تفسير إنجيل يوحنا 3 ... نيقوديموس والميلاد الجديد ... المعلم واهب الميلاد الجديد! ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير إنجيل يوحنا 3 ... نيقوديموس والميلاد الجديد ... المعلم واهب الميلاد الجديد! ++ القمص تادرس يعقوب

حوار حول الميلاد الجديد

 "كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود".

نيقوديموس: اسم يوناني معناه "المنتصر على الشعب". كان رئيسًا لليهود، أي عضوًا في مجمع السنهدرين، المجلس الأعلى للأمة اليهودية.

الدعوة الإلهية موجهة إلى كل البشرية بكل فئاتها، لكن قليلين من أصحاب المراكز الدينية والزمنية ومن لهم مراكز قيادة أن يستجيبوا للدعوة. وجد قلة قليلة جدًا من بين الفريسيين، أقل من إصبع اليد الواحدة، ممن تجاوبوا مع هذه الدعوة، من بينهم نيقوديموس. جاء إلى السيد المسيح ربنا وحده أو معه أحد تلاميذه أو أكثر. لم يستخف السيد بالنفس الواحدة، فإنه احتمل موت الصليب من أجل كل نفس.

حقًا لقد حمل الفريسيون روحًا مضادة ومقاومة للحق الإلهي، لكن وُجد بين هؤلاء المتعلمين الدارسين من يشتهي اللقاء مع السيد، وقد وجدوا بابه مفتوحًا. نعمة الله تعمل في الأميين كما في الدارسين، وفي العامة كما في القيادات، وفي البسطاء كما بين المقاومين. لقد جاء نيقوديموس إلى السيد، وبقي في مركزه بين المقاومين، ووضع قلبه أن يعمل حينما تُتاح له الفرصة قدر المستطاع. وقد حان الوقت حين لم يستطع التلاميذ أن يعملوا ليعمل هو، فأخذ تصريحًا من بيلاطس كي يدفن جسد السيد المسيح في قبره الخاص الجديد.

أُشير إلى نيقوديموس بن جوريون Gorion، في الكتابات اليهودية أنه كان غنيًا جدًا يستطيع أن يعول كل أهل أورشليم لعشرة سنوات، وإن كان البعض يرى في ذلك شيء من المبالغة.

 "هذا جاء إلى يسوع ليلاً، وقال له: يا معلم نعلم أنك قد أتيت من اللَّه معلمًا، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل، إن لم يكن اللَّه معه".

 كلما أشار الإنجيلي يوحنا إلي شخص نيقوديموس يربطه بزيارته للسيد المسيح ليلًا، وقد كرر ذلك ثلاث مرات في هذا السفر (3: 2؛ 7:50؛19: 39).لماذا جاء إلى يسوع ليلًا؟

1. شعر أنه لا يكفيه أن يسمع أحاديثه العامة، ولا أن يتمتع برؤية معجزاته العلنية، بل هو محتاج إلى جلسة هادئة مع السيد المسيح فيما يخص خلاص نفسه. محتاج إلى حوار شخصي معه (ملا ٢: ٧). إن كان الابن الوحيد الجنس كثيرًا ما كان ينسحب من الجماهير بل ومن التلاميذ الأخصاء ليقضي الليل كله في حديث ممتع مع الآب، ألا يحتاج كل إنسانٍ منا أن يترك كل شيء ويجلس، خاصة بالليل، مع مسيحه ليدخل معه في حوارٍ شخصي، ويتمتع بالحياة الجديدة والشركة معه؟

2. لعله من باب الحكمة اختار المساء، لأن السيد المسيح كان مشغولًا طوال النهار بالخدمة العامة، فانتظر نيقوديموس حتى المساء ليلتقي مع السيد في وقت راحته، في حديث ودي.

3. لعله إذ دهش برؤية بعض المعجزات انتهز أول فرصة للقاء الشخصي معه. بينما الكل نيام أراد أن يقضي سهرة روحية مع السيد المسيح، ولعله خشي ألا يجد مثل هذه الفرصة في المستقبل. كان نهازًا للفرص! إنه تمثل بداود النبي الذي كثيرًا ما كان ينتهز فرصة الليل للتأمل (مز ٣٦: ٦؛ ١١٩: ١٤٨).

4. لعل أيضًا الدافع لمجيئه ليلًا أنه خشي أن يبلغ الخبر إلى رؤساء الكهنة فيثوروا بالأكثر  ضد السيد المسيح، أو يسيئون هم والرؤساء والفريسيون إلى نيقوديموس نفسه.ربما كان ينقصه نور الإيمان، لقد انجذب إلى شخص يسوع، لكنه لم يكن بعد قد عرفه عن قرب، ولا تعرّف على حقيقته أنه نور العالم. لقد كان قائدًا يهوديًا ، ومعلم إسرائيل  ، يحتاج إلى الميلاد الجديد ليتمتع بمفاهيم جديدة للمملكة السماوية المسيحانية.في ضعف إيمانه جاء ليلًا، وقد وجد باب قلب سيده مفتوحًا، ولم يجرح مشاعره بكلمة عتاب واحدة. على أي الأحوال كان إيمانه أشبه بحبة الخردل الحية التي نمت وظهرت كشجرة عظيمة عندما مات السيد المسيح، فتقدم بشجاعة ليطلب جسد السيد.

 لقد تردد نيقوديموس على المسيح، لكن ليس كما كان يليق، ولا بتمييز لائقٍ، لكن الضعف اليهودي كان لا يزال مستحوذًا عليه بعد، ولهذا السبب جاء ليلًا خائفًا من أن يجيء إليه نهارًا. ومع هذا فإن الله الرحوم لم يرذله ولا انتهره، ولا حرمه من تعاليمه، وإنما في حنوٍ شديدٍ حاوره، وكشف له تعاليم سامية للغاية، حتمًا كانت مبهمة إلا أنه كشفها له. فانه يستحق العفو بما لا يقاس من أولئك الذين يفعلون هكذا بنية شريرة. هؤلاء بلا عذر تمامًا، أما هو وإن كان يستحق اللوم لكن ليس بذات الدرجة .

وإن كان نيقوديموس تخلف، إلا أنه فكر فيه بطريقة بشرية، فتحدث عنه كأنه نبي، متوهمًا أنه قال عنه أمرًا عظيمًا من خلال معجزاته. يقول: "يا معلم نعلم أنك أتيت من الله معلمًا" .

 " فلماذا أتيت ليلًا في الخفاء إلى ذاك الذي يتكلم بأمور الله، ذاك الذي أتي من الله؟ لماذا لم تحاوره علانية؟ لم يقل له يسوع شيئًا من هذا، ولا انتهره. إذ يقول النبي: "قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (إش 42: 2، 3؛ مت 12: 19، 20). مرة يقول السيد نفسه: "لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم" (يو 12: 47) .

"لأنه ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل، إن لم يكن الله معه".

 لاحظ تنازل المسيح المتزايد. فانه قد أحجم إلى حين عن القول: "لست محتاجًا إلى عون آخرين، إنما أفعل كل شيء بسلطانٍ، لأنني ابن الله ذاته، ولي ذات سلطان أبي"، فإن هذا كان صعبًا علي سامعه...

ولهذا فإنه في مواضع كثيرة كان كمن يضع لنفسه حدودًا، أما في أفعاله فلم يفعل هكذا. فعند ممارسته معجزة، يصنع كل شيءٍ بسلطان، فيقول: "أريد فأطهر" (مت 8: 3)؛ "طليثا، قومي" (مر 5: 41)؛ "مد يدك" (مر 3: 5)؛ "مغفورة لك خطاياك" (مت9: 2)؛ "اسكت، ابكم" (مر 4: 39). "احمل سريرك واذهب إلى بيتك" (مت 9: 6). " أيها الروح النجس، لك أقول أخرج منه" (مت 15: 28)." إن سألكما أحد، قولا: الرب محتاج إليه" (مر 11: 3)." اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).. "سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل... وأما أنا فأقول لكم من يغضب على أخيه باطلًا يكون مستوجب الحكم"(مت 5: 21، 22)." هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس" (مر 1: 17). في كل موضع نلاحظ أن سلطانه عظيم، فإنه في عمله لا يمكن لأحد أن يمسك عليه خطأ... أما في أحاديثه فربما في جنونهم يتهمونه بالجنون.

لذلك في حالة نيقوديموس لم يتكلم علانية، بل قاده بكلمات غامضة أن لديه سلطانًا في ذاته يظهر معجزات، فقد ولده الآب كاملًا، فيه الكفاية المطلقة بلا نقص قط ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 كان نيقوديموس واحدًا من هؤلاء (الذين آمنوا باسمه، لكنه لم يأتمنهم على نفسه 2: 23-24). جاء إلى الرب، لكنه جاء ليلًا. جاء إلى النور، وقد جاء في الظلمة ++ القديس اغسطينوس

بالرغم من أنه جاء إلى يسوع، لكنه إذ جاء ليلًا، ظل يتكلم من خلال ظلمة جسده. لم يفهم ما يسمعه من النور الذي يضيء لكل إنسانٍ آتٍ إلى العالم ++ القديس اغسطينوس

 ربما علة مجيئه إلى السيد الحقيقي ليلًا أنه اعتاد أن يعلم، وكان يخجل من أن يتعلم. لكنني أتمتع بمسرة أعظم عندما أصغي إلى معلم عن أن يُصغي إليّ كمعلمٍ. فإنني أتذكر ما قاله للذين اختارهم قبل غيرهم: "لكن ليتكم لا تُدعون معلمين بواسطة الناس، فإن سيدكم واحد، المسيح" ( راجع مت 8:23 ) ++ القديس اغسطينوس

 على أي الأحوال لم يأتِ ليلًا لينال المعمودية ولا ليتتلمذ للسيد، فإنه حسب التقليد اليهودي لا يجوز لمن يريد أن يدخل الإيمان اليهودي أن يُختتن أو يُعمد في الليل، وإلا حسب هذا العمل باطلًا. لقد جاء للاستنارة برأيه، والتعرف على الطريق لا للتلمذة على يديه.

"يا معلم": لم يكن من السهل لفريسي يُحسب عالمًا في الكتاب المقدس وقائدًا للشعب أن يخضع لشخصٍ ما قائلًا بروح التواضع: "يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلمًا" . تحدث مع السيد في أمورٍ سياسيةٍ، ولا في شئون الدولة، مع أنه كان رئيسًا لليهود، لكن ما كان يشغله هو خلاص نفسه.

 اعترف نيقوديموس بأن السيد لم يتعلم على يدي أي معلمٍ يهوديٍ، ولا التحق بمدرسة دينية، لكن تعليمه هو بسلطان إلهي سماوي. أدرك أن السيد يحمل سلطان الحق لا السيف، يعمل بحكمة علوية لا بشرية. يعترف نيقوديموس أن الآيات التي صنعها يسوع لا يمكن أن تكون مزيفة. لقد فحصها مع زملائه وأدركوا أنها من الله، تتحقق بقوة إلهية.

والعجيب أنه يتكلم بصيغة الجمع "نعلم"، ربما لأنه جاء ومعه واحد أو أكثر من تلاميذه، أو تحدث على لسان بعض الفريسيين الذين لم يكن يشغلهم شيء أو شخصٍ ما سوى "يسوع"، وقد اعترفوا فيما بينهم بما يعلنه نيقوديموس هنا، لكن أحدًا ما لم يجسر أن يتكلم علانية، ولا أن يلتقي مع يسوع خفية.

 "أجاب يسوع وقال له:  الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يُولد من فوق (جديد) لا يقدر أن يرى ملكوت اللَّه".

 اعتبر نيقوديموس صنع الآيات دليلًا على أن يسوع هو من عند الله. فقد كان الربيون يربطون بين التقوى وعمل الآيات. ولم يكن نيقوديموس قادرًا أن يتعدى هذه الحدود ليدرك حقيقة شخص يسوع المسيح، فرآه معلمًا تقيًا، رجل الله، يتمتع بمعية الله، كما تمتع يعقوب حيث قال له الرب: "لا تخف لأني معك" (تك 26: 24). ويشوع بن نون: "كما كنت مع موسى أكون معك" (يش 1: 5) وكثير من الآباء والأنبياء لم يستطع نيقوديموس بفكره الفريسي مع تقواه أن يتعدى هذه الحدود. هذا هو ما تعلمه، وهذا هو ما كان يعيشه في الجو اليهودي.

جاء حديث السيد المسيح معه يبرز النقاط التالية:

1. الحاجة الماسة إلى ميلادٍ جديدٍ لمعاينة عالمٍ جديدٍ في داخله "ملكوت الله".

 لذلك دعيت ولادة جديدة أو ولادة ثانية، كما جاءت في الترجمات القبطية والسريانية واللاتينية، وكما استخدمها كثير من آباء الكنيسة الأولى، مثل القديسين يوستين واكليمنضس السكندري، وترتليان، والقديسين أغسطينوس وجيروم. وقد فهم نيقوديموس كلمات السيد المسيح أنها تدعوا إلى "ميلاد جديد"، لهذا وقف في حيرةٍ وعجز: كيف يمكن لشيخ أن يدخل بطن أمه ليولد من جديد؟

2. أن تكون الولادة من فوق، أي سماوية.إذ هو عمل خاص بروح الله القدوس السماوي، يهب إمكانيات سماوية إلهية تتجاوز الفكر البشري.

3. تتحقق بالعماد من الماء والروح.

4. ولادة تحمل قوة فائقة كالريح ولا يُعرف سرها.

كان تكرار كلمة "الحق" في الكتابات اليهودية يُحسب معادلًا لقسم له قدسيته العظمى. استخدمه السيد المسيح عندما كان يشير إلى أمرٍ له خطورته الكبرى.

في لطف ينتهره السيد المسيح معلنًا له أنه لا يكفي للشخص أن يؤمن بأن يسوع هو معلم إلهي، ولا أن يُعجب من آياته بكونها آيات صادقة وفريدة، لكن الحاجة هي إلى ولادة "من فوق"، أي سماوية، لكي يعاين ما هو سماوي. فالجنين في بطن أمه لا يقدر أن يرى العالم، ولا يحمل أية خبرات فيه، ما لم يولد من رحم أمه. هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعاين ملكوت الله، ولا أن يحمل خبرات السماء، ما لم يولد ثانية من فوق ليرى نور العالم الجديد ويعيش فيه.

بقوله "يرى" يؤكد السيد المسيح أنه يليق بالمؤمن الحقيقي الذي يتمتع بالميلاد الجديد السماوي ألا يعتز بهذا الميلاد دون أن يرى ملكوت الله داخله ويعيشه، أي يصير له الفكر السماوي والروح العلوية والمبادئ اللائقة بناموس السماء، وأهداف جديدة ورجاء جديد وإمكانيات جديدة.

بالميلاد الجديد يبدأ المؤمن حياة جديدة تمامًا، لا تقوم على تصليح كيان الإنسان، بل هدم القديم وبناء الجديد، إماتة الإنسان العتيق وقيامة الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.

بميلادنا الأول أفسدتنا الخطية وشكَّلت أعماقنا حسب هواها، فصرنا جسدانيين، يسيطر علينا ناموس شهوات الجسد، وتسحبنا محبة العالم، ويتحكم فينا عدو الخير، فأصبح الميلاد الجديد ضرورة لا مفر منها. لهذا يقول السيد: "الحق الحق أقول لكم".

ما هو ملكوت الله الذي يليق بنا أن نراه على الدوام سوى ملكوت المسيا السماوي، الساكن فينا، يقيم مملكته في داخلنا. نراه ونحيا به ونشاركه سماته، فنصير قديسين كما هو قدوس.هذا هو ملكوت الله الحاضر في حياتنا في متناول يدنا، كما أعلن السيد المسيح نفسه: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" (مت 4: 17).

كما قال:  قد أقبل عليكم ملكوت الله" (مت 12: 28)، وأكد لنا: "ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21). أما عن وضعنا في هذا الملكوت فهو أنه "جعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه" (رؤ 1: 6، 9؛ 5: 10). يصبغ علينا هذا الملكوت شركة سمات ربنا يسوع، إذ أن ملكوت الله "ليس أكلًا وشربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس" (رو 14: 17).

هذا الملكوت هو عربون الملكوت الأبدي، ينقلنا إلى السماء لنشتاق للدخول في شركة المجد العجيب يوم مجيء الرب. إنه يرفع فكرنا، ويصوب أنظارنا الداخلية نحو مجيء الرب الأخير والتمتع بالأكاليل السماوي.

 الآن كأن ما يقوله هو هكذا: "إن لم تولد من جديد، إن لم تشترك في الروح بجرن التجديد لا تستطيع أن يكون لك فكر سليم عني، لأن رأيك في جسدي لا روحي (تي 3: 5)... كلمة "من جديد" (أو من فوق) هنا يفهمها البعض بمعنى "من السماء"، ويفهمها آخرون "من الأول". يقول المسيح:" إنه من المستحيل أن أحدًا ما لا يولد هكذا أن يرى ملكوت الله"؛ هنا يشير إلى نفسه (المسيح)، ويعلن أننا في حاجة إلى عيون أخرى بجانب العيون الطبيعية لترى المسيح ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 "قال له نيقوديموس:

كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟"

جاء تساؤل نيقوديموس يكشف عن ضعف معرفته. بينما يتكلم السيد المسيح روحيًا كان قلب نيقوديموس مرتبطًا بالماديات. لم يكن ممكنًا أن يدرك الميلاد من فوق ما لم تُحل رباطات المادة من قلبه وفكره، فيقدر بروح الله أن يدرك الإمكانيات الروحية الجديدة.

صُدم نيقوديموس بحديث السيد المسيح عن الميلاد الجديد، فقد كان نيقوديموس كغيره من الإسرائيليين يعتزون بمولدهم من أبيهم إبراهيم، ونسبهم لشعب الله، وتمتعهم بالأنبياء، والوعود الإلهية، والعهد الإلهي، والهيكل الفريد بكل طقوسه. إنه ليس فقط إسرائيليًا بل وكان فريسيًا، فأي ميلاد أفضل يريده له يسوع؟ كان اليهود ينتظرون في مجيء المسيا أن يُقبل الأمم على الإيمان ويولدون من جديد، أما بالنسبة لهم فليس من مولد أشرف مما هم عليه. إنهم يعتزون بنسبهم وميلادهم ويصعب بل يستحيل أن يسمعوا عن مولد آخر.

 مع هذا كله فإن نيقوديموس لم يعطِ ظهره ليسوع بل تساءل لعله يدرك أمرًا جديدًا كان ينقصه معرفته. كشف نيقوديموس، المعلم والرئيس، عن تواضعه واستعداده للتمتع بأية معرفة صادقة أو إعلان سماوي ينقصه، حتى وإن كان الأمر يبدو حسب معرفته مستحيلًا.إنسان عجيب، فمع خبرته الطويلة الممتدة عشرات السنوات، ومع مركزه كقائدٍ له تقديره، ومع الجو الفريسي الذي يعيشه انحنى ليتعلم شيئًا جديدًا. إنه مثل رائع لكل قائد حقيقي ألا يتشامخ بما تعلمه، بل يبقى تحت التعليم حتى آخر نسمة من حياته. وكما يقول الأسقف القديس أمبروسيوس أنه لا يوجد كائن لا يحتاج إلي التعلم سوي الله.

 لقد جاء نيقوديموس إلى المسيح كمن يجيء إلى إنسان، فسمع أقوالًا أعظم من أن تُسمع من إنسانٍ. نعم ولا سمعها أحد قط، فلبث يثب في لحظاتٍ إلى علوها عاجلًا، إلا أن فهمه أظلم، وصار غير ثابت، محمولًا من كل جانب، ساقطًا على الدوام من الإيمان. لذلك صمم على تأكيد استحالة ذلك، وكأنه قد حث السيد ليوضح تعليمه، فقال: "ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويُولد؟", سمع نيقوديموس عن الميلاد الروحي لكنه لم يتعرف عليه روحيًا، بل سحب الكلمات إلى أسفل دنو الجسد، وجعل تعليمًا عظيمًا كهذا يعتمد على براهين جسدية.

وهكذا أوجد مصاعب تافهة وسخيفة. لذلك يقول بولس: "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما للروح" (1 كو 2: 14). ومع هذا فقد حفظ نيقوديموس الاحتشام والتوقير للمسيح، لأنه لم يسخر بما قيل له، لكنه سكت ظانًا أنه أمر ممتنع، وقد حدث له شك في أمرين هما: الولادة التي من هذا النوع، والملكوت، لأن اسم الملكوت لم يُسمع عند اليهود في وقت من أوقاتهم، ولا ذُكرت ولادة معناها كهذه، إلا أنه وقف متفكرًا عند الأول منهما وهو الولادة التي من فوق التي أدهشت عقله تمامًا ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

عرف هذا الرجل ميلادًا من آدم وحواء، أما الذي من اللَّه والكنيسة فلم يعرفه. لقد عرف فقط هذين الوالدين اللذين يلدان للموت، ولم يعرف اللذين يلدان للحياة. لقد عرف الوالدين اللذين ينجبا خلفًا لهما، ولم يعرف الوالدين الدائمي الحياة اللذين يلدان من يقيموا (على الدوام). يوجد ميلادان: ميلاد من الأرض، والآخر من السماء، واحد من الجسد، والآخر من الروح، واحد قابل للموت، والآخر أبدي، واحد من ذكرٍ وأنثى والآخر من اللَّه والكنيسة، أما هو ففهم ميلادًا واحدً فقط  ..  كما لا يوجد تكرار في الميلاد من الرحم، لن يوجد أيضًا من المعمودية ++ القديس اغسطينوس

 "أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه".

 عاد السيد وكرر ما سبق أن أكده، ليعلن أن هذا الحق لا يمكن التهاون فيه. فإن كلمة الله ليست نعم ولا، بل هي نعم وآمين. فمع عدم إدراك نيقوديموس للميلاد الجديد يصر السيد المسيح على ضرورته. ليس من طريق آخر لمعاينة ملكوت الله والدخول فيه سوى الولادة الثانية.

لماذا يستخدم الماء؟ إشارة إلى عمل الغسل الداخلي للنفس (تي ٣: ٥؛ ١ كو ٦: ١١؛ حز ٣٦: ٥٢).هذا الغسل يتحقق بالروح القدس القادر وحده أن يغسل أعماق النفس ويطهرها ويجددها. كما حول السيد المسيح الماء إلى خمرٍ يفرح أهل العرس والحاضرين فيه، هكذا يقدم لنا الماء لا لتطهير الجسد خارجيًا، بل تطهير الأعماق بالروح. هذا هو الماء الذي وعد به السيد في حديثه مع السامرية، أن من يشرب منه لا يعطش. إنه ليس كماء بئر يعقوب التي شرب منها هو وبنوه والماشية إنما هي مياه حية.

والماء ضروري في الميلاد الجديد، إذ يتم العماد بالتغطيس كقبول للموت والدفن مع المسيح للتمتع بالحياة المقامة الجديدة. وكما يقول الرسول بولس: "أم تجهلون إننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؛ فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الأب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة" (رو 6: 4) فالميلاد من الماء والروح هو موت عن حياة جسدية، ودفن لإعمال الإنسان القديم، وقبول شركة مع المسيح في حياته المقامة، أو قبول حياة جديدة مخلوقه بالروح القدس، الذي هو روح القيامة. إنها عملية خلق داخلي جديد، فنموت عن الفساد لنحمل طبيعة جديدة على صورة الخالق.

 الآن حتى الموعوظ يؤمن بصليب الرب يسوع المسيح الذي به أيضًا يُرشم، لكنه ما لم يعتمد باسم الآب والابن والروح القدس لا يقدر أن يتقبل غفران الخطايا، ولا يقتني عطية النعمة الروحية ++ القديس أمبروسيوس

 أخيرًا يمكنهم أن يتقدسوا بالتمام ويصيروا أبناء الله إن ولدوا من السرّ، كما هو مكتوب: "إن لم يولد الإنسان من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" ++ الشهيد كبريانوس

 فإن قلت: ما هو معنى هذا القول الذي قاله المسيح لنيقوديموس؟ أجبتك: "أراد المسيح أن يبعده عن التخيل الذي في الولادة الجسدية، وكأن المسيح يقول له يا نيقوديموس، إنما أقول أنا عن ولادة أخرى، فما بالك تسحب قولي إلى الأرض؟ لماذا تخضع هذا الفعل تحت ضرورة الطبيعة؟ فهذا الميلاد هو أعلى سموًا من مخاض الطلق التي هذه حالها، ابعد نفسك عن ما هو عام وشائع، فإنني أُدخل إلى العالم ولادة أخرى، وأشاء أن يولد الناس من جديد بطريقٍ آخر. لقد جئت لأجلب وسيلة جديدة للخلقة. لقد خلقت الإنسان من أرض وماء، ولكن ما قد تشكل ليس بنافع، فقد انحرف الإناء عن هدفه. لست أعود أشكله بتراب وماء بل بالماء والروح.

فإن سأل سائل: كيف يُخلق الله الإنسان من ماء؟ وأنا أسأله: وكيف خلقه من أرض؟ وكيف تقسم الطين إلى أجزاء مختلفة؟ من أين تكونت عظام الإنسان وأعصابه وشرايينه وأوردته؟ من أين أغشيته وأطرافه الآلية وغضاريفه وكبده وطحاله وقلبه؟ من أين تكوَّن جلده ودمه ولعابه وصفراه ومرارته؟ من أين أفعاله الجزيل تقديرها؟ من أين ألوانه المختلفة، لأن هذه الأجزاء ليست أجزاء أرض، ولا أجزاء طين.

وكيف إذا قبلت البذور الأرض تنبتها، وإذا قبل جسمنا البذور يعفنها؟

كيف تغذي الأرض البذور التي تُطرح فيها وجسمنا يتغذى على هذه البذور؟

تتقبل الأرض الماء فتجعله خمرًا، وجسمنا يقبل الخمر فيجعله ماءً. فلست أقدر أن أتحقق بفكري من أن هذه الأصناف جاءت من الأرض، إذ أن الأرض تضاد جسدنا بهذه الأصناف المذكورة، إلا أنني بتصديقي وإيماني بالله وحده أقبل أنها من الأرض.

فإن كانت تلك الأصناف المكونة كل يوم والملموسة تحتاج إلى تصديق وإيمان، فالأصناف الروحانية أولى وأليق أن تحتاج إلى تصديق وإيمان. وكما أن الأرض الغير متحركة حين أُيدت بإرادة الله تكونت منها هذه العجائب الجزيل عددها، هكذا إذا حضر الروح في الماء تتكون وأيسر مرام هذه الأفعال البديعة الفائقة على فكرنا...

 وإن سأل سائل: وما الحاجة إلى الماء في هذه الولادة؟ أجبته: إن هذه الولادة تعمل وتتمم دلائل إلهية: قبر ودفن وإيمان وحياة وقيامة، وهذه كلها تتكون في المعمودية معًا، لأننا إذا غطسنا رؤوسنا في الماء، كأننا نغطسها في قبر من القبور، يُدفن فيه الإنسان العتيق إلى أسفل ويغرق كله، ثم إذا رفعنا رؤوسنا يطلع الإنسان الجديد أيضًا. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 من هو هذا الذي يولد من الروح ويصير روحًا إلا ذاك الذي يتجدد بالروح في ذهنه (أف 23:4)؟ هذا بالتأكيد هو الذي يُولد من جديد بالماء والروح القدس، إذ نتقبل الرجاء في الحياة الأبدية خلال جرن الميلاد الجديد والتجديد بالروح القدس (تي 5:3). في موضع آخر يقول بطرس الرسول: "ستُعمّدون بالروح القدس" (أع 16:11). فإنه من هذا الذي يعتمد بالروح القدس إلا الذي يُولد مرة أخرى بالماء والروح؟ لذلك يقول الرب عن الروح القدس: الحق الحق أقول لكم إن لم يولد الإنسان ثانية من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه" ++ القديس أمبروسيوس

 يخبر ما جاء في سفر أعمال الرسل عن إعلان الروح الذي يعيش في المُعَمَّدْ، حين يمهد الماء الطريق لأولئك الذين يتقدمون بإخلاص. يُسمى العماد "غسْل الميلاد الثاني" (تي 5:3) الذي يتم بتجديد الروح.

 لما كان بسرّ العماد يتم إزالة دنس الميلاد، لذلك يُعمَّد حتى الأطفال. "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه" (يو 5:3) ++ العلامة أوريجينوس

 تغسلنا المعمودية من كل عيبٍ، وتجعلنا هيكل اللّه المقدس، وتردنا إلى شركة الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس +++ القديس إكليمنضس الإسكندري

 بالمعمودية المقدسة ينعتق الإنسان من سلطان إبليس ويصير مولودًا من غير نطفة مثل ناسوت المسيح، لأن الروح القدس يقدسه من ميلاد النطفة، فلا يبقى للشيطان سلطان عليه مادام روح المسيح فيه ++ الأنبا ساويرس أسقف الاشمونين

الذي يعتمد للمسيح لا يولد من اللّه فقط بل يلبس المسيح أيضًا (غلا 27:3). لا نأخذ هذا بالمعنى الأدبي، كأنه عمل من أعمال المحبة، بل هو حقيقة. فالتجسد جعل اتحادنا بالمسيح وشركتنا في الألوهة أمرًا واقعًا ++ القديس يوحنا ذهبي الفم

 يربط القديس جيروم بين الحيات المحرقة والعقارب وبين العطش حيث لا يوجد ماء، فكتب في رسالته إلى أوشانيوس Oceanus أحد النبلاء الرومان الغيورين على الإيمان متحدثًا عن بركات المياه والمعمودية، جاء فيها:

*     في البدء، أثناء الخلقة، كان روح اللَّه يرف على وجه المياه كقائد مركبة (تك 2:1)، وأخرج منها العالم الصغير، رمزًا للطفل المسيحي الذي يُغطس في مياه المعمودية.

*     إن كلمة سماء في العبرية shamyim تعني "الخارج من المياه".

*     إن كائنات الحية السماوية التي رآها حزقيال النبي في رؤياه على رؤوسها شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشر على رؤوسها (حز 22:1)، وأنها مياه مضغوطة جدًا.

*     في جنة عدن وُجد نهر في وسطها له أربعة رؤوس يسقى الجنة (تك 10:2).

*     في رؤيا حزقيال عن بيت الرب الجديد، رأى مياه تخرج من عتبة البيت نحو المشرق، والمياه تُشفي، وتهب حياة للأنفس الميتة (حز 1:47-9).

*     عندما سقط العالم في الخطية لم يكن ممكنًا تطهيره إلا بالطوفان، وبعد أن خرج الطائر الدنس، عادت حمامة الروح القدس إلى نوح، جاءت بعد ذلك إلى السيد المسيح في نهر الأردن، وحملت الغصن المبشر بالسلام للعالم كله في منقارها.

*     غرق في مياه البحر الأحمر فرعون وجنوده الذين رفضوا السماح لشعب اللَّه أن يتركوا مصر، بهذا صار البحر رمزًا لمعموديتنا. وقد وُصف هلاك فرعون في سفر المزامير: "أنت شققت البحر بالفضائل بقوتك؛ كسرت رؤوس التنانين في المياه. أنت رضضت رؤوس لوياثان إلى قطعٍ" (مز 13:74، 14LXX).

*     كما أن الخشبة جعلت مياه مارة حلوة، لتروي بمجاريها سبعين نخلة، هكذا جعل الصليب مياه الشريعة واهبة الحياة للسبعين رسل المسيح (خر 23:15-27؛ لو 1:10).

*     حفر إبراهيم واسحق آبارًا بينما حاول الفلسطينيون منعهما (تك 15:26، 18).

*     بئر سبع، مدينة القسم (تك 31:21) وجيحون موضع تجليس سليمان ملكًا، حملا أسميهما من الينابيع (1 مل 38:1؛ 2 أي 30:32).

*     وجد اليعازر رفقة بجوار بئر (تك 15:24، 16).

*     راحيل إذ كانت تسحب ماء من البئر نالت قبلة هناك (تك 11:29) بواسطة يعقوب.

*     إذ كانت بنات كاهن مديان في طريقهن ليبلغن إلى البئر وكن في ضيقة، فتح موسى لهن الطريق، وخلصهن من الطاردين لهن (خر 16:2، 17).

*     سابق الرب - يوحنا المعمدان - في ساليم (أي السلام) هيأ الشعب للمسيح بينبوع ماء (يو 23:3).

*     المخلص نفسه لم يبشر بملكوت السماوات إلا بعد أن طهّر الأردن بعماده بالتغطيس (مت 13:3، 14).

*     قال لنيقوديموس بطريقة سرية: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه" (يو 5:3).

*     كما بدأت خدمة المسيح بالماء انتهت أيضًا به، إذ ضُرب جنبه بالحربة ففاض منه دم وماء، رمزان للعماد والاستشهاد (يو 34:9).

*     بعد قيامته عندما أرسل رسله للأمم أمرهم أن يعمدوهم بسرّ الثالوث القدوس (مت 19:28).

*     إذ تاب اليهود عن شرورهم أرسلهم بطرس ليعتمدوا (أع 38:2).

*     بولس مضطهد الكنيسة، الذئب الثائر الخارج من بنيامين (تك 27:49) أحني رأسه أمام حنانيا، واحد من قطيع المسيح، ونال بصيرته فقط عندما تقبل دواء المعمودية (أع 17:9، 18).

*     بقراءة إشعياء النبي تهيأ خصي كنداكة ملكة أثيوبيا لمعمودية المسيح (أع 27:8، 38).

*     "صوت الرب على المياه... الرب على المياه كثيرة" (مز 3:29، 10). "أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متئم، وليس فيهن عقيم" (نش 2:4).

*     أشار ميخا النبي إلى نعمة المعمودية، "يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميع خطاياكم" (مي 19:7).

 "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح".

 هذا هو سرّ المعمودية، بها نلنا التبني (رو15:8)، فصرنا أبناء الملكوت، ولنا حق الميراث.خلالها يتم نزعنا من الزيتونة البرية وتطعيمنا في الزيتونة الجديدة (رو24:11) بفعل الروح القدس. بها نحمل "الحلة الأولى" (لو22:15)، و"حلة العرس" (مت11:22-23) التي بدونها لا يستطيع أحد أن يتمتع بالملكوت. هكذا تحققت نبوة حزقيال: "أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم، وانزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم، وأجعل روحي في داخلكم" (حز26:36).

 إذ أعلن نيقوديموس عن رغبته في إدراك ما يبدو له مستحيلًا، كشف له السيد مفهوم الميلاد الجديد. إنه ليس ميلادًا جسديًا يتحقق بالدخول من جديد في رحم الأم، وإنما هو ميلاد روحي يتحقق بعمل روح الله القدوس القدير، خلاله يتم التقديس بالروح (١ بط ١: ٢) والغسل الداخلي للنفس بالروح (تي ٣: ٥).

إننا جسد، ليس فقط من جهة العنصر الجسداني، وإنما لأن الفساد حلّ به (تك ٦: ٣)، وإذ تلتحم النفس بالجسد صارت النفس أسيرة الإرادة الجسدية الشهوانية، تجد مسرتها في الشهوات، حتى صار الإنسان ككل كأنه جسداني. فأي اتحاد بين الجسداني والله الذي هو روح. هذا ما استلزم الميلاد الجديد لكي يحمل الإنسان ككل سمة الروح، فيجد الجسد لذته ومسرته في الروح لا في شهوات الجسد.

هذا هو العلاج العملي للإنسان الذي أفسدته شهوات الجسد. هذا العلاج يقدمه ابن الله الوحيد بكونه واهب الشريعة العظيم ووسيط العهد الجديد وطبيب النفوس، هو وحده يعرف العلاج الحقيقي.

إنه الكرام الإلهي الذي يعلم أن كل شجرة تقدم ثمارًا حسب بذرتها، فمن يُولد روحيًا يحمل فيه ملكوتًا روحيًا مقدسًا لائقًا بالله.

 يستخدم الماء ليتحقق الميلاد للمولود، كما الرحم بالنسبة للجنين، هكذا الماء بالنسبة للمؤمن. فإنه في الماء يتشكل ويأخذ هيئته. في البداية قيل: "لتخرج المياه الزحافات الحية" (تك 1: 20)؛ لكن منذ دخل الرب مجاري الأردن لم تعد بعد تخرج المياه "زحافات حية" بل نفوسًا عاقلة حاملة الروح، "كعروس خارجة من خدرها" (مز 18: 6). الآن نتحدث عن المؤمنين إذ يبعثون أكثر بهاء منه (من المولود بالجسد). فمن يتشكل في الرحم يحتاج إلى زمن، لكن الأمر غير ذلك في الماء، فكل شيءٍ يتم في لحظة واحدة. هنا حياتنا قابلة للموت، تأخذ أصلها من فساد الأجساد الأخرى، فتتم الولادة ببطء، لكن الأمر ليس هكذا في الروحيات. لماذا؟ لأن الأمور تتشكل كاملة من البداية.

 إذ سمع نيقوديموس ذلك اضطرب، انظروا كيف فتح المسيح أمامه خفايا هذا السرّ تدريجيًا، وجعله أكثر وضوحًا، إذ كان منذ لحظات غامضًا. قال: "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" . لقد قاده بعيدًا عن كل المحسوسات ولم يسمح له أن يتفحص الأسرار المعلنة باطلًا بعينيه الجسديتين. يقول: "إننا لسنا نتحدث عن الجسد، بل عن الروح يا نيقوديموس (بهذه الكلمات قاده نحو السماويات إلى حين)، لا تطلب أمرًا يخص أمور الحواس، فإن الروح لن يظهر مطلقًا لهذه الأعين، لا تظن أن الروح يلد جسدًا. ربما يسأل أحد: كيف إذن ولد جسد الرب؟ ليس من الروح وحده بل من الجسد، وكما يعلن بولس: "من امرأة مولودًا تحت الناموس" (غلا 4:4) فإن الروح شكَّله بالحق ليس من عدم (وإلا فما الحاجة إذن إلي الرحم؟)، وإنما شكله من جسم بتولي...

"المولود من الروح هو روح" بمعنى "من يولد من الروحي روحي". فالميلاد الذي يتحدث عنه هنا ليس حسب الجوهر بل حسب الكرامة والنعمة ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 ما هو قوي فحتمًا يسود على ما هو ضعيف. يُبتلع ضعف الجسد بقوة الروح، مثل هذا لا يعود بعد يكون جسديًا، بل يصير روحيًا بسبب شركة الروح.

هكذا يحمل الشهداء شهادة محتقرين الموت، ليس حسب ضعف الجسد، وإنما حسب استعداد الروح. لأن ضعف الجسد يُبتلع بهذه الكيفية تاركًا لقوة الروح أن تشرق.

فالروح من جانبه إذ يمتص الضعف يملك فيه الجسد كميراثٍ له. بهذين الأمرين يتشكل الإنسان الحيّ، فهو حيّ لأنه يشترك بالروح ولكنه إنسان من أجل مادة الجسد ++ القديس إيريناؤس

 "لا تتعجب إني قلت لك: ينبغي أن تولدوا من فوق".
"الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح".

 كما أنه لا سلطان للإنسان على الريح الذي يهب ونشعر به دون أن نعرف أين يبدأ تمامًا ولا إلى أين ينتهي، هكذا الولادة بالروح لها قوتها وفاعليتها. هي عطية مجانية من قبل الله، لا سلطان لنا عليها، يوجهها الله، وهي تتمم كلمته (مز ١٤٨: ٨).

عمل الروح في المعمودية كالريح القوية التي تظهر من فاعليتها وآثارها. يعمل خفية سرائريًا، لكن أثره واضح في حياة المؤمن يتلامس معه كل النهار."كما أنك لا تعلم طريق الريح.. كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع" (جا 11: 5).

إذ تكلم المخلص نفسه إلى تلاميذه في الهيكل قال: "قوموا ننطلق من ههنا"، وقال لليهود: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت 38:23). إن كانت السماء والأرض تزولان (لو33:21) فواضح أن كل الأشياء الأرضية حتمًا ستزول +++ القديس جيروم

بقوله"لا تتعجب" أظهر اضطراب نفس نيقوديموس، وقاده إلي أمر أخف من الجسد. لقد قاده بالفعل بعيدًا عن الجسديات بقوله "المولود من الروح هو روح"، وإذ لم يعرف نيقوديموس معنى ما هو هذا الذي يولد من الروح وهو روح قدم له بعد ذلك مثلا آخر، فلم يأتِ به إلى كثافة الأجسام، ولا تحدث عن أمور خالية من الأجسام تمامًا (لأنه لو سمع ذلك لما قبله)، إنما وجد شيئًا في الوسط ما بين الجسم وما هو خال من الجسم، "حركة الريح".

قال: "الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب" . يقول إن كانت الريح تهب حيث ما يلائمها لا يقول هذا كما لو كان للريح قوة الاختيار، إنما يعلن عن حركتها الطبيعية التي لا يمكن مقاومتها، وهي بذات قوة... تنتشر في كل موضع وليس من يصدها ولا من يعوقها في عبورها من هنا إلى هناك، إنما تعبر بقوةٍ عظيمةٍ، وليس من يقف أمام عنفها. "وتسمع صوتها" ، أي حفيفها وضجيجها، "لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح" . هنا النتيجة النهائية لكل الأمر: يقول: "إن كنت لا تعرف كيف تفسر حركة هذه الريح وعبورها، التي تدركها بالسمع واللمس، كيف ترتبك جدًا أمام عمل الروح الإلهي، وأنت لا تفهم هذا عن الريح مع أنك تسمع صوتها؟ ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 "أجاب نيقوديموس، وقال له كيف يمكن أن يكون هذا؟"

 في حيرة يقف معلم إسرائيل متسائلًا: "كيف يمكن أن يكون هذا؟" لم يستطع بإدراكه المادي أن يتعرف على الأمور الروحية التي تبدو للإنسان الطبيعي كأنها جهالة. لم يستطع بالحكمة البشرية أن يعرف ما هو إلهي.لقد أوضح له السيد بما فيه الكفاية أن هذه الولادة الجديدة روحية سماوية من اختصاص روح الله القدوس، لا تخضع لقوانين الطبيعة ومنطق البشر المجرد، هي من اختصاص الله وحده الفائق القدرة.

"أجاب يسوع وقال له:
أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟"

كأن السيد المسيح يوبخه قائلًا له: كيف وضعت على عاتقك أن تقود العميان إلى الحق وأنت لا تعرف الحق؟ تدعو الذين يقبلون اليهودية أن يعتمدوا بالماء كرمز للميلاد الجديد وأنت نفسك لم تتمتع بالميلاد الجديد ولا تعرفت عليه.

ألم يقرأ نيقوديموس عن عمل روح الرب في حياة الناس، كما حدث في مسح شاول ملكا؟ "يحل عليك روح الرب، فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر...

وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر، وأتت جميع هذه الآيات في ذلك اليوم" (1 صم 10: 6، 9). وأيضا الوعد الإلهي في الأنبياء: "وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا، وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحم" (حز 11: 19)، "أجعل روحي فيكم فتحيون" (حز 37: 14). "هل أنا أفحص ولا أولد يقول الرب؟" (إش 66: 9) "ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي علي كل بشر" (يوئيل 2: 28).

 ماذا أيها الاخوة؟ أتظنون أن الرب يود أن يوبخ معلم اليهود هذا مسخّفًا به؟ لقد علم الرب ما كان يفعله، فقد أراد من هذا الرجل أن يولد من الروح. لا يولد أحد من الروح إن لم يتواضع، لأن التواضع نفسه يجعلنا نولد من الروح، "لأن الرب قريب من منكسرين القلوب" (مز34: 18). كان الرجل منتفخًا بكونه معلمًا؛ هذا يظهر من شعوره بأهميته كمعلمٍ لليهود. لقد أنزل يسوع كبرياءه لكي ما يولد من الروح. لقد وبّخه كشخصٍ غير متعلمٍ، لا لكي يظهر الرب كسيد عليه. فإنه أي وجه للمقارنة بين اللَّه والإنسان، وبين الحق والباطل؟ ++  القديس أغسطينوس

 يتحدث المسيح معه هنا موبخًا إياه... لاحظوا إنه لم يتهمه قط بالشر، وإنما بالضعف والسذاجة.

ربما يسأل أحد: وما ارتباط الميلاد (الروحي) باليهوديات؟

لقد أعلن عن الميلاد مقدمًا خلال الرمز وعن التطهير الحادث منه، وذلك في الينبوع حيث جعل اليشع الأداة الحديدية تطفو، والبحر الأحمر حيث عبره اليهود، والبركة التي كان الملاك يحرك ماءها، ونعمان السرياني الذي طهر (من البرص) في نهر الأردن.

كما أشارت كلمات النبي إلي وسيله هذا الميلاد مثل: "يخبر عن الرب الجيل الآتي، يأتون ويخرون ببره شعبًا سيولد يصنعه الرب" (مز 22: 30؛ 30: 31)، "يجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5)...

كان اسحق أيضًا رمزًا لهذا الميلاد.

 اخبرني يا نيقوديموس، كيف ولد؟ هل ولد حسب قوانين الطبيعة؟ مستحيل، طريقة ميلاده كانت في المنتصف بين الميلاد الذي نتحدث عنه والميلاد الطبيعي.

كان ميلادًا طبيعيا لأنه نتيجة تعايش زوجي، والميلاد الآخر لأنه لم يولد خلال الدماء (إذ كانت الأم عاقرًا والاب شيخا مسنًا) وإنما حسب مشيئة الله ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 "الحق الحق أقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم، ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا".

هنا يتحدث السيد المسيح بصيغه الجمع، لعله يقصد أن ما ينطق به إنما باسم الثالوث القدوس الذي يشتهي ميلاد البشرية الجديد ليتمتع كل مؤمن بالشركة مع الثالوث. إذ يصعب على الإنسان الطبيعي إدراك هذا الميلاد الروحي الجديد، يقدم السيد المسيح شهادته هو والآب عن رؤيتهما لهذا الميلاد الفوقاني العجيب خلال عمل الروح القدس في مياه المعمودية.

"أن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟"

 يقصد بالأرضيات الحديث عن الريح التي تهب حيث تشاء ونسمع صوتها، ولكننا لا نعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. كما أيضًا يقصد بها "نقض هيكل جسده" (2: 19)، أما السماويات فهي الميلاد بالروح وقيامة المسيح وصعوده إلى السماء.

المعمودية هي ميلاد روحي يتم على الأرض لكي يبدأ المؤمن رحلته إلى السماء خلال اتحاده بالمسيح الذي صعد إلى السماء. فمن لا يقدر أن يقبل الميلاد الروحي كيف يمكنه أن يصعد بقلبه إلى السماء؟

إنهم كجسديين لم يستطيعوا أن يقبلوا الميلاد الجديد من الماء والروح، وهذه بداية انطلاقة الإنسان بقلبه وفكره وكل أعماقه نحو السماء. إنهم لم يقبلوا بعد بدء هذه الرحلة السماوية فكيف يصعدون مع السيد المسيح إلى سماواته، بالتناول من جسد الرب ودمه والتعرف علي أسرار الثالوث القدوس وعمله في المؤمن، والشركة مع السمائيين؟

يرى البعض أن تعبير "الأرضيات" مُستخدم بخصوص الريح، بمعنى "إن كنت قدمت لكم مثلًا من الأرضيات ولم تصدقوا حتى هذا، فكيف يمكنكم أن تتعلموا العلويات؟

لا تتعجبوا إن دعا المعمودية هنا أمرًا أرضيًا، فقد دعاها هكذا إما لأنها تتم على الأرض، أو بالمقارنة بميلاده الكلي المهابة. فمع أن هذا الميلاد الذي لنا هو سماوي، لكن بالمقارنة بالميلاد الحقيقي الذي في ذات الآب، يحسب أرضيًا. لم يقل: "لم تفهموا" بل قال "لستم تؤمنون"، لأنه عندما يكون شخص ما ميال إلى سوء النية من جهة أمور معينة يمكن إدراكها بالعقل وغير مستعد لقبولها بحق يمكن اتهامه أنه خالٍ من الفهم، ولكن عندما لا يتقبل أمورًا لا يمكن فهمها بالعقل بل بالإيمان وحده، الاتهام الموجه ضده هو أنه خال لا من الفهم بل من الإيمان +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء".

ربما يشير هنا إلى مفهوم خاطئ لدى بعض اليهود وهو أن موسى صعد إلى السماء حيث استلم الناموس ونزل به إلى إسرائيل. يصحح السيد مفهومهم مؤكدًا أنه ليس أحد يصعد إلى السماء إلاَّ ابن الإنسان الذي نزل من السماء، وبقي بلاهوته يملأ السماء. هو وحده يقدر أن يكشف عن الأسرار السماوية، ويحمل المؤمنين إلى السماء، ويقدم لهم إرادة الآب.

لقد تحدث نيقوديموس مع السيد بكونه نبيًا من عند الله، فكان يليق به أن يدرك أن السيد أعظم من نبي، بتجسده نزل من السماء، وبلاهوته قائم في السماء. إنه الرب من السماء (١ كو ١٥: ٤٧).

 إن قلت وأية صلة بين هذا الكلام وما قبله؟! أجبتك: إنه متصل بالأقوال التي قبلها اتصالًا وثيقًا جدًا، لأنه إذ قال نيقوديموس للمسيح: "يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلمًا"، تلافى ربنا هذا القول بعينه، فقارب أن يقول له: لا تظن إنني أوجد على هذا المثال معلمًا مثل الكثيرين من الأنبياء الموجودين من الأرض، لكنني قد أتيت من السماء وأنا مقيم هناك أيضًا.

أعرفت كيف أن المسيح ليس هو في السماء فقط، لكنه حاضر في كل مكان مالئ خلائقه كلها؟ ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 نزل من أجلنا، لنصعد نحن من أجله. هو وحده نزل وصعد، ذاك الذي يقول: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء". ألا يصعد هؤلاء الذين جعلهم أبناء اللَّه إلى السماء؟ بالتأكيد يصعدون، هذا هو الوعد المقدم لنا: "سيكونون كملائكة اللَّه". إذن كيف لا يصعد أحد إلا الذي نزل؟ لأنه واحد فقط هو الذي نزل، وواحد هو الذي يصعد. وماذا عن البقية...؟ رجاء البقية هو هذا، إنه نزل لكي ما فيه وبه يصيرون واحدًا، هؤلاء الذين يلزم صعودهم به... هذا يظهر وحدة الكنيسة. ويل للذين يبغضون الوحدة، ويجعلون من أنفسهم أحزابًا من البشر!

يليق بنا أن نرحل، لكن هذه الرحلة لا تحتاج إلى دهن الأقدام (للسير بها)، ولا إلى طلب حيوان (نركبه) ولا إلى سفينة.

ليتك تجري بعاطفة القلب، لتسير في الرحلة في رفقة الحب، لتصعد بالمحبة.

لماذا تبحث عن الطريق؟ التصق بالمسيح الذي بنزوله جعل من نفسه "الطريق".

أتريد أن تصعد؟ تمسك بذاك الذي يصعد. بذاتك لن تقدر أن ترتفع... إن كان لا يصعد أحد إلاَّ الذي نزل، أي ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح، فهل تريد أن تصعد أنت أيضًا؟

كن عضوًا في ذاك الذي وحده يصعد. لا يصعد إلاَّ الذي يكون عضوًا في جسده، فيتحقق القول: "لا يقدر أحد أن يصعد إلاَّ الذي نزل"...

لقد ترك أباه وأمه والتصق بزوجته لكي يصير الاثنين واحدًا (أف ٥: ٣١). لقد ترك أباه لا لكي يظهر نفسه مساويًا للآب، وإنما لكي يخلي نفسه آخذًا شكل العبد (في ٢: ٧).

لقد ترك أمه أيضًا، المجمع الذي منه وُلد حسب الجسد. لقد التصق بزوجته التي هي كنيسته.

الآن في الموضع الذي في المسيح نفسه هذه الشهادة، لقد أظهر أن رباط الزواج لا ينحل (مت ١٩: ٤)... "ليسوا بعد اثنين بل جسد واحد"، هكذا "لا يصعد أحد إلاَّ الذي نزل".

لكي تعرفوا أن العريس والعروس هما واحد حسب جسد المسيح، وليس حسب لاهوته... لكي تعرفوا أن هذا الكامل هو مسيح واحد، قال بإشعياء: "وضع عمامة عليّ كعريسٍ، وكساني بالزينة كعروس" (إش ٦١: ١٠) ++ القديس أغسطينوس

من كتاب السيدة العذراء مريم ... أيقونة العذراء القديسة مريم ++ البابا شنودة الثالث



من كتاب السيدة العذراء مريم ... أيقونة العذراء القديسة مريم ++ البابا شنودة الثالث

هناك فرق بين صور للتأمل، وأيقونة للطقس.

• ففي الأيقونات لابد أن تظهر مع المسيح باعتبارها والدة الإله.

• وتكون عن يمينه، إذ قيل في المزمور "قامت الملكة عن يمينك أيها الملك" (مز 45: 9).

• ولأنها ملكة يكون على رأسها تاج، وكذلك المسيح.

• وكقديسة يكون حول رأسها هالة من نور، إذ قال الرب "أنتم نور العالم" (مت 5: 14).

• ولأنها السماء الثانية يوجد حولها نجوم وملائكة وسحاب

اشفعي فينا أيتها العذراء القديسة، ليشملنا الرب برحمته.

تفسير سفر أعمال الرسل 10 .. انفتاح عينيّ بطرس الرسول على خدمة الأمم .. رؤيا بطرس الرسول ++ القمص تادرس يعقوب



تفسير سفر أعمال الرسل 10 .. انفتاح عينيّ بطرس الرسول
على خدمة الأمم .. رؤيا بطرس الرسول ++ القمص تادرس يعقوب

 "ثم في الغد فيما هم يسافرون، ويقتربون إلى المدينة، صعد بطرس على السطح ليصلّي نحو الساعة السادسة".

  إذ انطلقت البعثة إلى مدينة يافا التي تبعد حوالي ٣٠ ميلًا عن قيصرية، تحركت السماء لتعلن للقديس بطرس قبيل وصول البعثة التي انطلقت في الصباح المبكر لتصل في وقت الظهيرة (تقطع الخيول المسافة في ٦ ساعات). ظهرت الرؤيا لبطرس الرسول، والبعثة على أبواب البيت. كانوا يسألون عن القديس بطرس، وكأن الأمر يصدر أن يقوم فورًا من الغيبة ليعمد الأمم ويقبلهم في شركة مائدة الرب.

كان تحقيق هذا الأمر فيه صعوبة، فقد حرم الناموس الاختلاط بالأممين مهما كان سلوكهم. كان لابد من أمرٍ إلهيٍ يصدر للرسل عند تحركهم العملي للبدء في خدمة الأممين. لهذا كانت هناك حاجة ملحة إلي رؤيا سماوية للقديس بطرس كي ينطلق إلى بيت كرنيليوس، كما كانت الحاجة أيضًا إلى رؤيا سماوية لحنانيا، كي يذهب إلى شاول الطرسوسي، ويكرز له ويعمده. فبالرغم من النبوات الصريحة والواضحة في العهد القديم برجوع الأمم إلي الله، ومن دعوة السيد المسيح لتلاميذه أن يكرزوا في الخليقة كلها لم يكن ممكنًا التحرك العملي لتحقيق ذلك دون رؤى سماوية في لحظات البدء بالعمل.

لقد صعد بطرس على السطح ليصلي، ووهبه الرب هذه الرؤيا، لكنه لم يكشف له ما حدث في بيت كرنيليوس، ولا عن الرسل القادمين إليه يستدعونه، ولا عما سيحدث في اللقاء مع كرنيليوس؛ إنما جاءت الرؤيا تدفعه للتحرك مع هؤلاء الرسل. فالله يكشف لخدامه قدر ما يناسب الزمن. كان على القديس بطرس أن يتحرك في طاعة للرؤيا، ليرى بعينيه أعمال الله العجيبة التي لم يكن يتوقعها. عليه ألا يسأل عما سيحدث، وإنما أن يثق في عمل الله الفائق، وأن يدرك أن لكل أمرٍ زمن معين لدى الله.

"على السطح": كان الناموس يلزم المؤمنين أن يقيموا سورا يحوط بالسطح حتى لا يسقط أحد. وكان السطح المكشوف أو الحجرة المقامة عليه تعتبر من أفضل الأماكن للخلوة مع الله والصلاة. ولم يكن أحد من الساكنين في المنازل المجاورة أو الذين في الشارع يرى من يجلس أو يركع أو يقف أثناء خلوته على السطح. يرى البعض أن الصلاة على السطح تعطي فرصة أعظم للصلاة، فمن جانب يرى السماء مكشوفة أمامه، فلا ينشغل فكره بالأرضيات، بل يترقب انطلاقه إلى بيته السماوي، متحررًا من كل ما هو أرضي. ومن على السطح يرى نصيبًا كبيرًا من المدينة، فيتحدث مع الله باسم الشعب كله، ويطلب عن إخوته. وعلى السطح لا يسمع أحدًا ولا يسمعه أحد، بل يتحدث في خلوة مع إلهه.

"نحو الساعة السادسة": كان غالبية اليهود يحرصون على الصلاة الصباحية والمسائية، أما الأتقياء فيحرصون على الصلاة في وقت الظهيرة، أي يصلون ثلاث مرات، كما كان دانيال النبي يفعل في السبي (دا 6: 10-13)، وأيضا داود النبي (مز 55: 17). وكان المسيحيون الأوائل يحرصون على هذه الصلوات الثلاث كما يقول القديس إكليمنضس السكندري.

 "فجاع كثيرًا، واشتهى أن يأكل، وبينما هم يهيئون له وقعت عليه غيبة".

"غيبة": تشير إلى حالة للعقل فيها يمتص بالكامل في فكرٍ معينٍ أو أمرٍ ما حيث تبدو الحواس الخارجية كأنها متوقفة جزئيًا أو بالكامل. هي حالة انسحاب للفكر والقلب عما هو منظور أو مسموع لينسحب كيان الإنسان إلى أعماقه .

 وكأن لا شيء حوله، أو كأن النفس قد انطلقت من الجسد، لتعبر إلى جوٍ روحيٍ لا يخضع للحواس البدنية. قيل عن بلعام أنه رأى القدير في رؤيا بينما كان ساقطًا في غيبة (عد 24: 4، 16). والقديس بولس سقط في غيبة وهو في الهيكل (أع 22: 17)، وتكرر الأمر معه (2 كو 12: 2).

جاع القديس بطرس كثيرًا واشتهي أن يأكل، فقدم له السيد المسيح طعامًا يشبع قلوب السمائيين، وهو دخول الأمم إلى الإيمان. لقد جاع السيد المسيح نفسه بعد أن صام أربعين يومًا، وقد طلب الشيطان منه أن يحول الحجارة خبزًا، وقد رفض السيد ذلك، لأنه ترقب هذا اليوم الذي فيه يحول الحجارة البشرية التي صارت صلدة بلا أحاسيس بسبب عبادة الأصنام الحجرية لتصير بالحق طعامًا سماويًا يبهج قلب الله. لقد تحولت الحجارة إلى خبزٍ مشبع، كما تحولت الحجارة إلى أولاد لإبراهيم، كما وعد السيد المسيح بذلك، حين قال أن الله قادر أن يقيم من الحجارة أبناء لإبراهيم.

 ماذا يعني تعبير غيبة ek[ta[ic؟ منظر روحي (ثيؤريا)، فلتقل أن النفس صارت كأنها خارج الجسد. "فرأى السماء مفتوحة..." ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

طلب والد يعقوب طعام الكلمة، لأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل كلمة من الله (مت 4:4؛ لو 4: 4). مثل هذا الطعام طلبه اسحق (تك 27: 4). مثل هذا الطعام جاع إليه بطرس عندما رأى العلامات السرية لمستقبل إيمان الأمم ++ القديس أمبروسيوس

 "فرأى السماء مفتوحة، وإناء نازلًا عليه مثل ملاءة عظيمة، مربوطة بأربعة أطراف، ومدلاّة على الأرض".

 اعتاد العهد القديم أن يتحدث عن السماء، وقد انفتحت أبوابها لنزول شيء ما منها، وكأنها قد صارت مغلقة أمام البشرية تنفتح أبوابها لتحقيق رسالة معينة لتبقى مغلقة أمام وجه الإنسان الذي أعطى ظهره لله. وقد جاء كلمة الله المتجسد ليفتح أبواب السماء، بل ويقيم ملكوته داخل الإنسان.

ما أن ارتفع قلب القديس بطرس الرسول إلى السماء حتى انفتحت أبوابها ليتكشف غنى نعمة الله وإحساناته.

إنك ارتفعت إلى السطح مثل الرسول بطرس؛ هذا الذي إذ كان جائعًا بين اليهود أشبع إيمان كرنيليوس جوعه. وكبح الرغبة الجامحة التي سببها عدم إيمانهم خلال تحول قائد المئة والأمميين الآخرين إلى الإيمان. تعلم من الإناء النازل من السماء إلى الأرض بجوانبه الأربعة كرمز للأناجيل الأربعة أن كل البشر يمكن أن يخلصوا. أضف إلى ذلك هذه الملاءة البيضاء الجميلة التي في الرؤيا التي ارتفعت مرة أخرى، كانت رمزًا للكنيسة التي تحمل المؤمنين من الأرض إلى السماء، تأكيدًا أن وعد الرب حتمًا يتحقق: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8) ++ القديس جيروم

قد يسأل أحد: لماذا ظهرت ملاءة (إناء عظيم على شكل ملاءة) حوت هذه الحيوانات؟ بالتأكيد لم يكن هذا بدون سبب. نحن نعلم أن العث الذي يفسد الثياب الأخرى لا يصيب الملاءة لهذا كل من يرغب أن يبلغ سرّ الكنيسة الجامعة يلزمه أن يستبعد من قلبه فساد الشهوات الشريرة. يلزمه أن يثبت في الإيمان بطريقة لا يمكن إفساده، حتى أنه لا يفسد بالأفكار الشريرة كأنها عث، إن أراد أن يبلغ سرّ تلك الملاءة التي ترمز للكنيسة.

لماذا نزلت من السماء ثلاث مرات إلا لأن كل الأمم الذين ينتمون إلى أربع جهات الأرض حيث تنتشر الكنيسة، يُعمدون باسم الثالوث؟ أُشير إلى الكنيسة في الأركان الأربعة التي تنتمي للإناء، إذ يجدون الذين يؤمن باسم الآب والابن والروح القدس حتى يبلغوا مرافقة القديسين وشركتهم. لهذا فإن أربعة أركان أو اتجاهات العالم والثلاثة ظهورات التي تشير إلى سرّ الثالوث، هذه الحقيقة تشير إلى رقم 12 الذي للرسل، حيث يُبعث ثلاثة إلى الأربعة، فأربعة ثلاث مرات تعادل 12. ولما كان الاثنا عشر رسولًا قد عُينوا للكرازة بسرّ الثالوث في أركان العالم الأربعة، لهذا فإن الأربعة أركان نزلت من السماء ثلاث مرات ++ الأب قيصريوس أسقف آرل

 شاركْ القديس بطرس في هذا النوع من الغيبة عندما كان جوعانًا ومخمورًا في نفس الوقت. كان بطرس جوعانًا قبل أن يُقدم له غذاء المادي، وأراد أن يتذوقه، وبينما كان أعضاء عائلته يجهزون الطعام (أع 10:10) جرب بطرس هذه الغيبة المقدسة الصاحية. وخرج من نفسه بواسطتها ورأى الرؤيا الآتية: "فرأي السماء مفتوحة، وإناءً نازلًا عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض. وكان فيها دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء. وصار إليه صوت: قم يا بطرس واذبح وكلْ. فقال بطرس: كلا يا رب لم آكل قط شيئًا دنسًا أو نجسًا. فصار إليه أيضًا صوت ثانية ما طهره اللّه لا تدنسه أنت. وكان هذا على ثلاث مرات" (أع 11:10-15). نتعلم من الصوت الذي ناداه في المرة الأولى أن اللّه الآب هو الذي يُطهر، وفي المرة الثانية أن الابن الوحيد هو الذي يُطهر، وفي المرة الثالثة أن الروح القدس هو الذي يطهر كل شيء. تحدث هذه الغيبة من الخمر الذي يقدمه اللّه لكل من يجلس على مائدته. فالله يُشجع بحق كل من يعيش حياة الفضيلة ويقترب منه، وليس للبعيدين عنه: "كلوا أيها الأصحاب اشربوا، واسكروا أيها الأحياء". "لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميزٍ جسد الرب" (1 كو 29:11) فهو يطلق كلمة "إخوة" على المستحقين لهذا الطعام. "لأن من يصنع مشيئة اللّه هو أخي وأختي وأمي"(مر 35:3) ++ القديس غريغوريوس النيسي

"وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء".

كانت هذه الملاءة النازلة من السماء تشير إلى الكنيسة المقدسة، فإن كانت الملاءة لا تضم حيوانات أليفة فحسب بل ووحوش أيضًا؛ لا تضم فقط حيوانات ودواب الأرض بل وطيور السماء، هكذا فإن الكنيسة كجسد المسيح محب كل البشرية يفتح أبواب الإيمان أمام كل الناس، أصحاب الطبائع الهادئة أو الضعيفة، الذين عاشوا وسط وحل الأرض، والذين كانت قلوبهم تشتهي أن تحلق في السماوات... إنه يقيم منهم جميعًا شعبًا مقدسًا متشبهًا بالملائكة. تضم الكنيسة اليهود والأمم، السادة والعبيد، الكبار والصغار، ليس بربري ولا سكيثي (كو 3: 11). تضم شبكة الكنيسة من كل صنفٍ، تقدس الكل، وتقيم من الكل أعضاء متنوعة للجسد الواحد المتناغم معًا.

 "وصار إليه صوت: قم يا بطرس، اذبح وكل".

طلب من القديس بطرس أن يذبح ويأكل دون تمييز بين طاهر ونجس في نظر الناموس، إذ يصير الكل شركاء المسيح في الصليب، يشتهون أن ُيذبحوا معه بروح الحب والبذل، فيصير الكل مقدسين فيه، لأنه هو قدوس. كان الأكل يميز بين اليهودي والأممي، فاليهودي لا يأكل ما نجس حسب الناموس، ولا يشارك أيضا الأممي في أطعمته المقدمة للأوثان.

لم يظهر للقديس بطرس ملاك من السماء، بل سمع الصوت الإلهي نفسه يدعوه أن يذبح ويأكل. فالأمر جد خطير، ويصعب تصديقه، لذلك تحدث الرب نفسه مع بطرس، كما هو واضح من إجابة القديس بطرس نفسه.

واضح أن الناموس نفسه خلال العالم كله له أربعة أركان: الشرق والغرب والجنوب والشمال، كما يقول الكتاب. ولهذا فإن الإناء الذي حوى كل الحيوانات الرمزيّة الذي أُعلن لبطرس عندما قيل له: "اذبح وكلْ"  لكي يظهر أنه يلزم أن يؤمن الأمم، ويدخلوا في جسد الكنيسة، كما يدخل في جسمنا ما نأكله، وأن هذا الإناء كان نازلًا من السماء بأربعة أركان، مظهرًا أن العالم كله حتمًا سيؤمن ++ القديس أغسطينوس

عندما قيل لبطرس: "اذبح وكُل"، يشير هذا إلى الكنيسة الجامعة أن تذبح أولًا ثم تأكل كل من يؤمنوا بالمسيح. بمعنى آخر، يُذبح عدم الإيمان حتى يُغرس الإيمان. إذ لا يستطيع أحد أن يؤمن بالمسيح ما لم يمت أولًا. وكما يقول الرسول: "قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كو 3: 3) ++ الأب قيصريوس أسقف آرل

 "فقال بطرس:  كلاّ يا رب، لأني لم آكل قط شيئًا دنسًا أو نجسًا".

في البداية رفض بطرس أن يأكل، لأنه حسب أن المواعيد الإلهية والبركات السماوية الطاهرة لا تُقدم للأمم الأنجاس، إذ كانوا في عينيه بلا إلهن وليسوا من رعوية إسرائيل!

 ما هو الفرق بين الدنس والنجس؟

الدنس هو الشيء الذي لا يُكرس لله، فمن يعبد آلهة غريبة غير الله فبحسب ناموس موسى يُحسب دنسًا. في الأصل اليوناني معناه "عمومي" أو "عام"، أي ليس مخصصًا لله. لذلك يتطلع اليهود إلى كل الأمم أنهم دنسون. أما النجس فهو ما لم يتطهر. فاليهودي متى لمس ميتًا يُحسب نجسًا حتى المساء، حيث يستحم ويتطهر. والأوزة التي يذبحها آخر غير الحاخام نجسة لا تؤكل، أما إذا ذبحها حاخام وصفى دمها، فتُحسب حلالًا وطاهرة.

فالرسول بطرس كسائر اليهود يتطلع إلى الأمم ليس كأنجاس يحتاجون إلى تطهير، كما يتنجس أي يهودي فيتطهر، وإنما كأدناس غرباء عن الله لا يمكن تطهيرهم.

يميز العهد القديم بين الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة (لا 11: 2- 27؛ تث 14: 3-20). لم يكسر القديس بطرس قط هذا المبدأ. الآن قد حان الوقت لتحقيق الناموس، لا في حرفيته القاتلة، بل بالروح المحيي، فإن لهذه الشرائع مفاهيمها الروحية، وقد سبق لنا توضيحها أثناء تفسير سفري العدد والتثنية.

 "فصار إليه أيضًا صوت ثانية: ما طهره اللَّه، لا تُدنسه أنت".

 ماذا يقصد بالقول: ما طهره الله؟ ما أعلن الله عنه أنه طاهر، أو ما يأمرك به الله أن تفعله، فإنه حتمًا لا يكون دنسًا ولا خطأ. ما كان لديك في فكرك من تمييز بين ما هو طاهر وما هو غير طاهر يقوم على التفسير الحرفي كبعض الشرائع في الناموس. الآن لتحمل فكرًا روحيًا، لترى ما هو طاهر وما هو دنس، ليس بمنظار ناموسي حرفي، فترى الأمم دنسين. الآن يدعون لنوال ذات الإحسانات والبركات التي يقدمها لله لليهود. لقد انشق الحجاب الحاجز بين الفريقين، ودُعي العالم كله للشركة معًا والتمتع بإنجيلٍ واحدٍ وإيمانٍ واحدٍ (أف 2: 14؛ غل 3: 28). الآن يلزم إعادة النظر في فهم الشرائع الناموسية بعد انهيار الحجاب الحاجز.

لقد كان بين اليهود والأمم حائط، فيظن اليهود أنهم وحدهم لهم نصيب في هيكل الرب، وأن الآخرين مرذولون. لقد جاء حجر الزاوية الذي يضم بالحق الحائطين معًا في الهيكل الجديد.

في حديث القديس إكليمنضس السكندري عن "الطعام" يعلق على هذه العبارة، قائلًا: اليس هناك اعتبار لما نستخدمه من هذه الأشياء (الأطعمة)، إذ تتساوي كلها، "لأنه ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان..." أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة" (أم 15: 17)... البقول والأعشاب ليست هي المحبة، بل ما يجب علينا هو أن نتناول وجباتنا بالمحبة، وذلك ما نقصده بالأغابي أو وليمة المحبة. في هذا من الأفضل إتباع الاعتدال في الأمور... فإن الإفراط (في الأكل) فيه خطورة، والمغالاة (في الصوم) مكروه، وأما اختيار الوسط في الأمور فجيد .

 "وكان هذا على ثلاث مرات، ثم ارتفع الإناء أيضًا إلى السماء".

  لعل الملاءة التي نزلت من السماء كانت ترتفع وتنزل مع الصوت الذي تكرر ثلاث مرات، وكأن كنيسة المسيح تتمتع بالبنوة لله القدوس، لكي يصير كل مؤمن حقيقي مقدسًا وطاهرًا في الرب خلال مياه المعمودية وعمل الروح القدس، وذلك بالعماد بالتغطيس باسم الثالوث القدوس. يصر الله على إعلان إبداع حبه للأمم، فإنهم إذ يؤمنون يتطهرون بالمعمودية ويصيرون أبناء الله.

ارتفعت الملاءة (الإناء) إلى السماء. فما لم يقبله بطرس ويخشى أن يتنجس ويتدنس إذا بالسماء تقبله. صارت التي ليست بمحبوبة محبوبة لدى الله، والتي ليست شعبه شعبه (رو 9: 25).

إذن تشير الملاءة إلى الأرض، والوحوش التي فيها هم من الأمم، والأمر "اذبح وكُلْ" يشير إلى الالتزام بالذهاب إليهم أيضًا، وقد تكرر ثلاث مرات إشارة إلى المعمودية +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

تفسير سفر أعمال الرسل 10 .. انفتاح عينيّ بطرس الرسول على خدمة الأمم .. رؤيا كرنيليوس ++ القمص تادرس يعقوب


 تفسير سفر أعمال الرسل 10 .. انفتاح عينيّ بطرس الرسول
على خدمة الأمم .. رؤيا كرنيليوس ++ القمص تادرس يعقوب

"وكان في قيصرية رجل اسمه كرنيليوس، قائد مائة من الكتيبة التي تدعى الإيطالية".

 في  الأصحاح السابق يقدم لنا القديس لوقا صورة ممتعة لرجلٍ دخل تحت الناموس مع عظمة مركزه يتمتع بعظمة تقواه وشوقه العجيب لدراسة الكتاب المقدس، وغيرته المتقدة نحو خلاص نفسه (خصي كنداكة). وفي هذا الأصحاح يقدم لنا إنسانًا عظيمًا في رتبته، ومع كونه لم يكن يهوديًا، ولا تحت الناموس، لكنه كان عظيمًا في تقواه.

وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: إنه يظهر عظمة تقواهما، فإنه من المدهش أن نجد شخصًا ما هكذا وهو في غنى وسلطان مثل هذين الشخصين.

ما يسبب مدحًا للأول أنه قام برحلة طويلة بينما لم يكن في وقت عيد يستلزم هذا، وقراءته في الطريق، وهو في المركبة، وتوسله لفيلبس، وأمور أخرى عديدة. وأما عظمة مديح الأخير (كرنيليوس) أنه يقدم صدقات وصلوات، وكان تقيًا ويتمسك بوصية كهذه +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

اختار السيد المسيح بكور مؤمنيه من اليهود من صيادي السمك البسطاء ليخزي بهم الحكماء؛ أما بالنسبة للأمم فاختار قائدًا رومانيًا. لم يختر فيلسوفًا يونانيًا ولا كاهن أوثان، بل قائدًا، كل ما يشغله حفظ الأمن وتنفيذ القوانين وتمتع البشر بالحرية، خاصة أصحاب الجنسية الرومانية. إنه صاحب فكر حر، ليس من يضغط عليه، ولا من يقدر أن يخدعه.

 كان كرنيليوس قائدًا في الجيش الروماني تحت قيادته مئة جندي. سبق فسمعنا عن قائد المئة الذي سبق بإيمانه كل من في إسرائيل ليتكىء في ملكوت السماوات مع إبراهيم وإسحق ويعقوب (مت ٨: ١١ - ١٢). أما القائد الثاني فهو الذي شهد للسيد المسيح ومن معه أثناء الزلزلة، قائلين: "حقًا كان هذا ابن الله" (مت ٢٧: ٥٤). والآن نحن أمام قائد مئة ثالث الذي اشتاق إلى الحق الإلهي، فاستخدمه الله درسًا للقديس بطرس لفتح باب الإيمان للأمم. انضم إلى هذه الفئة قائد مئة رابع كان مكلفًا بحراسة الرسول بولس في الأسر ليذهب به إلى روما، هذا رفض قتل الأسرى حين انكسرت السفينة حتى يخلص بولس (أع ٢٧: ٤٢-٤٣).

 يقول المؤرخ بوليبييوس Poliybius أن قواد المائة في الجيش الروماني كانوا معتبرين ملح الجيش الروماني، ممتدحًا أخلاقهم، إذ يُشترط أن يكونوا متعقلين، مستقيمين، ذوي حكمة ورزانة، قادرين على ضبط نفوسهم.

 "من الكتيبة الإيطالية": كان قوامها ما بين ٦٠٠ و ١٠٠٠ جندي، لكن لم تكن مثل هذه القوات الكبيرة موجودة في فلسطين حتى سنة ٤١م، ولكن في أيام أغريباس الأول (أع ١٢: ١) وُجدت عدة قوات مثل هذه.

دًعيت الكتيبة الإيطالية، ربما لأن كل جنودها كانوا رومانيين قادمين من الجيش الروماني في إيطاليا، وهم متميزون عن بقية الجنود في الجيش المختارين من ولايات أخرى. هؤلاء كانوا موضع ثقة الإمبراطور، حتمًا يعملون لحساب السلطة الرومانية، لن يقوم من بينهم خائن للإمبراطورية.

 "وهو تقي وخائف اللَّه مع جميع بيته،يصنع حسنات كثيرة للشعب،ويصلّي إلى اللَّه في كل حين".

بلا شك أن بعض اليونانيين والرومانيين، حتى الذين كانوا يعملون في الجيش تأثروا ببعض اليهود الأتقياء، فصاروا يعبدون الله الواحد (المجهول) بروح التقوى ومخافة الرب، فكانوا لا يميلون إلى عبادة التماثيل، ولا ينغمسون في الملذات والشهوات الجسدية، مثل هؤلاء فتح الروح القدس قلوبهم ليقبلوا الإيمان المسيحي.

 يقول: "وهو تقي خائف الله، مع جميع بيته"، فلا تظن أن ما حدث كان بسبب رتبته العظمى.
عندما أُجتذب شاول لم يظهر ملاك بل الرب نفسه، لم يرسله إلى شخصٍ عظيمٍ، بل إلى رجل عادي جدًا.
هنا على العكس جلب رسولًا عظيمًا لهؤلاء الأمم ولم يرسلهم إليه، لقد نزل إلى ضعفهم، فهو يعرف كيف يتعامل معهم.
في حالات كثيرة نجد المسيح نفسه مسرعًا إليهم بسبب أنهم أكثر ضعفًا. أو لأن كرنيليوس لم يكن قادرًا أن يترك بيته. هنا أيضًا نجد المديح العلوي للصدقات كما قُدم في حالة طابيثا.

"خائف الله مع جميع بيته". ليسمع هذا من كان منا مهملًا لأهل بيته، بينما كان هذا الرجل يعتني بجنوده أيضًا +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

كان كرنيليوس رجلًا متدينًا، لا يعبد الأصنام، ولا آلهة باطلة، ولا يسمح لنفسه أن ينغمس في الرجاسات التي اتسم بها العالم الوثني. كل ما يعرفه ويؤمن به هو وجود إله خالق السماء والأرض، إله واحد حقيقي حي، لكنه مجهول بالنسبة له. مع كونه صاحب سلطان كقائد مئة، لكنه يحمل مخافة وخشية لله المجهول اتسم بثلاث سمات هامة:

قاد بيته إلى الحياة التقوية التعبدية، لم يضم تحت سقفه أي عابد للأوثان، ولا من يسلك بالشر، بل كان جميع أهل بيته وكل العاملين في البيت يخشون الله.

 اتسم بالحنو العملي وتقديم الصدقات؛ غالبًا وهو روماني يعمل في الكتيبة الإيطالية في قيصرية كعاصمة الولاية مدنيًا، يقدم صدقاته للفقراء والمحتاجين من اليهود. مع كونه أمميًا كان يعطي بسخاء للمحتاجين من اليهود.

كان رجل عبادة وصلاة، يمارس الصلاة الدائمة في كل حين، يمزج العمل الصالح بحياة الصلاة.

ظن البعض أن كلمات القديس بطرس وأيضًا غيره من التلاميذ أنه كان أمميًا غريب الجنس، لم يختتن ولم يقبل الناموس (أع 11: 1-3؛ 10: 28). ربما أعجب بالديانة اليهودية من جهة الإيمان بالله الواحد، كما أُعجب بالمبادئ الأخلاقية والسلوكية وبالالتجاء إلى الله والصلاة إليه، لكنه لم ينضم إليهم كعضوٍ في الأمة اليهودية أو كأحد أفراد الشعب، ولا حُسب دخيلًا. يدعوه البعض شبه دخيل.

 "فرأى ظاهرًا في رؤيا نحو الساعة التاسعة من النهار،ملاكًا من اللَّه، داخلًا إليه، وقائلًا له: يا كرنيليوس".

 إذ كان اليهود يعتزون أنهم تسلموا الناموس بخدمة ملائكة، فهوذا رجل أممي تقي محب للصلاة يتمتع بخدمة الملائكة.
في الساعة التاسعة، أي الثالثة بعد الظهر، حيث كان ذلك موعد الصلاة عند اليهود ظهر ملاك مرسل من الله، لا في الهيكل وسط المتعبدين، بل لرجلٍ أمميٍ يتعبد مع أسرته في بيته، ظهر له لا في حلم بل علانية.
لعله تعلم من اليهود ممارسة الصلاة في ساعات معينة، إذ كانوا يصلون ثلاث مرات: الصباح الباكر، والتاسعة من النهار، والغروب.
قدم كرنيليوس صلاته فصعدت كبخورٍ طيبٍ، كتقدمةٍ أو تذكارٍ أمام الله، مع أنه كان أمميًا. لقد قبل الله صلواته وصدقاته ذبائح سرور أمام الله، وإن كان محتاجًا إلى التمتع بالدم الثمين الذي بدونه لا تحصل مغفرة.

 وضعت الكنيسة تدبيرًا للمؤمن أن يصلّي في ساعات معيّنة، حتى لا يهمل الصلوات، وإن كان هذا التدبير لا يمنع رفع الصلوات في كل حين، وانشغال الفكر باللَّه. في هذه الصلوات نتذكّر أعمال اللَّه الخلاصيّة، حتى لا يفارق الصليب فكرنا، ولا تُنزع صورة المخلّص عن قلوبنا.

 لتقم صلواتك في الساعة الثالثة (مر15: 25)، ففي ذلك الوقت أصدر بيلاطس الحكم على ربّنا ومخلّصنا بصلبه... ولتقم صلواتك أيضًا في الساعة السادسة، لأنّه وقت الصلب... أنّنا نلاحظ أيضًا الساعة التاسعة، ففي ذلك الوقت اِظلمّت الشمس وارتعدت الأرض، إذ لم تكن قادرة أن تتطلّع إلى مرارة القسوة ++ القوانين الرسولية

إذا كنت بالحقيقة في بيتك، فصلِّ في الساعة الثالثة وسبّح اللَّه، وإن كنت في موضع آخر وجاء ذلك الوقت فصلِّ في قلبك إلى الله. لأنه في تلك الساعة نُظر المسيح وهو يُسمرّ على الخشبة. ولأجل هذا ففي (العهد) القديم يأمر الناموس أن يُقدّم خبز التقدمة دائمًا في الساعة الثالثة (مثالًا لجسد المسيح ودمّه). وذُبح الحمل الصامت الذي هو مثال الحمل الكامل، لأن المسيح هو الراعي وهو أيضًا الخبز الذي نزل من السماء.

صلِّ أيضًا في الساعة السادسة، لأنّه في تلك الساعة عُلِّق المسيح على خشبة الصليب، وانشق ذلك اليوم، وحدثت ظلمة عظيمة. فليُصلَّ إذن في تلك الساعة صلاة قويّة، متشبّهين فيها بصوت من صلّى وصيَّر كل الخليقة مظلمة لليهود غير المؤمنين.

ليقيموا أيضًا صلاة عظيمة وتسبحة عظيمة في الساعة التاسعة، لتعرف أن نفوس الأبرار تبارك الرب الإله الحق، هذا الذي ذكر قدّيسيه، وأُرسل لهم ابنه الذي هو كلمته لينير عليهم. لأنّه في تلك الساعة طُعن المسيح في جنبه بالحربة، فخرج دم وماء، وأنار بقيّة ذلك اليوم إلى المساء. لذلك عندما بدأ ينام ابتدأ يوم آخر، فأعطى بذلك مثال القيامة ++ التقليد الرسولي لهيبوليتس

 لماذا رأى ملاكًا؟ هذا أيضًا كان من أجل التأكيد الكامل لبطرس، أو بالأحرى ليس (لكرنيليوس) بل للآخرين الضعفاء (الذين كانوا معه) ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ انتهى من اهتماماته وصار في سكون انشغل بالصلوات والندامة ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

مع أن كرنيليوس لم يتعلّم وصايا الإنجيل صلّى سرّيًا وبإخلاصٍ في حجرته، فوُجد أهلًا أن يسمع صوت الملاك يتحدّث. وماذا نقول عن يونان، الذي لم يكن حتى في حجرته، بل في فخ مِعْدّة الحوت، تأهّل جدًا أن تُسمع صلواته التي من أعماق البحر، ولم يلحقه أذى من معدة وحشٍ عظيمٍ هكذا، وبقي حيًا؟ ++ خروماتيوس أسقف أكويلا

تمت هذه الرؤيا في وقت الساعة التاسعة، أي في وضح النهار، فلا مجال أن يسقط كرنيليوس فريسة لأوهام أو تخيلات، فقد كان يقظًا متنبهًا.

هذا وقت تمت هذه الرؤيا وقت الصلاة في الهيكل، حيث كان الكهنة يشتهون أن يسمع الله صلواتهم ويقبل ذبائحهم وتقدماتهم عن الشعب، ولم يدركوا أن الله مهتم بأممي في قيصرية في بيته. وأن الله قد أرسل إليه ملاكه، يعلن له عن قبول صلواته وصدقاته ليرتل مع النبي: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك. ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية" (مز 141: 2).

 "فلما شخص إليه ودخله الخوف قال: ماذا يا سيد؟
فقال له: صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام اللَّه".

 إذ رأى كرنيليوس بهاء الملاك وطريقة ظهوره، أدرك أنه كائن أعظم من الإنسان وليس بأقل من ملاك، فدخله الخوف بسبب الظهور المفاجئ، ودعوته له بالاسم. أدرك أنه رسول سماوي، قادم خصيصًا لأجله، يحمل رسالة شخصية، لكن ما هي هذه الرسالة؟ لذا تساءل: "ماذا يا سيد؟"

حمل شوقًا صادقًا للتعرف على فكر الله، وكان مستعدًا أن يسمع ويستجيب لأي أمرٍ سماويٍ يصدر إليه، وذلك كما سبق فقال يشوع بن نون: "ماذا يقول سيدي لخادمه؟" وكما قال صموئيل النبي: "تكلم يا رب فإن عبدك سامع".

كشف له الملاك أن صلواته وصدقاته قد صعدت معا إلى حضرة الله. هكذا لا قيمة للصلاة بلا حب ورحمة، ولا قيمة لعمل الرحمة للبشر بلا حب لله مترجم خلال الصلاة. لقد انطلقت صلواته وأصوامه، لا إلى الشوارع لكي ينال مجدًا من الناس كما كان يشتهي الفريسيون، وإنما صعدت معًا خفية إلي عرش الله، لتُسجل في سفر التذكار الذي يًكتب في حضرة الله، ليضم فيه أسماء خائفي الرب.

"شخص إليه": إذ تمتع كرنيليوس بقلبٍ محبٍ لله والناس، أمكن حتى لعينيه أن تتركزا في رؤية كل ما هو سماوي، دون أن تسحبهما الأمور الأرضية الزمنية.

بينما كان اليهود يقدمون الذبيحة المسائية في تلك الساعة، ويأملون أن تكون صعيدة مقبولة إذا بالملاك المرسل من الله يعلن صدقات وصلوات هذا الأممي أنها صعيدة أمكنها أن ترتفع وتصعد حتى أمام العرش الإلهي. فإن الله يطلب صعائد لذبائح الحب والطاعة والتسبيح (إش 1: 11-15؛ عا 5: 21-22؛ 1 صم 15: 22؛ هو 6: 6؛ جا 5: 1).

قد يتساءل البعض: كيف صعدت صلوات وصدقات هذا الأممي؟ ألم يكن في حاجة إلى دم ابن الله الوحيد للمصالحة مع الآب؟ ليس من شهادة أن هذا الأممي قد اعتمد على أعماله البارة الذاتية، لكنه كان يقدم صلوات وصدقاته خلال مخافته لله. كان يشتهي أن يتعرف على إرادة الله ويود أن يتممها، لهذا إذ ظهر له الملاك لم يجادل في شيء بل في خضوعٍ كاملٍ تمم ما صدر إليه من أمر إلهي. كان مشتاقا إلى مخلص، لذا أصغى إلى الرسالة السماوية وقبل كرازة القديس بطرس له بخصوص الخلاص بسرور في غير جدالٍ.

لنتعلم عن السيد المحب المتحنن كيف لا يتجاهل أحدًا. وإنما إذ يرى نفسًا سامية يسكب نعمته عليها بسخاء. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

الصلاة فوق الكل يمكنها أن تحفظ باستمرار بهاء هذا الثوب الروحي. مع الصلاة يكون السخاء في العطاء الذي هو تاجنا في العمل الصالح ووسيلة خلاص نفوسنا. الصلاة مع العطاء يمكنهما أن يمدانا بخيرات علوية بلا عدد، وأن يطفئا نار الخطية في نفوسنا، ويهبانا حرية عظيمة. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 ليسمع ذلك المقيدون في الجيش، وليتعلموا أن الخدمة العسكرية لا تقف عائقًا ضد االفضيلة لمن يرغب أن يكون ساميًا. ليتعلموا أنه يمكن للإنسان أن يعطي اهتمامًا عظيمًا لفضيلته حتى وإن ارتدى حلة الجندية والمنطقة، وإن كان له زوجة ومهتمًا بأطفال، ومديرًا لبيت، حتى وإن كان ملتزمًا بعملٍ عامٍ. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

  لا تسمح لحب الغنى أن يلتهب فيكم أو يمتلككم، بل لتهلك هذه الشهوة المفرطة، وتتبدد بنار الروح. لتتمزق بسيف الروح. إنها ذبيحة رائعة لا تحتاج إلى كاهن، بل يقدمها من يمارسها. إنها ذبيحة رائعة تتم أسفل (على الأرض) لكنها للتو ترتفع إلى العلي... هكذا كانت تقدمات كرنيليوس، فقد قيل: "صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام الله". انظروا إنه أروع اتحاد . ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

لاحظوا كيف لم يتحدث الملاك فورًا بل رفع أولًا عقله وسما به. عند رؤية الملاك صار خوف، لكنه خوف معتدل، قدرما يخدم تركيز ذهنه. الخوف رفعه، والمديح خفف ما في الخوف مما هو غير مبهج . ++ القديس يوحنا الذهبي الفم
علمنا الرب نفسه أن الشياطين العنيفة جدًا لا يمكن أن تُغلب إلا بالصلاة والصوم. وُجد كرنيليوس أهلًا لنوال عطية الروح القدس خلال الصدقات والأصوام المستمرة قبل العماد ++ القديس جيروم

 "والآن أرسل إلى يافا رجالًا، واستدع سمعان الملقّب بطرس".

لقد أرسل الله ملاكًا لكرنيليوس ليقوده إلى الكنيسة ممثلة في أحد رسلها، لكنه لم يقدم له إنجيل الخلاص، ولا أعلن له عن الإيمان بيسوع المسيح، إنما طالبه باستدعاء الرسول بطرس الذي يقدم رسالة الإنجيل ويقوده إلى طريق الخلاص. فالكرازة بالإنجيل هو عمل خدام الكلمة وليس الملائكة. إنها نعمة فائقة مقدمة لرجال الله تكشف عن غنى المسيح الفائق (أف 3: 8). حقا أن الملائكة هم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 2: 5)، يبعثون من الله إلى المعلمين أو الآباء كما إلى المحتاجين إلي التمتع بكلمة الخلاص.. غايتهم أن يلتقي الكل بالمسيح يسوع في كنيسته المقدسة.

  "أنه نازل عند سمعان رجل دباغ، بيته عند البحر، هو يقول لك ماذا ينبغي أن تفعل".

"بيته عند البحر" أي عند الشاطئ حيث كان سمعان دباغًا، والدباغة تحتاج إلى ماء كثير، خاصة وأن ماء البحر مفضل في عمليات الدباغة. ولعل ما كان يهم الإنجيلي لوقا هو أن هذا البيت لا تجاوره بيوت أخرى، إذ كان اليهود يحسبون عمل الدباغة دنسًا.

 ألا تلاحظون كيف أحب الرسل الخلوة والسكون فاختاروا الأماكن البعيدة للمدن؟ ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 "فلما انطلق الملاك الذي كان يكلم كرنيليوس، نادى اثنين من خدامه وعسكريًا تقيًّا من الذين كانوا يلازمونه".

  في طاعة وبسرعة في غير تردد أرسل كرنيليوس اثنين من خدامه وجنديًا ليستدعى القديس بطرس. لو أن كرنيليوس وحده كان مشتاقا أن يحقق إرادة الله ويتمتع بالخلاص لذهب بنفسه إلى القديس بطرس، لكن كان كل أهل بيته وربما بعض جنوده وأصدقائه أيضًا مهتمين بخلاصهم، لذا أرسل يستدعي القديس.

 "وأخبرهم بكل شيء، وأرسلهم إلى يافا".
 عاشت الكنيسة في مجدٍ عجيبٍ يقدمه لها الروح القدس قائد الكنيسة والمعزي لها. لذا نرى في حركة الكنيسة ظهور ملائكة، وأحلام مقدسة، ورؤى إلهية، بل وأحيانًا يحمل الروح الخدام وينطلق بهم إلى مواضع للكرازة.

حقًا إنه لأمر عجيب أن يرى قائد أممي ملاكًا يصدر له أمرًا باستدعاء رجل يهودي لم يتعرف عليه قبلًا، وربما لم يسمع عنه، فيرسل بعثة، ويحدد لها موقع البيت واسم الشخص، وكأن الأمر قد صدر إليه من أعلى درجات القيادة لجيش السماء. تحرك القائد في طاعة كاملة بغير أدنى تشكك، ليصير بحق بكر كنيسة الغرلة، يتقبل الروح القدس بطريقة فريدة، ليفتح أمام إخوته أهل الغرلة مخازن الروح القدس ونعمه الفائقة.

 لاحظوا شخصية هذا الرجل المتواضعة، فإنه لم يقل لهم: استمعوا إليّ، بل أخبرهم بكل الأمر - ما أفعله إنما أُمرت به من قبل العناية الإلهية. فإنه لم يرد أن يستخدم سلطانه لإحضار بطرس إليه، لهذا "أخبرهم بكل شيء" ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 نقف بكل تقديرٍ واعتزازٍ أمام هذا القائد الذي يرى في السلطة حبا واتساع قلب، فإنه لم يصدر أوامره ويلتزم خدامه وجنوده بالطاعة العمياء، وإنما اخبرهم بكل شيء كأب محب يعلن أسراره لأولاده المحبوبين لديه، حتى يشاركونه البركات الإلهية. صورة رائعة لمفهوم القيادة والسلطة كثيرًا ما لا نجدها حتى في حياة الوالدين أو المرشدين أو الكهنة!

أرسلهم إلى يافا، حيث ينطلق القديس بطرس من هناك إلى قيصرية يجتذب بكر المؤمنين من بين الأمم. وهي نفس البقعة التي منها انطلق يونان النبي ليكرز لأهل نينوى، الشعب الأممي، ليقدموا توبة ويتمتعوا بالمراحم الإلهية.

مجموعة مختارة من اقوال الاباء جزء رقم 10



مجموعة مختارة من اقوال الاباء جزء رقم 10


 الله ليس رحيمًا فحسب وإنما هو غني في الرحمة، وكما قيل في موضع آخر: "ككثرة رحمتك التفت إليّ" (مز ٦٩: ١٦)، وأيضًا: "ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، ومثل كثرة رأفتك امح أثمي" (مز ٥١: ١) ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 أن ما يقتنيه الإنسان هنا يبقى معه إلى الأبد في صورة أتم وأكمل. فمن يزرع فسادًا يرتمي حيث يوجد رئيس الفساد، ومن يجاهد في البرّ يجد نصيبه في الرب برّنا، إذ يجد عندئذ لذة فيه. فما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد. وقد اقترب وقت الحصاد، إذ ينادي الرب قائلًا: "ها أنا آتي سريعًا، وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله" ++ القديس مقاريوس الكبير

عانى السمائيون من الأرضيين، ولم يعد لهم رأس واحد. إلي ذلك الوقت كان نظام الخلقة هو أن إلهًا واحدًا فوق الجميع هو للكل، لكن انتهى نظام "البيت الواحد" حيث انتشر خطأ الأمم وسقطوا في العصيان... الآن أقام رأسًا واحدًا بعينه على الكل، أي المسيح حسب الجسد، فوق الملائكة والبشر. بمعنى آخر جعل للملائكة والبشر مملكة واحدة... جمع الكل تحت رأس واحد بعينه مقيمًا رباط الوحدة من فوق ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 إلهي... أنت نوري، أفتح عيناي فتعاينا بهاءك الإلهي لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو!++ القديس اغسطينوس

 أثناء النهار يقدر الكثيرون منا أن يسكنوا غضبهم، ويتغلبوا عليه، أما في الليل، فالمرء عند إنفراده، يرخي العنان لأفكاره، إذ يشتد هياج الأمواج وتثور الزوبعة بعنف عظيم، فلكي تتلافى، لذلك يطلب منا بولس الرسول أن نستقبل الليل متسالمين لكي لا يغتنم الشيطان فرصة إنفرادنا فيشعل فينا نار الغضب ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

حيث تكون التسبحة التي نترنم بها جديدة (رؤ ١٤: ٣) ويُنزع الإنسان العتيق نسير في جدة الروح لا عتق الحرف. بهذا تتحول حياتنا إلى أغنية جديدة نترنم بها أو تسبحة عملية يعزفها روح الله على أوتار حياتنا الداخلية وتصرفاتنا الظاهرة مهيئًا إيانا للحياة الأخروية حيث التسبحة جديدة غير المنقطعة.++ القديس جيروم

من يقطن في الحب يقطن في الله، لأن الله محبة (١يو ٤: ١٦) ... لقد دُعيت ابنًا، فإن رفضت الامتثال به لماذا تطلب ميراثه؟ ++ القديس اغسطينوس

 تكلم بما يبني أخاك، ولا تزد كلمة واحدة على ذلك. فإن الله وهبك فمًا ولسانًا لهذا الهدف أن تشكره وتبني أخاك. فإن كنت تحطم هذا البناء، فخير لك أن تصمت ولا تتكلم قط... يقول المرتل: "يقطع الرب جميع الشفاه الملقة" (مز ١٢: ٣). ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

ليس أحد يقترب نحو الخطر ويبقى في أمان لمدة طويلة، ولا يقدر خادم الله أن يهرب من إبليس إن أعاق نفسه بشباك إبليس ++ الشهيد كبريانوس

بإرادتك الشريرة تعطه مكانًا، فيدخل ويملك ويستغلك، إنه لا يمتلكك ما لم تعطه مكانًا +++ القديس اغسطينوس

يحوي القلب العيون التي تنظر الله... إنها تستنير الآن بالإيمان، الأمر الذي يناسب ضعفها، أما فيما بعد فتستنير برؤية الله إذ تكون قوية. "فإذًا... ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب، لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان" (١ كو ٥: ٦، ٧) ++ القديس اغسطينوس  

هذه العطية الإلهية إنها غنى، وهي جزيلة، انسكبت علينا بقياس فائق الوصف، لا يمكن للكلمات أن تعبر عن البركات التي اختبرناها فعلًا، فهي حقًا غنى، وغنى جزيل. +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

التأثير على الإرادة أصعب من التأثير على الطبيعة ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

الإنسان الروحاني في الكنيسة هو السماء... الكنيسة هي السماء... والسماء هي الكنيسة. ++ القديس اغسطينوس

أن الله يمسح كل دمعة سكبتها العيون قبلًا، إذ ما كان لها أن تجف ما لم تمسحها الرأفات الإلهية. طوبى لأصحاب العيون الباكية، لأن الله بنفسه يمسحها ويطيِّبها! ++ العلامة ترتليان