تأمل من سفر نشيد الاناشيد ++ طلبته فما وجدته (نش 3: 1) ++ البابا شنودة الثالث



تأمل من سفر نشيد الاناشيد ++ طلبته فما وجدته (نش 3: 1) ++ البابا شنودة الثالث

 تقول عذراء النشيد "في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (نش 3: 1).

إنها عبارة مؤثرة ومتعبة للنفس، كيف أن إنسانًا يطلب الله، فلا يجده في حياته؟! كيف أن الله الذي يقول "أطلبوا تجدوا" (مت 7: 7) تقول عنه العذراء "طلبته فما وجدته" (نش 3: 1)؟! وتكررها مرة أخري (نش 3: 2).

 التخلي:

نعم، هناك فترات من التخلي تبعد فيها النعمة. والنفس تطلب الرب فلا تجده!.. الظلمة تدهمها , فتبحث عن طاقة من نور..!

فترات فيها "تكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا، والأرض التي تحتك حديدا!! (تث 28: 23). لا تشعر بالدالة التي بينك وبين الله، والتي كانت بينك وبينه! ولا بالعشرة والصلة القديمة..! لا إحساس بوجود الله، ولا متعة، ولا عاطفة..

مرت عليك أوقات من قبل، كنت فيها نارا مشتعلة. والآن نبحث عن تلك النار فلا تجدها. لا حرارة في الصلاة، ولا عاطفة في القلب، ولا تعزية ولا شعور، تطلب الله ولا تجده..

 هل لأنك الآن علي فراشك، بعد نهار قضيته في مشاغل كثيرة! وإذا بمشاغل النهار التي أخذتها بعمق، جعلت شاعرك الروحية تجف!

لم تخلط عملك النهاري بالله، بل كنت غريبا عنه طول النهار! فلما طلبته بالليل علي فراشك، لم تجده!

في أوقات دالتك مع الله، كان الله بالنسبة إليك، أقرب من النفس الذي يدخل صدرك ويخرج. أما الآن فأنت تدعوه وكأنك تخاطب نفسك.. ! كنت تقرأ الكتاب المقدس، فتجد تأملات كثيرة تملأ قلبك وفكرك، وفيضا من التعزيات يغمر نفسك. أما الآن فلا تجد!! وتردد عبارة:

"طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته". وتفحص ذاتك فتقول:
إنني لا أجده. ولكنني مع ذلك أطلبه.

 ليس هو موجودًا معي. لا أحسه في حياتي. ولكنه موجود في قلبي أحسه في رغباتي وأشواقي..

حرماني من الله، يجعلني أطلبه بالأكثر. أنا لست راضيا عن حرماني منه. لست من الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور، "لأن أعمالهم شريرة" (يو 3: 19). فمع أنني في سقوطي، تكون أحيانًا أعمالي شريرة وتشبه ذلك، إلا أنني لست أحب الظلمة..

فلماذا تخلي النعمة يشعرني بالحرمان من الله؟!

 أسباب التخلي:

 أحيانًا يكون سبب التخلي، كبرياء ارتفعت فيها النفس.

إنسان يكبر في عيني نفسه، ويظن أنه قد أصبح شيئًا. وفي هذا الظن يفقد احتراسه، علي اعتبار أن الخطية لم يعد لها سلطان عليه!! ويريد الرب أن ينقذ هذا الإنسان من كبريائه وارتفاع قلبه. فيتخلي عنه قليلا، ليشعر بضعفه فلا يرتفع قلبه. لأنه " قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم" (مز 34: 18). وبابتعاد النعمة، بالتخلي المؤقت، قد يسقط الإنسان، ويهتز قيامه ويضعف. فيعود ويحترس حتى من أقل الخطايا. ويتمسك بالرب بالأكثر.

مثل هذه العذراء التي بعد أن قالت "طلبته فما وجدته" قامت وبحثت عنه. فلما وجدته قالت "أمسكته ولم أرخه" (نش 3: 4).

سبب آخر من أسباب التخلي، هو اهتمام الإنسان الزائد بالأمور العالمية، بحيث تبرد حرارته الروحية، ويقرع الله علي قلبه وما من مجيب!

و كأنه يقول لصوت الله في قلبه "أما الآن فاذهب. ومتى حصل لي وقت أستدعيك" (أع 24: 25). كما قال فيلكس الوالي لبولس الرسول. وقد حدث هذا لعذراء النشيد مرات عديدة، حينما سمعت صوت الحبيب يناديها فتكاسلت عن أن تفتح له، كما ورد في الإصحاح الخامس (نش 5: 3).

 حقًا إن التمركز حول الذات هو من أسباب التخلي:

ما أكثر ما يكون الإنسان متحوصلا حول نفسه. يفكر في ذاته، وليس في الله.. إذا أعمل؟ وماذا أكون؟ وكيف يكون؟ كيف أبني شخصيتي ومركزي؟ "أهدم مخازني وابني أعظم منها,.. وأقول لنفسي: لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة.. استريحي وافرحي" (لو 12: 18 , 19). وفيما الإنسان مشغول بذاته، يبحث عن الله فلا يجده!

بل قد يدخل في خدمة الله، وهو متمركز حول ذاته، وليس حول الخدمة، ولا هو متمركز في محبة الله وملكوته.. فيفكر كيف يستحوذ علي كل السلطة في الخدمة، ويوقف فلانا عند حده وكيف تصير كلمته هي الأولي، وهي الوحيدة! وكيف تسير كل الأمور حسب تدبيره هو! وحينئذ يطلب الله فلا يجده..

 معني: طلبته فما وجدته:

الله موجود حقا في كل مكان. فكيف تبحث عنه فلا تجده؟!

هو موجود حقا. ولكن المهم هو إحساسك بوجوده والصلة به.. الإحساس بالحب والمتعة والعشرة مع الله. الإحساس بالدالة، بحرارة اللقاء، وبسكني الله داخل القلب وعمله فيه.

قد يكون الله موجودا معك، وأنت لا تشعر ولا تدرك.

كما كلم السيد الرب مريم المجدلية بعد القيامة. ولكنها لم تشعر بوجوده. بل ظنته البستاني. وقالت له عن الرب "إن كنت قد أخذته" (يو 20: 15). بينما كان الرب بذاته هو الذي يكلمها وهي لا تدري, بل شعورها في ذلك الوقت كان "طلبته فما وجدته"..

و نفس الأمر حدث مع تلمذي عمواس. كان الرب معهما وهما لا يعلمان. بل يقولان له "هل أنت وحدك المتغرب عن أورشليم، ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها؟!" (لو 24: 18).

 تأكد أن الله لا يتركك مهما تركته. وفي نفس الوقت الذي تقول فيه: "طلبته فما وجدته" يكون هو معك، يعمل لأجلك..

لا تيأس إذا مرت عليك فترات من التخلي. لا تظن أنه تخلِّ حقيقي! ولا نظن أن التخلي مستمر..

ما أخلي قول الرب عن إحدى فترات التخلي لتلك العاقر:

"لحيظة تركتك , وبمراحم عظيمة سأجمعك" (أش 54: 7).

 مناسبة أخري:

عبارة " طلبته فما وجدته " وردت أيضا في (نش 5: 6).

حيث تقول عروس النشيد، في مناسبة أخري، فيها تخلت عن حبيبها، فتحول عنها وعبر. فقالت "نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني" (نش 5: 6) والقصة تبدأ بقولها "صوت حبيبي.. هوذا ات علي الجبال، قافزا علي التلال" (نش 3: 8). ثم " صوت حبيبي قارعا: افتحي لي يا أختي يا حبيبتي، يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندي الليل" (نش 5: 2). ولكن العروس تعتذر قائلا: "خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟! ولم تفتح حينئذ تحول عنها وعبر، بسبب إهمالها.. فذاقت التخلي..

 كانت هذه العروس مهتمة بذاتها أكثر من اهتمامها بالله وخدمته!

كانت مهتمة بزينتها الخارجية، بثوبها بنظافتها براحتها. ووسط كل ذلك تثاقلت أن تقوم وتفتح للرب.. فتركها تذوق التخلي.

لقد أنتظر الرب طويلا حتى امتلأت رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل. ولكنها تركته يمد يده طول النهار لقلب معاند مقاوم (رو 10: 21). وهكذا قدمت قلبا متراخيا متكاسلا أمام نداء الله!

 عجيب أن تعتذر نفس عن لقاء الله، وتسرد لذلك حججًا..!

آه يا رب، أنا غير متفرغ لك الآن. عندي مشروعات أقوم بها، وخدمة وخدمات عديدة أنما منشغل بها! وخطية محبوبة تسيطر علي عواطفي وفكري! أو مقابلات كثيرة ولقاءات تستغرق نهاري كله وجزءًا من مسائي. لذلك لست أجد لك وقتًا!! أعذرني إن تركتك بعض الوقت دون أن أفتح لك. فامتلأت رأسك من الطل!!

 وهكذا يتخلي الله، لا كعقاب وإنما كعلاج..

إنها نفس تزدري بالنعمة، وتهمل صوت الله داخلها، فتقع في التخلي، حتى تعود وتستيقظ، وتعرف ما ينبغي عليها أن تفعله.

ولهذا نجد أن هذه النفس قد استفادت من التخلي..

بعد أن تحول حبيبها وعبر، نراها تقول "نفسي خرجت عندما أدبر". ولم تكتف فقط باشتعال مشاعرها من الداخل، وإنما تقول "إني أقوم أطوف في المدينة وفي الأسواق والشوارع، أطلب من تحبه نفسي".. وفعلًا ذهبت تسأل عنه الحراس: "أرأيتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3).

و بالإضافة إلي هذا البحث وهذا السعي، نري أن الله يرفع عنها ذلك التخلي، ويعود إلي النفس، فتتمسك به بالأكثر.

و تقول لما رأته "أمسكته ولم أرخه" (نش 3: 4).

 إن الله يسمح أحيانًا أن نذوق مرارة البعد عنه بعض الوقت. لكي نشتاق إليه بالأكثر..
لأنه من الجائز أن محبة الله لنا، بدلًا من أن تقودنا إلي الله، نتحول بها إلي التدلل!!

فتقول "غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟!"

لك ما شئت. ولكن أن حبيبك تحول وعبر.. فماذا أفادك التدلل؟!

تأمل من سفر نشيد الأنشاد ++ في الليل على فراشي (نش 3: 1) ++ البابا شنودة الثالث



تأمل من سفر نشيد الأنشاد ++ في الليل على فراشي (نش 3: 1) ++ البابا شنودة الثالث

 نود أن نتأمل في قول عذراء النشيد:

"في الليل على فراشي، طلبت من تحبه نفسي- طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة, في الأسواق وفي الشوارع, أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (نش3: 1, 2).

عبارة "في الليل" لها معنيان: إما الليل بمعناه الحرفي. وإما الليل بمعناه الرمزي, أي في الظلمة, في الحيرة وفي ظلمة القلب, في التعب الروحي الذي أنا فيه..

"وعلى فراشي" تعنى: في كسلي, في تهاوني, في رقادي, في بعدى عن الله.. في كل هذا "طلبته فما وجدته".. أو يقصد بها معناها الحرفي.

والتي تقول هذا, إما أنها إنسانة أممية وسوداء, ليست من شعب الله. وهي نفس خاطئة كسلانة, راقدة على فراشها, لم تفتح بعد قلبها للرب, "فتحول عنها وعبر".

وهي نفس تعيش في مرحلة التخلي. لقد تخلى عنها الرب -ولو جزئيًا- لذلك هي تصرخ وتقول "طلبته فما وجدته".

 مرحلة التخلي وأسبابها:

عجيب أن إنسانا يطلب الله فلا يجده. بينما قال الرب "أطلبوا تجدوا" (مت7: 7). وهو الواقف على الباب يقرع لنفتح نحن له! (رؤ3: 20). وأيضا هو القائل "من يقبل إلى ,لا أخرجه خارجا" (يو6: 37). إذن لماذا هذا التخلي منه تجاه نفس تطلبه؟!

إن التخلي يأتي أما بسبب الإنسان, ولحكمة الله في التدبير.

قد يأتي بسبب قسوة الإنسان, وعناد وإصراره على الخطية, ورفضه إنذارات الله المتكررة, ورفضه عمل النعمة, كما سلك فرعون.. وبسبب عدم استسلامه للروح القدس, وعدم استجابته لنداء الله ونداء الضمير.. فيصل إلى مرحلة التخلي, التي قد تتطور إلى حالة الرفض الكامل..

 وربما يتخلى الرب جزئيا ومؤقتا عن إنسان, حتى لا يرتفع قلبه في بره. فيقود هذا التخلي إلى الاتضاع.

إنسان سالك في البر. وربما يظن أنه قد وصل! فيرتفع قلبه.. ويحارب بهذا. فيتخلى الرب عنه -ولو قليلًا- لكي يعرف ضعفه.

أو قد يكون بارا. وفي عدم سقوطه, لا يشفق على الساقطين. فيتخلى عنه الرب فيسقط وحينئذ يحنو على الخطاة, إذ قد جرب حروب العدو وشدتها. ويعرف حكمة الرسول في قوله "أذكروا المقيدين أنكم مقيدين معهم . و(أذكروا) المذلين كأنكم أنتم أيضا في الجسد" (عب13: 3)

إذن ليس كل الذين يتخلى عنهم الرب أحيانًا, كانوا أشرارًا وساقطين!

 من تحبه نفسي:

"في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته".
إن عبارة "من تحبه نفسي", قد تكررت هنا كثير..

وعجيب أن هذه العروس -على الرغم من كسلها وسوادها وتهاونها- لا تزال تكرر القول بأنها تحب الرب!! وكأنها تقول:

إنني أخطئ, ولكنني احبك.

المحبة موجودة "لم تسقط أبدًا" (اكو 13: 8) على الرغم من الضعف البشرى, الذي بسببه قد اسقط أحيانا. مثلما حدث للقديس بطرس الرسول الذي "أنكر الرب ثلاث مرات" (مت26: 75). ومع ذلك قال له بعد القيامة: "أنت تعلم يا رب كل شيء. أنت تعلم إني أحبك" (يو21: 17). ومثلما قال القديس بولس الرسول "الإرادة حاضرة عندي. أما أنا افعل الحسنى فلست أجد لأني لست افعل الصالح الذي أريد, بل الشر الذي لست أريده, فإياه أفعل" (رو7: 8, 19).

 "أنا يا رب نائمة حقا, ولكنى أحبك. إنني أخطئ حقا ولكنى أحبك. أنا أحبك من أعماقي. ولست أفعل الخطية عن نقص في محبتي. بل عن ضعف, وتعود, وعثرة, ولشدة الحرب, ولدوافع خارجة عنى..

حقا إنني لا أعمل أعمالًا تليق بمحبتي لك. ولكنى على الرغم من ذلك أحبك. إن حبي لك يشبه بذرة حية, فيها عناصر الحياة. ولكن لها حياة كامنة لم تظهر بعد.. ربما لو توفرت لها التربة الخصبة والماء والري وكل ظروف الإنبات, لظهرت هذه الحياة في جذور وساق وفروع وأوراق أزهار وثمار.. هكذا أنا.

ولكن عدم ظهور حياة الحب في, لا يمنع أنها موجودة.. !

 في الليل على فراشي:

زكا العشار طلب الرب في الليل, وهو على فراشه, في الظلمة الظلم (لو19). لم يترك أعمال العشارين ويطلب الرب. بل طلبه وهو رئيس العشارين. حتى أن اليهود تذمروا على السيد كيف يدخل بيت رجل خاطئ! (لو19: 7).

 واللص اليمين, طلب الرب بالليل, على فراشه على الصليب (لو23: 42).
 أوغسطينوس طلب الله وهو في عمق الليل, في عمل الخطية والشك!
 مريم القبطية, بيلاجية, موسي الأسود.. كل أولئك طلبوا الرب في الليل!

المهم أن كل هؤلاء طلبوا الرب في الليل وعلى فراشهم فوجدوه. أما هذه العذراء فقط طلبته, ولم تجده!

وعلى الرغم من ذلك ظلت تسعى وراءه حتى وجدته (نش3: 3, 4).

 هناك نوعان من الناس في طلب الله, وهم خطاة..

خاطئ يجاهد, وينتظر حتى يتطهر ويتقدس, فيجرؤ أن يتصل بالله.
وخاطئ آخر لا ينتظر ذلك, بل -في خطيئته وسقوطه- يطلب الله, لكي يطهره الله ويقدسه. وكأنه يقول للرب:

لست أنتظر حتى أتطهر فأطلبك. إنما أطلبك لكي تطهرني.
لست أنتظر حتى أصير مجتهدا وقويا في الروح ثم أطلبك, إنما وأنا كسلان, سأطلبك الآن لكي تنجيني من كسلي وتقويني.

هل أتوب أولًا ثم أطلبك؟! أم أطلبك وأقول "توبني فأتوب" (ار31: 18)

 نعم, سأطلبك وأنا بعيد عنك, لكي تقربني أنت إليك.

سأطلبك وأنا على فراشي, لكي توقظني من نومي. أطلبك وأنا في الخطية, لكي تنجيني منها.. النية موجودة عندي. ولكنى لم أسر بعد في الطريق, بل أطلب نعمتك لكي تقودني.. إن الابن الضال لم يلبس الحلة الأولى وهو في كورة الخنازير, إنما ألبسه أبوه إياها (لو15: 22). وقد رجع هو إليه بثيابه المتسخة..

إن الله يريدك أن تأتى إليه كما أنت, فلا تنتظر.

لا تنتظر حتى تصل إلى الصلاة الطاهرة, ثم بعد ذلك تصلى! كلا, بل صل حتى وأنت في طياشة الفكر, وعدم الفهم وعدم القابلية! حينئذ يمنحك الله الصلاة الطاهرة, مكافأة على ثباتك وأنت في ضعفك.

"في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي".

لو كان الذين يطلبونك يا رب هم القديسون وحدهم, لضعنا جميعًا.. ولكن الخطاة أيضا يطلبونك. وهذا يعطينا رجاء.

جميل جدا, ومعز للغاية, أن يشعر الواحد منا أن الله في وسط الليل, أوجد نجوما وكواكب تنير ظلمة الليل..

كذلك, وأنت في ظلمة الخطية, هناك أضواء تحيط بك, يكفى أنك مازلت تحب الله وتطلبه.

 أنا يا رب أريد أن أكون معك, حتى وأنا في الخطية!! إن الخطية تحطم النقاوة في حياتي, ولكنها لا تحطم عواطفي نحوك. مثل ابن يخالف أباه لتحقيق شهوة ما, ولكنه لا يزال يحب أباه..

"في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي". طلبته وأنا على فراشي. ليس في الكنيسة, ولا في أماكن العبادة, ولا في اجتماع روحي.. لذلك لا تحتقر الذين لا يحضرون الكنيسة. ربما يطلبون الله على فراشهم.

 ربما كلمة (الليل)، تعنى أيضا الليل بمعناه الحرفي.

فقد لا أجد فرصة التقى فيها مع الله, خلال ضوضاء النهار, وزحمة الناس, وكثرة اللقاءات, وكثرة المشغوليات, وما يقدمه النهار من مشاكل وأحداث وأخبار, أكون في وسطها مثل التائه..

ولكنني في الليل, في هدوئه وسكونه, أجد فرصة للإنفراد بك. وهكذا "في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي" حسب قول المزمور:

في الليالي أرفعوا أيدكم أيها القديسون, وباركوا الرب (مز 134).

نعم, في الليل على فراشي. ولذلك حسنا قال الرب عن الصلاة: "أدخل إلى مخدعك" (مت6: 6). كذلك قول المرتل في المزمور "الذي تقولونه في قلوبكم, أندموا عليه في مضاجعكم" (مز4).

 إذن ما معنى: طلبته في الليل, فما وجدته؟

أنا أتيت في الليل, وفكري مشغول بأحاديث وأحداث النهار, فلما طلبتك لم أطلبك بفكر مركز فيك, بل وأنا مهتم ومضطرب لأجل أمور كثيرة, "بينما الحاجة إلى واحد" (لو10: 41, 42). لهذا ما وجدتك!

 أو ربما لم أجدك, لأن هناك حواجز بيني وبينك.

لهذا أنا أدعو, وأنت لا تستجيب. وأشعر أنه تقف أمامي عبارتك التي تقول فيها "حين تبسطون أيديكم, استر وجهي عنكم. وإن أكثرتم الصلاة, لا أسمع. أيديكم ملآنة دما" (اش1: 15).

توجد حواجز بيني وبينك, لأنني تركت محبتي الأولى, وفقدت الدالة التي كانت تربطني بك, وخنت عشرتك.. وأشعر في مذلة نفسي أن كلماتي لا تدخل إليك, وكأنني لست ابنك!!

أريد أن اصطلح معك, واسترجع المحبة القديمة التي كانت بيننا. أريد أن أعتذر إليك, وأطيب قلبك من جهتي. نعم أريد.

 عذراء النشيد, كانت أحكم من أبينا آدم حينما أخطأ.

أبونا آدم أخطأ, فهرب من الله, واختبأ خلف الشجر (تك3: 8). أما عروس النشيد, فإنها تسعى إلى الله لكي تجده, حتى لو كانت في حالة سيئة! لكي يوجد حديث وسعى وبحث في الشوارع والأسواق عنه.

حقا يا رب إنني في مرحلة تخلى. ولكنى سأسعى وراءك بكل قوة لكي أرجع علاقتي بك. سأبحث عنك, واسأل الناس عنك, حتى أجدك.

 احترس يا أخي إذن من جهة علاقتك بالله. لا تقل قد تخلى الرب عنى, سأتخلى أنا أيضا!! لا صلاة ولا كنيسة ولا اعتراف.. !

قل له: أنت لو تخليت عنى, فلن تخسر شيئًا. أما أنا فسوف أفقد كل شيء. إن تخليت عنى سأضيع. لأن فيك وجودي وحياتي ومصيري.

لو تخليت عنى, سأجرى وراءك في الشوارع والأسواق, وأقوم وأطوف في المدينة أطلب من تحبه نفسي (نش3: 2) سأفتش عليك في كل موضع, لأنني بدونك لا أستطيع شيئا (يو15: 5). وإن كنت غاضبًا منى, وغاضبًا على, سأحاول أن أصالحك وأعتذر إليك. لن أهرب منك كما فعل جدي آدم, إذ "بك نحيا ونوجد ونتحرك" (اع17: 28). وكما قال عبدك الرسول بولس "لي الحياة هي المسيح" (في1: 21).

 نفسي على فراشها. ولكنها فترة مؤقتة, ستزول بعد حين.

مجرد كسل عارض, فلا تحسبه صفة العمر كله. حقا إنني تركتك يا رب بعض الوقت, وجريت وراء شهوات العالم. ولكنها مجرد شهوات وليست حُبًا. فالحب بحقيقته هو لك وحدك, الحب كله في عمقه.

أما ما يربطني بالعالم, فهو مشاعر طارئة زائلة, مجرد ملاذ وقتية لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الحب. لأن الحب هو عاطفة عميقة عميقة, في عمق أعماق القلب, الذي هو لك, وأنت له.

العالم بالنسبة لي كان عرضا لا جوهرا. أما الحب فهو لك, والقلب هو لك, أنت الذي تحبه نفسي, حتى إن اشتهت غيرك أحيانًا.

 تقول عروس النشيد: طلبته فما وجدته. ولكن ليس معنى هذا أنني سوف لا أجده طول العمر! فإن لم أجده اليوم سأجده غدًا.

ذلك لأن نفسي لا تستطيع أن تحيا إن لم تجده, فهي لا تحيا بدونه. كما أنه- فيما أبحث عنه- هو يبحث أيضا عنى حتى يجدني. ومتى وجدني, سوف يضعني على منكبيه فرحا, كما فعل مع خروفه الضال حينما وجده (لو15: 4, 5).

إن هذه العروس تعطينا مِثالًا للنفس التي لا تيأس مهما فقدت الرب! وكما يقول الرب "بصبركم تقتنون أنفسكم" (لو21: 19).

 هذا التخلي من الله كانت له فائدته, لأن النائمة قامت.

تركت فراشها, وظلت تبحث عنه. تحركت وتقدمت وطلبت (نش3: 2).

وهكذا بتخلي الله الجزئي, يجعلنا نتحرك. إذ لا يصح أن نستلقي على ظهورنا وننام, ونطلب من النعمة أن تعمل كل شيء!!

إن كان روح الله يعمل فينا, فيجب علينا أن نشترك مع روحه في العمل. فهذه هي "شركة الروح القدس" كما يذكرها الكتاب (2كو13: 14).

إنك قد قلت يا رب "من يحبني يحفظ وصاياي".. وأنا أحبك, ولكنني لم أحفظ وصاياك بعد!! إذ لم أصل حتى الآن إلى هذه الدرجة. ومع ذلك فإنني أطلبك, لكي تعطيني القوة التي أحفظ بها وصاياك. فأحبك حينئذ بالعمل, وليس بمشاعر القلب فقط.

تفسير سفر الحكمة 2 ++ سخرية الأشرار بالأبرار ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير سفر الحكمة 2 ++ سخرية الأشرار بالأبرار ++ القمص تادرس يعقوب

 ختم الحكيم الأصحاح الأول بالحديث عن اختيار الأشرار للموت صديقًا لهم، ودخولهم معه في ميثاقٍ وتحالفٍ، وذلك بجحودهم الإيمان وسلوكهم الشرير. الحياة الشريرة في حقيقتها موت، لأنها تحرم الإنسان من الله مصدر حياته. الآن ماذا يحمل هؤلاء الأشرار من اتجاهات، أو ما هو حديثهم الخفي؟

إذ يصب الأشرار كل رجائهم في ملذات هذه الحياة والمقتنيات الزمنية يشعرون دومًا بعدم الطمأنينة، لأنها يومًا ما تزول. لهذا تسيطر على عقولهم كما على قلوبهم نظرة تشاؤمية مظلمة. هذا يدفعهم لا إلى مراجعة أنفسهم لإدراك حقيقة الحياة الخالدة، بل إلى استخدام كل وسيلة مشروعة وغير مشروعة لبلوغ مكاسب سريعة، وتحقيق أكبر قدر من الملذات، ولو على حساب الأتقياء البسطاء. فتصير شريعتهم الخفية التي يعشقونها هي شريعة الغاب، ويحملون روح البغضة والكراهية ضد كل إنسانٍ بارٍ، لأنه يبكتهم بسلوكه واتجاهاته، سواء من جهة حبه لاخوته، أو وداعته أو ترقبه الحياة الأبدية الخالدة.

لم يقتبس الحكيم عبارات من أقوال بعض الجاحدين للإيمان ،المعاصرين له أو السابقين، وإنما يقدم اتجاهاتهم التي تكمن في قلوبهم، والتي يترجمونها غالبًا في أحاديثهم كما في سلوكهم.

1. نظرتهم السوداوية للحياة فإنهم فكروا (الأشرار) تفكيرًا خاطئًا، فقال بعضهم لبعض: "قصيرةٌ ومملة حياتنا، وليس من دواءٍ لنهاية الإنسان، ولم يُعلَم قط أنَّ أحدًا رجَع من القبر.

 واضح أن الكاتب سليمان الحكيم، فإنه حتى عصره لم يسمعوا عن شخصٍ ميتٍ قام، أما في أيام إيليا وأيضًا أليشع، فقد أقام الأول ابن الأرملة بعد صراخه إلى الرب (1 مل 20:17-22)، كما قام الميت الذي لمس عظام أليشع النبي (2 مل 13: 21).

ربما يقول أحد: ألم تكن هكذا نظرة أيوب الصديق حيث سبَّ اليوم الذي وُلد فيه (أي 3)؟

شتان ما بين حديث أيوب عن قصر الحياة وحديث الأشرار، فإنه وإن كان أيوب قد اشتدت به المرارة جدًا بسبب ثقل التجارب، واتهامات أصدقائه له وعداوتهم له، فإنه كان يشتهي الموت، لكنه كثيرًا ما ترجى الدينونة الإلهية العادلة، والقيامة من الأموات. أما الأشرار ففي نظرتهم السوداوية للحياة أنكروا القيامة.

قصر الحياة أمر لا يقدر إنسان ما أن ينكره، لكن البار يتطلع إلى حياته كقنطرة للعبور إلى الأبدية بفرحٍ وسرورٍ، أما الشرير فتحطمه الظلمة التي في قلبه، فيسيطر اليأس عليه، وعوض الأعداد للحياة الأبدية بالتمتع ببرّ المسيح، يسلك بروح الأنانية.

لقد تجسد الكلمة الإلهي، وسلك طريق حياتنا الوقتية، وقبِل الموت في حداثة سنه، لكي بقيامته نترجي القيامة، وبحسب قصر حياتنا على الأرض عطية إلهية مفرحة.

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح ظهر للرسل بعد قيامته لا لهدف إلا ليؤكد قيامة الجسد. لم يرد أن يعلمنا شيئًا سوى أنه يلزمنا أن نؤمن بقيامة الأموات.

حقًا إن إيماننا بقيامة ربنا من بين الأموات وصعوده إلى السماوات تسند إيماننا برجاءٍ عظيمٍ. لأن هذه العقيدة تُظهر لنا بقوة كيف أنه بإرادته ذاك الذي له القوة أن يرفع حياته إلى فوق قد نزل بها من أجلنا. يا لعظمة الثقة التي يوحيها رجاء المؤمنين عندما يدركون عظمة الأمور التي احتملها من أجل البشر الذين لم يكونوا بعد مؤمنين عندما كان متوقعًا أن يأتي من السماء كديان الأحياء والأموات كان المهملون في رعب شديد، ولكن إذ كرسوا حياتهم بجهادٍ عظيمٍ امتلأوا شوقًا نحوه، سالكين في حياة مقدسة عوض خوفهم من مجيئه بسبب شر حياتهم.

إنه رجاء أكيد.. صار بالفعل حاضرًا واقتنيناه عمليًّا، حياتنا المستقبلة قد تحققت الآن في رأسنا ووسيطنا القائم من الأموات، الإنسان يسوع المسيح ++ القديس اغسطينوس

إن كنتم تؤمنون أن المسيح قد قام من الموت، فلابد لكم أن تؤمنوا أنكم قد قمتم بالمثل معه. وإن كنتم تؤمنون أنه جالس عن يمين الآب في السماوات فلابد أن تؤمنوا أنكم لم تعودوا فيما بعد في المشهد الأرضي، بل في السماوي. وإن كنتم تؤمنون أنكم قد مُتم مع المسيح، فيجب أن تؤمنوا أنكم سوف تحيون معه. وإن كنتم تؤمنون أن المسيح ميت للخطية وحيّ لله، فأنتم أيضًا يجب أن تكونوا أمواتًا للخطية وأحياء لله.

هذا لأن الإنسان الذي (يضع ذهنه في ما هو فوق) يُظهر إيمانه بمن أقام يسوع من الموت. وفيما يتعلق بهذا الإنسان، "فسيُحسب له الإيمان بّرًا". فإن كنا قد قمنا مع المسيح الذي هو البّر، ونمشي في جدّة الحياة، ونحيا بحسب البرّ، فالمسيح قد قام لنا، حتى نتبرر.. إذ قد اتخذنا حياة جديدة على مثال قيامته." +++ العلامة أوريجينوس

 الفكر غير البسيط يُفقد الإنسان رجاءه في مجيء الرب الأخير (الباروسيا) مما يدفعه نحو السلوك الشرير ++ القديس إكليمنضس الروماني

ظهر ليضع حدًا لخطايا اليهود ونخلص نحن عن طريق الوارث الرب يسوع الذي أُعد ليأتي إلى العالم، فيخلص بمجيئه نفوسنا السائرة في شعاب الموت والمستسلمة للطريق الشرير ++ رسالة برناباس

2. حياة في مهب الرياح إننا وُلدنا اتفاقًا، وسنكون من بعد كأننا لم نكن قط، لأن النَسمة في أنوفنا دُخان، والنطق شرارة من ضربات قلوبنا.

 يعتنق الأشرار بسلوكهم إلحادًا عمليًا، حيث يتطلعون إلى حياة الإنسان أنها وليدة صدفة بحتة، ليس من موضعٍ لخطة الله في أذهانهم، وينظرون إلى الموت الجسماني كنهاية للحياة، ليس من حياة أخرى ولا من قيامة.

نظرة الأشرار للحياة أنها تمتع بالملذات والمرح الزمني، إذ يحطم عدم الإيمان كل رجاء في البشر، فيشعرون وجودهم كأنه عدم؛ أرواحهم ليست من الله، بل هي دخان سرعان ما يتبدد بلا عودة، وأجسادهم تتحول إلى رمادٍ يتبدد كما بالرياح.

من أهم النقاط في فكر أوريجينوس الأخروي هو فهمه الرجاء المسيحي في القيامة. ففي مقدمة كتابه De Principiis ذكر بين التعاليم المحددة في كرازة الكنيسة هو الإيمان بأن للنفس مادتها وحياتها، التي تستمر بعد الموت، لتختبر مكافأة أو عقوبة على تصرفاتها، وتتوقع أنه سيأتي وقت للقيامة من الأموات. كما تحدث بعد ذلك في نفس العمل عن قيامة الجسد ويرى أن هذا الجسد سيقوم جسدًا روحيًا يختلف تمامًا في هيئته عما هو عليه حاليًا .

في الفصل النهائي للكتاب برهن بطريقة إيجابية عن خلود النفس حاسبًا أنه لأمر شرير أن ما في الإنسان على مثال الله مثل الذهن البشرى يمكن أن يفنى تمامًا.

 فإذا انطفأت عاد الجسمُ كالرماد، وتبدد الروح كالهواء الفارغ

يمثل هذه الأفكار التي يحولها الأشرار إلى فلسفات، غايتها تبرير الإنسان لممارسة الشرور بلا ضابط. كان كثير من الفلاسفة يعتقدون بفناء الجسد والنفس تمامًا.

إذا ما عزل الإنسان نفسه عن الله يرى نفسه تافهًا لا قيمة له، أشبه بالعدم، أما في الله فيرى نفسه موضع حب خالق السماء والأرض الذي أقامه رئيسًا يسوس العالم بالبرّ والقداسة، يرى نفسه الابن العزيز جدًا عند أبيه السماوي.

(المسيح) كلمة الحق، كلمة عدم الفساد، الذي يجدد الشخص البشري بإقامته إلى الحق. إنه يحثنا على الخلاص الذي يبطل الفساد وينزع الموت ++ القديس إكليمنضس السكندري

 تحدث العلامة أوريجينوس بوضوح أن أي شخص يحتقر قيامة الأموات كما تؤمن الكنيسة لا يكون له رجاء في المسيح، ما لم يؤمن أن النفس تحيا وتنتعش ولا تتقبل هذا الجسد في القيامة بل جسدًا من نوعٍ سامٍ.
 غير أن آباء الكنيسة يؤكدون أن الجسد القائم هو ذات الجسد الذي جاهد مع النفس في هذا العالم لكنه يحمل طبيعة مجيدة تليق بالحياة الأبدية.

 يليق بنا ألا نشك أن جسدنا المائت سيقوم ثانية في نهاية العالم... هذا هو الإيمان المسيحي، هذا هو إيمان الكنيسة الجامعة، هذا هو الإيمان الرسولي ++ القديس اغسطينوس

كما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى مختفية في النفس إلى يوم القيامة، حيث تُغمر أجساد الخطاة بالظلمة المختفية الآن في النفس، هكذا مملكة النور والصورة السماوية - يسوع المسيح - يضيء الآن سرًا داخل النفس، ويملك في نفوس القديسين. إنه مخفي عن عيون الناس، لكن عيني النفس وحدها تنظران المسيح حقًا حتى يأتي يوم القيامة، حيث يغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفي الآن في نفس الإنسان.

كما أن النار التي كانت تتقد على المذبح في أورشليم دُفنت في حفرة، أثناء فترة السبي، وعندما حلّ السلام ورجع المسبيون إلى أورشليم، تحددت هذه النار عينها واشتعلت كما كانت سابقًا فبل السبي (2مل19:1)، هكذا الآن تعمل النار السماوية في هذا الجسد الذي ألفناه - هذا الذي في انحلاله (بالموت) يتحول إلى نتانة - فتجدد هذا الجسد، وتقيمه بعد أن فسد. فإن النار الداخلية التي تسكن الآن في القلب ستُستعلن حينئذ من الخارج وتحقق قيامة الجسد +++ القديس مقاريوس الكبير

 ويُنسى اسمُنا مع الزمن، ولا يذكر أحد أعمالنا، وتزول حياتنا كأثرِ سحابة، وتتبدد مثل ضبابٍ، تسوقُه أشعة الشمس، ويسقط بِحرارتها.

 يرى الأشرار غير المؤمنين أن حياتهم أشبه بضباب يسوقه شعاع الشمس، ثم يتكثف بحرارة الشمس، ويتحول إلى ماء يسقط على الأرض، فتتشربه ولا يصير له وجود. فمع زوال الحياة التي يُشبهها الأشرار بالسحابة تعبر لتظهر الشمس، يعتقدون بأنه لا يبقى للإنسان حتى ذكرى وسط الأجيال القادمة. يرى الشرير أنه لا خلاف بين نصيب الأشرار أو الأبرار بعد الموت.

يؤكد الكتاب المقدس: "ذِكرُ الصديق للبركة، واسم الأشرار ينخر" (أم 10: 7). كما يقدم الرب وعدًا للأبرار: "إني أعطيهم في بيتي وفي أسواري نصيبًا، واسمًا أفضل من البنين والبنات؛ أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 5). مثل هذا الوعد لا مكان له في فكر الشرير أو في قلبه.

3. غايتهم اللذة الزمنية فإن أيامَنا مُرور الظل عينه، ونهايتنا بلا رجعةٍ، لأنه مختومٌ عليها، فمَا من أحدٍ يعود.

يرى الأشرار أن حياتهم تمر مرور الظل، وهنا لا يقصدون مجرد قصر الحياة الزمنية، وإنما زوالها تمامًا بلا شيء، تكونت كالظل من لا شيء وتنتهي إلى لا شيء، مما يدفعهم إلى الانغماس في الملذات. أما يعقوب الرسول فإذ يقول: "لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل" (يع 4:4)، فباضمحلالها في هذا العالم نتمتع بحياة جديدة أبدية، لذا يضيف "فمن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل، فذلك خطية له" (يع 4: 17). شعور الأشرار بقصر الحياة يفسدهم، وشعور الأبرار بذلك يدفعهم لجهادٍ أعظم.

في يأسٍ شديدٍ يعتقد الأشرار في قصر الحياة، حيث لا هروب من الموت، ولا عودة من القبر. أما الصديقون، فإذ يؤمنون بعناية الله الفائقة وخطته، يدركون أن "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت" (جا 1:3)، فالحياة ليست وليدة مصادفة، والأحداث لا تتم بلا تدبيرٍ إلهيٍ. الحكيم يدرك أن خلقته هي عطية إلهية، ولحياته رسالة مجيدة تحقق خطة الله من نحوه.

 فتعالوا نتمتع بالطيِّبات الحاضرة، وننتفع من الخليقة بحَمِيَّة الشباب.

يركز الأشرار على الطيبات الحاضرة، أو الملذات الوقتية عوض الأمجاد الأبدية. وكأن حياتهم القصيرة هي فرصة للانتفاع بالخليقة بكل وسيلة في حمية الشباب، أي كمن هم أصحاب قوة وقدرة، يتمتعون بالخيرات قبل حلول الشيخوخة والعجز.

 لنسكر من الخمر الفاخرة والعطور، ولا تفتنا زهرةُ الربيع.

مع إدراكهم أن الأمور الزمنية مؤقتة وزائلة، لكن بسبب شعورهم بأنهم في طريقهم إلى العدم، وليس من خلود للإنسان، فلا مجال للجهاد من أجل الحياة المقدسة في الرب، وإنما الترف واللذة هي متعتهم قبل حلول الفساد سواء للمادة أو لهم هم أنفسهم. فرحهم ينصب في اللذة. أما المؤمن فيتلمس حب الله الخالق في العالم الجميل الذي أوجده له، لكن يجد متعته في تقديم الشكر للخالق على عطاياه، وليس في الاستعباد للمادة. إنه يعتز بممارسته الحرية التي وهبت له، فيبقى دائمًا السيد للمادة وليس عبدًا لها.

 يقول القديس إكليمنضس السكندري إن الطعام ليس هدفًا نشتهيه، بل وسيلة حياة، فتقودنا كلمة الله لا شهوة الطعام، للتمتع بالأبدية.

لا يكون الطعام هو شغلنا الشاغل، ولا هو متعتنا وهدفنا في الحياة، بل هو وسيلة لحياتنا التي يدبرها الرب "الكلمة" ليقودنا إلى الأبدية...

 لم يدركوا أن الله أعطى مخلوقه الإنسان الطعام والشراب لكي يعيش ويستمر في الحياة، وليس من أجل اللذة...

لقد خُلقنا لا لنأكل ونشرب، بل لنكرس أنفسنا لمعرفة الله.. فإن البطن الشرير لا يشبع أبدًا (أم 5:13)، إذ تملأه الشهية التي لا تشبع ولا ترتوي.

يلزم أن يكون لدينا نوع من التمييز فيما يختص بالطعام، فيكون الطعام بسيطًا، عاديًا جدًا، مناسبًا لأولاد بسطاء.. يمهد لحياة تقوم على أمرين أساسيين هما الصحة والقوة. هذا يتفق مع كون الطعام بسيطًا بلا تعقيد، فيكون سهل الهضم، يجعل الجسد خفيفًا رشيقًا، يحقق النمو والصحة.

فن الطهي التعس يفسد التذوق، كما يحدث في فن صناعة الحلوى والفطائر.

لا يكتسب الجسم البشري أية فائدة من البذخ في أصناف الطعام، بل على العكس من ذلك فإن الذين يستخدمون الحد الأدنى من الطعام هم أكثر قوة وأفضل صحة وأكثر شرفًا وكرامة، فنرى الخدم أحسن صحة من سادتهم، والفلاحين أكثر صحة في البدن من أصحاب الأملاك .

 الفلاسفة أحكم من الأغنياء، لأنهم لا يدفنون العقل تحت أكوام الطعام، ولا يخدعون أنفسهم باللذات والمتع، ولكن وليمة المحبة "أغابي" `agapy هي في الطعام السماوي، وفي وليمة العقل والتفكير السليم...

النهِم يكون كمن يدفن عقله في بطنه +++ القديس إكليمنضس السكندري

 أما عن السكر بالخمر ووضع أكاليل من الزهور على الرؤوس فقد كانت ضمن الطقوس الوثنية ترتبط بممارسة الرجاسات والعبادة للأصنام.

ولنتكلَّل ببراعم الورد قبل ذبوله.

 كانت المسارح والملاعب تُستخدم عادة للاحتفالات الخاصة بالآلهة الوثنية أو بالحاكم أو الإمبراطور كإله، وكان لها طقوسها الخاصة، مثل إنارة مشاعل ووضع أكاليل من الزهور على رؤوسهم. وقد اضطر بعض المسيحيين في القرون الأولى ، بسبب البسطاء أو الضعفاء في الإيمان، رفض استخدام الزهور، ليس لأنها دنسة، ولكن لأنها ارتبطت بعبادة الشيطان والأوثان. مع هذا يقول الشهيد يوستين (110- 165):

كل شيء يُولد كعطية الله التي لا تُنتهك حرمتها، لا يُمكن انتهاكها بعمل بشري (حتى وإن استخدمت في طقوس وثنية). على أي الأحوال، نحن نمتنع عن استخدامها حتى لا يعتقد أحد أننا نخضع للشياطين الذي من أجلهم يُشرب الخمر، أو أننا نخجل من ديانتنا.

 بالتأكيد زهور الربيع مبهجة لنا، فإننا نختار وردة الربيع والسوسنة وغيرها من الزهور ذات الألوان المبهجة للغاية والرائحة الذكية، ونستخدمها سواء كلٍ منها بمفردها أو ننثر أوراقها أو ننسجها معًا كأكاليل نزين بها رقابنا.

ويقول مونيكوس فيلكس Minucius Felix (القرن الثاني أو الثالث) إن الزهور نافعة لحاسة الشم حيث تستقبل الأنف رائحة زكية.

يقول القديس إكليمنضس السكندري: الذين تعلموا بواسطة اللوغوس يمتنعون عن ارتداء أكاليل (الزهور). إذ يحسبون أنه ليس من الضروري أن يقيدوا أذهانهم التي في رؤوسهم، ليس لأن الإكليل رمز لحياة السكر الجامحة، وإنما لأنها ترتبط بالوثنية.

 ولا يكن فينا من لا يشترك في قصفِنا. لنترك في كل مكان علامات ابتهاجنا، فإن هذا حظُّنا، وهذا نصيبُنا.

 إذ لا يشغلهم شيء سوى حياة القصف أو العربدة الصاخبة revelry والخلاعة wanton. فإنهم يدعون أقرباءهم وأصدقاءهم إلى الشركة في هذه الحفلات الماجنة، متطلعين أنها الحياة بعينها والبهجة، وأن هذا هو نصيب الإنسان المفرح. بدونها تُحسب لحياة موتًا، لا طعم لها.

4. شريعتهم شريعة الغاب لَظلُمِ البارَّ الفقير، ولا نشفق على الأرملة ولا نَهَبْ شَيبة الشيخ الكثير الأيام.

الأشرار في انحلالهم يريدون أن يبكموا صوت الحكمة والعدالة، يقاومون الحكماء ولا يبالون بخبرة الشيوخ المتعقلين.

فقدان الأشرار الرجاء في الخلود لا يدفعهم إلى اللذة فحسب، وإنما يجدون متعتهم في اغتصاب الآخرين حتى الفقراء والأرامل والشيوخ. لقد فقدوا الشعور بالحب والحنو، فصار قانونهم الظلم والسلب غير مبالين باحتياجات الفقير أو مرارة نفس الأرملة أو ضعف الشيخ. رأوا أن من حقهم ممارسة القوة، وأن في هذا التصرف عدالة.

باعتزالهم الله مصدر الحب والحنو والنموذج العملي للقيم السليمة والمبادئ فقدوا كل إحساس وعاطفة، واختلت موازينهم الداخلية، صاروا أبشع من الوحوش المفترسة تحركها الغريزة والشهوة، تقسو بعنفٍ دون أن تدري.

 بل لتكن قوتنا شريعة العدل، فإنه من الثابت أن الضعف لا يُجدي نفعًا.

شريعة الأشرار ومبدأهم ليس ناموس الله، بل شريعة القوة، بكونها فوق الحق. شريعتهم هي شريعة الغاب. يرون في الحب وطول الأناة والاحتمال ضعفا وخنوعًا لا يليق بهم.

يا أيها المتعالون والمتكبرون والمتعجرفون، تذكروا الموت، الذي سيحطم تعاليكم ويحل أعضاءكم ويفك المفاصل ويحل الفساد بالجسم وكل أشكاله. بالموت ينحط المتعالون، والعنفاء القساة يُدفنون في ظلمته...

يا أيها الجشعون المغتصبون والسالبون لزملائكم تذكروا الموت، ولا تضاعفوا خطاياكم. ففي ذلك الموضع لا يتوب الخطاة، ومن سلب ممتلكات رفيقه لا يملك حتى ماله، بل يذهب إلى الموضع الذي لا تُستخدم فيه الثروة، ويصير بلا شيء، تعبر عنه كرامته، وتبقى خطاياه لتقف ضده يوم الدينونة ++ القديس أفراهاط

5. بغضهم للأبرار ولنكمُن للبار فإنه يُضايقنا، يُقاوم أعمالنا، ويلومنا على مخالفاتنا للشريعة، ويتَّهمنا بأننا نسيء إلى تعليمنا.

 لم يقف الأشرار عند الانهماك في الشهوات واستخدام العنف والظلم حتى مع الفقراء والمساكين، بل يحاولون الإيقاع بالأبرار، ونصب شباكٍ وفخاخٍ لهم، لأنهم يرفضون الشركة معهم في شرورهم، ولأنهم يوبخونهم على تصرفاتهم الخاطئة، إن لم يكن بالكلام فبسلوك الأبرار.  بهذا يصير منظر البار ثقيلًا للغاية عليهم، لأنه يوبخهم.

 يرى البعض أن هذه العبارات تحمل نبوات واضحة عن ربنا يسوع المسيح البار الذي بتصرفاته كما بتعاليمه وبَّخ الكتبة والفريسيين، فلم يحتملوه، إنما كمنوا لقتله والتخلص منه بالصليب.

والعجيب أن الأشرار لا يحتملون البار حتى بعد موته، فتبقى ذكراه موبخًا لهم. هذا حدث مع السيد المسيح حتى بعد موته وقيامته، إذ لم تستطع القيادات اليهودية أن تسمع اسم يسوع، وكان الاتهام الموجه ضد المسيحيين هو اتهام الاسم. وكانت صرخات القيادات ضدهم أنهم يجلبون هذا الاسم عليهم.

 النور الإلهي المشرق في حياة البار لا تحتمله الظلمة الكامنة في قلوب الأشرار. فالعالم بظلمته لا يقبل النور، وكما قال السيد المسيح في صلاته الوداعية عن تلاميذه: "العالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم" (يو17: 14).

يرى القديس أمبروسيوس أن يوسف وجد إخوته في دوثان (تك 37: 17) والتي تعني "الهجران"، بهذا يمثلون النفوس التي تهجر الله، ولا تريد أن تأتى إليه لتجد فيه راحة (مت 11: 28). هؤلاء إذ رأوا يوسف قادمًا من بعيد ثاروا ضده وأرادوا قتله (تك 37: 28). لقد ثاروا وهو بعيد عنهم، هكذا عندما جاء السيد المسيح إلى خاصته ليقترب إليهم رفضوه ودبروا قتله، قائلين ما ورد في سفر الحكمة: "ولنكمن للبار، فإنه يضايقنا" (حك 2: 12) .

لنهرب من سلام الأشرار، فإنهم يتآمرون ضد الإنسان البار. يجتمعون معًا، ليضغطوا على من هو بار ++ القديس أمبروسيوس

إذ كانت أفكار اليهود هي أن يصنعوا بالرب ظلمًا... نسوا أنهم كانوا يجلبون الغضب ضد أنفسهم لهذا بكى الرب عليهم (على لسان النبي) قائلًا: "لماذا ارتجت الأمم، وتفكرت الشعوب في الباطل" (مز 1:2).

حقًا باطل هو تفكير اليهود، إذ يفكرون في الموت ضده الحياة، ويشيرون بأمور غير معقولة ضد كلمة الآب!

ومن يتطلع الآن إلى تشتيتهم وخراب مدينتهم يقول: "الويل لهم، فقد فكروا شرًا ضد أنفسهم".

حسن هو هذا يا اخوتي، لأنهم إذ أخطأوا في حق الكتاب المقدس لم يعرفوا أن "من يحفر هوة يقع فيها، ومن ينقض جدارًا تلدغه حية" (جا 8:10) ++ البابا أثناسيوس الرسولي

قيدوا يسوع وأحضروه إلى دار رئيس الكهنة، أتريد أن تعرف كيف سبق أن كُتب هذا أيضًا؟ يقول إشعياء: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لنفسهم شرًا، قائلين: لنقيد البار، لأنه مغلق لنا" (راجع إش 3: 9، حك 2: 12) نعم ويل لنفوسهم.

لترى كيف هذا، فإن إشعياء نُشر إلى أجزاء، وبعد ذلك انصلح الشعب. إرميا طُرح في جب من طين، لكن جرح اليهود شفي، إذ أن آثامهم كانت قليلة لأنها موجهه ضد إنسان. لكن عندما أخطأ اليهود إلى الله المتأنس قيل: "ويل لنفوسهم... لنقيد البار!"

ألم يكن قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟! قد يقول قائل: الذي حل لعازر من رباطات الموت في رابع يوم، وأطلق سراح بولس من قيود السجن الحديدية، أما كان قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟

لقد وقفت الملائكة مستعدة تقول: "لنقطع قيودهم" (مز 2: 3)، لكنهم أحجموا، لأن سيدهم شاء أن يقبل هذا.

اقتيد إلى المحكمة أمام الشيوخ. وهذه شهادة عن ذلك "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 3: 14) +++ القديس كيرلس الأورشليمي

 يزعُمُ أن عندهُ علم الله، ويُسمي نفسه ابن الرب.

إذ بكَّت يسوع البار اليهود في مواضعٍ كثيرةٍ (مت25؛ يو8)، وكشف لهم عن مرضهم، لم يحتملوا هذا العالم بل طلبوا أن يقتلوه، "لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا إن الله أبوه، معادلًا نفسه بالله" (يو 5: 18).

صار لَومًا على أفكارنا.

يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن الله لا يعزل الأبرار عن الأشرار، بل يسمح باختلاطهم معًا لصالح الطرفين. فالأشرار يتطلعون إلى الأبرار، فيوبخهم برّ الأبرار، ومن الجانب الآخر يُحسب هذا مكسبًا للأبرار حيث يكونون سببًا لتوبة بعض الأشرار.

وحتى منظره ثقُل علينا. لأن سيرته لا تُشبه سيرة الآخرين، وسُبُله مختلفة.

صار في أعينهم شاذًا، فالبٌر بالنسبة لهم ضعفًا وتخاذلًا، والعنف والسلب قوة وشهامة. صار الخير في أعينهم شرًا، والشر خيرًا.

يوجد نفع للأشرار باختلاطهم بالصالحين، فإنه يشعرون بارتباك، ويخجلون، ويستحون في حضورهم. فإنهم حتى وإن لم يمتنعوا عن الشر، لكنهم لا يجسرون على فعل ما يصنعونه في سرية. وهذا أمر ليس هينًا، ألاَّ يرتكبوا معصية علانية. تصير حياة الآخرين مُتهمًا لشر أولئك.
اسمعوا على الأقل ما يُقال عن الإنسان البار. "صار خطرًا علينا حتى منظره" (حك 2: 14) إنها بداية ليس هينة للإصلاح خلال التعذيب بحضور (الإنسان البار).

 يكره السارق النور.

مجرد التطلع إلى الإنسان البار أمر بغيض بالنسبة للخطاة. "حتى منظره مُحزن لنا" (حك 2: 15). إذ لا يحتملون بهاءه، وذلك مثل العيون المريضة التي لا تحتمل أشعة الشمس.

ولكن بالنسبة لكثيرين محزن لهم لا أن يروه فحسب، بل وحتى أن يسمعوا عنه++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 أمسَينا في عينيه شيئًا مُزيَّفًا، ويتجنبُ طُرُقنا تجنب النجاسات. يُغبِّطُ آخرَةَ الأبرار، ويتباهى بأن الله أبوه.

لا يليق بالبار أن يستخف بالخطاة، ولا أن يدينهم، وإن كان لا يقبل شرورهم، ولا يسلك في طرقهم. لا يليق به أن يهينهم ولو بنظراته، بل أن يترفق بهم ويحبهم في الرب طالبًا خلاصهم. لكن الأشرار وهم عالمون فساد طرقهم ورفض البار السلوك معهم في ذات الطريق، يدركون أنه يعلِّمهم أن طريقهم باطل ومزيف، وأنه يتجنب طرقهم، لأنه يطوِّب نهاية الأبرار، ويعتز بروح البنوة لله، هذه الروح التي قدمتها له نعمة الله الغنية في مياه المعمودية.

 لكن ما هو ردّ فعل الأشرار المصرِّين على شرهم؟ يقولون:
فلننظر هل أقواله صادقة، ولنختبر كيف تكون عاقبته؟
عوض الاقتداء بالبار، يسخرون منهم، كما سخروا بالقدوس البار ابن الله الوحيد.

6. مقاومة للأبرار حتى الموت فإن كان البارُّ ابن الله، فهو يعينه وينقذه من أيدي مقاوميه.

 يعتز الأشرار بقوتهم الغاشمة ويظنون أنه ليس من قوة تقدر أن تقف أمامهم، حتى الله نفسه. وإذ يسيئون إلى البار يسخرون به قائلين: "إن كان الصديق ابن الله فلينصره وينقذه من أيدي مقاوميه". هكذا يتحدون الله نفسه إن كان يستطيع أن ينقذ البار من أيديهم.

هنا نبوة واضحة عن السيد المسيح، حيث سخروا منه، حتى قال اللصان: "خلَّص آخرين، أما نفسه فلم يقدر أن يخلصها". وقيل عنه: "إن كان ابن الله، فلينزل عن الصليب فنؤمن به". لم يدركوا أنه بالصليب انتصر السيد المسيح على الشيطان، وبموته داس الموت، خلص البشرية كلها حتى تنتصر وتتكلل به.

 فلنمتحِنْهُ بالشتْمِ والتعذيب، لكي نعرف حلمه ونختبر صبره.

 هذا التحدي كان قائمًا بين الشيطان  شخصيًا أو خلال حزبه الذي دخل معه في عهدٍ والله في أشخاص مؤمنيه من رجال العهدين القديم والجديد، وقد بلغ القمة عند مجيء ابنه الوحيد الجنس، فظن عدو الخير أنه قادر على الخلاص منه تمامًا بالصليب، حيث جهل العدو تواضعه وخطته لخلاص العالم. ويبقى هذا التحدي قائمًا بين العالم الذي وُضع في الشرير وبين كنيسة الله، يتزايد ليبلغ القمة بمجيء ضد المسيح في آخر الأيام، حيث يدرك عدو الخير أن نهايته قد اقتربت جدًا.

 ولنحكم عليه بميتَةِ عارٍ، فإنه سيُفتَقدُ بحسب أقواله".

 يرى كلًا من القديس أغسطينوس والعلامة أوريجينوس أن الأشرار يحكمون على البار - ربنا يسوع - بموت العار، أي بالصليب، ولم يدركوا أنه بالصليب كان في قمة المجد خلال حبه وتواضعه.

 ها نحن نرى هذه النبوة (حك 2: 12-21) في شكل اشتياق وصلاة، تحققت في يسوع المسيح +++ القديس أغسطينوس

لقد تمجد عندما جاء إلى الصليب وعندما احتمل الموت. أتريدون أن تعرفوا أنه قد تمجد؟ قال بنفسه: "أيها الآب، قد أتت الساعة؛ مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا" (يو 17: 1). احتمال الصليب كان مجدًا له، لكن مجده لم يكن في منظرٍ جميلٍ، وإنما في تواضعٍ. فقد قيل عنه: "تواضع حتى الموت، موت الصليب" (راجع في 2: 8). وقد تنبأ النبي عن ذلك، قائلًا: "ولنحكم عليه بميتة عارٍ" (حك 2: 20). ويقول عنه إشعياء: "من الضغطة ومن الدينونة أُخذ" (إش 53: 8) . العلامة أوريجينوس

 وكما أراد العدو الخلاص من السيد المسيح بالصليب، هكذا لا يكف عن أن يجاهد في قتل المؤمنين وتحطيمهم منذ ولادتهم. يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلًا: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها" (خر 22:2)، قائلًا:

أترون بماذا يأمر رئيس هذا العالم خدامه؟ إنه يأمر بسرقة أولادنا، وإلقائهم في النهر، ونصب الشباك على الدوام منذ ولادتهم. يأمر بالهجوم عليهم منذ يبدأون في لمس ثديي الكنيسة ويطلب نزعهم عنها ومطاردتهم حتى تبتلعهم أمواج العالم...

 تأمل الخطر الذي يهددك منذ ولادتك، بل بالأحرى منذ ولادتك الجديدة، أي منذ نوالك المعمودية مباشرة... فقد أُصعد يسوع إلى البرية من الروح ليُجرب من إبليس (مت 1:4).

هذا هو أمر فرعون لشعبه بخصوص أولاد العبرانيين، أي الهجوم عليهم واقتناصهم في لحظة ولادتهم وإغراقهم... لكن المسيح انتصر حتى يفتح لك طريق النصرة، انتصر وهو صائم حتى تدرك أنت أيضًا كيف تخرج هذا الجنس بالصوم والصلاة (مر 29:9) .

7. إنكارهم الخلود هكذا فكروا، ولكنهم ضلُّوا، لأن شرَّهم أعماهُم.

 يمنعهم كبرياؤهم عن مراجعة أنفسهم، فثبتوا في الجهل والضلال والعمى الروحي.

توغلهم في الشر أعماهم عن رؤية حكمة الله في طول أناته ليهبهم فرصة للتوبة، وكيف يزكي الأبرار باحتمالهم الآلام لينالوا أكاليل مجدٍ في السماء. لم يدركوا القوة العاملة في حياة أولاد الله والتي تهبهم سلامًا وسط الضيقات، وشعور بمعية الله، فيفرحوا ويتهللوا وسط الآلام.

هؤلاء ينتعشون في سعادة هذا العالم، ويهلكون في قوة الله. ليس فيما هم ينتعشون يهلكون بذات الأمر؛ لأنهم ينتعشون إلى حين، ويهلكون أبديًا. ينتعشون في خيرات غير حقيقية، ويهلكون في عذابات حقيقية+++ القديس أغسطينوس

 فلم يعرفوا أسرار الله، ولم يرْجوا جزاءً للبرّ، ولم يقدِّروا تكريمَ النفوس التي بلا لومٍ.

لا يعرف الأشرار أسرار الله، أي حكمته ومقاصده من نحو الإنسان، إذ لا يختبرونها في حياتهم. كما لا يبالون بما ورد في الشريعة عن مجازاة الأبرار وهلاك الأشرار. لم يعرفوا أو تجاهلوا ما ورد في سفر التكوين عن الإنسان أنه صورة الله، وخُلق على مثاله (تك 27:1). إنهم إذ لا يذوقون عربون السماء هنا، لا يكون لهم نصيب مع الأبرار في المجد الأبدي، بل ولا حتى يؤمنون به.

أولئك الذين يرضون بالإثم لا يكون لهم نصيب بين الخالدين +++القديس أنطونيوس الكبير

 فإن الله خلق الإنسان لعدم الموت، وجعله صورة ذات أبديته.

لم يكتفِ الله بأن يخلقنا من العدم، ولكنه وهبنا أيضًا بنعمة الكلمة إمكانية أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي، وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فسادٍ بالموت. لأنهم كانوا - كما ذكرت سابقًا - فاسدين، لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين. ولأن الكلمة سكن فيهم، لم يمسهم فسادهم الطبيعي، كما يقول سفر الحكمة: "الله خلق الإنسان لعدم الموت، وجعله على صورة أزليته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم".

وبعدما حدث هذا بدأ البشر يموتون. هذا من جهة الوقت إذ بدأ الفساد يسود عليهم +++ البابا أثناسيوس الرسولي

 لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، فيختبرُه الذين هم من حِزبه.

"الموت" هنا هو الموت الروحي الذي يسقط تحته الأشرار.

ليس للإنسان عدو حقيقي إلاَّ إبليس الذي لا ييأس من العمل الدائم ليضم أكبر عدد ممكن من البشرية إليه، لا لهدفٍ سوى مشاركته للهلاك الذي يحل به. يستخدم إبليس كل وسيلة، تارة خفية وأحيانًا علانية، كتشكيك الإنسان في الله، وجذبه بالملذات.

 ماذا يعني بالقول: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم"؟ أنتم ترون أن هذا الوحش الشرير رأى أن الإنسان الأول قد خُلق خالدًا، فبسمته الشريرة قاده إلى عصيان الوصية، وبها جلب لنفسه الموت. إذن الحسد سبب خداعًا، والخداع عصيانًا، والعصيان موتًا +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 الحسد دائمًا ما يتبع طريق الفضيلة. وكما يقول هورس Horace بأنه حتى قمة الجبل تُضرب بالبرق. ليس بالأمر المدهش أن أعلن ذلك للرجال والنساء، عندما نرى حسد الفريسيين قد نجحوا في صلب ربنا نفسه. كل القديسين لهم من يكنون لهم رغبات شريرة، حتى الفردوس (الجنة) لم يكن خاليًا من الحية التي من خلال حقدها جاء الموت إلى العالم (رجع 2: 24) +++القديس جيروم

في الواقع يوجد صراع بين الفضيلة وحسد (إبليس). واحدة لضبط كل عصب ليقهر الصلاح، والثانية تحتمل كل شيء لكي يعيش الإنسان غير خاضعٍ. واحدة تعمل لتُسهل طريق الرذيلة، والثانية تتمسك بالصلاح حتى وإن عانى الإنسان متاعب أكثر من الآخرين ++ القديس غريغوريوس النزينزي

"بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24). قدم الشيطان الموت لنا، لكن ليس من إلزامٍ على الإنسان أن يقبله، لأنه ليس للشيطان أن يجلب عليك شيئًا. موافقتك يا أيها الإنسان قادتك إلى الموت .

الآن إذ جاء الموت إلى الناس من إبليس، ليس لأنهم ذريته، وإنما لأنهم تمثلوا به، لذلك أضاف في الحال: "والذين صاروا من حزبه تمثلوا به" (راجع 2: 24) ++القديس أغسطينوس

إن فحصت الأمر جيدًا، تجد أنه لا يمكن أن يصيبني أي ضرر من أي إنسان مهما كان مؤذيًا، ما لم أحارب نفسي... فإن لحقني الضرر، فالخطأ ليس بسبب هجوم الآخرين، إنما لعدم احتمالي. وذلك كالطعام الدسم جدًا، مفيد للإنسان المتمتع بصحة جيدة، إلا أنه مضر للمريض، فهو لا يضر الإنسان الذي يتناوله ما لم يكن هو مريضًا أصلًا. ومهما يكن الأمر، فعليكم أن تعرفوا أن خطية الحسد يصعب الشفاء منها أكثر من بقية الخطايا، فهي الوباء الذي رمز له النبي: بالحيات "لأني هأنذا مرسل عليكم حياتٍ أفاعيَ لا تُرقَى، فتلدغكم يقول الرب" (إر17:8).

 بحق قارن النبي لدغات الحسد بسم الأفاعي المميت... فهي مصدر سموم، لكنها تَهلك وتموت بعد لدغها للشخص. فالحاسد لا يضر المحسود، بل يُهلك نفسه بنفسه قبل أن يؤذي المحسود، يُهلك نفسه قبل أن يصب سم الموت على الغير، لأنه "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه" (حك 2: 24-25). كما أن أول من هلك (إبليس) بواسطة الحسد لا يجد علاجًا للتكفير ولا الشفاء، كذلك الذين يسمحون لأنفسهم أن يكونوا حاسدين، تُستبعد عنهم مساعدة أي راقٍ مقدس، لأنهم لم يُعذبوا بخطايا الآخرين، إنما تعذبوا بتفوق ونجاح من يحسدونهم. وهم يخجلون من إظهار الحقيقة، فيبحثون عن عللٍ خارجيةٍ تافهة يبررون بها الخطية، وإذ يزيفون الحقيقة على الدوام، لذلك يبقى رجاؤهم في الشفاء باطلًا، بينما يسري في شرايينهم السم المميت الذي لا يفرزونه، بل ينبعث فيهم بسبب نجاح الآخرين.

الحسد يصعب شفاؤه، لأنه بالبحث عن أسبابه، يصير إلى حال أردأ. يبحث في الأسباب الخارجية لا الحقيقة الداخلية، ويزداد شدة بتقديم الخدمات والهدايا للحاسد، لأنه كما يقول سليمان نفسه: "أَنه يقف قدام الحاسد" (أم 4:27). على قدر ما ينجح الآخر (المحسود) في الخضوع والتواضع أو في فضيلة الصبر أو الكرم، تزداد وخزات حسد الآخر، إذ لا يود إلا هلاك المحسود وموته +++ الأب بيامون