من كتاب المسيح مشتهى الأجيال ... أحداث المجيء الثاني ++ الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ ورئيس دير الشهيدة دميانة بالبراري


من كتاب المسيح مشتهى الأجيال ... أحداث المجيء الثاني ++ الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ ورئيس دير الشهيدة دميانة بالبراري

قال السيد المسيح لتلاميذه: "وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطى ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماوات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء السماوات إلى أقصائها" (مت 24: 29-31).

 إظلام الشمس

كما أظلمت الشمس في يوم صلب السيد المسيح بصورة معجزية، سوف تُظلِم أيضًا ولكن بصورة نهائية في مجيئه الثاني. تنبأ ملاخي النبي عن يوم الصلب وأيضًا عن المجيء الثاني وكتب أن الرب يقول "ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها.. هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف" (ملا4: 2، 5) حينما تظلم الشمس الطبيعية، تشرق شمس البر أي السيد المسيح.

في المجيء الأول: أشرقت شمس الخلاص عندما بسط السيد المسيح ذراعيه على خشبة الصليب. وبهذا كان الشفاء في أجنحة السيد المسيح وهو معلّق في الجو مثل الطائر أو مثل النسر الذي يفتح جناحيه أو يبسط ذراعيه يدعو الجميع إلى أحضانه التي فيها الخلاص.

في المجيء الثاني: حينما تظلم الشمس، تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. فكيف تظهر في الظلمة بدون الشمس والقمر والنجوم إن لم تكن منيرة؟

فالاحتمال الأغلب هو أن تكون العلامة هي علامة الصليب المنيرة. لأن الصليب هو علامة المسيحية في كل مكان. وقال معلمنا بولس الرسول: "كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله" (1كو1: 18). وقال أيضًا: "أنتم الذين أمام عيونكم قد رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبًا" (غل3: 1).

وهذا معناه أن الإنسان المسيحي يرتسم أمام عينيه باستمرار صليب المسيح.

علامة ابن الإنسان

 لذلك فالأغلب أن تكون علامة ابن الإنسان هي علامة الصليب. وأن تكون مضيئة بقوة حتى يراها الجميع قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف. وهذا ما تسلّمناه من تقليد الكنيسة أن الصليب هو علامة ورمز المسيحية، تتزين به الكنائس وبه تتم مباركة كل الأشياء.. فهو علامة المسيحية وعلامة البركة والخلاص والتقديس. يعقب ظهور علامة ابن الإنسان أن يظهر السيد المسيح نفسه "آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير" (مت24: 30).

 مجيء ابن الإنسان

 قال السيد المسيح عن مجيئه الثاني: "ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب" (مت25: 31، 32) . وقال أيضًا: "فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله" (مت16: 27).

وقد وصف السيد المسيح عمدًا مجيئه الثاني مرة بقوله "في مجد أبيه"، ومرة أخرى "في مجده"كما أوردنا في الآيتين السابقتين، وذلك ليؤكد لنا أن مجده هو مجد أبيه. في الأقانيم الثلاثة مجد واحد ومُلك واحد وقدرة إلهية واحدة. لأن الجوهر الإلهي واحد غير منقسم.

بالإضافة إلى ذلك فإنه قد استخدم لقب "ابن الإنسان" في حديثه عن مجد أبيه السماوي ليؤكد أن "ابن الإنسان" هو هو نفسه "ابن الله" أي أن المولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته هو هو نفسه الذي تجسد في ملء الزمان وولد من العذراء القديسة مريم بحسب ناسوته وصار ابنًا للإنسان دون أن يتغير عن ألوهيته جاعلًا ناسوته واحدًا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.

هذا ما نردده في التسبحة المقدسة عن أن ابن الله هو نفسه صار ابنًا للإنسان بقولنا (لم يزل إلهًا، أتى وصار ابن بشر. لكنه هو الإله الحقيقي أتى وخلّصنا( (ثيئوطوكية يوم الخميس ).

نعود إلى حديث السيد المسيح عن مجيئه في مجده أو في مجد أبيه فنقول إن هذا المجيء المملوء مجدًا سوف يكون مفرحًا للأبرار لأن به نجاتهم من الضيق العظيم ولكنه سوف يكون مخيفًا ومرعبًا للأشرار. لذلك قال: "تنوح جميع قبائل الأرض" (مت24: 30). وتتحقق النبوة "فينظرون إلىَّ الذي طعنوه" (زك12: 10).

لن يكون خوف الأشرار هو نوع من التوبة. لأن التوبة ينبغي أن تقترن بمشاعر الحب للرب والعرفان بقيمة دمه المسفوك من أجل غفران الخطايا لكل من يؤمن ويتوب ويتبرر.

تفسير سفر طوبيا 4 ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا



تفسير سفر طوبيا 4 ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا

أولًا: الوصايا نحو والديه
ثانيًا: وصاياه نحو المجتمع
ثانيًا: كيف تنجي من الموت؟
ثالثًا: الوصايا نحو ابنه

 في هذا الإصحاح نجد أن طوبيا الذي شعر بأن طلبته قد سُمعت، وصلاته قد قُبلت. استدعى ابنه لكي يوصيه ببعض الوصايا، ونرى أن هذه العادة- اعطاء بعض الوصايا للأبناء لكي تساعدهم في السلوك أمام الله- كانت منتشرة قديمًا. فإلهنا يقول عن إبراهيم أب الآباء: "لأني عَرَفْتَهُ لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برًا وعدلًا لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به (تك 18: 19)".
وداود الملك أوصى ابنه سليمان ( 1مل 2، 1)، وسليمان بدوره يوصي كل نفس تأتي من بعده، من خلال سفر الأمثال، لكي نسلك في الطريق الروحي، وإلهنا يعاقب بيت عالي الكاهن لأنه لم يشدد على أولاده، لكي يسلكوا أمامه كما يحق بالدعوة التي دعوا إليها. وقال له: "لماذا تدوسون ذبيحتي وتقدمتي.. وتكرم بنيك عليّ لكي تسمنوا أنفسكم.. والأن يقول الرب فإني أكرم الذين يكرمونني والذين يحتقرونني يصغرون، هوذا تأتي أيام أقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك حتى لا يكون شيخ في بيتك (1 صم 2: 29- 33)".
 ونجد أباءنا الرسل يوصون أولادهم، وتلاميذهم من بعدهم أيضًا فعلى سبيل المثال رسائل القديس بولس الرسول إلى تيموثاوس وتيطس ورسائل القديس يوحنا الحبيب.

 فنجد طوبيا يشدد على ابنه ويعطيه بعضًا من الوصايا وهي تنقسم إلى الآتي:

1- وصايا نحو والديِّه.
2- وصايا نحو المجتمع والناس المحيطين به.
3- وصايا نحو نفسه وعلاقته بالله.

 أولًا: الوصايا نحو والديه (طو 4: 3، 5):

وهي تنقسم إلى الآتي:

1- الاهتمام بدفنه بعد موته. ونلاحظ هذه الوصية في كلام يعقوب أبي الأسباط ليوسف ابنه، وفي كلام يوسف الصديق لأخوته.

2- الإهتمام بوالدته من بعده، وإكرامها كل أيام حياتها، ويذكره بمدى تعبها من أجله. يا للعجب مِنْ هذا الرجل القديس. الذي سمع تعييره منها. لا يقول في حقها كلمة سوء أمام أبنها. أو يحاول أن يجتذبه في صفه ضد أمه. بل يعطيها كل كرامتها، وحقوقها أمام ابنها ويذكره بإيجابيات حياتها، ومدى بذلها من أجله!!!

فهل لنا القدرة على أن نعي هذا الدرس؟

 وهو لا يكتفي بهذا فقط، وإنما يشدد على دفنها بجواره متى استوفت زمان حياتها. فهو لا يريد أن يفرق الموت بين جسديّهما. هذا المنظر الجميل اضعه أمام كل زوج وزوجته يريدان أن ينفصلا عن بعضهما البعض، بسبب بعض المشاكل التي تسببها ظروف الحياة. فمع أنه أتهمها بالسرقة، وهي عيرته بعجزه مما سبب لهما ألآمًا نفسية شديدة. فهما يتجاوزان كل ذلك، لأنهما يعيا جيدًا أنهما أصبحا جسدًا واحدًا. وما جمعه الله لا يفرقه إنسان (تك2: 24، مت19: 5). وهذا المنظر- دفن الآباء والأمهات جنبًا إلى جنب نجده في حياة أباءنا الأولين مثل إبراهيم (تك25: 10). وأسحق ويعقوب (تك 49: 29- 31، 50: 13) ويهوديت (يهو 16: 28).

 ثانيًا: وصاياه نحو المجتمع:

في هذه الفقرة نجد تطابق شديد بين عظة السيد المسيح على الجبل ووصايا طوبيا لأبنه. فنجد طوبيا يوصي ابنه ببعض الوصايا نحو المجتمع المحيط به: منها أكرام الشيوخ وطلب مشورتهم. وإعطاء أجرة الأجير في حينها، ومعاملة الناس كما يريد أن يعاملوه هو أيضًا، ويُشدد جدًا على فضيلتي الرحمة والصدقة، وينبهه أنه عندما لا يحول وجهه عن الفقير فحينئذ وجه الله لا يحول عنه، ويُعلمه مبدأً هامًا في حياته، وهو عندما يكون معه الكثير، يتصدق بالكثير، وإن كان لديه القليل، فيتصدق منه بنفس راضية ويضع أمامه نتيجة الرحمة والصدقة، وهي أجمل ما قيل عنهما في الكتاب المقدس. ففضيلة الرحمة هي إحدى صفات الله وهو يطالبنا بها. حيث يقول في عظته على الجبل: "كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم (لو6: 36)".

فنتيجة الرحمة والصدقة كما أعلنهما طوبيا لأبنه هي: "الصدقة تنجي من كل خطية. ومن الموت. ولا تدع النفس تصير إلى الظلمة (طو 4: 11)"

ولكن كيف َمنْ يسلك بهذه الفضيلة، ان تنجيه من الخطية، ومن الموت، ولا تدع نفسه تصير إلى الظلمة؟!

عادة أية فضيلة تبدأ من داخل الإنسان بسبب حبه لها، أو بسبب أي دوافع خارجية ولكن عندما يستمر فيها، وتتأصل فيه، تكون نتيجة واحدة. فنتيجة الصدقة هي حب الناس. ولذلك نعطف عليهم. أو من كثرة شفقتنا وعطفنا عليهم فنحبهم. والقديس بولس الرسول يقول عن المحبة: "المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء (1 كو13: 4- 17)"، وعندما تصل إلى هذه المحبة الكاملة بالتالي تنجو من الخطايا السالفة التي لا تتفق مع المحبة. وبذلك الصدقة تنجينا من الخطية.

 ثانيًا: كيف تنجي من الموت؟

اضَع أمامك بعض المواقف من الكتاب المقدس لكي تكتشف ذلك بنفسك. ففي أحد أيام حُكم أخاب على إسرائيل. أمر الرب إيليا النبي أن ينزل من جبل الكرمل إلى صرفة صيدا، حيث أمر هناك امرأة أرمله لكي تعوله. فأطاع إيليا، ونزل ولكنه فوجئ بالمرأة التي سوف تعوله أنها معدمة وكانت تجمع بعض العشب، فقال لها "أعطيني لأشرب" فذهبت لتستقي له ماء. فناداها مرة أخرى قائلًا: "هاتي لي كسرة خبز في يدك" فقالت له "حي هو الرب إلهك إنه ليست عندي كعكة ولكن ملء كف من الدقيق في الكوار. وقليل من الزيت في الكوز، وهأنذا أقش عودين لآتي وأعمله لي ولأبني لنأكله ثم نموت" فقال لها إيليا "لا تخافي ادخلي وأعملي كقولك، ولكن أعملي لي منها كعكة صغيرة أولًا. واخرجي بها إليّ ثم أعملي لك ولأبنك أخيرًا، لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: إن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض".

 فأطاعت.. يا للعجب من هذه المرأة الأممية التي صدقت، وآمنت، وأطاعت سريعًا عندما علمت أن الكلام خارج من فم إله إسرائيل. أما نحن فكثيرًا ما نعصى ولا نعطي أذنًا صاغية للكلام. ونسير حسّب أهوائنا وميولنا. وأما إيليا فظل مقيمًا عندها وهي تعوله.
وفي أحد الأيام مرض ابن هذه الأرملة، واشتد مرضه جدًا حتى لم تبق به نسمة، فعاتبت إيليا النبي قائلة "مالي ومالك يا رجل الله، هل جئت إليّ لتذكير إثمي وإماته ابني". فقال لها "أعطيني أبنك" وأخذه من حضنها وصعد به إلى العلية التي كان مقيمًا بها وأضجعه على سريره وصرخ إلى الرب وقال "أيها الرب إلهي أأيضًا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها" وتمدد على الولد ثلاث مرات، وصرخ إلى الرب وقال "يا رب الهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه" فسمع الرب لصوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش، فأخذ إيليا الولد ونزل به من العلية ودفعه إلى أمة قائلًا لها انظري ابنك حي (سفر الملوك الأول 17: 8-14)".

 ونلاحظ هنا أنه قد شدد في صلاته أمام الرب على أن أم الصبي تعوله وتخدمه قائلًا له " أأيضًا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها" فهنا أعتمد إيليا في صلاته على رحمتها به، وخدمتها له، وصدقتها المقدمة إليه. وإن كانت اعتذرت في البداية قائلة له: "ليس عندها شيء جاهز للأكل، والذي لديها لا يكفيه، ولكنها تراجعت وقدمت إليه كعكة صغيرة ساخنة.

والموقف الثاني حدث مع تلميذه أليشع، عندما كان يتردد على منزل المرأة الشونمية، فكانت تقدم له خبزًا ليأكل، وماءً ليشرب، ولم تكتفي بهذا فقط، بل قامت ببناء علية لكي يستريح بها عندما يمر عليهم. فقال أليشع لتلميذه جيحزي: "ماذا يصنع لهذه المرأة مقابل كل تعبها معنا". فأجاب قائلًا "أنه ليس لها ابن ورجلها قد شاخ" فدعا أليشع المرأة وقال لها "في هذا الميعاد نحو زمان الحياة تحتضنين أبنًا" فحبلت وولدت أبنًا كما قال لها... وفي أحد الأيام وقفت هذه المرأة أمام أليشع النبي. فشعر بمرارة نفسها، وعاتبته قائلة: "هل طلبت أبنًا من سيدي ألم أقل لا تخدعني" وطلبت منه أن يذهب معها، وقالت له: حي هو الرب وحية هي نفسك إنني لا أتركك. فقام وتبعها ودخل معها البيت، فوجد الصبي ميتًا ومضطجعًا على سريره، فدخل وأغلق الباب خلفه وصلى إلى الرب، فأستجاب له الرب وقام الولد. فدعا جيحزي قائلًا: "أدع هذه الشونمية". فدعاها ولما دخلت إليه قال: "احملي ابنك". فأتت وسقطت على رجليه. وسجدت إلى الأرض.
 ثم حملت ابنها وخرجت (2 مل 4: 8-37) .أليس بسبب صدقتها واهتمامها به قد وهب لها هذا الولد، وعندما فارق الحياة قام بصلواته من بين الأموات.

 ولمْ يحدث هذا-أي الإقامة من الأموات بسبب الصدقة- في العهد القديم فقط، وإنما في العهد الجديد أيضًا. ويشرح ذلك القديس لوقا في سفر الأعمال (أع 9: 31- 42) قائلًا: في أحد الأيام التي كان فيها بطرس مقيمًا في لدة، وجد رجلين من يافا يطلبان منه بإلحاح لكي ينزل معهم عاجلًا، فقام وذهب معهم. وإذا بالبيت الذين يدخلونه صوت بكاء وعويل، وعندما أدخلوه العلية وجد إنسانة يقال لها طابيثا. والتي تعني غزاله. مائتة. وفيما هو يتفرس في هذا المنظر، وجد بعض الأرامل وهن يرينه بعض الأقمصة. والثياب مما كانت تتصدق به لهن طابيثا وهي معهن. لأنها كانت إنسانة ممتلئة أعمالًا صالحة وإحسانات. فأخرج بطرس الجميع خارجًا وجثى على ركبتيه. وصلى. ثم التفت إلى الجسد المدد وقال: "يا طبيثا قومي" ففتحت عينيها. ولما أبصرت القديس بطرس الرسول جلست، فناولها يده وأقامها، ثم نادى القديسين والأرامل وأحضرها حية.

وهكذا أتضح لنا أن الصدقة ليست تنجي من الموت فقط، ولكنها قادرة أيضًا على الإقامة من بين الأموات، ولذلك قال المرتل: "طوبى للذي ينظر إلى المسكين في يوم الشر ينجيه الرب، الرب يحفظه وينجيه، يغتبط في الأرض ولا يسلمه إلى مرام أعدائه، الرب يعضده وهو على فراش الضعف مهدت مضجعه كله في مرضه (مز41: 1- 3)"، ولذلك يطلب منا سليمان الحكيم قائلًا: "أرْم خبزك على وجه المياه، فإنك تجده بعد أيام كثيرة. أعط نصيب السبعة والثمانية أيضًا، لأنك لست تعلم أي شر يكون على الأرض (جا 11: 1، 2)".

 فالصدقة قادرة أن تنجي من الموت الروحي أيضًا، لأنها عادة تجعل القلب مرهف الحس ومن خلال هذا الحس المرهف، يشعر الإنسان بأية خطية تصدر منه، ويقدم عنها توبه، ويستجيب لعمل الروح القدس ولصوت السيد المسيح الصارخ في داخله، وبذلك ينجو من الموت الروحي، الذي قال عنه يوحنا الحبيب: "مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى- المقصود بها القيامة من الموت الروحي وذلك من خلال التوبة عن الخطية- هؤلاء ليس للموت الثاني- وهو الجحيم (رؤ 20: 14، 21: 8)- سلطان عليهم (رؤ 20: 6)".
 والسيد المسيح يشرح ذلك بالتفصيل قائل: "الحق الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. الحق، الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات- أي الأموات بالخطية- صوت ابن الله والسامعون يحيون... لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة (يو5: 24- 29)". ولهذا يَعِد مَنْ يغلب في الحياة الروحية أن الموت الثاني لا يؤذيه (رؤ 2: 11).

فلذا الصدقة لا تدع النفس تصير إلى الظلمة، ولكي أوضح ذلك أقدم هذا الحدث، في أحد الأيام عندما كان كرنيليوس قائد المئة الروماني يصلي كعادته- ولم يكن قد آمن بالمسيح بعد- رأى ملاكًا من الله داخلًا إليه وقائلًا له: "صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام الله. والأن أرسل إلى يافا رجالًا، واستدع سمعان الملقب بطرس، وهو يقول لك ماذا ينبغي أن تفعل" فأطاع... وجاء بطرس وكلمه عن الإيمان بيسوع المسيح الطريق الوحيد للخلاص (أع 4: 12). لأن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا. فآمن كرنيليوس بالمسيح، واعتمد حالًا لأنه أدرك جيدًا أن من لم يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله (يو 3: 5). وهكذا أنقذ كرنيليوس نفسه من الظلمة والهلاك الأبدي (أع 10: الخ)، وبما أن الصدقة تنجينا من الخطية ومن الموت الروحي عن طريق التوبة، فمن الطبيعي أن تنجينا من الظلمة بقوة المسيح.

ولذلك تشدد الكنيسة على الصدقة وتنبهنا إلى هذا يوميًا، حيث تصلي الإنجيل القائل: "لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت، بيعوا مالكم وأعطوا صدقة، واعملوا لكم أكياسًا لا تبلى وكنزًا لا ينفذ في السموات حيث لا يقرب سارق ولا يبلى سوس (لو 12: 32- 48)". في صلاة الخدمة الثالثة من نصف الليل وإذا قد أتضح لنا جيدًا أهمية الصدقة، فيا ليتنا لا نبخل على المسكين لأن من يرحمه يقرض الرب (أم 19: 17)، ولا تتشكك في من نعطي لأن السيد المسيح أوصانا قائلًا: "وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه"(لو 6: 30).

 ثالثًا: الوصايا نحو ابنه:

ونجد هنا طوبيا يوصي ابنه، وكل من يريد أن يسمع إليه، بأن يُمّلِك الله على قلبه (طو 4: 6)، حيث أن القلب مركز المشاعر والاحاسيس والعواطف. ومكان استعلان الله في الإنسان حيث تسكن كلمته. وبالتالي لا يرضى بالخطية ولا يتحدى وصايا الله، ويحذره أيضًا من الزنى والكبرياء (طو4: 12- 14).
والقديس أغسطينوس يُعَرِفْ الكبرياء قائلًا: "الكبرياء هي أن يحب الانسان في ذاته ما يمتاز به عن سواه"والحكيم يشوع بن سيراخ يؤكد قول طوبيا من حيث أن الكبرياء مبدأ كل هلاك ويشرح ذلك قائلًا: "بدء كبرياء الإنسان هو الابتعاد عن الرب إذ يرجع قلبه عن صانعه، لأن بدء الخطية هو الكبرياء ومن رسخت فيه فاض أرجاسًا ولذلك أنزل الرب بالمتكبرين بلايا غريبة ودمرهم تدميرًا (سي 10: 14- 16)". وكما بدأ طوبيا وصيته بالعلاقة مع الله، هكذا نجده يختتمها بأن يبارك الرب في كل حين ويسترشد بأقواله (طو 4: 20).

وأخيرًا يُعْلِمَهُ بدين غابليوس. ويطلب منه استرداده (طو 4: 21، 22)، وينبهه إلى إنه حتى لو لم يستطع أن يسترد المال، وعاش عيشه الفقراء سيكون لهم خير عظيم إذا أتقوا الله، وابتعدوا عن الخطية وفعلوا الخير، وهذا ما يؤكده يعقوب الرسول قائلًا: "أما أختار الرب فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه (يع 2: 5)"، ولهذا نجد القديس بولس الرسول وهو يظهر نفسه ضمن خدام الله الذين بلا عثرة، ولا تلام الخدمة بسببهم يقول: "كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء- من خلال الإيمان بالسيد المسيح لأن كل شيء مستطاع للمؤمن (2 كو 6: 10)". ونجد السيد المسيح يؤكد ذلك بقوله لملاك كنيسة سميرنا "أنا أعرف أعمالك وضيقتك وفقرك مع أنك غني (رؤ 2: 9)".

تفسير سفر حزقيال 29 ... نبوات ضد فرعون مصر ++ القمص تادرس يعقوب


تفسير سفر حزقيال 29 ... نبوات ضد فرعون مصر ++ القمص تادرس يعقوب

 الأصحاحات الأربعة (29-32):

ترك النبي فرعون مصر في النهاية ليفرد أربع أصحاحات يقدم فيها نبوات ومراثي عن فرعون مصر في تشبيهات كثيرة وبتوسع لسببين: الأول أن مصر في ذلك الحين كانت صاحبة سلطان ضخم، فالنبوة ضد فرعون مصر تحمل نبوة ضد العالم الوثني بأجمعه. والثاني أن يهوذا اتكل على فرعون مصر لينقذه من يديْ ملك بابل فتحطم، فصار فرعون مصر رمزًا للاتكال على الذراع البشري عوض التوبة والرجوع إلى الله.

 في الأصحاح 29 تحدث عن خطية فرعون مصر "الكبرياء".
في الأصحاح 30 تنبأ ضد فرعون مصر بانهزامه أمام بابل.
في الأصحاح 31 شبه فرعون مصر بالأرز المتشامخ يقطع ويطرح في الهاوية.
وفي الأصحاح 32 قدم مرثاة على فرعون، التمساح الذي أهلكه ملك بابل.

 1. فرعون التمساح الكبير:

يحدد حزقيال النبي هذه النبوة بالسنة العاشرة من السبي، حيث قدم فرعون بجيوشه نحو أورشليم ليخلصها من الحصار. لم يسمع رجال يهوذا لتحذيرات إرميا ولا حزقيال، واتكاؤا على فرعون ضد بابل، وقاموا بثورة ضد بابل، وخرج فرعون مصر ينقذهم من بابل... الأمر الذي أدَّى إلى تدمير المدينة فيما بعد وقتل الكثيرين.

لقد قدم الله التشبيه المناسب، إذ كانت صور جزيرة غنية بتجارتها، معتزة بتجارها، شبهها بالسفينة الثمينة بمواد بنائها وشحنتها، والكاملة في طاقمها وحراسها، أما فرعون مصر فيعتمد مع رجاله على نيل مصر الذي جعل مصر خصبة، لهذا شبهه بالتمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره  فقد اشتهر نهر النيل بالتماسيح.

دعا الله فرعون "التمساح الكبير" ربما لأن المصريين قد عبدوا التماسيح فصاروا تماسيح، ودعي ملكهم "التمساح الكبير". من يعبد الحجارة يصير حجرًا، ومن يعبد الباطل يصير باطلًا، ومن يعبد الله الحق يصير "حقًا" ويتمتع بشركة الطبيعة الإلهية.

 خطيئة صور هي استغلالها سقوط يهوذا واغتنامها بطمع هذه الفرصة، أما خطيئة فرعون فهي الكبرياء، إذ كان بجيشه القوي يظن أنه قادر أن يفعل كل شيء، "الذي قال: نهري لي وأنا عملته لنفسي" .
يقال إنه قصد به فرعون خفرع الذي افتخر بأمرين أنه صانع بيديه ما هو فيه من قوة وأمان، وأن هذا إنما لأجله هو. لقد أقام "الأنا" إلهًا، هي الصانعة للنهر سر خصوبة مصر وعظمتها، ولأجل نفسها صنعت ذلك. يروى المؤرخ هيرودت Herodotus عن هذا الملك أنه ملك في رخاء عظيم لمدة خمسة وعشرون عامًا وقد ارتفع قلبه بسبب نجاحه قائلًا إن الله نفسه لا يقدر أن ينزعه من مملكته. تحدث إرميا النبي عن هذا الكبرياء هكذا: "من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم مياهها؟! تصعد مصر كالنيل وكأنهار تتلاطم المياه، فيقول أصعد وأغطى الأرض، أهلك المدينة والساكنين فيها" (إر 46: 7-8).

ماذا يفعل الله مع هذا التمساح المتكبر الذي يظن أنه خالق النهر لحساب ذاته؟!
 يقول: "أجعل خزائم في فكيكَ،

وألزق سمك أنهارك بحرشفك، وأُطلعك من وسط أنهارك، وكل سمك أنهارك ملصق بحرشفك. وأترك في البرية أنت وجميع سمك أنهارك. على وجه الحقل تسقط فلا تجمع ولا تُلمّ. بذلتك طعامًا لوحوش البرية ولطيور السماء"

 إذ ظن بكبرياء قلبه أن ما فيه من قوة ورخاء إنما هو صنعة يديه، لهذا يحرمه من هذه النعم، ويطرده من وسط أنهاره، ليموت كما تموت السمكة خارج المياه. وإذ ظن أن كل شيء إنما خلق لخدمة ذاته، يعمل الكل لخدمته لحسابه، لهذا يُلقى في البرية، يموت وليس من يسأل عنه ولا من يدفنه، يصير فريسة لوحوش البرية وطعامًا لطيور السماء! وإذ جمع حوله الكثيرين يحتمون به أو يحاربون معه يصيرون كالسمك الملتصق بحراشيفه، سواء كانوا أممًا أو قوادًا، أو مركبات أو جيشًا، ينالون نفس مصيره. هكذا يفقده الكبرياء خيراته وكرامته بل وحياته، ويذل حتى الملتصقين به المتكلين عليه.

وقد قيل إن فرعون هذا خرج ليُحارب أهل القيروان الذين طردوا صديقه أريكيوس Aricius ملك ليبيا، ويرده إلى ملكه، لكن المصريين ثاروا عليه في غيبته فلم يعد هو ولا قواده إلى مملكته وألقى في البرية معهم.

 هذا هو عمل الكبرياء في حياة واحد ينتسب إلى أكبر طغمة سمائية (إبليس) الذي فقد بكبريائه السماء ليسقط إلى الهاوية، وعوض الصداقة الإلهية دخل في العداوة مع الله، وعوض المجد السماوي دخل إلى الذل الدائم، تحطم وحطم معه كثيرين من ملائكته وأيضًا من البشريين! بذات الداء، سقط أبوانا الأولان من الفردوس وحُرما من الوجود الدائم في الحضرة الإلهية وورَّثا نسليهما كل تعب وشقاء! لقد طُردنا من نهر الحياة، وألقينا في برية هذه الحياة لنموت روحيًا ونصير غنيمة لكل وحوش البرية (شيطان الظلم والقسوة) وطيور السماء (شيطان الكبرياء).

 عاد ليشبه فرعون مصر بعكاز قصب لبيت إسرائيل ، فهو كالعصا لكنها من القصب (البوص) إذ يتكئ عليها الإنسان تنكسر، أما المتكئ عليها فيتمزق كتفه ويضعف. عوض أن تسنده تحطم طاقاته، كقول إشعياء النبي: "فإن مصر تعين باطلًا وعبثًا لذلك دعوتها رهب الجلوس" (إش 30: 7) لقد شجع فرعون مصر صدقيا الملك ليثور ضد بابل ويخون العهد ويحنث بالقسم، فضاع حزقيا وتحطمت أورشليم وكل مدن يهوذا وانهزم فرعون.

ومما يُلاحظ هنا أن تأديب فرعون والسمك الملتصق بحراشيفه كان بتركهم يموتون في البرية لتأكلهم وحوش البرية وطيور السماء، هذه أبشع ميته يكرهها المصريون الذين كانوا يخافون على الجثمان، وبنوا السراديب لحفظها حتى متى عادت الروح تلبس جسمها مرة أخرى.

 2. تأديب مؤقت:

ظن فرعون في كبرياء قلبه أنه صانع النهر العظيم، وأنه المدافع عن الأمم المحيطة به، فإذا بالرب يجلب عليه سيفًا فيستأصل الإنسان والحيوان. بالكبرياء يفقد الإنسان إنسانيته "حياته الفكرية"، وأيضًا حيوانيته "حياته الأرضية"، يفقد ما هو للعقل والجسد معًا. أما حدود هذه الخسارة فهي خسارة كاملة ممتدة من الشمال "مجدل"  إلى الجنوب "أسوان" على حدود كوش.

 "مجدل migdol" اسم سامي معناه "برج"، غالبًا مدينة محصنة على تخوم مصر الشمالية الشرقية تجاه فلسطين، حاليًا تل الهير Tell-el-Her، تبعد 12 ميلًا غرب البلسم. وهي على الطريق الذي عبر منه اليهود أثناء خروجهم من مصر.

أسوان، كانت بالمصرية Sewen، على الضفة الشرقية من النهر على الحدود الجنوبية لمصر. يُقابلها من الجانب الآخر "جزيرة الفيلة". كانت مصدرًا للجرانيت لإقامة التماثيل المصرية، كما كانت مركز دفاع قويًا على الحدود الجنوبية.

أما كوش، فغالبًا ما يقصد بها "أثيويبا" أو "الحبشة" وهنا يقصد بها بلاد النوبة.

إذن تأديب فرعون مصر تأديب شامل، فتصير أرضه خرابًا لا يسكنها إنسان أو حيوان، ممتد من أقصي الجنوب، لكنه في نفس الوقت مؤقت ولمده محددة (40 عامًا)، على عكس بقية الأمم إذ صدر الأمر أن يكون التأديب أبديًا.  إنه يشتت المصريين ويبددهم إلى حين، ربما كان هذا إشارة إلى ما تحمله مصر في قلب الله من دالة بعد قبولها الإيمان بالسيد المسيح، إذ يقول في إشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر... فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا يوفون به" (إش 19).

إنها تقضي أيام وثنيتها كمن هي في البرية تائهة لتعود إلى الإيمان بالله مخلصها وتتعبد له.

 3. عودة وإصلاح لمصر:

لقد أعطى الرب لفرعون مصر درسًا هذا الذي أثار ملك يهوذا وجعله لا يسمع لصوت الأنبياء، فبدلًا من أن يسنده صار هو وشعبه مشتتًا أربعين عامًا، ثم أعاد مملكة مصر إلى أرض فتروس ( Pathros  )، وهي كلمة مصرية تعني "أرض الجنوب". يقصد بفتروس صعيد مصر، مقابل "مصر السفلى والوسطى"، وقد كان الوجه البحري أو مصر السفلى أكثر شهوة من مصر العليا أو صعيد مصر. ويلاحظ أنه بعد أن أسر نبوخذنصَّر أورشليم استوطن بعض اليهود فتروس (إر 44: 1-2، 15).

كأنه يقصد بعودة المملكة إلى "فتروس" أي ضعفها وعدم إمكانيتها للحرب ومساندة الآخرين، فلا تعود بعد إلى كبريائها، ولا تخدع شعب الله بكونها سندًا لهم ضد بابل.

 4. تسليمه لملك بابل:

أخيرًا عوض الدفاع عن يهوذا يسقط فرعون مصر في قبضة ملك بابل، يأخذ ثروته ويغتنمه غنيمة وينهبه. يسلمه الرب لملك بابل مجازاة له على ما فعله مع صور. لقد اغتنمت صور أورشليم ونهبتها، فأثار الله بابل ضدها، وإذ حطم صور كافأها بثروة فرعون. لقد هاجم نبوخذ نصَّر مصر في السنة السابعة والثلاثين من ملكه (568-567 ق.م) ونال الكثير منها لكنها لم تصر ضمن مملكته.

أما الموضوع الرئيسي فهو ليس مكافأة ملك بابل الذي أهلك صور الشامتة بأورشليم، إنما ما يشغل ذهن الله أن يقيم قرنًا (أي قوة) لخلاص شعبه  ويفتح فم نبيه في وسط الشعب ليعلن عن هذا الخلاص بروح الرجاء والفرح، إذ يقول: "وأجعل لك فتح الفم في وسطهم فيعلمون أني أنا الرب" .

تفسير سفر طوبيا 3 ... صلاة طوبيا ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا



تفسير سفر طوبيا 3 ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا

 صلاة طوبيا

ما أجمل الصلوات التي تخرج في وقت الشدة والضيق. حيث تنبع من أعماق قلوبنا. وتكون بغير تشتت أو طياشة. وإلهنا يناشدنا أن نلتجئ إليه في هذه الأوقات حيث يقول "أدعني في وقت الضيق أنقذك فتمجدني (مز 15:5)"

نلاحظ ان طوبيا بدأ صلاته بتمجيد عدل الله وإظهار أن طرقه كلها رحمة وحق، حتى وإن كانت في ظاهرها قاسية. فيطلب طوبيا من الله أن يفتقده بخلاصه ولا ينتقم منه بسبب خطايا آبائه، ويعترف أن كل ما أصابه، وأصاب إسرائيل، هو بسبب خطاياه خاصة، وخطايا آبائه، فنلاحظه يأتي بالملامة على نفسه أولًا، معلِّلًا ذلك بأنه لم يطع وصايا الله كما يجب. مع أننا نلاحظ أنه حسب الناموس بلا لوم (طو 2: 13-14).

 فهل يا ترى عندما نقف أمام الله نعلن أمامه أننا سبب كل ما يحدث من حولنا؟ ونتحمل مسئوليتها، ونتائجها أمامه، ونلقي تضرعاتنا أمامه بأكثر لجاجة طالبين رحمته وغفرانه؟ أم نلقي اللوم على الآخرين ونكتفي بذلك؟!

نعم يا رب، أنك أقمت حراسًا على أسوار أورشليم، لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام للصلاة عنا. وها أنت تناجي ذاكريك أن لا يسكتوا ولا يدعونك تسكت حتى تتمم إرادتك (اش 26: 6-7) فهل نكتفي بذلك؟! كلا.

بل أرجوك يا أن تعطي كل واحد منا، أن يشعر باحتياج الآخرين، لكي كل واحد فينا يذكر أخاه أمامك ملقيًا ضعفات أخيه كأنها ضعفاته الخاصة، كي ما تعطينا روح التوبة والحب الباذل إلى النفس الأخير.

"والآن يا رب بحسب مشيئتك أصنع بي ومر أن تقبض روحي بسلام لأن الموت خير لي من الحياة (طو 6:3)". يا للعجب من هذا الرجل البار والقديس طوبيا، مع أن نفسه مُرَّةٌ للغاية، ومجروحة، لا يحاول أن يحل مشكلته بنفسه، فهو لا يطلب الانفصال عن زوجته حنة، في وقت كان يسمح فيه بالطلاق. وبالرغم من احتياجه في هذا الوقت العصيب لمن يسنده معنويًا، واجتماعيًا، ويشعره أنه ما زال محبوبًا، ومرغوبًا فيه بالرغم من عمى عينيه ولا يعيره.

 ولهذا نجد دائمًا إن المرضى بأمراض مزمنة -وخاصة المؤدية للموت- في أشد الاحتياج إلى من يقف بجانبهم، ويخفف من آلامهم، لأنهم يشعرون بشدة الألم وخاصة ليلًا. فهل تعلم السبب؟ السبب هو غياب هذا التعضيد المعنوي، وهذا هو ما عبَّر عنه أيوب البار قائلًا: "هكذا تعين لي أشهر سوء وليالي شقاء قسمت لي. إذا اضطجعت أقول متى أقوم، الليل يطول وأشبع قلقًا حتى الصبح (أي 7: 3-4)، وأيضًا "الليل ينخر عظامي فيًّ ويقض الألم مضجعي (أي 17:30)"

 ولكننا نجد أن طوبيا يضع إرادة الله فوق إرادته. ومشيئته فوق مشيئته الخاصة. فهل نحن نعلن أمام إلهنا أن يتمم إرادته ومشيئته في حياتنا؟ أم نتشبث بإرادتنا ونحاول أن نحققها بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة؟!

فها هو طوبيا متمسك بكماله (طو 2: 14،13) إلى آخر لحظة مع كل الضغوط المحيطة به، ولكنه يطلب أمرًا يبدو غريبًا، فهو يطلب من الله أن ينهي حياته وزمن غربته على الأرض.

نعم يطلب من الله، لأن الله هو الوحيد الذي له الحق في ذلك، فهو يسمح بوجودنا في الوقت الذي يحدده، ويسمح براحتنا في الوقت الذي يحدده أيضًا. ولذلك نجد رجال الله لا ينهون حياتهم بأنفسهم عندما تضغط عليهم ظروف الخدمة، أو الحياة، لكننا نجدهم يلجئون إلى الله نفسه، لينهي تجربتهم على الأرض بالطريقة التي تروق له. فعلى سبيل المثال:

موسى النبي نجده يطلب نفس الطلب من الله تحت ثقل الخدمة قائلًا: "فإن كنت تفعل بي هكذا -أي يحمل وحده اثقال الشعب- فاقتلني قتلًا إن وجدت نعمة في عينيك فلا أرى بليتي (عد 15:11)".
ونجد إيليا النبي يطلب أيضًا نفس الطلب. ولكن تحت شعوره بالظلم والخوف من إيزابل أن تقتله، كما قتلت أنبياء الرب من قبل فهرب وسار في البرية مسيرة يوم حتى أتى وجلس تحت رَتَمةٍ وطلب الموت لنفسه وقال: "قد كفى الآن يا رب خذ نفسي لأنني لست خيرًا من آبائي (1 مل 4:19)".
ونجد يونان النبي أيضًا يطلب الموت لنفسه تحت احساسه بأن كلمته سقطت ولم تهلك المدينة. وإن كان البعض يفسر طلبه بموته ناتج عن شعوره بهلاك شعبه المعلن من خلال خلاص الامم. فقال: "فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خير من حياتي (يون 3:4)".
ونجده يكرر نفس الطلب مرة أخرى حين ضربته الشمس وماتت اليقطينة (يون 8:4). ونجد سمعان الشيخ يطلب الموت لنفسه لكن في موقف يختلف تمامًا عن كل ما سبق، حيث يطلبه وهو في فرحه بالخلاص فقال: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك (لو 2: 29، 30)".
وليس هؤلاء فقط فبولس الرسول يطلب نفس الطلب ولكنه في مجد الخدمة حيث يصرح ويقول: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم (فل 1: 23)".
وساره بنت راعوئيل تطلب الموت لنفسها من شدة التجربة الحالَّة بها فتقول: "أتوسل اليك يا رب أن تحلني من وثاق هذا العار أو تأخذني عن الأرض (طو 15:3)".
ويعقوب أب الآباء بعدما رأى ابنه يوسف أي بعدما انتهت تجربته فيقول: "أموت الآن بعدما رأيت وجهك - أي يوسف - أنت حيٌ بعد (تك 30:46)" أي لا يخشى الموت بعد فرحه برؤية ابنه.

 ونلاحظ أن الله لم يستجب لأحد من كل هؤلاء في هذه الطلبة، باستثناء سمعان الشيخ، الذي كان قد أخذ وعدًا من قبل بأن لا يرى الموت قبل أن يعاين المسيح الرب (لو 29:2)، فكانت طلبته قائمة على معرفة تامة لإرادة الله. أما الباقين فكانت استجابة الله لهم تختلف بحسب ضيقة كل منهم، وفي حينها أيضًا. فنجد الله مثلًا، يسمح لموسى أن يقيم سبعين شيخًا ليساعدوه في شئون بني إسرائيل (عدد 11: 17، 25)، ولكن الله أخذ من روحه القدوس الذي سكبه على موسى وأعطاهم. ونراه بسبب ضعف إيمان إيليا النبي أمره الله بإقامة أليشع النبي عوضًا عنه. ويمسح ياهو بن نمشى ملكًا على إسرائيل، وحزائيل على آرام، لكي يقوما بتأديب بيت أخآب (1 مل 19: 15-18). واعلن له أنه قادر على حمايته وحفظ حياته كما حفظ سبعة آلاف إنسان لم يجثوا للبعل ولا قبلوا فمه.

فإن كان لك مشكلة تؤرق حياتك، وتجعلها جحيمًا، فبدلًا من أن تجعلها تحاصرك لتقذف بك في هاوية اليأس ضعها بين يدي الله، وهو القادر على حلَّها، ولا تكن غير مؤمنٍ بل مؤمنًا (مر 11: 24،23).

 تجربة سارة (طو 3: 7-10):

عادة نجد ان كل "روح الإنسان تحتمل مرضه، أما الروح المكسورة فمن يحملها (أم 14:18)". فإن كانت تجربة طوبيا هي في الجسد، فإننا نجد تجربة سارة هي تجربة نفسية - وسارة هي ابنة راعوئيل الذي سكن في راجيس إحدى مدن الماديين وهو قريب لطوبيا - فنجدها وقد عقد لها على سبعة رجال، واحدًا تلو الآخر، ولكنهم جميعًا يموتون في ليلة زفافهم. فكانت نفسها مُرة للغاية، وخاصة بعدما عيرتها إحدى جواري أبيها قائلة لها: "لا رأينا لك ابنًا ولا ابنة يا قاتلة أزواجها أتريدين أن تقتليني كما قتلت سبعة رجال (طو 2: 9،10)". فالتجارب التي تكون في الجسد، الكل يراها، وأحيانًا يشفق على صاحبها ويعمل على راحته. أما التجارب النفسية لا تكون ظاهرة للكل. واحيانًا كثيرة لا تكون سبب شفقة ولكن تعييرًا لاذعًا، وتهكمًا عنيفًا، ومادة للتسلية والضحك وخاصة في مجتمعنا الشرقي -للأسف الشديد- مما يسبب زيادة آلام ومعاناة صاحبها، ولذلك يتساءل الحكيم "أما الروح المكسورة فمن يحملها"؟!

ولعل البعض كان يُصَوٍّر سارة وكأنها معشوقة لإبليس. الذي يطلق عليه أزموداوس والذي يعني المهلك. ولذلك يقتل أي إنسان يريد الزواج منها قبل أن يعرفها. وكمْ كانت هذه الكلمة تؤذيها فهي كابنة لله تعرف بأنه لا خلطة بينها وبين الشيطان (2 كو 14:6).

ثانيًا: الشيطان روح وليس له جسد فكيف يعاشر من له جسد؟!

ثالثًا: الشياطين ليس بينهم ذكور وإناث.

رابعًا: الزواج لا يتم إلا بين كائنات لها نفس الجسد الواحد.

فبقدر ما كانت هذه الكلمة -معشوقة أزموداوس- تؤلمها، بقدر ما تتعجب كيف طمست عيونهم عن معرفة هذه الحقائق.

ونلاحظ أن السفر لا يصور إبليس كعاشق لها، وإنما كمجرب يجرب الإنسان بنوع من التجارب التي يتعرض لها في مدة غربته على الأرض بسماح من الله. ولكن هذا هو تفسير الإنسان عادة للأمور المخفاة عنه، والتي لا يعرف لها سببًا. ونرى في تجربة كل من سارة وطوبيا أنه لم يقف أحد بجانبهما معطيًا لهما يد العون. فلا تحزن يا صديقي المجرَّب إن لم تجد يد المعونة البشرية ممتدة نحوك.

نعم لا تحزن، فكل من أختبر التجربة خرج بهذه النتيجة "الجميع تركوني. لا يحسب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني (2 تي 4: 16-17)". ولذلك نجد المرتل يقول عنهم: "أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي وأقاربي وقفوا بعيدًا (مز 11:38)". وهو نفس المنظر الذي تكرر عند صليب المسيح حيث "كان جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك (لو 49:23)"، وحتى عندما تجرأ يوحنا الحبيب وتقدم بالقرب من الصليب هو، وبعض النسوة لم يقدم شيئًا للمسيح بل أخذ منه أعظم هدية. وهي أمومة السيدة العذراء له (يو 27:19). ولذلك قال السيد المسيح على لسان إشعيا النبي: "قد دست المعصرة وحدى ومن الشعوب لم يكن معي أحد (أش 13-3)". وعندما يأتي أحد للتعزية لا يكون في الغالب سبب تعزية، وإنما لتجديد الجراح التي بدأت أن تلتئم، أو وصف أدوية لا تؤدي إلى الشفاء، وإنما تزيد المتاعب. والوقوع في بعض الاخطاء. ولذلك وصفهم أيوب قائلًا مُعَزون متعبون كلكم (أي 2:16).

 لكن نرى الله دائمًا، يُرسل معزيًا حقيقيًا، وفي الوقت المناسب، مثل إرسال أنسيفورس إلى بولس الرسول الذي قال عنه: "إنه مرارًا كثيرة أراحني ولم يخجل بسلسلتي (2 تي 16:1)". وكما أرسل شوبي بن ناحاش وماكير بن عمائيل وبرزلاي الجلعادي لداود عند هروبه من إبشالوم ابنه الذي تمرد عليه، وقاد محاولة إنقلاب فاشلة في المملكة (2 صم 17: 27- 29)، وكما أرسل عبد الملك الكوشى لإرميا النبي عندما طرحه بعض القادة السياسيين في جب موحل لكي يموت به (أر 38: 6- 13).

فأرجوك يا صديقي لا تنتظر المعونة البشرية ولا تتكل عليها لأنه مكتوب "ملعون كل من يتكل على ذراع بشر (أر 5:17)"، بل انتظر المعونة النازلة من فوق من عند أبي الأنوار (يع 17:1).

وكما انتصر طوبيا في تجاربه. هكذا نجد سارة أيضًا تنتصر في تجربتها من خلال تمسكها بالفضيلة (طو 3: 17-18)، وعدم جريها وراء أي دواء زائف يقدم لها من أي شخص. مثل الجري وراء العرافين والسحرة وغيرهم، ولكنها طلبت دوائها من طبيب أرواحنا، ونفوسنا، وأجسادنا والذي قال عن نفسه "أنا هو الرب شافيك (خر 26:15)".

وفي طوبيا (3: 10) نجد سارة قد قرنت الصلاة بالصوم متممة قول يوئيل النبي: "قدسوا صومًا نادوا باعتكاف (يؤ 13:1)".

 صلاة سارة:

وفي طوبيا (3: 13- 23) يوضح لنا كيف ختمت صومها، وصلاتها بجزء عميق جدًا. فهو يشرح لنا كيف كانت سارة تفكر تجاه تجربتها، وكم كان رجاؤها بالله قويًا فهي تبتدئ بمباركة الله، وتختتمها أيضًا بمباركته (طو 3: 13-23)، ومن خلال صلاتها توضح خطة الله في تأديب أولاده" حيث تعلن أنه بعد غضبه يصنع الرحمة وفي زمان البؤس يغفر الخطايا للذين يدعونه". وهذا هو ما طلبه حبقوق النبي أيضًا حيث يناجي الله قائلًا "في الغضب أذكر الرحمة (حب 2:3)". وبقولها هذا تذكرنا بمعاملات الله نحو البشرية، حيث وهو في غضبه يهتم بها. من خلال اهتمامه بنوح وأسرته أثناء الطوفان. وكيف أشفق على لوط وأسرته عندما أحرق سدوم وعمورة بنار وكبريت متذكرًا إبراهيم أب الآباء وكيف وقف أمامه (خر 19: 29،16 و18: 23-33). وأشعياء النبي يؤكد هذا الكلام أيضًا فيقول: "طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل أن اثمها قد عُفِيَ عنه أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها (إش 2:40)". ويكرر نفس الفكرة في موضوع آخر قائلًا: "لُحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة، وبإحسان ابدي ارحمك قال وليك الرب (إش 45: 7، 8).

ونجد في الأعداد (طو 3: 16-22) أن سارة بعدما حاسبت نفسها بطريقة جادة أمام فاحص القلوب والكلى (رؤ 23:2)، والذي الكل مكشوف وعريان امامه (عب 13:4)، تفترض أن تجربتها كانت بسبب عدم استحقاقها لأحد هؤلاء، أو لم يكن أحدًا منهم مُستحقًا لها، وبذلك يكون الله قد حفظها لرجل أخر خلاف كل هؤلاء.

 ما أجملك أيتها الإنسانة البارة، نعم ما أجملك، وأنت تعي كلمات الله جيدًا وتستعملينها في حديثك معه، كحجة دامغة تعولين عليها عندما اشتدت عليك التجربة، ولم تقو بعد على احتمالها. فها أنت تعلمين جيدًا "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا، أو من سبق فأعطاه فيكافأ (رو 11: 33-35)"، وتُعلنين بعض الحقائق واحدة تلو الأخرى لكي ما تعزي نفسك في هذه التجربة، وتعزي كل نفس تقرأ صلاتك عندما تكون في تجربة.

الحقيقة الأولى هي: "أن من يعبد الله يوقن أن حياته إن انقضت بالمحن فستفوز بإكليلها". هذا الإكليل الذي قال عنه بولس الرسول: "أخيرًا وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا (2 تي 8:4)". ويصفه في موضع آخر بأنه إكليل لا يفنى (1 كو 25:9)، ويصفه القديس بطرس الرسول بأنه إكليل المجد (بط 4:5). أما القديسان يعقوب ويوحنا يصفانه بأنه إكليل الحياة (يع 12:1، رؤ 10:2).

الحقيقة الثانية هي: "إن من حلت به الشدة فسينقذ" ما أكثر الأمثلة التي نعرفها من خلال الكتاب المقدس. أو من خبرة الحياة في كل العصور بأن من يعبد الله وحلت به التجارب فدائمًا ينقذه الله مثل: يوسف الصديق وأيوب البار ودانيال النبي...الخ، لأن ابواب الجحيم لا تقوى على كل نفس متحدة بالله (مت 18:16).

الحقيقة الثالثة: التي تطالب بها سارة الله بالأكثر في صلاتها الآن هي "أن مَنْ عرض على التأديب فله أن يرجع إلى رحمتك "لأنك ترحم - أي الله - عند غضبك". ما أكثر المواقف التي تشرح لنا هذا المقطع من صلاتها، ولكن أكثرها إيضاحًا هو ما جاء على لسان الله ذاته حينما خاطب داود من جهة ابنه سليمان قائلًا: "أن تعوج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم ولكن رحمتي لا تنزع منه كما نزعتها من شاول الذي أزلته من أمامك (2 صمو 7: 15،14)".
وها هو داود الملك عندما أخطأ وعدّ الشعب لكي يفتخر بعددهم، ولم يأخذ الفدية المفروضة عند تعداد الشعب لتقدم لخدمة خيمة الاجتماع (خر 30: 11-16)، يصرح ويقول لجاد النبي "فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان (2 صم 14:24)". ولذلك نجد ميخا النبي يناجي الله قائلًا: "من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه لا يحفظ إلى الابد غضبه فإنه يُسَر بالرأفة يعود يرحمنا يدوس آثامنا وتطرح في أعماق البحر جميع خطاياهم تصنع الأمانة ليعقوب والرأفة لإبراهيم اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القدم (7: 18-20)".

 الحقيقة الرابعة: هي "أنك لا تُسَر بهلاكنا" فإنه لو أظهر الله بعض القسوة من نحونا فذلك لمنفعتنا الخاصة. ولكنه لا يسلمنا أبدًا للهلاك، لأن كل من يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. فإن كنا نحتمل التأديب يعاملنا الله كالبنين فأي ابن لا يؤدبه ابوه. ولقد كان لنا أباء حسب الجسد مؤدبين إيانا وكنا نهابهم أفلا نخضع بالأولى لأبي الأرواح فنحيا لأن أولئك أدَّبونا ايامًا قليلة حسب استحسانهم وأما الله فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته (عب 12: 6-10). فالأم مثلًا تقسو على رضيعها لكي تفطمه فهي لا تريد هلاكه من خلال فطامه عن ثديها، لكنها تعطيه طعامًا لكي يَشُبَّ هذا الطفل ويكون إنسانًا طبيعيًا مع إن الطفل لا يدرك كل ذلك.

فإلهنا الذي لا يسر بموت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز 18: 23-32) فيقبل الجميع إلى التوبة (2 بط 9:3) فيخلصون. ولمعرفة الحق يقبلون (1 تي 4:2). يضطر إلى تعرضنا لبعض التجارب لنستفيق من غفلتنا. ونتوب عن خطايانا. ولذلك نجد الله لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين لكي لا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم (مز 3:125).

الحقيقة الخامسة: هي "أن الله يلقي السكينة بعد العاصفة وبعد البكاء والنحيب يفيض بالتهليل" نعم أنك يا رب تفيض دائمًا بالتهليل على أولادك، منها على سبيل المثال: ها هو يوسف الصديق الذي بيع كعبد، وسجن ظلمًا ما يزيد عن ثلاث سنوات، سُرعان ما انقشعت تجربته وصار الرجل الثاني لمصر -وهو الذي لم يكن يتوقع مركزًا مثل هذا عندما كان حرًا في بيت أبيه- ومن باعوه كعبد أتوا وسجدوا له تحت قدميه. والسيد المسيح يصف إبراهيم أب الآباء عندما جُرب قائلًا: "أبوكم إبراهيم أشتهى أن يرى يومي -أي يوم الخلاص- فرأى وفرح (يو 56:8)". فمتى حدث هذا؟! ذلك حدث عندما تقدم لذبح ابنه إسحق، ليقدمه محرقة للرب - ففرح جدًا، عندما انتهت تجربته وعاد بابنه حيًا، حتى انه أطلق على الجبل الذي كان سيذبح أسحق عليه "يهوه يراه" وهكذا دُعىّ اسم هذا الجبل إلى يوم كتابة سفر التكوين جبل الرب يرى (تك 14:22).

وبعدما اتت التجربة بالغرض الذي من أجله سمح الله بها، كانت استجابته لهما سريعة جدًا. فأرسل ملاكه روفائيل لهما لكي يخلصهما. كما أرسل الملاك جبرائيل إلى دانيال ليعلن له استجابة صلاته، وكما أرسله إلى زكريا الكاهن لكي يعلن له أن صلاته قبلت وقد حان الوقت لكي ينجب ابنًا ويدعو اسمه يوحنا (لو 1: 11-19).

قاموس الكتاب المقدس ... دائرة المعارف الكتابية المسيحية .. شرح كلمة الضربات العشرة


قاموس الكتاب المقدس ... دائرة المعارف الكتابية المسيحية
شرح كلمة الضربات العشرة

عندما أرسل الرب موسى ليخرج الشعب من مصر، قال له: "ولكني أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تمضون ولا بيد قوية، فأمد يدي وأضرب مصر بكل عجائبي التي اصنع فيها، وبعد ذلك يطلقكم" (خر 3: 19) فأخرجهم بتجارب وآيات وعجائب وحرب ويد شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة مثل كل ما فعل ".. ليعلموا " أن الرب هو الإله ليس آخر سواه.. هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل، ليس سواه" (تث 4: 34 – 39).

فكانت آيات وعجائب " وأحكام عظيمة، فيعرف المصريون إني أنا الرب" (خر 7: 3 – 5، انظر أيضًا مز 78: 34، 105: 5 و27، 106: 21 و22).

لقد أرسل الله في عنايته شعب إسرائيل إلى مصر في زمن يوسف، وجاء الأوان ليفتقدهم من العبودية (خر 2: 23 – 25، 3: 7 و8) ولكي يحقق ذلك، أرسل على مصر هذه الضربات القوية:

( 1) تحويل الماء إلى دم :

( خر 7: 14 – 25، مز 78، 44، 105: 29) والماء لازم للحياة بمختلف أشكالها ونهر النيل هو مصدر الماء في مصر، فهي " هبة النيل " ولا حياة لها بغيره، وأمر الرب موسى أن يضرب الماء بعصاه " فرفع العصا وضرب الماء الذي في النهر أمام عيني فرعون وأما عيني عبيده، فتحول كل الماء الذي في النهر دما، وكان الدم في جميع ارض مصر.. وحفر الجميع المصريين حوالي النهر لأجل ماء ليشربوا ( خر 7: 19 – 24).

ويزعم البعض أن في ذلك إشارة إلى لون ماء النيل في وقت الفيضان، عندما تحمل المياه كميات ضخمة من الطمي والمواد العالقة التي تجعل الماء داكن اللون أشبه بالدم، ولكن ما جاء بالكتاب لا يدل مطلقاً على أن ذلك حدث في وقت الفيضان، إذ المصريين " حفروا حوالي النهر لأجل ماء ليشربوا" (خر 7: 24 )، مما يدل على أن النهر لم يكن في وقت الفيضان، والإشارة إلى الأنهار (مجاري المياه) والسواقي والآجام وكل مجتمعات المياه – حتى في الأخشاب وفي الأحجار (خر 7: 19)، دليل آخر على ذلك، لأنه في وقت الفيضان تغمر المياه كل الأراضي حوالي النهر، علاوة على أن المياه في وقت الفيضان تكون سمراء اللون وليست حمراء كالدم.

والتفسير المنطقي الوحيد أنها كانت -بكل المقاييس- معجزة إلهية، وليست ظاهرة طبيعية، بالإضافة إلى إن موت الأسماك (خر 17: 21) يدل على أن شيئًا غير طبيعي قد حدث بالماء، وكان المصريون معتادين على مياه الفيضان ولم يكن يفوتهم إدراك ذلك، حتى يقال عنهم " أنهم لم يقدروا أن يشربوا من ماء النهر " (خر 7: 21 و24).

كما أن استطاعة المصريين أن يحفروا حوالي النهر للحصول على ماء للشرب، دليل واضح على رأفة الله بالشعب في وسط هذه الضربة، إذ خفف -نوعًا- من وقعها، وكان المصريون يربطون بين النهر وبين عدد من الآلهة، تعبيرًا عن فضل النهر عليهم، وكانوا يطلقون عليه "الإله حابي"، وكانوا يصورونه على شكل رجل ضخم له صدر مترهل، ويحمل في يديه بعض الثمار من خيرات النهر، فكانت هذه الضربة موجهه إلى الآلهة النهر.

( 2) الضفادع:

( خر 8: 1 – 15، مز 78: 45، 105: 30)، بعد " سبعة أيام بعدما ضرب الرب النهر "، دخل موسى إلى فرعون، ولما أبى أن يطلق الشعب، " مد هرون يده على مياه مصر، فصعدت الضفادع وغطت أرض مصر" (خر 8: 6) وكان عددها من الضخامة، حتى طلب فرعون من موسى وهرون أن يصليا إلى الرب ليرفع الضفادع عنه وعن شعبه ، فيطلق الشعب، فطلب موسى من فرعون أن يحدد له متى يصلي لأجله لقطع الضفادع، فحدد له الغد "، فقال له " كقولك لكي تعرف أن ليس مثل الرب إلهنا" (خر 8: 8 – 11)

فصلى موسى للرب، وفي الموعد المحدد "ماتت الضفادع من البيوت والدور والحقول، وجمعوها كوماً كثيرة حتى أنتنت الأرض، فلما رأى فرعون انه قد حصل الفرج، أغلظ قلبه" وتنكر لوعده (خر 8: 12 – 15) ومن المستحيل أن يكون إتمام الأمر كما حدده موسى مع فرعون أمرًا طبيعيًا ولكنها يد الله.

وكانت الإلهة "حكت" إلهة "الولادة" عند قدماء المصريين، لها رأس ضفدع، لها رأس ضفدع، ولا شك في أن هذه الضربة هزت من هيبتها.

( 3) البعوض:

( خر 8: 16 – 19، مز 105: 31) مد هرون يده بعصاه وضرب تراب الأرض كما أمر الرب موسى، " فصار البعوض على الناس وعلى البهائم " ولم يستطع العرافون بسحرهم أن يفعلوا هكذا، فقالوا لفرعون " هذا إصبع الله ".

( 4) الذبان:

( خر 8: 20 – 32، مز 78: 45، 105: 31) وقد ميز الرب في هذه الضربة بين أرض المصريين وأرض جاسان حيث كان يقيم بنو إسرائيل، وحدد له أن "غدًا تكون هذه الآية" وتم ذلك، " فدخلت ذبان كثيرة إلى بيت فرعون وبيوت عبيده، وفي كل ارض مصر خربت الأرض من الذبان "، حتى طلب فرعون من موسى وهرون أن يصليا لأجله، فيطلقهم ليذبحوا للرب إلههم في البرية، على أن "لا يذهبوا بعيدًا"، ولما ارتفع الذبان نكث فرعون عهده.

( 5) الوبأ في المواشي :

( خر 9: 1 – 7) أنذر موسى فرعون بأن " يد الرب تكون على مواشيك التي في الحقل، على الخيل والحمير والبقر والغنم وبأ ثقيلا جدا، ويميز الرب بين مواشي إسرائيل ومواشي المصريين، فلا تموت من كل ما لبني إسرائيل شيء، وعين الرب وقتا قائلا: غدا يفعل الرب هذا الأمر في الأرض، ففعل الرب هذا الأمر في الغد، فماتت جميع مواشي المصريين، وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد، وأرسل فرعون وإذا مواشي إسرائيل لم يمت منها ولا واحد " ومع ذلك أبى فرعون ان يطلق الشعب، وكان هناك عدد من آلهة المصريين تمثلها هذه المواشي، فكان العجل "أبيس"، وكانت "هاتور" على شكل بقرة، كما كان "خنوم" على شكل كبش، وهكذا.

( 6) الدمامل:

( خر 9: 8 – 12). أخذ موسى وهرون -بناء على أمر الرب- " رماد الأتون، ووقفا أمام فرعون، وذراه موسى نحو السماء، فصار دمامل بثور طالعة في الناس وفي البهائم، ولم يستطع العرافون ان يقفوا أمام موسى من أجل الدمامل، لأن الدمامل كانت في العرافين وفي كل المصريين " ولكن فرعون ظل على عناده.

( 7) البرد:

( خر 9: 13 – 35، مز 78: 48، 105: 32 و33) وقبل وقوع هذه الضربة، ذكر الرب لفرعون الهدف من هذه الضربات: "لكي أريك قوتي ولكي يخبر باسمي في كل الأرض" (خر 9: 19)، وحذره قائلًا: "فالآن أرسل احم مواشيك وكل مالك في الحقل، جميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل ولا يجمعون إلى البيوت، ينزل عليهم البرد فيموتون، فالذي خاف من كلمة الرب من عبيد فرعون، هرب بعبيده ومواشيه إلى البيوت "ولما مد موسى عصاه نحو السماء كما أمره الرب" أعطى الرب رعودا وبردا وجرت نار على الأرض، فكان برد ونار متواصلة في وسط البرد شيء عظيم جداً، لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمة، فضرب البرد في كل ارض مصر جميع ما في الحقل من الناس والبهائم.. وجميع عشب الحقل وكسر جميع شجر الحقل، إلا ارض جاسان حيث كان بنو إسرائيل فلم يكن فيها برد ". وكانت هذه الضربة موجهه لإلهة الجو "نوت".

فأرسل فرعون ودعا موسى وهرون، واعترف بأنه أخطأ هذه المرة، وطلب منهما أن يصليا إلى الرب ليوقف تلك العاصفة الرهيبة: "فقال موسى : عند خروجي من المدينة أبسط يدي إلى الرب فتنقطع الرعود، ولا يكون البرد أيضا، لكي تعرف أن للرب الأرض " وقد حدثت هذه الضربة في أوائل العام الزراعي، " لأن الشعير كان مسبلا، والكتان مبزيا، وأما الحنطة والقطاني فلم تضرب لأنها كانت متأخرة" (خر 9: 31 و32).

( 8) الجراد:

( خر 10: 1 – 20، مز 78: 46، 105: 34 و35). كثيراً ما يهدد الجراد الزراعات والمحاصيل في كثير من بلاد الشرق الأوسط، ولكن هذه الهجمة من الجراد، كانت شيئا ثقيلا جداً " لم يكن فقبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده هكذا، وغطى وجه كل الأرض حتى أظلمت الأرض، وأكل جميع عشب الأرض وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرد، حتى لم يبق شيء أخضر في الشجر ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر" (خر 10: 14 و15) وكانت الإلهة "إيزيس" تعتبر حامية البلاد من الجراد فكانت هذه طعنة موجهه إليها، فأسرع فرعون إلى استدعاء موسى وهارون واعترف بأنه اخطأ إلى الرب، وطلب منهما الصفح عن خطيئته وأن يصليا إلى الرب ليرفع "هذا الموت"، واستخدم الرب ريحاً شرقية لتأتي بالجراد، وريحاً غربية شديدة جدا " لتحمل الجراد وتطرحه إلى البحر الأحمر ولكن فرعون عاد إلى عناده.

( 9) الظلام الدامس:

( خر 10: 21 – 29، مز 105: 28) عندما مد موسى يده نحو السماء ، بناء على أمر الرب له صار "ظلام دامس في كل ارض مصر ثلاثة أيام، لم يبصر احد أخاه، ولا قام احد من مكانه ثلاثة أيام، ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم" (خر 10: 22 و23)، وكانت هذه الضربة ضد اله الشمس " رع وخفرع وأتوم وغيرهم، حتى اضطر فرعون أن يقول لموسى: "اذهبوا اعبدوا الرب، غير أن غنمكم وبقركم تبقى" (خر 10: 24) فرفض موسى ذلك: فقال له فرعون: اذهب عنى احترز لا تر وجهي أيضا، إنك يوم ترى وجهي تموت، فقال موسى: نعما قلت، أنا لا أعود أرى وجهك أيضا" ( خر 10: 28 و29).


( 10) موت الأبكار:

( خر 11: 1 – 10، 12: 29 – 32، نمز 78لا: 51، 105: 36) انذر موسى فرعون بان الرب سيخرج "نحو نصف الليل في وسط مصر، فيموت كل بكر في ارض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر، لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضًا، ولكن جميع بني إسرائيل لا يسن كلب لسانه إليهم، لا إلي من الناس ولا إلى البهائم" (خر 11: 4 – 7) وأمر الرب بني إسرائيل بعمل الفصح ورش دم الخروف الفصح على القائمتين والعتبة العليا في كل بيت، " ليكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضريبة للهلاك حين اضرب ارض مصر" (خر 12: 13)، " فأني اجتاز في ارض مصر هذه الليلة واضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم وأصنع أحكاما بكل الآلهة أنا الرب" (خر 1: 12).

وعندئذ نفذ الرب هذا الأمر " وكان صراخ عظيم في مصر لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت، فدعا فرعون موسى وهرون ليلًا، وقال قوموا اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعًا واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم " (خر 12: 29 – 33).

ويتضح من كل ذلك أن المصريين أدركوا أنها أحداث غير طبيعية:

    ( 1) لشدة الضربات وتوقيتها ومددها.

    ( 2) كما تجلى مصدرها الإلهي في تزايد شدتها.

    ( 3) وحدوثها في الوقت وعلى الصورة كما أنبأ موسى وهرون، وزوالها أيضا ببناء على صلاتهما وفي الوقت الذي حدداه.

    ( 4) عدم امتدادها إلى أرض جاسان حيث كان شعب الله يقيم.

كما أثبتت هذه الضربات عجز آلهة المصريين وعدم نفعها، أو بالحري ثبت أنها بطل وأوهام لا وجود لها في الحقيقة، لأنها لم تستطع أن تحمي نفسها من سطوة الإله القدير الحي الحقيقي (خر 7: 5 و17، 8: 19، 9: 27).

تفسير سفر طوبيا 2 .... الاحتفال بالعيد ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا



تفسير سفر طوبيا 2 .... الاحتفال بالعيد ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا

 الاحتفال بالعيد:

"و في يوم عيد الرب أن صُنِعَت مأدبة عظيمة في بيت طوبيا فقال لابنه هلم فادع بعضًا من سبطنا من المتقين لله ليأكلوا معنا(طو 2: 1، 2)"

كان من عادة اليهود أن يعيدوا ثلاثة أعياد رئيسية في خلال العام (لا 23 ، تث 16: 16).
بالإضافة إلى يوم الكفارة الذي كانوا يعيدون له في اليوم العاشر من الشهر السابع والأعياد الثلاث هي:-

1- عيد الفطير: وهو لمدة سبعة أيام، وكان يبدأ من اليوم الخامس عشر من شهر أبيب إلى اليوم الحادي والعشرين من نفس الشهر، وكانوا في هذه المدة لا يأكلون خبزًا مختمرًا بل فطيرًا، وعادة كان يلازم هذا الأسبوع عيد الفصح، حيث كان يذبح خروف الفصح في مساء اليوم الرابع عشر من نفس الشهر وعشية اليوم الخامس عشر.

2- عيد الحصاد: وكان يطلق عليه عيد الأسابيع أو العنصرة، وكانت تقدم فيه تقدمة للرب، وهو العيد الوحيد الذي كان يقدم فيه للرب خبزًا مختمرًا كتقدمة (لا 2 : 7). وكان يحسب له بعد أن يأتوا بحزمة الترديد سبعة أسابيع كاملة ويكون العيد في اليوم الخمسين.

3- عيد الجمع: وكان يطلق عليه عيد المظال، حيث كان بنو إسرائيل يقيمون خارج منازلهم لمدة سبعة أيام في مظال من سعف النخل وأغصان شجر الزيتون. تذكارًا لتيهان آبائهم في البرية لمدة أربعين سنة، وكان يبدأ في اليوم الخامس عشر من الشهر السابع. ففي أحد هذه الأعياد -وبعض النسخ تذكر أنه عيد العنصرة- أقام طوبيا مأدبته. ونجد أن طوبيا يشدد على الذين سيشتركون معه وأسرته في المائدة أن يكونوا من عشيرته أي من بني إسرائيل وليس من الأمم، لكي لا يتنجسوا بوجودهم إذا كان بعض منهم مس أي شيء نجس. نلاحظ أن الشريعة أوصت أن لا يسمح لأى غريب -إنسان غير مختتن- أن يأكل من خروف الفصح حتى لو كان عبدًا في البيت، وفي نفس الوقت كانت تسمح بأكثر من أسرة أن تشترك في خروف واحد للفصح، وكانت تشدد جدًا على العطف على الفقراء أو المحتاجين، ونجد أن طوبيا كان يراعى ذلك دائمًا.

 فذهب ابنه وعاد إليه، ولكن بدلًا من أن يأتى بأحد الفقراء، أتى بخبر غير سار وهو أن أحد بني جنسه مقتول في أحد الشوارع وجثته ملقاة كدمية على وجه الأرض.

فترك طوبيا وليمته في الحال، وقام مسرعًا، وأخذ معه بعضًا من عبيده - وكان القانون يسمح للإسرائيلين باقتناء بعضًا من الأمم كعبيد لهم. وجعلهم يحملون الجثة ويخبئونها إلى غروب الشمس لكي لا يتنجس ويأكل من وليمته في وقتها، حيث كان اليهود يعتبرون بداية اليوم الجديد من عشية اليوم الذي يسبقه أي بعد غروب الشمس. ونلاحظ هنا أنه نسب إلى طوبيا أنه هو الذي قام بأخذ الجثة وتخبئها إلى بعد الغروب ودفنها مثلما ننسب إنجاز شيء إلى الملك أو الرئيس الذي تتم في أيامه. ونجد أن يوسف الرامى ونيقوديموس قاما بدفن المسيح على عَجَلٍ قبل غروب الشمس لكي يستطيعا أن يأكلا من خروف الفصح ويعيدا عيد الفطير في ميعاده.

ونرى فضيلة دفن الموتى من الغرباء والفقراء قد تأصلت لدى اليهود. وهذا ما نلاحظه في دفن يوسف الرامى للسيد المسيح. ونلاحظ أيضًا أن قادة اليهود قاموا بشراء قطعة أرض وجعلها مقبرة للغرباء بالثمن الذي باع به يهوذا الاسخريوطى السيد المسيح له المجد.

"وبعد أن خبأ الجثة أكل الطعام باكيًا مرتعدًا فذكر الكلام الذي تكلم به الرب على لسان عاموس النبي أيام أعيادكم تتحول إلى عويل ونحيب (طو 2: 5، 6)".

 نرى هنا أن طوبيا يتذكر ويعى جيدًا أقوال الأنبياء الذين سبقوه، ومنهم قول عاموس النبي"وأُحَول أعيادكم نوحًا وجميع أغانيكم مراثى (عا 8: 10)"، وهذا يوضح لنا أن حفظ أقوال الله يحفظنا من كل خطية. ويذكرنا بحلوله في وسطنا. وكلامه دائمًا لا يكون كلام هباء بل كل ما يقوله يفعله ويتممه حتى لو أبطأ بعض الوقت.

" وكان جميع ذوى قرابته يلومونه قائلين: "لأجل هذا أمر بقتلك وما كدت تنجو من قضاء الموت حتى عدت تدفن الموتى (طو 2: 8)"

إننا نجد أن بعض الأهل والأقرباء هم أكثر معوق في الطريق الروحى -للأسف الشديد- فبدلًا من أن يشجعوا كل من أراد أن يسلك في الطريق نحو الله، نجدهم بقدر المستطاع يجذبوهم إلى أسفل. وكأن من أراد أن يسير مع الله. يفعل شرًا عظيمًا. ولابد مِن ترك هذه الرذيلة من وجهة نظرهم. والا أصبح لهم عدوًا، فيترصدون له الأخطاء. ناسين أنهم بشر ولهم ضعفتهم، ومازالوا في حرب مع الشيطان وكل أعوانه، فلابد أن يسقطوا ويقوموا ولذلك قيل: "الصديق يسقط سبع مرات في اليوم ويقوم (ام 24: 16)"، أو يشبعونه استهزاء، وسخرية بكلمات لاذعة وعنيفة ما بين التهكم، أو اعتباره قديسًا، أو ملاكًا ليس من هذا الكوكب، ولذلك نجد أن السيد المسيح يحذرنا قائلًا: "أعداء الإنسان أهل بيته (مت 10: 36)".

وفي موضع آخر يقول "ليس نبى بلا كرامة إلا في وطنه (مر 6: 4)". أما طوبيا الذي يعى جيدًا "يجب أن يطاع الله أكثر من الناس (أع 5: 21)." لا يهتم بكلامهم، ويواصل السير في هذه الفضيلة لكي تنمو معه يومًا فيومٍ إلى ملء قامة المسيح (اف 4: 13).

وعادةً أي فضيلة بها قوة داخلية تعمل وتساعد كل مَنْ أراد أن ينفذها. ولهذا نجد طوبيا لا يخشى أمر الملك (طو 2: 9) بل يستمر في دفن الموتى.

 تجربته:

وعندما ينتصر طوبيا على تجربته الاولى، من خلال ثباته في الفضيلة، وأثبت عمليًا أنه يجب أن يطاع الله أكثر من الناس (أع 5: 21)، فكان له أن يتعرض إلى تجارب أخرى لكي تزكى هذا الإيمان وتثبته، وتأصله في أعماق وجدانه البشرى، لكي كل من يرى أعماله الصالحة يمجد الله، ولذلك نجد أن الله سمح له أن يتعرض إلى تجربة من نوع جديد، وهي إصابته بالعمى نتيجة وقوع بعض من ذرق أحد الطيور في عينيه وهو سخن عندما كان نائمًا بجوار الحائط (طو 2: 10 - 13)، فنجده ينتصر في هذه التجربة المريرة أيضًا التي أفقدته بصره، وبعد ذلك أمواله التي أنفقها على الأطباء لعلاجه لكن من دون فائدة.

ونراه يقدم الشكر لله (طو 2: 14) على كل حال، ومن أجل كل حال، وفي كل حال. وقد يتعجب البعض كيف يشكر الله على فقدانه بصره وأمواله ومركزه، نعم يشكر الله لأنه أخذها من يد الله الذي يعرف ماذا تحتاج إليه نفسه لإصلاحها، وتقويمها، وتنقيتها، وتزكيتها أمامه.

فالهنا كأب حنون، لا يمكن أن يعطى إلا كل خير، ما ينظر إليه البعض على أنه مصيبة حالة بهذا الإنسان. وليس معنى أن طوبيا يشكر الله أنه لا يتألم، بل يتألم أشد الألم، والشيطان يحاول أن يستغل هذه الفرص، ويشككنا في محبه الله، وعنايته ويظهره كأنه تخلى عنا. وأصبحنا من غير خاصته ولماذا كل هذه الآلام ؟! ويجلب الأهل والأصدقاء لتأكيد هذا الفكر، كيف نكون أبناء الله ويعرضنا لمثل هذه التجارب؟! وأين أعمالنا التي كنا نقدمها من أجل الله؟! ناسين أنه لابد للشجرة أن تقلم لكي تأتى بثمر. فإلهنا الصالح ينزع منا كل ما لا يأتى بثمر لمجده، وهذا النزع لابد له أن يحدث ألمًا. ولذلك نجد أن القديس بولس الرسول يصف الإنسان المؤمن الواقع تحت التجربة قائلًا: "ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيُعطى الذين يتدربون به ثمر بر للسلام (عب 12: 11) ".

ونجد أن طوبيا وضع في تطابق مع أيوب الصديق (طو 2: 12 - 16). وكأنه على كل نفس مؤمنة أن توضع في هذا التطابق العجيب. فتخرج هي الأخرى أنقى من الذهب المصفى (أى 23: 10)، حيث تتم تنقيتها بين يدى ضابط الكل، الذي يعرف جيدًا متى يرفع التجربة، ومتى يحولها، أو يحفظها، لأنه لا يتركنا للتجارب التي فوق طاقتنا. حيث لا يدعنا نجرب فوق ما نستطيع لكنه يجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لنستطيع أن نحتملها (1 كو 1: 13)، فالشكر لا يلغى الآلام الناتجة عن التجربة. ولا الآلام تقدر أن تجعلنا لا نشكر الله على كل حال، ونتذمر عليه، وإن كان هذا لا يمنع من الدخول في عتاب مع الله، مثلما فعل كل من أيوب البار (أى 7: 7 -12) وإرميا (إر 12: 1) وحبقوق (حب 1:12 -17) وغيرهم كثيرون.

"فإنما نحن بنو القديسين وإنما ننتظر تلك الحياة التي يهبها الله للذين لا يصرفون إيمانهم عنه أبدًا (طو 2: 18)".

 آه يا رب....

أرجوك يا إلهي الصالح. أعطنا أن نعى جيدًا أننا بنو القديسين، كما أعطيت ابنك طوبيا.

هبنا يا رب أن لا نشاكل أهل هذا العالم في تصرفاتهم وملابسهم......

وفى أسلوبهم في الكلام والحياة...
وفى المشى والحركات...
نحن الأن يا رب في أشد الاحتياج لأن نعى أننا بنو القديسين...
فلقد نسينا هويتنا في هذا العالم المضطرب....
نسينا أننا بنو الشهداء القديسين الذين سفكوا دماءهم من أجل الحفاظ على الإيمان والعقيدة...
وإن تذكرناهم نحيا على ذكراهم...
وكأننا انفصلنا عنهم.
ولا نعى أننا لابد أن نسير على مبادئهم....
ونسير على نفس الدرب الذي ساروا هم فيه....
وأن ننظر إلى نهاية سيرتهم ونتمثل بإيمانهم (عب 13: 7).
فأنك يا إلهى لا تتخلى عن أحد من أبنائك إن كان في شدة أو في ضيقة...
وانك لابد أن تكافاه هنا على الأرض....
وفى السماء أضعاف أضعاف.
أعطنا يا إلهى أن ننظر إلى تلك الحياة التي نعيش فيها معك إلى الأبد....
ولا يستطيع شيء مهما كان أن يفصلنا عنك أبدًا.
وإن خُرْنَا هنا لبعض الوقت فأنت دائمًا تسندنا ولا تجعلنا نسقط...
لأنك انت مسند أيادينا (مز 37: 24).

وفى الأعداد (طو 2: 19- 22) نجد أن حنة امرأته تحمل على أكتافها أعباء مضاعفة لم تتعود عليها من قبل، منها الاهتمام برجلها الذي أصبح كفيفًا ولم يتعود على الحياة بدون بصره، ابنها الصغير الذي لا يقدر على الاهتمام بمسئولية الحياة، وعلاوة على كل ذلك التكفل بنفقات المعيشة بعملها في الحياكة. فلقد أخذت على عاتقها أن تخفف من شدة التجربة الحالة بزوجها قدر الإمكان. ولم تحاول أن تتهرب من هذه الاعباء بحجج واهية كما يفعل البعض الآن، ولكنها فضلت أن تعيش تحت هذا النير من أن تترك بيتها، ولم تحاول خلق المشاكل، أو أن تثير شكوك زوجها. إلى أن جاء يومٍ كان كئيبًا على الأسرة. حينما رجعت من عملها ومعها جديًا صغيرًا. فطوبيا يعلم جيدًا حدود الدخل التي تحصل عليه من عملها وأنه لا يكفى شراء جدى. ومع أنه يقدر جيدًا تعبها من أجله تساءل في شيء من الريبة والشك "من اين جاء هذا الجدي؟! فلو كان مسروقًا ردوه إلى أصحابه"، ولكنها لم تستطع أن تقنعه أنه ليس بمسروق.

وتحت ضغط هذه المشاحنات تلفظت ببعض الكلمات التي آلمت طوبيا حيث أتت كلمات التعيير من أحبائه ومن خاصته، وما أصعب الجروح التي تتم من الأحباء، حيث لا نتوقع منهم هذا، ولكننا نتوقع منهم كل خير، وحب مقابل بذلنا وحبنا لهم. وهذا ما عبر عنه داود النبي بقوله: لأنه ليس عدو يعيرنى فأحتمل. ليس مبغضى تعظم على فأختبئ منه، بل أنت إنسان عديلى ألفى وصديقى الذي معه كانت تحلو لنا العشرة (مز 55: 12 -14)". وكان من نتيجة هذا الجرح الذي ألّمَ به نفسيًا أن وقف يصلى امام الله بدموع.


تفسير سفر طوبيا 1 ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا



تفسير سفر طوبيا 1 ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا

سفر طوبيا هو سفر كل أسرة تعيش حسب وصايا الله، وإرادته، ولكنها تجد نفسها أمام تجارب عنيفة، وطاحنة. ولا تعرف لها أي سبب. ومع ذلك لا تفقد ثقتها بالله الحنان، ولذلك تصرخ إليه وتضع كل حياتها في يدى الله لكي يخلصها من هذه المحنة والتجربة التي لحقت بها متى شاء، ويحول هذه التجارب إلى إكليل فخر ومجد على هامتها.

حياة طوبيا قبل السبي:

فأسرة طوبيا التي كانت تسكن بالجليل ضمن حدود سبط نفتالي قد سببت على يد شلمناصر الخامس ملك أشور.

ويستعيد طوبيا أيام صباه عندما كان يسكن في منطقة الجليل حيث تقع مدينتهم، فيتذكر أنه يجار الأحداث في أفعالهم ولكنه كان يتقى الله، وعندما كان الشبان يذهبون ليعبدوا عجلىّ الذهب اللذين نصبهما يربعام بن ناباط (1). كان طوبيا يذهب إلى أورشليم ويسجد للرب في هيكله، ويوفى كل ما تطالب به الشريعة من عشور وبكور. وكيف كان يعطى كل ثلاث سنوات عشوره وبكوره للغرباء، وبقى على هذا الحال حتى السبي. ويتذكر أيضًا أيام زواجه بحنة امرأته والتي كانت من سبطه، والتي انجب منها ابنه الوحيد والمحبوب إليهما والذى أسماه طوبيا.

طوبيا في السبي:

لقد سار طوبيا حسب تقواه في أرض سبيه، فكان لا يأكل من أطعمة الأمم، ولم يتنجس بمأكولاتهم أو معبوداتهم. فأعطاه الله نعمة أمام الملك شلمناصر فأعطاه تصريحًا أن يذهب حيثما شاء، وأن يفعل ما يشاء. فأخذها فرصة وابتدأ يطوف على المسبيين، ويعلمهم، ويرشدهم إلى خلاص نفوسهم. في ذلك الوقت رأى غابليوس أحد أقاربه في فاقة فأعطاه عشرة قناطير من الفضة إعارة بصك على أساس أن يرده إليه متى تحسنت أحواله، وكان طوبيا يطعم الجياع ويكسو العراه ويدفن الموتى الذين لا يهتم بهم أحد أو من في فاقة، ويواسى كل أحد.

ونلاحظ هنا أن تقوى طوبيا لا تقوم على التأمل الباطنى في الشريعة فقط، بل تمتد إلى ممارسة الأعمال الصالحة، وهذا يذكرنا بقول مار يعقوب الرسول: "لكن يقول قائل أنت لك إيمان وأنا لى أعمال. أرنى إيمانك بدون أعمالك وأنا أريك بأعمالي إيماني (يع 2: 18)".

وهذا ما يؤكده القديس بولس الرسول حيث يطالبنا بأن نسلك في خطوات إيمان أبينا إبراهيم (روميه 12:4)، بحيث أن نظهر إيماننا بالمسيح من خلال أعمالنا فيكون إيماننا عمليًا وليس نظريًا.

طوبيا وسنحاريب:

وفى هذه الفترة مات الملك شلمناسر الخامس وتولى سنحاريب الملك عوضًا عنه، وحاول أن يغزو مملكة يهوذا لكنه فشل بسبب تجديفه على الله، فضرب ملاك الرب مائة وخمسًا وثمانين ألفًا من جنوده، فرجع حانقًا على شعب إسرائيل الذين في مملكته. فكان يقتل منهم عددًا غفيرًا. أما طوبيا فكان يدفنهم فنما إليه خبره، فأمر بقتله ومصادرة جميع ممتلكاته. فهرب طوبيا من أمام وجهه هو وامرأته وابنه واختبأوا لأن كثيرين كانوا يحبونه. وبعد خمسة وأربعين يومًا من عودة سنحاريب من غزوته على اليهودية، قاد ابناه محاولة انقلاب فاشله ولكنهما قتلاه فيها وهربا إلى أرارط، فرجع طوبيا إلى منزله ورّد إليه كل ماله.

تامل من رسالة أفسس 5 ... العبادة والسلوك ++ القمص تادرس يعقوب


 تامل من رسالة أفسس 5 ... العبادة والسلوك ++  القمص تادرس يعقوب

العلاقات الزوجية وسرّ المسيح

لقد تحدث الرسول بولس عن الكنيسة من الجانب العملي، خلال سلوك المؤمن اليومي، بنزع أعمال الإنسان القديم وممارسته أعمال الإنسان الجديد، رافضًا أعمال الظلمة كابن للنور، ممتلئ بعمل الروح القدس. هذا السلوك يرتبط بعبادته أيضًا فتتحول إلى تسبيح حقيقي داخلي وتشكرات لا تنقطع تنبع لا عن الفم واللسان فحسب وإنما خلال القلب والفكر، وكل الأحاسيس الداخلية كما خلال العمل.

الآن يقدم لنا الرسول انعكاسات هذه المفاهيم على حياتنا الأسرية، التي لا تنفصل عن جهادنا الروحي ولا عن حياتنا الكنسية.

إن كانت الكنيسة الجامعة -كما أعلنها الرسول بولس في هذه الرسالة- هي كشف عن سرّ المسيح، أي سرّ حب الله الفائق للبشرية خلال ذبيحة المسيح يسوع ربنا، فإن هذا السرّ الإلهي يقدم لنا مفاهيم عميقة وجديدة للعلاقات الزوجية والأسرية والاجتماعية. ففي الحياة الزوجية نحمل صورة لعلاقتنا مع الآب في المسيح يسوع ربنا، علاقة الحب والوحدة، كما نرى في العرس الأرضي أيقونة للعرس السماوي، والبيت المسيحي ظلًا لبيت الله الأبدي.
من هنا فالشريعة الخاصة بالزواج والناموس الخاص بالبيت المسيحي إنما يُستمدان من عمل السيد المسيح الخلاصي.

"أَيُّهَا النِّسَاءُ (الزوجات) اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ..." (22)

ويلاحظ على النص الرسولي الذي بين أيدينا الآتي:

 أولًا: الكشف عن الوحدة الزوجية بين الرجل والمرأة

الكشف عن الوحدة الزوجية بين الرجل والمرأة بكونها أيقونة للوحدة مع السيد المسيح وعروسه الكنيسة، الأولى تستمد كيانها من الثانية، لذا وجب أن يتم العرس في ظل الصليب، خلال وحدة الإيمان بالسيد المسيح المصلوب، والارتباط بكنيسته.

 كيف يمكننا أن نعبر عن السعادة الزوجية التي تعقدها الكنيسة، ويثبتها القربان، وتختمها البركة؟! ++ العلامة ترتليان

 يجب على المتزوجين والمتزوجات أن يجروا إتحادهم برأي الأسقف، لكي يكون الزواج مطابقًا لإرادة الله لا بحسب الشهوة ++  القديس أغناطيوس النوراني

إذا كان لابد أن يعقد الزواج بحلة كهنوتية وبركة، فكيف يمكن أن يكون زواج حيث الإيمان مختلف؟! ++ القديس أمبروسيوس

 ثانيًا: مفهوم الخضوع

كثيرون يسيئون فهم العبارة الرسولية: "أَيُّهَا النِّسَاءُ (الزوجات) اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ" (22)، فيحسبونها دعوة لخنوع المرأة واستسلامها، ولبث روح السلطة للرجل.

"الخضوع" في المسيحية ليس خنوعًا ولا ضعفًا، ولا نقصًا في الكرامة، هذا ما أعلنه كلمة الله المتجسد حين أعلن طاعته للآب وخضوعه له مع أنه واحد في الجوهر، رافعًا من فضيلة "الخضوع" ليجعلها موضع سباق لعلنا نبلغ سمة المسيح الخاضع والمطيع. والعجيب أن الإنجيلي لوقا يقول بأن "يسوع" كان خاضعًا للقديسة مريم والقديس يوسف النجار (لو ٣: ٥١)، مع كونه خالقهما ومخلصهما، وخضوعه لم يعيقه عن تحقيق رسالته التي غالبًا لم يدركاها في كمال أعماقها، إذ قال بتواضع وصراحة: "لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي" (لو ٣: ٤٩). فالخضوع ليس استسلاما على حساب رسالة الشخص، ولا طاعة عمياء دون تفكير، وإنما اتساع قلب وقبول لإرادة الغير بفكر ناضج متزن.

قدم لنا القديس هيبوليتس الروماني فهمًا لخضوع الابن للآب، ليس علامة عن انتقاص لأقنومه وإنما على تناغمه واتفاقه ووحدته مع الآب، إذ يقول: يرتد تدبير الاتفاق إلى الله الواحد. فإن الله واحد: الآب يوصي والابن يطيع والروح يهب فهمًا... الآب أراد والابن فعل والروح أعلن، هذا ما يوضحه الكتاب المقدس كله.

إذن فخضوع الزوجة لرجلها هو مشاركة السيد المسيح طاعته وخضوعه للآب كعلامة الحب والوحدة، وليس إهدارًا للكرامة أو كإنقاصٍ من شأنها.

والقديس يوحنا الذهبي الفم يرى أن المرأة وهي موضع حب رجلها الشديد يلزمها ألاَّ تقابل هذا الحب بكبرياء بل بخضوع كرد فعل لمحبته، إذ يقول: المحبة من اختصاص الرجال، أما الخضوع فمن اختصاص النساء، فإن قدم كل إنسان ما يلتزم به تثبت الأمور، فالرجل بحبه للمرأة تصيره هي محبة له، والمرأة بطاعتها للرجل يصير وديعًا معها. لا تنتفخي لأن الرجل يحبك، فقد جعله الله يحبك لتطيعيه في خضوع بسهولة. لا تخافي من خضوعك له، لأن الخضوع للمحب ليس فيه صعوبة.

 والقديس أغسطينوس يطالب الزوجات أن يقتدين بالقديسة مريم التي اتسمت بالتواضع المقدس، فقدمت يوسف رجلها عنها (لو ٢: ٤٨) مع أنها نالت شرف ولادتها للسيد المسيح.

بهذا فهم الآباء خضوع الزوجة بمنظار روحي خلال الصليب، لا يفقدها مساواتها له ولا مشاركته التدبير وتحمل المسئولية إنما يزينها بالفضيلة ويمجدها لتكسب أيضًا محبته.

يقول القديس أمبروسيوس:ليت الرجل يقود زوجته كربانٍ، يكرمها كشريكة معه في الحياة، يشاركها كوارثه معه في النعمة.

ثالثًا: رئاسة الرجل وحبه

كثيرًا ما يتمسك الرجل بالرئاسة بكونها "سلطة" ودكتاتورية، لذا ربط الرسول بولس الرئاسة بالحب الباذل، إذ يقول: "لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ" (23).

فرئاسة السيد المسيح لكنيسته أعلنت خلال محبته الباذلة على الصليب لخلاصها، وهكذا إذ يريد الرجل أن يكون رأسًا فليقدم حبًا باذلًا عمليًا! وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: اهتم بها بنفس العناية التي تعهد بها المسيح الكنيسة. نعم، حتى وإن احتاجت أن تقدم حياتك! نعم، وإن احتاجت أن تتقطع أجزاء ربوات المرات! نعم، لتحتمل أي ألم مهما كان ولا تمتنع.

إن كان الرجل هو الرأس فلا مكان للرأس بدون الجسد، ولا حياة للرأس بدون الجسد. يقول القديس أمبروسيوس: [الرجل بدون زوجته يحسب كمن هو بلا بيت.

رابعًا: الشركة في الصليب

حينما تمارس الزوجة خضوعها لرجلها في الرب، ويمارس الرجل حبه لعروسه من أجل الرب، إنما يشترك الاثنان معًا بصورة أو بأخرى في عمل السيد المسيح الذبيحي بالبذل الحقيقي، فتصير حياتهما الزوجية علامة منظورة عن شركتهما في عمل السيد المسيح المبذول الخفي. بمعنى آخر يرى الزوجان في ذبيحة المسيح، ذبيحة الحب عن الآخرين، نموذجًا حيًا ورصيدًا لحياتهما الأسرية. هذا ما نلمسه في حديث الرسول بولس: "وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا" (٢٤-٢٥).

تحت ظل الصليب تقدم الزوجة خضوعها بفرح من أجل الرب، ويعلن الزوج حبه لزوجته مهما كان تصرفها. ممتثلًا بالسيد المسيح الذي قدم حياته لتقديس المؤمنين.

من كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم للزوج: إن رأيتها تزدري بك وتأنف منك وتحتقرك، فتفكيرك العظيم تجاهها ومودتك ولطفك تقدر أن تخضعها لك، فإنه ليس شيء أعظم قوة في الاستمالة أكثر من هذه الرباطات، خاصة من الزوج والزوجة...! نعم فإنه بالرغم مما تعانيه من بعض الأمور من ناحيتها فلا تعنفها، لأن المسيح لم يفعل ذلك.

في قوة ووضوح تحدث الرسول بولس عن حب المسيح لكنيسته كمصدر حيّ لحب الرجل لزوجته، قائلًا:

"وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ" (25:27).

ويلاحظ في محبة السيد المسيح لكنيسته الآتي:

أ. أنه أسلم نفسه لأجلها، لأن المحبة "لا تطلب ما لنفسها" (١ كو ١٣: ٥). المسيح في علاقته بنا يطلب خلاصنا، لننعم بشركة الميراث معه؛ هو لا يحتاج إلينا لكنه بالحب يبذل عنا. هكذا ليت الرجل في علاقته بزوجته يحبها لأجل شخصها كمحبوبة لديه، لا لأجل إشباع مطالب معينة بالنسبة له، أيًا كان نوعها!

ب. غاية السيد المسيح من عروسه أن يقدسها ويطهرها بمياه المعمودية وذلك بالكلمة، إذ تتقدس المياه خلال السيد المسيح الكلمة، مقدمًا صليبه ثمنًا لتقديسنا.

كانت -كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم- مملوءة عيبًا وبشعة وملومة، فلم يشمئز منها ولا مقتها، إنما أسلم نفسه من أجلها، كقول الرسول: "وإذ كنا خطاة مات المسيح عنا" (رو ٥: ٥). وبالرغم من كونها هكذا أخذها وكساها بالجمال، وغسلها، ولم يرفض أن يسلم نفسه من أجلها.

في قوة تحدث الرب على لسان حزقيال عن هذا الحب الباذل، قائلًا:

"هكذا قال السيد الرب لأورشليم، مخرجك ومولدك من أرض كنعان، أبوك أموري وأمك حثية. أما ميلادك يوم وُلدت فلم تُقطع سرتك، ولم تُغسلي بالماء للتنظف، ولم تملحي تمليحًا، ولم تقمطي تمقيطًا.

لم تشفق عليك عين لتصنع لك واحدة من هذه، لترق لك، بل طُرحت على وجه الحقل بكراهة نفسك يوم وُلدت.

فمررت بك ورأيتك مدوسة بدمك، فقلت لك: بدمك عيشي...

جعلتك ربوة كنبات الحقل، فربوت وكبرت وبلغت زينة الأزيان.
نهد ثدياكِ، ونبت شعرك، وقد كنت عريانة وعارية.
فمررت بك ورأيتك، وإذا زمنك زمن الحب.
فبسطت ذيلي عليك وسترت عورتك، وحلفت لك، ودخلت معك في عهد يقول السيد الرب، فصرت لي.

فحممتك بالماء وغسلت عنك دماءك ومسحتك بالزيت، وألبستك مطرزة، ونعلتك بالتخس، وآزرتك بالكتان، وكسوتك بزًا، وحليتك بالحلي، فوضعت أسورة في يديك، وطوقًا في عنقك، ووضعت خزامة في أنفك، وأقراطًا في أذنيك، وتاج جمال على رأسك...

وأكلت السميذ والعسل والزيت، وجملت جدًا جدًا، فصلحتِ لمملكة.

وخرج لك اسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب" (حز ١٦: ٢ - ١٤).

إنها صورة رائعة لعمل الله الفائق خلال محبته الباذلة بالصليب!

ج. يقول: "يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ"، ففي طقس الزواج اليهودي كانت هناك فترة بين عقد الزواج واستلام العروس؛ هكذا وقع السيد عقد الزوجية بدمه الطاهر على الصليب، اشترانا وقبلنا عروسًا له، وفي مجيئه الأخير يستلم العروس حيث يجتمع كل المختارين معه على السحاب، وكأنه يُحضر عروسه لنفسه. لقد أحبها بلا مقابل، لكنه ينتظرها عروسًا له تجاوبه الحب بالحب، وتشاركه المجد الأبدي!

هنا يلزمنا أن نقف قليلًا، فإن كان السيد المسيح في محبته بذل حياته عن عروسه، فهو يطلب تقديسها، فلا ينعم بالعرس إلاَّ المقدسون فيه. وكما يقول القديس أغسطينوس إن بعض السمك الرديء يدخل شبكة المسيح في الكنيسة، لكنه لابد أن يفرز فلا يكون له نصيب مع السمك الجيد .

يقول الأب دوروثيؤس من غزة: تجسد الرب يسوع المسيح ليعيد الإنسان إلى صورته الأولى. ولكن كيف نرجع إلى تلك الصورة الأولى؟ حين نتعلم من الرسول القائل: "لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح" (٢ كو ٧: ١). لنتطهر فيظهر الشبه (بالله) الذي نلناه. لنعزل عنه دنس الخطية فيظهر بكل جماله خلال الفضيلة. يقول داود في صلاته من أجل هذا الجمال: "أعطيت جمالي قوة" (مز ٢٩: ٨). إذن فلنطهر أنفسنا لنعود إلى التشبه بالله، الأمر الذي أقامه فينا.

د. إذ تحدث عن تقديس الكنيسة خلال محبة المسيح الباذلة، أشار إلى المعمودية، قائلًا: "بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ"(26).

 يعلن الرسول الطوباوي ويؤكد أن المعمودية هي التي فيها يموت الإنسان القديم ويولد الإنسان الجديد، قائلًا: "خلصنا بغسل الميلاد الثاني" (تي ٣: ٥). فإن كان الميلاد الثاني (التجديد) يتم في الجرن أي في المعمودية، فكيف يمكن لهرطقة - وهي ليست عروس المسيح - أن تلد بنينًا لله خلال المسيح؟

إنها الكنيسة وحدها التي التصقت واتحدت بالمسيح تلد روحيًا أبناءً، كقول الرسول: "أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدّسها، مطهرًا إياها بغسل الماء" (أف ٥: ٢٥، ٢٦). إن كانت هي المحبوبة والعروس، وحدها تتقدس بالمسيح، ووحدها تتطهر بجرنه، فمن الواضح أن الهرطقة - التي ليست عروس المسيح - لا يمكن أن تتطهر ولا أن تتقدس بجرنه ولا أن تلد أبناءً لله++ الشهيد كبريانوس

ه. إذ أقام السيد المسيح كنيسته جسدًا مقدسًا له، بكونه رأسها، هكذا يرى الزوج في زوجته جسده، فيحبها ويهتم بها، إذ يقول الرسول:

"كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ. لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ" (٢٨-٣٠).

هنا يقدم الرسول ثلاث مقارنات: المسيح والكنيسة، الرجل وزوجته، الرأس والجسد.

في الوقت الذي في أبرز مدى إتحاد الزوج بزوجته بكونها جسده، حتى قال القديس يوحنا الذهبي الفم: ليس هنا شيء يلحم حياتنا مع بعضنا البعض هكذا مثل حب الرجل وزوجته.
فقد أعلن الرسول أمرين: الأول مدى إتحادنا بالسيد المسيح "لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ" والثاني نظرتنا القدسية لجسد: "فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ".

فمن جهة إتحادنا بالسيد المسيح بكوننا أعضاء جسمه، فهو الغاية الأولى والرئيسية في عمل الله الخلاصي وتمتعنا بإنجيله. إذ يريدنا واحدًا معه، ننعم بالشركة معه أبديًا كأبناء روحيين وورثة. هذا الخط واضح جدًا في كل رسائل بولس الرسول، خاصة هذه الرسالة مادام يتحدث عن الكنيسة جسد المسيح.

أما من جهة قدسيتنا للجسد، فقد أوضح أننا لا نبغض الجسد بكونه خليقة الله المقدسة، إنما نبغض شهواته الدخيلة. الجسد لا يمثل عائقًا نود الخلاص منه خلال معادتنا له، بل هو عطية إلهية تبقى مقدسة مادمنا نسلك بالروح. وقد ركز الآباء على هذا الاتجاه الإنجيلي حتى لا ننحرف إلى الأفكار الغنوسية المعادية للجسد بكونه -في نظرهم- عنصر ظلمة يجب إهلاكه.

يقول القديس أغسطينوس ++ لنهتم بالجسد، وإنما فقط في حدود الصحة .

و. إذ يتحدث الرسول عن الوحدة القائمة بين الزوجين يقدم لنا مفهومًا لهذه الوحدة منذ بدء الحياة الإنسانية، يتحقق خلال عمل المسيح، إذ يقول: "مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا" (٣١). وقد اقتبس الرسول ذلك عن سفر التكوين (٢: ٢٤).

هذه الوحدة تظهر بصورة فريدة بين السيد المسيح وكنيسته، حيث دعاها الرسول "سرًّا"، إذ يقول: "هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ. وَأَمَّا أَنْتُمُ الأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ امْرَأَتَهُ هَكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ (تحترم) رَجُلَهَا" (٣٢-٣٣).

لقد قدم السيد المسيح نفسه مثلًا ففي إتحاده بالكنيسة العروس، كما يقول القديس أغسطينوس قام بترك الآب إذ أخلى ذاته عن الأمجاد وأخذ شكل العبد (في ٢: ٧)، وإن كان يبقى واحدًا معه في الجوهر بلا انفصال، كما ترك أمه أي الشعب اليهودي الذي أخذ عنه الجسد خلال القديسة مريم اليهودية الجنس، ليصير هو مع عروسه جسدًا واحدًا .

تفسير سفر الرؤيا 10 .... ظهور السفر المختوم ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير سفر الرؤيا 10 .... ظهور السفر المختوم ++ القمص تادرس يعقوب


إذ جاء بنا إنذار الله المعلن في فترة ضد المسيح خلال قيام حروب للتأديب، فإننا نتساءل وما هو موقف الحمل منه وخاصة من أجل عروسه؟

في الأصحاح العاشر الذي بين أيدينا يوضح لنا شخص الرب كملاك متسربل بالسحاب ممسكًا في يده سفرًا صغيرًا مفتوحًا يعلن مقاصده تجاه البشريّة، خاصة في فترات الضيق، وعلى وجه أكثر تخصصًا في فترة ضد المسيح الشديدة الظلمة.

وفي الأصحاح الحادي عشر يوضح إرساله نبيين -إيليا وأخنوخ- كشاهدين يعينان الكنيسة على الهروب إلى البراري ما أمكن ويقفان أمام ضد المسيح لمقاومته.

نعود إلى الملاك الممسك بالسفر لنجد في هذا الأصحاح:

1. الملاك المتسربل بالسحاب

"ثم رأيت ملاكًا أخرًا قويًا نازلًا من السماء، متسربلًا بسحابة، وعلى رأسه قوس قزح، ووجهه كالشمس، ورجلاه كعمودي نار. ومعه في يده سفر صغير مفتوح، فوضع رجله اليمنى على البحر واليسرى على الأرض. وصرخ بصوت عظيم كما يُزمجر الأسد، وبعدما صرخ، تكلمت الرعود السبعة بأصواتها" .

إنه "ملاك العهد" الذي يتجلى في القلوب، يطمئن اضطرابها، قائلًا لمؤمنيه :"أنا هو لا تخافوا". ويؤكد الأسقف فيكتورينوس أنه ربنا يسوع المسيح وهو:

1. نازل من السماء:سماوي يهتم لا برفع الضيق أو الأتعاب عن مؤمنيه بل ببلوغهم السماء.

2. قوي:يتجلى أمام عروسه قويًا ليشددها حتى لا يخور من يرتبط به. حقًا إن المؤمنين يدركون أنهم ليسوا كفاة من أنفسهم أن يحتملوا الضيق لكنهم بالرب القوي كفاة (2 كو 3: 5). فالمؤمن بذاته ضعيف وبالرب قوي. بنفسه يخور، لكنه يلبس الرب الغالب والذي يغلب.

3. متسربل بسحابة: تشير السحابة إلى حلول الله وحضوره، كما ترمز إلى مجده وجلاله.

فإذا اقترب وقت مجيئه الثاني ليملك إلى الأبد يتجلى للمؤمنين بمجده حتى لا يفترون في انتظارهم له بل يسمعونه، قائلًا: "نعم. أنا آتي سريعًا". فلا يكفوا عن مناداته: "آمين، تعال أيها الرب يسوع" (رؤ 22: 20)، ولا يهدأون عن ترجِّيه قائلين: "ليأت ملكوتك".

وللسحابة قصة قديمة، فعندما قاد الله الشعب القديم في البرية كان يظلل عليهم بسحابة، وكانت سحابة المجد تحل بين الكروبين في خيمة الاجتماع وفي هيكل سليمان. لكنه إذ تنبأ حزقيال النبي عن رفض اليهود بسبب شرِّهم، رأى السحابة تغادر قدس الأقداس إلى الدار الخارجية، ثم تزحزحت إلى سور المدينة، وأخيرًا صعدت إلى السماء. وبمجيء الرب يسوع عند تجليه رأى التلاميذ "سحابة نيرة" تظللهم. وها هي الكنيسة الآن تعيش تحت السحابة في مجد سماوي، لكن في عربون، منتظرة كل المجد إذ يأتي عريسها "على سحاب السماء بقوة ومجد عظيم" (مت 24: 30).

4. على رأسه قوس قزح: مجده الذي يتوج به رأسه هو المصالحة التي وهبنا إياها مع الله الآب. هذه المصالحة هي موضوع تسبيح السمائيّين والبشريّين، إذ يقفوا إلى الأبد مندهشين أمام هذا الحب العظيم!

5. وجهه كالشمس:ويرى الأسقف فيكتورينوس أن هذا الوصف الاستعاري يشير إلى بهجة القيامة، والقيامة هي الغلبة على الموت. هكذا ينير الرب لأولاده الطريق، مبددًا الظلمة أمام وجوههم واهبًا لهم حياة الغلبة والنصرة حتى الموت.

6. ورجلاه كعمودي نار: إذ نلبس الرب يسوع فإننا به ندك العثرات، كما بعمودي نار، فلا نتعثر في الطريق مهما اشتدت الضيقة.

7. وفي يده سفر صغير مفتوح: هذا هو كلمة الله الحية المفتوحة لكل من يريد الدخول فيها والاستمتاع بها باللهج فيها. هو سفر يعلن مقاصد الله تجاه البشر، به تطمئن النفوس وتستريح متأكدة من سلطان الله وإمكانياته في حفظ أولاده في أشد الضيقات. وهو سفر صغير لأن الدينونة صارت على الأبواب وبقيت نبوات قليلة لم تتحقق بعد، وصار ما يحتمله المؤمنون هو إلى زمن يسير.

8. وضع رجليه اليمنى على البحر، واليسرى على الأرض:يقول الأسقف فيكتورينوس إن رجليه هما تلاميذه الذين يملأون البر والبحر شاهدين له وكارزين. ففي فترة ضد المسيح يظن كثيرون أن الكل قد انحرف ولم يعد بعد يوجد مؤمنون بالرب. هذا الشعور كفيل ببث روح اليأس لتحطيم المؤمنين أو الذين يريدون الرجوع عن انحرافهم. لهذا يؤكد لهم الملك الحقيقي أن له "الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها" فلا يعدم شهودًا له في البر أو البحر. إنه حاضر على الأرض لحفظ كنيسته، وعامل بأولاده الغيورين من أجل الضعفاء.

9. صرخ مزمجرًا كالأسد: يا للعجب! في الوقت الذي فيه تمتلئ الأرض بتجديفات ضد المسيح وأتباعه على الرب، ويظن الكثيرون أنه لم يعد للرب بقية من أعضائه ككنيسة مجاهدة اللهم إلا حفنة خائرة هاربة ضعيفة، إذا بالله يصرخ على فم أولاده مزمجرًا كالأسد، إذ به "كالجبار يسرع في طريقه" (مز 19: 5) "يرعد بصوته عجبًا. يصنع عظائم لا ندركها" (أي 37: 5).

"وبعدما صرخ تكلمت الرعود السبعة بأصواتها.
وبعدما تكلمت الرعود السبعة بأصواتها

كان مزمعًا أن أكتب فسمعت صوتًا من السماء قائلًا لي:

اختم على ما تكلمت به الرعود السبعة، ولا تكتبه" .

إذ صرخ استجابت الرعود السبعة، أيّ رعدت الطبيعة مستجيبة لندائه حتى ننتبه لندائه، إذ يقول الكتاب: "اسمعوا سماعًا رعد صوته... يرعد بصوت جلاله" (أي 37: 2) "أرعد الرب من السماوات والعليّ أعطى صوته" (مز 18: 13). أما ماذا قالت الرعود، فيكفينا قول الرب: "اختم على ما تكلمت به" ليوقف فينا كل تساؤل.

إننا متأكدون أنه لأجل خلاصنا وخيرنا طلب الرب هذا، فربما عن طريق هذه الأصوات عرف الرسول من هو ضد المسيح واسمه بالكامل ومولده وانكشاف هذا الأمر بوضوح له خطورته. وربما تكلمت الرعود بتوسع عن أمور محزنة مُرّة تحدُث في أيام ضد المسيح. ذكرها بالتفصيل يدفع بالمعاصرين له إلى اليأس... إذن لنصمت مادام الرب يريد هذا!.

2. قَسَمْ الملاك

"والملاك الذي رأيته واقفًا على البحر وعلى الأرض رفع يده إلى السماء. وأقسم بالحي إلى أبد الآبدين، الذي خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها، والبحر وما فيه أن لا يكون زمان بعد. بل في أيام صوت الملاك السابع متى أزمع أن يبوق يتم أيضًا سرّ الله، كما بشر عبيده الأنبياء" .

رفع يده إلى السماء، ورفْعْ اليد هو تأكيد للمؤمنين عن خطورة ما يعلنه، موجهًا أنظارهم إلى السماء مصدر التعزية.

وماذا أعلن؟ إنه يعلن بقسم "أن لا يكون زمان بعد"، أيّ قد انتهي وقت الضيقة العظمى، وقت ضد المسيح.

هذا القسم يكشف لنا مدى المرارة التي يعانيها المؤمنون، وكما يقول الرب: "ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام" (مت 24: 22).

إنه يوجه الأنظار إلى البوق السابع الذي يعلن سرّ الله الذي بشر به عبيده الأنبياء. وما هذا السر ّإلا انقضاء الدهر ومجيء الرب للدينونة، كما سبق أن أنبأ به الأنبياء.

3. ابتلاع السفر

"والصوت الذي كنت قد سمعته من السماء كلمني أيضًا، وقال: اذهب، خذ السفر الصغير المفتوح في يد الملاك الواقف على البحر وعلى الأرض. فذهبت إلى الملاك، قائلًا له: اعطني السفر الصغير. فقال لي خذه وكله، فسيجعل جوفك مُرًا، ولكنه في فمك يكون حلوًا كالعسل. فأخذت السفر الصغير من يد الملاك وأكلته، فكان في فمي حلوًا كالعسل، وبعدما أكلته صار جوفي مُرًا. فقال لي: يجب أنك تتنبأ أيضًا على شعوب وأمم وألسنة وملوك كثيرين"

يحمل هذا السفر الذي يعلن مقاصد الله تجاه كنيسته في طياته الآلام المرة التي ستعانيها خاصة في فترة ضد المسيح .

هذا السفر الصغير رآه مفتوحًا، ولم يطلب منه أن يختم على ما يقرأه فيه كما طلب منه بخصوص ما تكلمت به الرعود السبعة حيث أمر أن يأخذه ويأكله، أيّ يدركه ويعلنه للبشر.

وكان السفر حلوًا في فمه، لأنه يتحدث عن الشاهدين الآتيين في فترة ضد المسيح كما سنرى في الأصحاح التالي. وفي جوفه مُرًا لأنه يحمل فترة شديدة المرارة. ويعلل الأسقف فيكتورينوس حلاوته بسبب مكافأته التي ينالها لكرازته به. أما مرارته في جوفه فبسبب ما احتواه من آلام مُرّة.

لقد طلب من إرميا أن يأكل "كلمة الله" فقال: "وجدت كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلب" (15: 16). وحزقيال أيضًا لما أكل السفر كان في فمه حلوًا كالعسل لكن في داخله مرارة ونحيب وويل (حز 2: 8-9؛ 3: 1-10).

حلو من أجل إدراكنا قصد الله أولاده، وتزكية الكثيرين في شدة الضيقة، وهو مُرّ من أجل ما يعانوه من ضيقات، ومن أجل حزنهم على المنحرفين، إذ يقولون كما قال المرتل: "الكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك".

تفسير سفر الرؤيا 9 ... الأبواق السبعة ++ القمص تادرس يعقوب





تفسير سفر الرؤيا 9 ... الأبواق السبعة ++ القمص تادرس يعقوب

البوقان الخامس والسادس .. التهيئة لضد المسيح وظهوره

1. البوق الخامس: التأديب خلال أفكار شيطانية

الأبواق الأربعة السابقة تتحدث عن إنذارات عامة يوجهها الله للبشر في كل عصر، خاصة في فترة ما قبل ضد المسيح، لكن هذا البوق الخامس أو الويل الأول هو إنذار يخص فترة ما قبل ضد المسيح. فقبل أن يلبس إبليس كل سلطانه وطاقاته لإنسان يُنَصِّب نفسه إلهًا، ويدعو للتعبد للأصنام، ويجرف العالم نحو الدنس يطلب إبليس سماحًا لكي يبث أفكاره وميوله في البعض ليهيئهم لمعاونة ضد المسيح عند قيامه.

وهذا العمل الشيطاني الذي يسمح به الله هو نفسه سيكون فيه تعذيب وتأنيب وضيق ومرارة لمعتنقيه والمنادين به. وهكذا يحوِّل الله الشر إلى خير، إذ يخرج من الآكل أُكلًا، تاركًا للظلمة أن تشهد بنفسها عن ظلمتها.

يقول الرسول:

"ثم بوق الملاك الخامس، فرأيت كوكبًا قد سقط من السماء إلى الأرض، وأُعطى مفاتيح بئر الجحيم. ففتح بئر الجحيم، فصعد دخان من البئر كدخان أتون عظيم. فاظلمَّت الشمس والجو من دخان البئر" .

يرى البعض أن سقوط كوكب من السماء إلى الأرض يكني عن حالة انتكاس تصيب إنسانًا ذا مركز ديني كبير، على أثرها يعمل الشيطان في قلوب الكثيرين.


ويرى البعض أن إحدى الرئاسات المظلمة الشريرة التي تشتكي ضدنا أمام الله تأخذ سلطانًا لتفتح أبواب الجحيم وتملأ جو العالم بدخان الشياطين، أي أفكارهم. على أي حال فهي لغة استعارية تصَوريّة للكشف عن سيادة فكر مادي وإلحادي يملأ العالم شرقه وغربه، حتى ينحجب عن قلوب الكثيرين نور المعرفة السماوية، ويسود الجو ظلامًا وحيرة وقلقًا وشكوكًا مع جفاف روحي.


إنه يقصد التنين (إبليس) الذي يهيئ الجو لضد المسيح الآتي: لكن الله استخدم هذا العمل ذاته ليفضح إبليس نفسه بنفسه.

وفيما يلي مدى سلطان هذا العمل وآثاره.


1. ليس له سلطان على المؤمنين:

"ومن الدخان خرج جراد على الأرض، فأعطى سلطانا كما لعقارب الأرض سلطان. وقيل له أن لا يضر عشب الأرض، ولا شيئًا أخضر، ولا شجرة ما، إلاّ الناس الذين ليس لهم ختم الله على جباههم" .

يذكِّرنا هذا بالجراد الوارد في سفر يوئيل، عمله التخريب الكامل لكل شيء أخضر إلى المنتهى. هذا المهلك أو المخرب ليس له سلطان أن يضر عشب الأرض ولا شيئًا أخضر ولا شجرة ما.

يا لعذوبة حنان الله الذي يترفق بالعشب الضعيف قبل الشيء الأخضر، وهذا قبل الشجر. إنه يحفظ الأطفال في الإيمان، ويهتم بالصغار، ويعتني بالنفوس الضعيفة، لأن هؤلاء أكثر احتياجًا للترفق والحنو.


لتطمئن كل نفس تمتعت بمياه الروح القدس، وتحيا نامية فيه، سواء كانت لا تزال عشبًا أخضر أو صارت نباتًا صغيرًا أو شجرة عالية، فقد وهبنا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو. ولا يقدر ضد المسيح، ولا الأفكار المهينة له كالإلحاد والبدع التي بدأت تظهر في داخل الكنيسة الغربية تحت ستار المسيحية أن يسيطروا عليها. 

هذا بالنسبة للذين لهم ختم الله الممسوحين بروح الرب على جباههم، أما بالنسبة للآخرين فيقول:


2. يعذبوا دون أن يقتلوا: "وأعطى أن لا يقتلهم، بل أن يتعذبوا خمسة أشهر، وعذابه كعذاب عقرب إذا لدغ إنسانًا. وفى تلك الأيام سيطلب الناس الموت ولا يجدونه، ويرغبون أن يموتوا، فيهرب الموت منهم" .

يتعذب الذين قبلوا هذا الفكر، لأن ما ليس هو من الحق لا يمكن أن يهب سلامًا ولا سعادة. فيتعذب الأشرار بشرهم رغم انغماسهم فيه ومناداتهم به وإغوائهم الغير لارتكابه معهم، ولا يكون العذاب نابعًا من الخارج بل من داخل فكر الإنسان وتصرفاته. ومن فرط المرارة يشتهى الإنسان الموت، لكن الله لا يسمح لهم به حتى لا يموتوا في انحرافهم، بل يتركهم هكذا في ضجرهم وحيرتهم لعلهم يرجعون إلى الله، طالبين منه عونًا.

3. يُقاتلون ويُخادعون:

"وشكل الجراد شبه خيل مهيأة للحرب، وعلى رؤوسها كأكاليل شبه ذهب ووجوهها كوجوه الناس. وكان لها شعر كشعر النساء، وكانت أسنانها كأسنان الأسود. وكان لها دروع كدروع من حديد، وصوت أجنحتها كصوت مركبات خيل كثيرة تجري إلى قتال. ولها أذناب شِبه العقارب، وكانت في أذنابها حمات، وسلطانها تؤذى الناس خمسة أشهر. ولها ملاك الجحيم ملكًا عليها اسمه بالعبرانيّة أبدون، وله باليونانية اسم أبوليون.

أ. لا تكف عن القتال: إذ هي "شبه خيل مهيأة للحرب" عملها التخريب المستمر في القلب والعقل، وكما يقول النبي "قدامه نار تأكل، وخلفه لهيب يحرق. الأرض قدامه كجنة عدن، وخلفه قفر خرب... كمنظر الخيل منظره، ومثل الأفراس يركضون" (يؤ 2: 3-4).

فمتى هدأ الإنسان لنفسه وانحنت نفسه فيه أمام الله أدرك الإنسان المنخدع شدة الحرب التي فيه ومدى الدمار الذي حدث داخله.

ب. مخادعة: إذ تبدو لناظريها كملوك، لها "كأكاليل شبه الذهب"، لكنها ليست في حقيقتها أكاليل ولا هي ذهبيّة، بل تصنع لذاتها هالة من العظمة لتسيطر على القلب وتملك عليه، ويصير الإنسان عبدًا لها.

ج. لها مظهر التعقل والوداعة: إذ "وجوهها كوجوه الناس" لكن قلبها مفترس.

د. جميلة المنظر: "لها شعر كشعر النساء" لكنها تخفى أسنانًا كأسنان الأسود، تجذب بنعومتها ودلالها لكي تسفك وتفترس!

ه. لها دروع قوية: وصوت أجنحتها مفزع، يكنى عن عنف عملها وسرعة انتشارها.

و. مهلكة: كالعقارب تعذب ولكن إلى حين "خمسة أشهر!" وملكها اسمه "أبدون" أو "أبوليون" أي المخرب أو المهلك.

ويرى البعض أن هذه الأوصاف وتلك الآثار تنطبق على البدع والفلسفات الحديثة التي بدأت تنتشر في العالم تحت اسم "المسيحية أو الدين" بمقتضاها يتحول الدين إلى مجموعة من السلوك الخلقي والآداب الاجتماعيّة خارج الإيمان بالله والعمل الفدائي وانتظار الأبديّة. فينادون بعدم الحاجة إلى ذكر المعجزات في الكتاب المقدس أو التحدث عن الأبديّة أو الصليب والقيامة.

وقد صار لهذا الفكر الذي يأخذ أكثر من اسم مدافعون يلقبون أنفسهم مسيحيين وأيضًا غير مسيحيين. وهم يقدمون فلسفات منمقة وعبارات ناعمة وأسلوبًا عذبًا، هذا كله في حقيقته مؤذٍ للنفس. من عينات هؤلاء نسمع عن بعض القادة الدينيين (للأسف) يحاولون الرد على الملحدين بأن يثبتوا أن الله لا علاقة له بالإنسان وأن الإنسان إنما يعبد الله دون أن يتدخل الله في شئونه. وهكذا بعزل الله المحب عن الإنسان المحبوب فيسقط في إلحاد مستتر مرير.

"الويل الواحد مضى، هوذا يأتي ويلان أيضًا بعد هذا".

2. البوق السادس: التأديب خلال حروب بشريّة

"ثم بوَّق الملاك السادس، فسمعت صوتًا واحدًا من أربعة قرون مذبح الذهب الذي أمام الله. قائلًا للملاك السادس الذي معه البوق: فك الأربعة الملائكة المقيدين عند النهر العظيم الفرات. فأنفك الأربعة الملائكة المُعَدون للساعة واليوم والشهر والسنة لكي يقتلوا ثلث الناس. وعدد جيوش الفرسان مئتا ألف ألف، وأنا سمعت عددهم".

من قرون المذبح الذي قدم فيه "الملاك البخور الكثير" خرج الأمر بالسماح لقيام حرب عنيفة تحدث في أيام ضد المسيح. في ساعة محددة ويوم وشهر وسنة معينة. كل شيء بسماح من الله ضابط الكل يسمح بالحرب، ويسمح بعدد معين من المحاربين. وذلك كله لأجل تأديب الناس لعلهم يرجعون ويتوبون.

ستكون عند نهر الفرات حيث نذكر "الفردوس الضائع"، الذي فقده الإنسان بحسد إبليس، ونذكر بابل المتشامخة التي تشير دومًا إلى الكبرياء على الله والتشامخ عليه. هناك يكون مركز ضد المسيح حيث -كما يقول البعض- سيجدد بابل القديمة مرة أخرى على أن مركزه الروحي "الشيطاني" للأسف سيكون في مدينة أورشليم المقدسة كما سنرى.

وحينما يتكلم سفر الرؤيا عن هذه الحرب يتحدث لا عن منظرها الخارجي بل الدافع الخفي، فيقول "وهكذا رأيت الخيل في الرؤيا، والجالسين عليها لهم دروع ناريّة وأسمانجونيّة وكبريتيّة، ورؤوس الخيل كرؤوس الأسود، ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت. من هذه الثلاثة قتل ثلث الناس من النار والدخان والكبريت الخارجة من أفواهها. فإن سلطانها هو في أفواهها وفى أذنابها، لأن أذنابها شبه الحيات ولها رؤوس وبها تضر".

يظهر من هذا الوصف التصوري الاستعاري أن الحرب تخفي أعمال شيطانية، فالمحاربون:

أ. لهم دروع نارية مرهبة يفترسون بقوة إبليسيّة.


ب. وأسمانجونيّة أي دروع تبدو كأنها سماويّة، وهي بسماح من الله.

ج. وكبريتيّة أي للانتقام والإهلاك.

وأما الخيل نفسها فهي:

1. لها رؤوس كرؤوس الأسد، لا تكف عن الافتراس.
2. من أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت، غايتها الحرق والتبديد.
3. أذنابها شبه الحيات التي أفقدت الإنسان الأول كل ما له.

هذه الحروب يسمح بها الله ليقتل البعض لعل البقية تتوب لكن يقول الوحي:

"وأما بقية الناس الذين لم يُقتَلوا بهذه الضربات فلم يتوبوا عن أعمال أيديهم حتى لا يسجدوا للشياطين وأصنام الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب التي لا تستطيع أن تبصر ولا تسمع ولا تمشى ولا تابوا عن قتلهم ولا عن سحرهم ولا عن زناهم ولا عن سرقتهم".

هذه البقيّة من أتباع ضد المسيح الباقية بعد هلاك البعض في الحرب لم تتب عن:

1. عبادتهم للأصنام، إذ يقيم ضد المسيح لنفسه تمثالًا ويطلب العبادة له.
2. مناهضتهم للكنيسة بالقتل المستمر، ويتعقبونها حتى في البراري.
3. سحرهم: في صنع الأعاجيب للخداع، وهذا يكشف مدى انتزاع خوف الله من القلب وفقدانهم روح التوبة والانسحاق، فيستخدمون السحر في تحقيق مأربهم، منهمكين في الزنا وكل دنس سالبين الناس حياتهم.

تفسير سفر الرؤيا 8 ... الأبواق السبعة ++ القمص تادرس يعقوب





تفسير سفر الرؤيا 8  ... الأبواق السبعة ++ القمص تادرس يعقوب

 
الأبواق الأربعة
إنذارات طبيعية للبشرية

يتحدث هذا الأصحاح عن إنذارات الله للبشر بعدما تحدث عن شفاعة الحمل الكفارية من أجل البشرية وإرسال الروح القدس لتبكيتهم، ومن لا يتقبل محبة الله المعلنة على الصليب باللطف والرقة يجتذبه بالتجارب والتأديبات.

 1.
سكوت في السماء "الراحة الأبدية"

"
ولما فتح الختم السابع حدث سكوت في السماء نحو نصف ساعة" .

يرى الأسقف فيكتورينوس أن فترة السكوت هذه تشير إلى بداية الراحة الأبديّة... لكنه عاد فأخل بالصمت إذ لا يهتم بترتيب الحوادث زمنيًا.

ففي الختم السادس أعلن الله حوادث الدينونة وما سيكون عليه الأشرار من انزعاج، طالبين من الجبال والصخور أن تسقط عليهم وتخفيهم من وجه الجالس على العرش، دون أن يتحدث عن موقف أولاد الله الذي أعلن في الختم السابع لكن "حدث سكوت في السماء" بفعل الدهشة التي انتابت الخليقة السمائية من المجد الذي ناله الإنسان!

هكذا يتركنا سفر الرؤيا نحو "نصف ساعة"، إلى زمن قليل ندهش معجبين مما أعده لنا إلى الأبد، لكنه عاد فنزل بنا لنتتبع السلسلة الثانية.

"
ورأيت السبعة الملائكة الذين يقفون أمام الله وقد أعطوا سبعة أبواق".

والسبعة الملائكة هم السبعة رؤساء الملائكة الذين قال رافائيل إنه أحدهم.

يرى ابن العسال أن الأبواق هنا تشير إلى أوامر صادرة من قبل الله، والتبويق يشير إلى تنفيذها. وتستخدم الأبواق في الآتي:

1.
إعطاء الشريعة (خر 19: 16، 19)، وإنذارات الله المعلنة هي وصية من الله وإنذار للتوبة والرجوع لكي يحيوا ويرتبطوا بالرب ولا يهلكوا.

2.
الدعوة للحرب (قض 3: 27)، وتبويق الملائكة هو إعلان عن حالة حرب روحية قائمة بين الله وإبليس!

3.
في الاحتفال بالأعياد واليوبيل (لا 23: 24، 25: 9)، وتنتهي الأبواق بمجيء السيد المسيح (1 تس 4: 16)، وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي إنه هو عيدنا الأبدي الذي لا ينقطع.

4.
في المناداة بالملوك (2 مل 9: 13)، وتنتهي الأبواق بمجيء "ملك الملوك" تصحبه الملائكة بأصوات أبواق سمائيّة تهتف بملكوت سماوي أبدي!

 2.
شفاعة الحمل الكفاريّة

"
وجاء ملاك آخر ووقف عند المذبح، ومعه مبخرة من ذهب، وأعطى بخورًا كثيرًا، لكي يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم على مذبح الذهب الذي أمام العرش. فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله".

هذا الملاك الآخر غير السبعة يشير إلى الآتي:

1.
الكنيسة التي لا تكف عن تقديم البخور سواء من أعضائها المنتصرين في الفردوس أو المجاهدين على الأرض، الكل يود رجوع الخطاة إليه.

2.
يرى ابن العسال أنه ملاك حقيقي من طغمة الكاروبيم، إذ هم يهتمون بالذبائح التي نقدمها لله (قض 6: 21، تك 22: 11).

وفى نهاية القداس يطلب الكاهن من ملاك الذبيحة الصاعد إلى العلو بهذه التسبحة (القداس الإلهي) أن يذكرنا أمام الله.....

والرأي الأرجح أنه هو "الرب يسوع" الذي رمز له في سفر الرؤيا بالملاك كما في (رؤ 10: 1؛ 18: 1) ودُعي ملاك العهد في ملا 3: 1-2. إنه الشفيع الكفاري الذي هو "حي في كل حين يشفع في كثيرين". إنه أسقف نفوسنا ورئيس الكهنة الأعظم، يقف عند المذبح الذي هو صليبه حيث قدم ذاته ذبيحة عنا، ومعه مبخرة من ذهب، أي مبخرة روحية هي شفاعته الكفارية التي "تعطى بخورًا كثيرًا"، مدافعًا ومحاميًا عن أولاده. وفي محبته يتقبل "صلوات القديسين" المنتقلين والمجاهدين ليقدمها فيه للآب كذبيحة طاهرة مرضية ومقبولة كوعده "إن ثبتم في وثبت كلامي فيكم، تطلبون ما تريدون فيكون لكم" (يو 15: 7).

"
ثم أخذ الملاك المبخرة، وملأها من نار المذبح وألقاها إلى الأرض، فحدثت أصوات ورعود وبروق وزلزلة".

إن كان المذبح هو الصليب، فإن نار المذبح هي الروح القدس الذي يبكت ويتوب ويهب شركة مع الثالوث باستحقاق دم المسيح المبذول عنا على الصليب.

لقد أرسل الابن الروح القدس، إذ يقول "متى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق" (يو 15: 26) "إن ذهبت أرسله إليكم . ومتى جاء ذلك يبكت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على برّ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا. وأمّا على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 7-11).

وهذا هو عمل الروح القدس:

1.
حدثت أصوات: إذ انطلقت ألسنة الرسل والمبشرين بالروح القدس تكرز بلا خوف.

2.
ورعود: ويرعد الكارزون بالروح القدس كأسود يزأرون بسلطان إلهي. وكما يقول الكتاب المقدس عن فيلكس الوالي وهو يحاكم بولس الأسير "وبينما كان يتكلم عن البرّ والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون ارتعب فيلكس" (أع 24: 25)، ولم يستطع أن يحتمل كلماته قائلًا له "أما الآن فاذهب، ومتى حصلت على وقت أستدعيك".

3.
وبروق: إذ لا يزال روح الرب يشرق بأعمال مجيدة وعجيبة أمام الناس، مزينًا كنيسته بمواهب إلهية لكي خلالها تبرق بنور عريسها على كل أحد.

4.
وزلزلة: وهذه هي غاية الروح القدس أن يبكت القلب فيتزلزل ويتحطم كبرياؤه خالعًا عن نفسه كبرياءه ويتقبل الرب يسوع عريسًا له، وبقبوله الرب يقبل البشرية كلها كإخوة له.

 3.
الأبواق الأربعة

"
ثم أن السبعة الملائكة الذين معهم السبعة الأبواق تهيأوا لكي يبوقوا".

تنقلنا هذه الرؤية إلى مشهد قديم حين كان الكهنة السبعة يحملون أبواق الهتاف السبعة أمام التابوت، ويدورون حول مدينة أريحا، ويضربون بالأبواق فينهدم السور (يش 6).

هكذا بعدما كشف لنا الرب عن اهتمام الحمل بالعالم كله، وإرساله الروح القدس للتبكيت عاد لينقلنا إلى عمل الله خلال التاريخ كله، إذ وهب للآباء والأنبياء والتلاميذ والرسل أن يحملوا كملائكة الله أبواق الإنذار المستمر للإنسان حتى يتفطن أنه بكلمة الله (التبويق) تنهدم قوىَ إبليس ويتحطم ويسكن الإنسان مع الله في السمَاويّات.

وإننا نجد الله في إنذاره يستخدم كل ما أمكن من اللطف والحنو لكن بحزمٍ لأجل خلاص الإنسان، لهذا لا يتسرع في الإنذار، بل يترك الملائكة يتهيأون للتبويق، معطيًا فرصة للذين يقبلون الرب المحب بلطفه، ومن لا يقبل يسمع الإنذارات التي تشتد حتى يلين القلب أمام الله.

 
اتجاهان في التفسير:

يوجد اتجاهان في تفسير الأبواق، وهما اتجاهان غير متضاربين بل متلازمان معًا:

1.
يرى القديس إيريناؤس أن الإنذارات التالية تحل بالعالم بصورة حرفية قبل مجيء ضد المسيح وأثناء وجوده وذلك بقصد إرهاب المؤمنين لكي لا يقبلوه ولتأديب الذين قبلوه لكي يتوبوا.

 2.
الاتجاه الثاني، هو أن الأبواق الأربعة تشير إلى إنذارات الله للإنسان في أي عصر من العصور، خاصة في فترة ما قبل وأثناء ضد المسيح في لغة استعاريّة تصوريّة فمثلًا:

أ. البوق الأول "فبوق الملاك الأول فحدث برد ونار مخلوطان بدم، وأُلقيا إلى الأرض، فاحترق ثلث الأشجار، واحترق كل عشب أخضر" .

 
يشير البرد إلى قوة التأديب(إش 28: 2، 17)، كما تعلن النار عن شدة غضب الله. هكذا يستخدم الله الضدان معًا إشارة إلى شدة الإنذار كالقول: "فارتجت الأرض وارتعشت أسس الجبال، ارتعدت وارتجت لأنه غضب... برد وجمر نار".

يشير احتراق ثلث الأشجار وكل عشب أخضر إلى أنه بهذا التأديب يذل الله بعض المتعجرفين المتكبرين (تث 32: 22؛ ملا 4: 1؛ إش 2: 12-13) ويسحق زهو الحياة الزمنيّة. وبهذا، إذ يرى البعض كيف سقط جبابرة وكيف ضاق العالم بالمشاكل والمتاعب والآلام، يعودون إلى الله بقلب تائب منكسر.

 

ب. البوق الثاني: "ثم بوق الملاك الثاني، فكان جبلًا عظيمًا متقدًا بالنار، ألقى إلى البحر، فصار ثلث البحر دمًا. ومات ثلث الخلائق التي في البحر، التي لها حياة، وأهلك ثلث السفن" .

كما يذكِّرنا البوق الأول بالضربة الواردة في خر 9: 23، 25، هكذا يذكِّرنا البوق الثاني بما ورد في حز 7: 20-21. ولعله يشير بهذا إلى أن الله يسمح بالتأديب للنفوس المضطربة كالبحر التي لم تستقر في حضن الله ملك السلام بأن يسمح لهم بجبل عظيم متقد بالنار يلقى في وسطهم، ليصير ثلثهم مقتولين ومذبوحين. هذا الجبل المتقد يختلف من عصر إلى عصر، ومن إنسان إلى آخر. كأن يسمح الله بإقامة إنسان في مركز قيادي ديني أو أدبي أو زمني، يتسم هذا الإنسان بالعنف والشدة بلا رحمة لأجل تأديب شعب عنيف متمرد، وقد سجل لنا التاريخ أمثلة بلا حصر من هذا القبيل.

وقد يحدث ذلك بصور مبسطة متكررة ويوميّة كأن يسمح الله لإنسان متعجرف أن يقيم عليه رئيسًا في عمله أو صديقًا أو أخًا أو ابنًا عاقًا يتسم بالعنف. وبسبب هذا الرئيس في العمل أو الصديق أو الأخ أو الابن العاق يفقد الإنسان الأول الكثير من الأمور الزمنيّة أو الكرامات، فيتحطم كبرياؤه، وتنسحق نفسه أمام الله.

والجميل في حب الله أنه لا يسمح إلاّ بإهلاك الثلث لكي يترك للأكثريّة فرصًا للتوبة. أو يسمح في الحالات الفرديّة بأن يفقد الإنسان أمورًا زمنيّة لكي يربح أمورًا سماويّة. لا يكف الله عن أن يستخدم كل وسيلة ووسيلة لا لإذلال الناس بل رغبة في توبتهم ورجوعهم إليه.



ج . البوق الثالث: "ثم بوق الملاك الثالث، فسقط من السماء كوكب عظيم متقد كمصباح، ووقع على ثلث الأنهار وعلى ينابيع المياه. واسم الكوكب يدعى الأفسنتين، فصارت ثلث المياه أفسنتينًا، ومات كثيرون من الناس من المياه، لأنها صارت مُرّة" .

إذ يسقط هذا الكوكب العظيم المتقد كالمصباح من السماء، فإن في هذا إشارة إلى صنف ثالث من التأديب المُرّ، كأن يسمح الله بانحراف شخصيات ذات مركز ديني وروحي عظيم فيسقطوا من سماء العبادة الروحيّة السماويّة ببدع أو هرطقات على مياه الأنهار الحية فيسمموها ويمرروها وخلالها تموت نفوس كثيرة.

وقد سجل لنا التاريخ كواكب عظام سقطوا ومرّروا حياة أولاد الله، وأفسدوا التعاليم الروحية، وأهلكوا كثيرين، نذكر منهم أريوس ونسطور ومقدونيوس وبيلاجيوس وكثيرين غيرهم.

هذا النوع من الإنذار مؤلم للغاية، لكن الله يسمح به لكي يبحث المؤمنون في الكتاب المقدس ويفلحوا فيه ويشبعوا منه للرد على الهراطقة، وفي نفس الوقت خلال مرارة الهراطقة لا تتوقف الكنيسة عن رسالتها الكرازية، إذ بدونهم قد تستكين للراحة، وتدخل محبة العالم إلى أولادها، ويغطون في نوم عميق .


د. البوق الرابع: ثم بوّق الملاك الرابع، فضرب ثلث الشمس وثلث القمر وثلث النجوم، حتى يظلم ثلثهن، والنهار لا يضيء ثلثه" والليل كذلك" .
تحمل معنى شكل الضيق في أشد صوره للإنذار، لأننا كما نعلم أن الظلمة تشل حركة الإنسان، خاصة إن تزايد وقتها، وتفقده حيويته، وتحرِمه من نمو النباتات، وهكذا يستخدم الله وسائل مختلفة حتى يشتهي الإنسان الموت ولا يجده، وذلك ليس بقصد تعذيب البشر، لكن لأجل رجوعهم إلى الحق، وبحثهم عن النور الحقيقي. ونحن نعلم اليوم عن تساقط بعض النجوم وعن حدوث انفجارات شمسية، هذا يتزايد بشدة في فترة ما قبل ضد المسيح للإنذار.

إنذار آخر:

"
ثم نظرت وسمعت ملاكًا (نسرًا) طائرًا في وسط السماء، قائلًا بصوت عظيم: ويل، ويل، للساكنين على الأرض من أجل بقية أصوات أبواق الثلاثة الملائكة المزمعين أن يبقوا" .

يرى الأسقف فيكتورينوس أن النسر الطائر  يرمز للروح القدس الذي يحمل الشهادة في النبيين بأن غضبًا وعذابات شديدة قد صارت على الأبواب، لهذا فإن أراد إنسان - حتى وإن كان في أواخر الدهور - أن يتوب فسيخلص.

نخلص من هذا أن الأبواق الأربعة السابقة هي إنذارات الله بكل الطرق للبشر قبل فترة ضد المسيح، وهذه مهما بدت صعبة وقاسية فهي هيّنة وخفيفة أمام الويلات التي ستحل في فترة ضد المسيح الذي يأتي ليملك وينصِّب نفسه إلهًا.