظارهم نحو الله الذي أحبهم أولًا، لأنه اختارهم، ولا يزال يعمل فيهم حتى يدخل بهم إلى أمجاده. ما أحوج الكنيسة إلى الراعي الحكيم الذي يسند شعب الله بالكلمات المفرحة التي تبعث في النفوس الرجاء والثقة، وفي نفس الوقت بلا تملق أو مداهنة يوجههم إلى الله الذي وحده سرٍّ نجاحهم ونموهم!

ولعل كلمات الرسول: "عالمين أيها الإخوة المحبوبون من الله اختياركم" يقصد بها الكشف عن سرّ حب الرسول نفسه لهم وجهاده من أجلهم. كأنه يقول: إن كان الله يحبكم وقد اختاركم أولادًا له، فهل أكف عن العمل ليلًا ونهارًا في خدمتكم لتحقيق غاية الله فيكم؟ هذه هي نظرة الراعي الحكيم للخدمة، فإنه لا يعمل في كرم بشري لحساب الناس، لكنه يخدم البشرية خليقة الله المحبوبة لديه والتي يشتهي الله خلاصها والدخول بها إلى أمجاده الأبدية، فيعمل لحساب الله، ومن خلاله وبإمكانيات الله!

إدراك الرسول بولس حب الله لهم واختياره لهم جعل كرازته لهم ليست مجرد كلمات ينطق بها، أو فلسفة يقدمها لهم، وإنما بالحق قوة قادرة على تجديد حياتهم، فدخل إليهم بالروح القدس في يقينٍ شديدٍ أن الله يعمل فيهم. وكما يقول الرسول: "إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط، بل بالقوة أيضًا، وبالروح القدس وبيقين شديد، كما تعرفون أي رجال كنا بينكم من أجلكم" [٥]. وكأن الرسول بولس يؤكد لهم أن حب الله لهم واختيارهم من قبله قدم له ثلاث إمكانيات للعمل بينهم: "القوة، والروح القدس، واليقين الشديد". هذه الإمكانيات هي سرّ نجاحه.

لقد انطلق إليهم يحمل "القوة". أي قوة الإنجيل للخلاص. الله الذي اختارهم قدم لهم الخلاص بقوة خلال الصليب أو الإنجيل، فجاء الرسول مختفيًا في هذا الصليب بالإنجيل، فلم يقدم لهم كلمات مجردة، بل سرّ الحياة الجديدة القوية خلال الصليب. لم يدخل إليهم هزيلًا، بل تسلح بالإنجيل القادر أن يأسر الإنسان في الحب الإلهي، ويدخل به إلى ملكوت الله، ليحيا كابن لله بقوة الروح.

حب الله للمؤمنين واختياره لهم قد سلحاه بقوة إنجيل الخلاص، وقدما له روح الله القدوس لكي يعمل فيه للخدمة والكرازة. لقد دخل إليهم بالروح القدس، الذي وحده يقدر أن يعلن محبة الآب لنا المتجسدة في تقديم ابنه فدية عنا. حقًا إن الإنجيل هو قوة الكارز في تحقيق رسالته، لكن لا يقدر الكارز أن يعمل إلاَّ بالروح القدس الذي يجتذب النفوس بقوةٍ إلى دائرة الصليب، وينطلق بها إلى المصالحة مع الله في ابنه، ويدخل بها إلى الحياة الجديدة على المستوى السماوي.

أخيرًا، فإن إدراك الرسول لاختيارهم بواسطة الله جعله يدخل إليهم "بيقين شديد"، مطمئنًا أن خلاص البشر يشتهيه الله نفسه ويعمل على تحقيقه. إنه مطمئن، وفي رجاء أن الله يحقق غايته خلال كرازته. أقول أن سرّ قوة الرسول بولس هو نظرته المملوءة رجاء حتى في وسط الضيقات الخارجية أو الداخلية. إن هاج اليهود أو الأمم أو قامت انقسامات وانشقاقات فإن الرسول يثق أن الله قادر على العمل لتجديد الخليقة. إنه يعمل بغير تشاؤم ولا يأس مهما كانت الظروف!

يقول الرسول بولس: "كما تعرفون أي رجال كنا بينكم من أجلكم" [٥]. وكأنه يقول أن جهادنا وسط الآلام ورعايتنا لكم ليلًا ونهارًا أو والتهاب قلبنا بالعمل الكرازي وسطكم يشهد كيف كنت متسلحًا بالقوة والروح القدس واليقين الشديد. ولكن الفضل ليس لي، وإنما لكم إذ أنتم موضوع حب الله واختياره.

وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [(حديثه) هنا يمس أعمالهم الصالحة بطريقة خفية، فإنه يرغب في تضخيم مديحهم. وكأنه يقول: إني أعرف أنكم عظماء وشرفاء، إذ أنتم مختارون، لهذا نحتمل كل شيء من أجلكم. فقوله: "أي رجال كنا بينكم من أجلكم"هو تعبير ينطق به من يظهر غيرة عظيمة ونشاطًا زائدًا. إننا مستعدون أن نقدم حياتنا من أجلكم، ومع هذا فالشكر واجب لكم وليس لنا، لأنكم مختارون. ولهذا يقول في موضع آخر: "أنا أصبر على كل شيء لأجل المختارين" (٢ تى 2: 10) فإنه أي شيء لا يحتمله الإنسان من أجل محبوبي الله؟[5]]

أما الذي يفرح قلب الرسول فهو امتثالهم به، بل وبالرب نفسه في احتمالهم الألم بفرح، إذ يقول: "وأنتم صرتم متمثلين بنا وبالرب، إذ قبلتم الكلمة في ضيقٍ كثيرٍ بفرح الروح القدس" [٦]. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم:

يا للعجب! أي مديح هذا، فقد صار التلاميذ معلمين فجأة!

فإنهم لم يسمعوا الكلمة فحسب، وإنما ارتفعوا إلى علو بولس.

إنه يمدحهم قائلًا: "قبلتم الكلمة في ضيق كثير بفرح الروح القدس". قبلوها ليس في ضيقٍ فحسب وإنما في ضيق كثير. هذا ما يخبرنا به سفر أعمال الرسل كيف ثار الاضطهاد ضدهم (أع ١٧ : ٥-٨)، فقد هيج (الأشرار) كل حكام المدينة ضدهم، وأثاروا المدينة عليهم. ولم يقف الأمر عند تألمهم وإيمانهم مع حزنهم وإنما فرحوا، الأمر الذي فعله الرسل، إذ قيل عنهم أنهم (ذهبوا) "فرحين لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه" (أع ٥ : 4١).

هذا هو العجب، فإن احتمال الضيقات ليس بالأمر الهين، ومع ذلك نجد بعضًا من البشر قد تعدوا حدود الطبيعة البشرية، وكأنهم بلا جسد يتأثر بالألم!

ولكن كيف كانوا متمثلين بالرب؟ لأنه احتمل آلامًا كثيرة بفرحٍ، متقدمًا إليها بإرادته، فمن أجلنا أخلى ذاته، وإذ كان الوقت يقترب لكي يُبصق عليه ويُضرب ويُصلب، كان يفرح باحتماله هذه الأمور، قائلًا للآب: "مجدني" (يو ١٧ : ١ -٥)...

ولكن لكي لا يقول أحد: كيف يتحدث عن الضيق والفرح معًا؟ كيف يلتقي الاثنان معًا؟ لهذا يضيف: "بفرح الروح القدس". فيتحقق الضيق في الأمور الجسدية، أما الفرح ففي الروحيات؛ كيف؟ الأمور التي حدثت لهم مؤلمة، لكن الروح لا يتركهم.

لهذا يمكن لمن يتألم ألا يفرح إن كان ذلك بسبب خطاياه، ويمكنه أن يكون مبتهجًا إن تألم من أجل المسيح. هذا هو فرح الروح.

فما يبدوا محزنًا يلد بهجة! يقول الرسول أنهم يضايقونكم ويضطهدونكم، ولكن الروح لا ينساكم حتى في هذه الظروف.

وكما أن الثلاثة فتية في النار تمتعوا بالندى، هكذا أنتم تنتعشون في الضيقات. حقًا إنه ليس من طبيعة النار أن تمطر ندى ... هذا ليس من طبيعة الضيق أن ينتج فرحًا، لكن الروح يلطف الألم متى كان من أجل المسيح، ففي أتون النار يكون (المؤمنون) في راحة[6].

لقد وعدنا السيد بالألم لكن ليس بدون الفرح ، إذ يقول: "فأنتم كذلك عندكم الآن حزن، ولكن سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم... قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا (أفرحوا) أنا غلبت العالم "(يو 16 : 22، 32).

ج . صيرورتهم قدوة للجميع

"حتى صرتم قدوة لجميع الذين يؤمنون في مكدونية وفي آخائية" [٧]. لقد آمنت مكدونية بالسيد المسيح قبل تسالونيكي، لكن الأخيرة صارت مثالًا وقدوة للأولى. لقد صارت كمعلمة ليس لغير مؤمنين بل لمؤمنين سبقوهم في الإيمان . في وقت قصير قبلت تسالونيكي الإيمان وصارت مثلًا حيًا ليس فقط لمكدونية التي في الشمال والتي تُعتبر تسالونيكي من أهم مدنها، وإنما أيضًا لآخائية في الجنوب. وكأن أثرها قد امتد شمالًا وجنوبًا.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، قائلًا: ليته لا ييأس أحد قط حتى وإن كان قد أضاع زمنًا طويلًا دون أن يفعل شيئًا، فإنه يستطيع في وقت قصير جدًا أن يحقق الكثير مما لم يسبق له عمله في الماضي. إن كان الذين لم يكونوا قبلًا مؤمنين قد صاروا هكذا مشرقين منذ بداية إيمانهم، فكم بالحري يمكن للذين كانوا مؤمنين من قبل أن يفعلوا هكذا (أي منذ ميلادهم)؟[7]

يكمل القديس بولس حديثه عن فاعلية حياتهم الجديدة وإيمانهم الممتدة في كل موضع، إذ يقول:

"لأنه من قبلكم قد أذيعت كلمة الرب،ليس فقط في مكدونية وآخائية،بل في كل مكانٍ أيضًا قد ذاع إيمانكم بالله،حتى ليس في حاجة أن نتكلم شيئًا،لأنهم هم يخبرون عنا أي دخول كان لنا إليكم،وكيف رجعتم إلى الله من الأوثان
لتعبدوا الله الحي الحقيقي،وتنتظروا ابنه من السماء الذي أقامه من الأموات، يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي" [٨ -١٠].

وللقديس يوحنا الذهبي الفم تعليق جميل على هذه العبارات، إذ يقول: كما أن الطيب الزكي الرائحة لا يحتفظ برائحته الكامنة فيه، وإنما ينشرها إلى مسافات بعيدة، معطرًا الهواء بنسماته، فيتقبله الجيران، هكذا أيضًا مشاهير الناس وعظماؤهم لا يغلقون على فضائلهم في داخلهم، وإنما يربحون بسمعتهم الطيبة الكثيرين ويحولونهم إلى حياة أفضل. هذا هو ما حدث هنا... وكأنه يقول لهم: لقد أشبعتم جيرانكم بالتعليم وملأتم العالم بالدهشة[8]!

إن قوله "قد أذيعت" إنما يعبر عن نوع من القوة الروحية لإيمانهم وحيويته، فقد سمع العالم بإيمانهم، كأنه قد أذيع للجميع، ولم تعد هناك حاجة إلى حديث الرسول عنه، إذ يقول: "حتى ليس لنا حاجة أن نتكلم شيئًا". كانت حياتهم الإيمانية العملية تحمل شهادة داخلية، وكأنها بوق عالٍ يدوي لا في الولايات المحيطة بهم فحسب وإنما على مسافات متباعدة جدًا. وقد سُمع صوته "في كل مكان". لقد كان الرسول يود أن يتحدث عنهم كمثال حيّ يشهد به عن عمل الله في الإنسان، لكن الذين رأوهم في قوة حياتهم شهدوا لهم مبوقين في كل موضع، وكأنهم قاموا بالرسالة التي اشتهى الرسول أن يتممها!

ماذا يقصد بقوله: "لأنهم هم يخبرون عنا أي دخول كان لنا إليكم!" لعله أراد أن يعلن لهم أن حياتهم الروحية المجيدة وسط الضيقات والآلام لم تذع مجدهم الروحي، فحسب وإنما أيضًا قدمت تطويبًا للرسول نفسه، فصار الكل يتحدثون عن دخوله إليهم ومعه سيلا، وكيف خدما هناك وحولا هؤلاء الرجال إلى الإيمان الحي بالله القادر أن يقيمهم من الموت إلى الحياة. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذا التعبير إنما يوضح دخول السيد إليهم في وسط مخاطر وميتات كثيرة قبلها بفرح وها هم الآن يحملون المخاطر كما سبق فاحتملها الرسول ... أما سر احتمال الألم بفرح سواء بالنسبة للرسول أو لهم فهو إيمانهم بالقائم من الأموات.

هنا يوجه الرسول أنظارهم وهم وسط الضيق إلى الآب السماوي الذي أطاعه الابن نيابة عنا محتملًا الموت، فأقامه بالإرادة، أما الابن فقام بقوته وسلطانه كقوله: "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها" (يو 10: 18).

تفسير سفر يهوديت 3 ++ خضوع سوريا لنبوخذنصر ++ القمص تادرس يعقوب




تفسير سفر يهوديت 3 ++ خضوع سوريا لنبوخذنصر ++ القمص تادرس يعقوب

خضع جميع ملوك الأرض ورؤساء الأقاليم والمدن في منطقة ما بين النهرين وفينيقية وسوريا وغيرها كعبيد للملك. واستقبلوا أليفانا (هولوفيرنيس) بالأكاليل والمصابيح والرقص بالطبول والمغنيات حتى لا يدمر مدنهم، لكن لم يلن قلبه. فقد صدرت إليه الأوامر بالتدمير الشامل وإبادة آلهة الأرض ليكون نبوخذنصر وحده إلهًا لكل هذه الأمم.

1. سوريا تستسلم أمام أليفانا وأَرسَلوا إِلَيه رُسُلًا يَسأِلونهَ السَلام[1].

أمام هذه الفتوحات التي يصحبها دمار وخراب وسلب مع قتل أرسلت إليه بعض البلاد رسلًا تطلب السلام، مستسلمين تمامًا في يدي القائد أليفانا والملك الآشوري نبوخذنصر (أسرحدون أو ابنه)، وهذا أمر كان متوقعًا.

قول Charles Ball إن حضور قادة ورؤساء من الأدوميين (7: والموآبيين (5: 2، 7: والعمونيين (5: 2) يؤكد دخول هذه الأمم في معاهدات مع هولوفرنيس، واشتراكهم معه في جيشه قبل تحركه للدخول في معركة مع بيت فلوي.

يرىCarey Moore أن هولوفرنيس نزل إلى الساحل ثم اتجه إلى الشرق حتى بلغ بيت شأن Seythopholis (3: 10) عن طريق أدوم وموآب وعمون.

وَيقولون: "ها إِنَّنا عَبيدُ نَبوخَذنَصَّر المَلِكً العَظيمِ بَينَ يَدَيكَ،فأعمَلْ بِنا كَما يَحسُنُ في عينيك[2].

في استسلام حاولت الأمم الوثنية استرضاء وجه الملك ليعيشوا له عبيدًا ويقيم نفسه إلهًا عليهم، يفعل بهم كيفما شاء. أما أولاد الله فلا يخضعون لقوى الشر في العالم وسلطانهم، بل يثقون في الله مخلص العالم.

لقد خضع الأشرار في مذلةٍ، ووضعوا أولادهم وممتلكاتهم تحت تصرفه.

وها إِنَّ حَظائِرَنا وكُلَّ أَرضِنا وجَميعَ حُقولِ قَمحِنا،وقُطْعانَ خِرافِنا وبَقَرِنا ومَرابِضَ مُخَيَّماتِنا أمامكَ،فأعمَلْ بِها كَما يَطيبُ لَكَ[3].

استخدمت هذه الأمم تعبيرات مختلفة لها ذات المعنى: "اعمل بنا كما يحسن في عينيك" ، "اعمل بها كما يطيب لك" ، "تعال وأدخلها كما يروق في عينيك" .

وقد جاءت كلها تشبع مشاعر هولوفرنيس الظاهرة وما يختفي في لاشعوره، يستسلمون ليشبعوا طموحه، وفي نفس الوقت يستعطفونه، فيحسبونه إنسانًا عاقلًا حكيمًا وعادلًا بجانب جبروته وقدراته.

وها إِنَّ مُدُنَنا أَيضًا والسَّاكِنينَ فيها عَبيدٌ لَكَ،فتَعالَ، وادخُلْها كَما يَروقُ في عَينَيك" [4].ووَصَلَ الرِّجالُ إلى أَليفانا،وبَلَّغوهُ بِحَسَبِ هذا الكَلام [5].ثُمَّ نَزَلَ هو وجَيشُه إلى الشَّاطِئ،وأَقامَ حَرَسًا في المُدُنِ المُحَصَّنة،وجَنَّدَ نُخبَةً مِنَ الرِّجالِ يساعِدونَه [6].فاستَقبَلَه هؤُلاءِ وكُلُّ النَّاحِيَةِ المُجاوِرَة لَهُمبِالأَكَاليلِ وأَجْواقِ الرَّقْصِ والدُّفوف[7].

بلا شك امتلأ قلب أليفانا بالسعادة مع الكبرياء والتشامخ، فها هو يحقق آمال سيده دون أية تكلفة، ليس من قتيلٍ ولا جريحٍ، بل صارت خيرات البلاد بين يديه، ينهبها بلا ضمير، ويستغل القوى البشرية لخدمته وخدمة جيشه.

فدَمَّرَ جَميعَ مَعابِدِهم، وقَطَّعَ غاباتِهِمِ المُقَدَّسة،فقَد عُهِدَ إلَيهِ بأَن يُبيدَ جَميعَ آِلهَةِ الأَرض،لِكَي تَعبُدَ الأُمَمُ جَميعًا نَبوخَذنَصَّر وَحدَه،وتَدعُوَه إِلهًا جَميعُ أَلسِنَتِهم وأَجْناسِهِم [8].

حقق رغبة سيده أن يقيم من نفسه إلهًا، فدمَر المعابد والغابات المقدسة، أي الأشجار التي كان الوثنيون يقيمون أصنامهم أحيانًا تحتها.

يترجم البعض "غابتهم المقدسة" "سواريهم المقدسة" sacred poles (قص 6: 25).

هذا ما فعله اليهود عند دخولهم كنعان، فقد كان ما يشغلهم هو تحطيم كل ما يخص العبادة الوثنية، لكي تبقى عبادة الله الحقيقي وحدها قائمة في كنعان. الآن يمارس هولوفرنيس نفس الأمر ليعلن للكل، خاصة اليهود، أن حربه دينية، غايتها إبادة كل عبادة لتبقى عبادة نبوخذنصر إله كل الأرض!

2. وصول أليفانا أَمامَ يِزْرَعيل

ووَصَلَ أَمامَ يِزْرَعيل Esdraelon بِالقُرْبِ مِن دُوتائينَ Dothaim

الَّتي قَبلَ سِلسِلَةِ جِبالِ اليَهودِيَّةِ الكَبيرة [9].

اقترب أليفانا بسهولة وسرعة إلى قرب سهل يزرعيل، حيث دخل كثير من البلاد بلا مقاومة، بل بالترحيب والتهليل.

يزرعيلEsdraelon (Jezreel) كلمة عبرية معناها "الله يزرع". وقد وُجد أكثر من موضع يحمل ذات الاسم. المقصود هنا هو سهل كبير على شكل مثلث يقع بين البحر المتوسط والأردن، من الكرمل وجبال السامرة إلى جبال الجليل، أو من حيفا الحالية إلى بيت شأن (بيعان). دعاه المؤرخ يوسيفوس السهل الكبير، كما دُعي أيضًا سهل مجدو، وهو سهل به أودية كثيرة. كما أن أغلب الطرق الهامة متصلة به، لاسيما الطرق الرئيسية بين فينيقية ومصر، حيث كان الغزاة يتسللون عبره إلى أورشليم ومصر جنوبًا. ويعتبر وادي يزرعيل مفتاح أورشليم ومدخلها، حيث يشمل الآتي:

‌أ. الوادي الواقع بين سهل شارون وجبل الكرمل من الجنوب الشرقي.

‌ب. طريق السامرة المار بمجدو.

‌ج. سهل دوثان العريض، ومعناه "آبار"، ويُسمى هنا دوثائين، وهي قرية تقع بالقرب من السامرة، وشكيم بجوار البئر الذي وهبه يعقوب ليوسف.

وعَسكَروا ما بَينَ جَبْعَ Geba وبَيتَ شأن Scythopolis،

وأَقامَ هُناكَ طَوالَ شَهر لِيَجمَعَ أَمتِعةَ جَيشِه كُلِّها [10].

‌د. جبع Geba: يرى يوحانان أهاروني Yahanan Aharouni ومايكل أفي- يونا Michael Avi-Yonah أنه وُجد في إسرائيل ثلاث مدن تحمل هذا الاسم. إحدى هذه المدن بالقرب من جبل الكرمل، وربما هي الهريتية El-Harithiyeh، وغالبًا ما تكون هي المقصودة في سفر يهوديت. ويرى بعض الدارسين أنه يقصد بجبع جبل جلبوعا Gilboa، وآخرون أنها جيبا Jeba، مدينة تبعد حوالي ستة أميال جنوب دوثان، بين السامرة والمدينة المعاصرة جنين Jenin.

‌ه. بيت شأن Scythopolis وتعني باليونانية مدينة السكيثيين، وهي المدينة الوحيدة التي وردت في سفر يهوديت باسمها اليوناني.
أخذت اسمها هذا، إذ استقرت جالية السكيثيين فيها. عُرفت أيضًا بيت شأن (تل الحسن Tell-el-Husan)، تُدعى حاليًا بيسان Beisan.

يرى دميان ماكي أنه يحتمل أن يكون هذا بداية تحقيق نبوة إشعياء قبل حدوث هذه الكارثة: "الملك ببهائه تنظر عيناك، تريان أرضًا بعيدة" (إش 33: 17).

كما يقول إنه بالرغم من عدم وجود معلومات أن ترتان Tartan الذي لسنحاريب أو سنحاريب نفسه قد حارب في معركته الثالثة المنطقة الشمالية وأسرها، لكن بالتأكيد حدث هذا، فإنه كان لزامًا على Wehrmacht الآشوري أن يأمن مرتفعات السامرة قبل هجومه على أورشليم.

يروي لنا G. Smith كيف كان يمكن للمهاجمين على أورشليم أن يحققوا هدفهم بالاستيلاء على المناطق المحيطة بها أولًا حتى يستطيعوا العبور إليها، قائلًا:

كانت حدود اليهودية حصينة... لكنها مع هذا الامتياز من المناعة فهي مفتوحة في نقاطٍ كثيرةٍ، فالأرض لا توحي للمهاجمين بالنصرة، وتجعل الغرباء يبتعدون عنها... يجدون صعوبة في احتلالها. مع هذا توجد ثغرات على حدودها... فالذي يغزوها يلزم أن يأتي عند حدودها ويحتل موقعًا ما أولًا...

كان على فسبسيان Vespasian أن يجتاح الجليل والسامرة، بل وقضى سنة أخرى لكي يحتل يمنة Jamnia وأشدود وHadid في الغرب وبيت إيل وGophana، وأريحا في الشرق وحبون مع قلعة الأدوميين Jdumaean في الجنوب، قبل أن تتسلل فرقه التي نفذ صبرها إلى أورشليم.

حدث نفس الأمر بالنسبة للخليفة صلاح الدين، فإنه حتى بعد نصرته على Hattin لم يجسر أن يهاجم أورشليم إلا بعد أن سقط في يديه وادي الأردن وأغلب السهل Maritine Plain وأشقلون حتى بيت جيرين Beit-Jibrin..

كان يليق بأليفانا بذكائه ومهارته أن يعسكر بجيشه الضخم في منطقة دوثان، في أقصى الشمال ليتهيأ للبدء في الهجوم على أورشليم.

في الأصحاح التالي نرى كيف توقع اليهود أن يقوم أليفانا بالهجوم عليهم من جهة السامرة

تامل من كتاب تأملات في سفر نشيد الأناشيد ++ مَنْ هذه الطالعة من البرية؟ ++ البابا شنودة الثالث



تامل من كتاب تأملات في سفر نشيد الأناشيد +++ البابا شنودة الثالث
مَنْ هذه الطالعة من البرية؟! (نش 8: 5؛ 3: 6)

عبارة قالها الرب عن كنيسته، وردت مرتين في السفر في (نش 3: 6 ) (نش 8: 5 ) :

مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6 ).

مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها" (نش 8: 5 ) إنه تأمل في جمال الكنيسة، وفي جمال النفس البشرية المحبة لله. وكيف أنها طالعة من البرية، وطالعة في جمال، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر، كأعمدة من دخان صاعدة من المجمرة.

وسوف نتناول هذا الوصف: كأغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم، وكأغنية تُنشد للكنيسة المنتصرة، أو كأغنية تُنشد لقديسي البرية.

1- أغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم:

يمكن أن تؤخذ عبارة " الطالعة من البرية " على كنيسة العهد القديم، التي طلعت من برية سيناء، وأتجهت إلى كنعان، مستندة على ذراع حبيبها.

مسيرة الكنيسة في البرية، كانت مسيرة عجيبة حقًا إذ خرج الشعب بلا طعام ولا شراب، ولا ملابس كافية لتلك الرحلة الطويلة، ولا باقي الاحتياجات اللازمة، مجرد خروج على أسم الله بالإيمان وليس أكثر.

وضعوا أرجلهم في البحر، مستندين على زراع حبيبهم، الذي سندهم في عبورهم، سند المياه من هنا، وسندها من هناك. ومشت الكنيسة في البحر، مستندة على حبيبها، وعاشت في البرية.

عاشت بالإيمان، الذي يرى ما لا يُرى..

وفي قلب كل واحد رن قول الرب "وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر. وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك. ثيابك لم تبل عليك، ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة " لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (تث 8: 2 – 4).

حقًا إن الإنسان الذي يحيا في الإيمان، مستندًا على الله حبيبه، يمكن أن يختبر عجائب في عمل الله معه..

يمكن أن يفجَر له الله ماء من الصخرة (خر 17: 6)، ويمكن أن يحول له الماء المر إلى ماء حلو (خر 15: 23 – 25). ويمكن أن يشق له في البحر طريقًا (خر 14: 21، 22) ويمكن لهذا المؤمن أن يختبر محبة الله له: يظلله السحاب بالنهار، ويضئ له عمود النار بالليل (خر 13: 21، 22) ويمكن أن يحميه الرب من جميع أعدائه.

وهذا كله حدث لتلك الطالعة من البرية. وانهزم أمامها سيحون ملك الأموريين (عد 21: 23 – 26)، كما انهزم أمامهم عوج ملك باشان (عدد 21: 33- 35).. حتى لكان شعوب الأرض يتأملون كل هذا ويقولون في عجب: " مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟!

أيضًا النفس المستندة على حبيبها، يسقط عن يسارها ألوف، وعن يمينها ربوات، وبعينها تنظر وتتأمل مجازاة الأشرار (مز 91: 7، الرب يظلل على يدها اليمنى، فلا تضربه الشمس بالنهار، ولا القمر بالليل (مز 121: 5، 6).

مشكلتنا في الحياة أننا لا نستند على حبيبنا!! قد تستند على مواهبنا، على قوتنا وذكائنا، على غنانا! ونستند على زراع بشري، وعلى حكمة بشرية! وربما نستند على الشيطان وكل حيله!!

وقد ننجح نجاحًا مؤقتًا، الهزيمة أفضل منه! وقد نفشل..

أما الذي يستند على الله الذي يحبه، فيمكنه – كالثلاثة فتية – أن يمشي في أتون النار ولا يحترق.. كانت النار تحيط بهم، ولم تكن لها قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق. حدث ذلك لأنهم كانوا مستندين على حبيبهم، الذي كان ماشيًا معهم في وسط النار، وكان شبيهًا بأبن الآلهة (دا 3: 25، 27)

لعل الملائكة في ذلك الوقت كانوا ينظرون إلى نفوس هؤلاء الفتية في النار، وهم يغنون " مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟! لقد طلعوا من النار، وكأنهم خارجون من أحد البساتين وإحدى الفراديس!

داود النبي جرب الاستناد على ذراع حبيبه حينما قال " الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! إن يحاربنى جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام علىّ قتال، ففي هذا أنا مطمئن" (مز 27: 3). وحينما قال " الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، وإلى ماء الراحة يوردني.. أيضًا إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا (مز 23). ولماذا لا أخاف؟ لأنك أنت معي نفسي مستندة على ذراع حبيبها.

وهكذا أيضًا الكنيسة في العالم، تعيش مستندة على ذراع حبيبها. لاحظوا أنه قال "مستندة على حبيبها ولم يقل مستندة على القوي الجبار.. حقًا أن حبيبها قوي جبار. ولكن عبارة حبيبها هنا لها عمقها العاطفي، ولها قوتها أيضًا، إذ يُقال في نفس النشيد " المحبة قوية كالموت. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش 8: 6، 7) ولأنه يحب هذه النفس، ويحب هذه الكنيسة، لذلك يفعل كل شيء لأجلها، وبقوة النفس التي تستند على حبيبها، تعيش مطمئنة، في سلام..

تغني قائلة: وإن قام علىّ قتال، فأنا مطمئنة (مز 27: 3) . ولماذا أنت مطمئنة أيتها النفس؟ ولماذا كانت الكنيسة كلها مطمئنة؟ لأنها مستندة على حبيبها. " شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" (نش 2: 6 ). رحمته تحيط بي من كل ناحية. إنها مطمئنة لأنها في حضن الله. فمهما صادمتها المشاكل والعقبات والحروب، لا تهتز ولا تضطرب. وإنما تقول في ثقة المستند على حبيبه " إن كان الله معنا، فمن علينا "؟..

هذا النشيد أيضًا هو أغنية للكنيسة المنتصرة.

2- أغنية للكنيسة المنتصرة:

يمكن أن يقال هذا النشيد في السماء، في استقبال الكنيسة التي جاهدت على الأرض وغلبت. الكنيسة التي عاشت في هذا العالم، في البرية القفرة.. في تعب وشقاء في الطريق الكرب، ودخلت إلى الفردوس من الباب الضيق (مت 7: 14) ولذلك يستقبلها الملائكة قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية.. ؟!

العالم بالنسبة إليها كان برية، أقفرت من تنعمات العالم وملاذه، ومن لهوه وعبثه وضجيجه. لأنها أطاعت قول الكتاب " لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم.. إن العالم يمضي وشهوته معه" (1 يو 2: 15، 17). أما هي فأجابت الرب يقول المزمور لكي يزهر لك جسدي في أرض مقفرة، ومكان بلا ماء وموضع غير مسلوك (مز 63: 1).

هذه الكنيسة طالعة من البرية، لكي يختطفها الرب على السحاب، وتكون مع الرب كل حين (1تس 4: 17).

نعم: مَن هذه الطالعة من البرية، التي لم تعش في فراديس وفي جنات، كما عاش سليمان وهو يعزي نفسه بخيرات العالم قائلًا " بنيت لنفسي بيوتًا، وغرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت لنفسي عبيدًا وجواري.. جمعت لنفسي فضة وذهبًا. اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر.. ومهما أشتهته عيني لم أمسكه عنهما" (جا 2: 4 – 10).

أما الكنيسة فرفضت أن تستوفي خيراتها على الأرض (لو 16: 25)

إنما تعبت على الأرض، لكي تتمتع في السماء. عاشت على الأرض في طقس لعازر المسكين عاشت فقيرة، ولكن مستندة على حبيبها. كما قال بولس الرسول " مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين.." (2 كو 4: 8، 9).. " كحزانى ونحن دائمًا فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شئ" (2 كو 6: 10).

هذا النشيد يمكن أيضًا يصلح لقديسي البرية، فهو:
3- أغنية تُنشد لقديسي البرية:

هؤلاء القديسون يسبحون الرب في كل يوم تسبحه جديدة. وفي كل يوم يهمس الملائكة في آذانهم قائلين: ها باركوا الرب يا عبيد الرب، القائمين في بيت الرب في ديار بيت إلهنا. في الليالي أرفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب" (مز 134: 1، 2).

يستمع الملائكة إلى هذه الصلوات " الطالعة من البرية، ويقولون للرب " طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد (مز 84: 4).

أهل العالم – حتى إن دخلوا الكنيسة – قد يسرحون في أمور العالم أثناء الصلاة. أما هؤلاء القديسون – فحتى إن شغلوهم بشئ من أمور العالم – فإنهم أثناءها يسرحون في الله. عاشوا في البرية القفرة، بدون أي معونة، مستندين على حبيبهم واستطاعوا أن يقدسوا البرية بصلواتهم وبحياتهم. حتى تحولت البرية إلى سماء ثانية. واجتذبت إليها طالبي الروح من أقصاء الأرض كلها..

عاشوا في طقس الصلاة الدائمة. ولقّبوهم بملائكة أرضيين وبشر سمائيين. فعندما تصعد أرواح هؤلاء القديسين إلى السماء. فلاشك ستجري الملائكة لاستقبال أرواحهم الطاهرة بهذا الهتاف " مَن هذه الطالعة من البرية".

سليمان الحكيم – كاتب سفر النشيد – أتراه في حلم ورؤيا – أبصر جماعات السواح والمتوحدين والرهبان طالعة من البرية، فاستقبلها بهذا النشيد "مَن هذه الطالعة من البرية؟!".

يوحنا كاسيان حينما زار براري مصر، قال إن المسافر من الإسكندرية إلى طيبة (الأقصر)، لم يكن صوت التسبيح والألحان والصلوات ينقطع من أذنيه طول الطريق وذلك لكثرة الأديرة والقلالي والمغارات المنتشرة في كل مكان في البرية، يسكنها أولئك القديسون الذين أحبوا الرب فأحبوا الوحدة. وعاشوا كملائكة الله على الأرض.. كل شبر من تلك الأرض المقدسة، قد باركه القديسون ودشنوه بصلواتهم ومزاميرهم. حبّات الرمال تقدست، إذ وطئتها أقدامهم الطاهرة.

هذه الحياة المقدسة الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، صاعدة إلى عرش الله، يهتف لها سكان السماء قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية؟!

إن الحياة التي شهدها العالم في براري مصر، في القرنين الرابع والخامس، كانت كأنها الحلم! نسمع عنها الآن، وكأنها قصة.. ! كيف عملت النعمة في نفوس أولئك القديسين بكل تلك القوة وبكل ذلك العمق؟! وكيف كانت أرواحهم في كل يوم، كأنها على سلم يعقوب صاعدة إلى السماء ونازلة منها.. وفي كل درجة تصعدها على ذلك السلم الروحاني، يصرخ السمائيون في عجب وإعجاب " مَن هذه الطالعة من البرية "؟!

إنه منظر عجيب حقًا، حينما نرى ملائكة نازلة من السماء إلى الأرض. ولكن الأعجب منه أن نرى بشرًا لهم صورة الملائكة صاعدين من الأرض إلى السماء.. ! وليس فقط فرادى قلائل، وإنما جماعات عديدة لها نفس الصورة، نفس القداسة والبر والشفافية، نفس الزهد والعفة. فيصرخ الجميع لمرآها " مَن هذه الطالعة من البرية؟! " ووجه العجب الكبير أن هؤلاء الصاعدين كالملائكة، لهم أجساد مادية، وقد سكنوا في هذا العالم في وسط شهوته. هم بشر تحت الآلام مثلنا (يع 5: 17) ولكنهم عاشوا صورة لله ومثاله.

هل دخلوا النار كالثلاثة فتية، ولم يحترقوا. أم هم قد صعدوا من النار كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان.

هذه هي الكنيسة طالعة من البرية. الأشرار يهبطون إلى أسفل، أما الأبرار فيطلعون إلى فوق. دائمًا الكنيسة طالعة إلى فوق.

مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6).

مجموعة مختارة من اقوال الاباء جزء رقم 9


مجموعة مختارة من اقوال الاباء جزء رقم 9


نقاوة القلب تعني نقاوة العين التي بها نعاين الله، ولا شك يزداد اهتمامنا بنقاوة القلب قدر ما يكون ما نراه بالقلب عظيمًا +++ القديس أغسطينوس

لقد سُحق وجُرح، لكنه شَفى كل مرض وكل ضعف ++ القديس غريغوريوس النزينزي


(كلمة الله) طعام النفس، وحُليِّها، وضمانها، ففي عدم السماع لها مجاعة وحرمان ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

من يمارس البرّ وُلد من الله. أمنا هي الكنيسة التي عريسها هو ربنا يسوع المسيح. شرائعنا هي القوانين الرسولية ++ القديس ديديموس الضرير

يليق بالمسيحي الصالح أن يسبح أباه وسيده، وأن يفعل كل الصالحات لأجل مجده، كما يقول الرسول الطوباوي: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون شيئًا، فافعلوا كل شيءٍ لمجد الله؟ (1 كو 10: 31) +++ مكسيموس أسقف تورينو

يُروى عطشنا من صخرة في أرض قاحلة، والصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4). لقد ضُربت بالعصا لكي يفيض الماء. فلكي تفيض نُضرب مرّتين، إذ تُوجد قطعتا خشب في الصليب ++ القديس اغسطينوس

ليس شيء ثقيلًا هكذا ومرهقًا مثل الخطية والعصيان ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

نصيبًا الذي يظللنا من حرارة التجارب هو المسيح والروح القدس ++ العلامة أوريجينوس

الذي غيَّر طبيعة الخمسة أرغفة وصيَّرها أرغفة كثيرة، وأنطق طبيعة الحمار غير العاقل، وجاء بالزانية إلى العفة (يو 8)، وجعل طبيعة النار المحرقة بردًا على الذين كانوا في الأتون، ومن أجل دانيال لطَّف طبيعة الأسود الكاسرة، كذلك يقدر أن يغَّير النفس التي أقفرت وتوحشت بالخطية، ويحولها إلى صلاحه ورأفاته وسلامه بروح الموعد المقدس الصالح. ++ القديس مقاريوس الكبير

تسيب اللسان هو فخ خطير، يحتاج إلى لجامٍ قويٍ. لذلك قال أحدهم: "شفتا الإنسان فخ قوي يُنصب له، يصطاده بكلمات فمه".++ القديس يوحنا الذهبي الفم

كان البعض، في العصور الأولى، يخجلون أن يتعلموا على يد امرأة ولو كانت هذه السيدة هي الأم، كما اعترف القديس أغسطينوس قائلًا لله: "كنتَ تُحدثني على فم أمي، لكنني لم أكن أنصت إليك، لأنك كنت تحدثني على فم امرأة". ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم متعجبًا ممن يرفضون تعليم بعض النساء كالأمهات، بينما نزل الإنسان إلى المستوى الذي صار فيه محتاجًا أن يتعلم من حشرة صغيرة كالنملة.



اللص عاصٍ خطير، لكن الزاني أخطر منه. لأن الأول لسبب مؤسف يسلك هكذا، لكن في نفس الوقت العوز يلزمه بذلك، أما الأخير فلا توجد ضرورة تلزمه إنما جنونه يجعله يندفع إلى هوة الإثم ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

إنهم يُحثون بجمال نفوسكم المتلألئة، فتلتهب قلوبهم بمظهرنا الصالح مهما كانوا أغبياء، لأنه إن كان جمال الجسد يغري ناظره، فكم بالحري يهز جمال النفس وتناسقها ناظرها، وتجذبه لتكون له نفس الغيرة؟! إذًا فلنزين إنساننا الداخلي، ولنفكر فيما يقال ههنا عندما نخرج... لأنه إن كان المصارع يصارع حسبما تدرب عليه في مدارس المصارعة، إلا أننا نحن في تعاملنا مع العالم لم نستخدم ما نسمعه ههنا! +++ القديس يوحنا الذهبي الفم


"هذه الستة يبغضها الرب، وسبعة هي مكرهة نفسه.
عيون متعالية،لسان كاذب،أيد سافكة دمًا بريئًا.
قلب يُنشئ أفكارًا رديئة،أرجل سريعة الجريان إلى السوء،شاهد زور تفوه بالأكاذيب،وزارع خصومات بين اخوة" ++ احد الاباء

لا تدع شهوة الجمال تغلبك. فإن الكثير من الشباك والفخاخ منصوبة بواسطة الشيطان. التطلع إلى زانية هو فخ منصوب لمن يحبها. (فساد) عيوننا هي شِباك تُنصب لنا، كما هو مكتوب: "لا تُؤخذ بعينيك". لهذا نحن ننصب الشباك لأنفسنا، فنسقط فيها ونتعرقل. إننا نربط أنفسنا بقيود كما هو مكتوب: "لأن كل واحد يُربط بقيود (حبال) خطاياه" ++ القديس أمبروسيوس

الشهوة الشريرة تشبه لهيبًا ونارًا. هل تحرق النار ثوبًا ولا تحرق شهوة الزنا النفس؟! ++ القديس اغسطينوس


تامل من سفر الخروج 32++ العجل الذهبي ++ القمص تادرس يعقوب




تامل من سفر الخروج 32++ العجل الذهبي ++ القمص تادرس يعقوب

 1. إقامة العجل الذهبي:

كان الشعب في مصر يعبد التيوس ويزني وراءها (لا 17: 7، يش 24: 14، خر 20: 8 )، فاعتادوا أن يعبدوا إلهًا منظورًا مجسمًا أمامهم. وكان وجود موسى النبي قدامهم يقدم لهم على الدوام أعمال الله العجيبة الملموسة قد غطى إلى حين على حاجاتهم إله مجسم قدام أعينهم. لهذا إذ غاب موسى عنهم سألوا هرون، قائلين: "قم إصنع لنا إلهًا يسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه" .

 إنهم لم يقصدوا تجاهل الله الذي أخرجهم من أرض مصر، لكنهم أرادوا أن يعبدوا خلال العجل الذي في قلبهم، يظهر ذلك من قول هرون: "غدًا عيد للرب (يهوه)" .

ومع ذلك فإننا لا نتجاهل أن ما صنعوه هو أثر عبادتهم القديمة للعجل، والتي كانت لا تزال في داخلهم، إذ يقول القديس مارافرام السرياني: أستُبعد موسى عنهم إلى حين حتى يظهر العجل الذي كان قدامهم، فيعبدوه علانية، هذا الذي كانوا يعبدونه خفية في قلوبهم!.

كما قال: أُخذ موسى عنهم لكي تظهر عبادة الأوثان التي كانت داخلهم.

والحق إنهم كانوا بلا عذر، فإن كان موسى قد تأخر، لكن أعمال الله خلال موسى لم تتوقف، كان المن ينزل عليهم كل صباح، والصخرة كانت تتبعهم، وعمود النور في الليل يرشدهم وعمود السحاب يظلل عليهم نهارًا... إنهم بلا عذر.

يعطي سفر التثنية تعليلًا آخرًا لهذا الانحراف، وهو اهتمام باللذة الجسدية خلال الأكل والشرب واللهو، إذ يقول: "سمنت وغلظت واكتسبت شحمًا... ذبحوا لأوثان ليست لله... الصخرة الذي ولدك تركته ونسيت الله الذي أبدأك" (تث 32: 15-18).

 ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الترف والسكر هما جذبا الشعب إلى عبادة الأوثان.
 وكما أن "عيسو خلال النهم فقد بكوريته وصار قاتلًا لأخيه".
 ويستشهد القديس جيروم على قول الكتاب "جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب"  على أثر النهم في إثارة الخطايا قائلًا: إذ تحدث في البطن تخمة تثور عندئذ بقية الأعضاء، كما يعلق على هذا الحدث قائلًا: لقد ضاع تعب أيام كثيرة كهذه خلال الشبع لمدة ساعة، وأيضًا قال:بجسارة كسر موسى اللوحين إذ عرف أن السكارى لا يقدرون أن يسمعوا كلمة الله.

أخيرًا، فإن هذا الشعب يمثل الطبيعة البشرية الفاسدة التي تُريد أن تقيم لنفسها إلهًا حسب أهوائها. تُريد إلهًا يرضي ضمائرها الشريرة ويترك لشهوات جسدها العنان، ولا تريد صليبًا وآلامًا!

 2. غضب الله على شعب موسى:

إذ اختار الشعب لنفسه إلهًا آخرًا حسب أهوائه الشريرة لم يحتمل الرب أن ينسب هذا الشعب لنفسه، فلم يعد بعد يدعوه "شعبي" بل نراه يقول لموسى النبي: "اذهب إنزل، لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر" .

 ويعلق العلامة أوريجانوس على ذلك قائلًا: كما أن الشعب عندما لا يخطئ يحسب شعب الله، ولكنه إذ يخطئ لا يعود يتحدث عنه كشعب له، هكذا أيضًا الأعياد، عندما تكرهها نفس الله يدعوها أعياد الخطاة، مع أنه عندما قدم الشريعة الخاصة بها دعاها أعياد الرب.

 لقد غضب الله على ما بلغ إليه الإنسان، ومع ذلك يفتح الباب أمام موسى ليشفع فيه، إذ يقول له: "رأيت هذا الشعب، وإذ هو شعب صلب الرقبة، فالآن أتركني (وحدي) ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم، فأصيرك شعبًا عظيمًا" . ففي قوله: "أتركني" يترك له مجالًا للتشفع وإعلان حبه لشعبه، أي ممارسته لعمله الأبوي.

وبالفعل تشفع موسى عن شعبه لدى الله مقدمًا له ثلاث حجج، الأولى يذكر أنه شعبه الذي اهتم به قديمًا فأخرجه بقوة عظيمة ويد شديدة والثانية أن العدو يشمت بهزيمة أولاده فيقول: "أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ويفنيهم عن وجه الأرض"، والثالثة يذكره بمواعيده لآبائهم إبراهيم وإسحق ويعقوب عبيد الرب، الذين أقسم الله لهم بنفسه أن يبارك نسلهم ويهبهم أرض الموعد.

أمام دالة موسى النبي يقول الكتاب "ندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه" سنترك الآن الحديث عن قلب موسى المحب الأبوي، لكنني أود أن أوضح أن الله ليس كسائر البشر يخطئ فيندم، إنما يحدثنا هنا بلغة بشرية، بالأسلوب الذي نفهمه، حين نقدم توبة نسقط تحت مراحم الله ورأفاته فلا نسقط تحت العقوبة (الشر).

3. غضب موسى وكسر اللوحين:

 موسى النبي الذي لم يحتمل كلمات الرب على شعبه فتشفع فيهم حتى ندم الرب عما كان سيفعله بهم إذ نزل إلى سفح الجبل لم يحتمل رؤية الشعب وهو يرقص حول العجل، فحمى غضبه وطرح اللوحين من يديه وكسرهما .

 على جبل المعرفة دخل موسى في الأمجاد وتسلم الوصية الإلهية، لكنه إذ نزل إلى سفح الجبل كسر اللوحين، هكذا يليق بنا أن نبقى دائمًا مرتفعين وصاعدين من مجد إلى مجد، أما النزول عند السفح فيجعلنا نكسر الوصية فنسقط تحت الغضب!

لقد تنبأ بموسى حتى في غضبه، فبكسره للوحين أعلن حال البشرية الساقطة تحت لعنة الناموس بسبب كسرها للوصية، وها هي تنتظر عمل النعمة الإلهية عوض الناموس، كقول القديس يوحنا: "لأن الناموس بموسى أعطى أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1). وقد جاء في رسالة برناباس: طرح موسى اللوحين عن يديه، وانكسر عهدهما لكي يقوم عهد يسوع المحبوب مختومًا في قلبنا على الرجاء الذي ينبع من إيماننا به.

بكسر اللوحين الحجريين ظهر ثقل الناموس ولعنته على البشرية العاجزة عن تنفيذه، لهذا كان لابد من رفع هذا الحجر أي حرف الناموس القاتل، لتحل محله نعمة السيد المسيح.

هذا ما أوضحه القديس أغسطينوس في تفسيره الرمزي لكلمات السيد المسيح: "إرفعوا الحجر" عند إقامة لعازر من القبر، إذ يقول: ماذا تعني الكلمات "ارفعوا الحجر"؟ إنها تعني: إكرزوا بالنعمة. لأن الرسول بولس يدعو خدمة العهد الجديد خدمة الروح لا الحرف، إذ يقول "لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي" (2 كو 3: 6).

الحرف الذي يقتل كالحجر الذي يحطم. لهذا يقول: ارفعوا الحجر. ارفعوا ثقل الناموس، واكرزوا بالنعمة. لأنه لو أعطى ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة يتحقق البر بالناموس. لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليعطي الموعد بإيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون.

 4. سحق العجل الذهبي:

يقول الكتاب: "ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعمًا وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل" .

لماذا تصرف موسى هكذا؟

لقد أحرق العجل بالنار وسحقه وذراه على الماء لكي يشرب الشعب من هذا الماء الممتزج بالمسحوق علامة على أن كل إنسان يلتزم بأن يشرب ثمار خطاياه، وذلك كما أمرت الشريعة أن تشرب المرأة المشتبه في أمرها أنها حملت من رجل غير رجلها وليس من شاهد عليها أن تشرب ماء اللعنة المرّ، فإن كانت برئية تلد ولا يصيبها ضرر، وإن كانت قد تنجست يورم بطنها ويسقط فخذها وتصير لعنة وسط شعبها (عد 5: 11-28).

ويعلق القديس أغسطينوس على تصرف موسى النبي في العجل قائلًا: رأس العجل هو سر عظيم، إذ هو رأس لجسد أناس أشرار يتشبهون بالعجل في أكلهم العشب، إذ يطلبون الأمور الأرضية كل يوم، لأن كل جسد كالعشب (إش 40: 6) .

ألقاه (موسى) في النار حتى يزول شكله، ثم سحقه جزءًا جزءًا حتى يباد قليلًا قليلًا، وألقاه في الماء وقدمه للشعب لكي يشرب. ماذا يعني هذا إلاَّ أن المتعبدين للشيطان قد صاروا جسدًا متمثلًا به؟! وذلك كما أن الذين يعترفون بالمسيح يصيرون جسد المسيح، فيقال لهم: أنتم جسد المسيح وأعضاؤه" (1 كو 2: 27) .

يرى القديس أغسطينوس أن الشعب شرب هذا التمثال بسحقه وتذريته على الماء فاستهلكه، إشارة إلى إبادة جسد الشيطان بواسطة الإسرائليين، إذ يخرج منهم الرسل الذي يكرزون بين الأمم فيفقدون الشيطان أعضاءه.

 5. تأديب موسى للشعب:

رأى موسى الشعب وقد تعرى بسبب شره، وصار هزءًا بين مقاوميه . لقد تشفع عن الشعب قبل أن يرى بعينيه الشر وقبل الرب شفاعته ، لكنه في نفس الوقت أمر بحزم كل الذين للرب - بني لاوي - أن يقتلوا أخوتهم الذين خارج أبواب خيامهم، فقتلوا في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل.

 لقد أخطأ الشعب، وكان لابد من التأديب. فالذين دخلوا خيامهم في خجل من خطيتهم نادمين نجوا من السيف، والدليل على ذلك أنهم إذ اجتمعوا بموسى في اليوم التالي قال لهم: "أنتم قد أخطأتم خطية عظيمة، فأصعد الآن إلى الرب لعلى أكفر خطيتكم" ، أما الذين لم يبالوا بما فعلوا وكانوا خارج خيامهم فقتلوا.

 6. شفاعة موسى:

طلب الله من موسى أن يتركه ليحمي غضبه عليهم فيقتلهم  ويصيره شعبًا عظيمًا، ولكن القلب الأبوي رفض أن يترك شعبه - مهما بلغت قسوة قلوبهم - بل تشفع فيهم بقوة، إذ قال: "الآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" ... وبقيت هذه الشفاعة ينبوعًا حيًا يستقي منه الرعاة والخدام الحب الأبوي إلى يومنا هذا. وفيما يلي بعض تعليقات الآباء على هذه الشفاعة:

قال (الله لموسى) "أصيرك شعبًا عظيمًا" (خر 32: 10)، لكنه لم يقبل، بل التصق بالخطاة وصلى من أجلهم. كيف أصلي؟ إنها علامة الحب يا إخوتي! كيف صلى؟ لاحظوا أن تصرفه كان كمن يحمل حنان الأم، الأمر الذي أتحدث عنه كثيرًا.

 لقد هدد الله الشعب الذي دنس المقدسات، لكن قلب موسى اللطيف ارتعب، معرضًا نفسه لغضب الله بسببهم، إذ قال: "يا رب، والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" . بهذا نظر إلى عدل الله ورحمته في نفس الوقت. فبكونه عادلًا لا يهلك الإنسان البار (أي موسى)، وبكونه رحيمًا يغفر للخطاة.

يا لقوة الحب! يا لكماله الذي يفوق كل  كمال! العبد يكلم سيده بكل حرية، طالبًا العفو عن الشعب أو يهلك مع الجموع.
يا لعظم كماله، فإنه يود أن يموت مع الشعب ولا يخلص بمفرده!.
يقول: سهل عليّ أن أهلك معهم عن أن أخلص بدونهم!
حقًا إنه حب حتى الجنون، إنه حب بلا حدود!

 ماذا تقول يا موسى؟

أما تبالي بالسموات...؟ نعم، فإني أحب الذين أخطأوا في حقي!
أتصلي أن يُمحي اسمك؟ نعم، فإنه ماذا أقدر أن أفعل أمام الحب؟!.
لقد نطق بهذا لكونه صديقًا لله، يحمل طابعه (الحب).

هكذا كان الاهتمام الأول للرجال العظماء النبلاء إنهم لا يطلبون ما لأنفسهم بل كل واحد ما لقريبه. بهذا ازدادوا ضياءًا وبهاءًا!

لقد صنع موسى عجائب وآيات كثيرة عظيمة، لكن أمر واحد جعله عظيمًا هكذا هو حديثه الطوباوي مع الله قائلًا: "إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني..."

ماذا فعل موسى؟

أليس هذا هو الذي هرب بسبب خوفه من مصري واحد (فرعون) وذهب إلى منفى؟ ومع هذا فإن هذا الهارب الذي لم يحتمل تهديدات إنسان واحد، إذ ذاق عسل الحب بكل نبل ودون التزام من أحد تقدم ليموت مع محبوبيه قائلًا: "إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت".

هكذا هي أحشاء القديسين، أنهم يحسبون الموت مع أولادهم أعذب من الحياة بدونهم.

يرى الآباء أيضًا أن موسى النبي كان متأكدًا من حب الله الذي يقبل شفاعته ولا يعرض حياته للموت، فيقول القديس أغسطينوس: إذ عرف أنه يفعل ذلك أمام الرحيم الذي لن يمحِ إسمه قط إنما يغفر لهم من أجله.

ويقول القديس أمبروسيوس: لم يمحِ الله اسمه، بل فاضت عليه النعمة، إذ لم يوجد فيه شر.

 خلال هذا العمل صار موسى مثلًا حيًا للحب والوداعة والحلم حتى أن القديس يوحنا ذهبي الفم يرى في ظهوره مع إيليا عند تجلي السيد المسيح أمام تلاميذه، كان إعلانًا عما يجب أن يكون عليه التلاميذ من سمات فيحملون وداعة موسى وحلّمه الذي صرف غضب الله عن شعبه، وحزم إيليا وغيرته الذي طلب أن تحلّ المجاعة ثلاثة سنين ونصف للتأديب.

أما عن فاعلية شفاعة موسى في شعبه فيعلق عليها القديس يوحنا الذهبي الفم قائلًا: حقًا إن صلوات القديسين لها قوتها العظيمة بشرط توبتنا وإصلاحنا لنفوسنا. فإنه حتى موسى الذي أنقذ أخاه وستمائة ألف رجل من غضب الله لم يستطيع أن يخلص أخته.

وفي حديث القديس جيروم عن شفاعة القديسين يقول: إن كان رجل واحد أي موسى كسب صفحًا من الله عن ستمائة ألف رجل حرب، واستفانوس الشهيد المسيحي توسل طالبًا المغفرة عن مضطهديه، فهل عندما يدخل هؤلاء بحياتهم إلى المسيح تكون قوتهم أقل من هذا؟!

أخيرًا، مع قبول شفاعة موسى للشعب يقول الله لموسى: "والآن اذهب إهدِ الشعب إلى حيث كلّمتك. هوذا ملاكي يسير أمامك، ولكن في يوم افتقادي أفتقد منهم خطيتهم"، فضرب الرب الشعب، لأنهم صنعوا العجل.

 لقد قبل شفاعة موسى النبي فلا يفنيهم، بل يعطي العون حتى تتم وعوده مع الشعب، لكنه ليس بدون شرط، فإنهم إذ قبلوا الخطية حين يفتقدهم بالخلاص أيضًا يفتقد فيهم الخطية أي يؤدبهم، لذلك ضربهم بالتأديب حتى يعود ويعلن عمله الخلاصي في حياتهم.

حب الله أو رحمته لا تتعارض مع عدله، إن كان يغفر لكنه لا يقبل الاستهتار ولا يتحد مع الإنسان وهو بعد في خطيته. ولعله قصد بقوله "أفتقد فيهم خطيتهم" إشارة إلى دفعه ثمن الخطية وقبوله الموت عنهم في يوم افتقاده لهم على الصليب، حتى يعبر بهم أرض الموعد الحقيقية.