الحاجة إلى تفتيح الأعين +++ القمص تادرس يعقوب



تامل من إنجيل مرقس اصحاح 10 +++ القمص تادرس يعقوب
الحاجة إلى تفتيح الأعين

إذ كان السيد خارجًا إلى أريحا، منطلقًا إلى أورشليم ليدخل إلى الآلام ويحمل الصليب عنا التقى بأعميين، ذكر القديس مرقس احدهما بالاسم "بارتيماوس بن تيماوس". كان هذا الأعمى "جالسًا على الطريق يستعطى. فلما سمع أنه يسوع الناصري، ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود ارحمني. فانتهره كثيرون ليسكت، فصرخ أكثر كثيرًا: يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وأمر أن يُنادي، فنادوا الأعمى قائلين له: ثق، قم، هوذا يناديك. فطرح رداءه وقام، وجاء إلى يسوع. فأجاب يسوع وقال له: ماذا تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب، إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر، وتبع يسوع في الطريق"

لهذا العمل الإلهي أهميته الخاصة، فمن جهة أنه تم في الطريق حيث كان السيد مسرعًا نحو الصليب، وكأنه أراد أن يعلن غاية آلامه تفتيح عيني البشرية الداخليتين، أي بصيرتها القلبية، لتعاين أمجاد ملكوته القائم على صلبه وقيامته. ومن جانب آخر جاء هذا العمل يعلنه الإنجيلي بعد رفض الشاب الغني التبعية للمسيح وانشغال التلاميذ بالمراكز الأولى والتمتع بالكرامات الزمنية. وكأن طريقه الصعب يحتاج إلى عمله الإلهي ليهب النفس استنارة داخلية، فتتعرف على ملامح الطريق وتسلك فيه. وقد قدم لنا الإنجيلي تفاصيل تفتيح عيني هذا الأعمى لما حمله هذا العمل من مفاهيم روحية عميقة:

أولًا: تم تفتيح العينين عند أريحا على الطريق... ويرى القديس جيروم أن اسم المدينة ملائم للموقف، فإن معناه "قمر" أو "أناثيما"، أي "محروم"، حيث كان السيد منطلقًا إلى أورشليم ليحتمل الآلام والحرمان بالجسد لأجل خلاصنا.

كان الأعمى جالسًا على الطريق يستعطى. فإن كان طريق العالم سهلًا وطريق الرب صعبًا، لكن الأول يفقد النفس بصيرتها وحيويتها فيجعلها كمن في الطريق خاملة بلا عمل، تجلس في خيبة أمل تستعطي الآخرين.

ثانيًا: كانت صرخات الأعمى: "يا يسوع ابن داود" تعلن إيمانه به أنه المسيا المنتظر، الموعود به. إنه ابن داود الذي تترقبه الأجيال. يقول القديس كيرلس الكبير: إذ تربى في اليهودية، وكان بحسب الميلاد من هذا الجنس لم تهرب من معرفته النبوات الواردة في الناموس والأنبياء بخصوص المسيح. لقد سمعهم يسبحون هذه العبارة من المزامير: "أقسم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه، من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11). لقد عرف أيضًا أن الطوباوي إشعياء النبي قال: "ويخرج قضيب من جزع يسى وينبت (يزهر) غصن من أصوله" (إش 11: 1)، وأيضًا قال: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا، وتدعو اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (إش 7: 14؛ مت 1: 23). فإنه إذ آمن أن الكلمة بكونه الله تنازل بإرادته ليولد حسب الجسد من عذراء مقدسة، اقترب منه كما من الله، وقال له: "ارحمني يا ابن داود"... لقد شهد أيضًا لمجده بسؤاله عملًا لا يقوم به غير الله وحده .

ثالثًا: كانت الجموع تحيط بالسيد وتزحمه جسديًا، وعندما أراد الأعمى أن يلتقي به إيمانيًا لم يجد من الجموع إلا المقاومة، إذ قيل: "فانتهره كثيرون ليسكت"، وأمام هذه المقاومة: "صرخ أكثر فأكثر"، من واعز إيمانه الذي لا يُغلب.

حتى في داخل الكنيسة حينما يود إنسان أن يلتقي بالسيد خلال الروح قد يجد مقاومة وروح النقد تثبط الهمم، لكن النفس التي تتمسك بالإيمان الحيّ تشعر باحتياجها للمخلص، فتزيدها المقاومة صلابة، ويزداد صراخها الداخلي أكثر فأكثر، فيكرمها السيد المسيح بدعوتها أن تقترب منه وتتمتع بحضرته كما بعمله الداخلي فيها. يقول القديس كيرلس الكبير:لتفهموا من هذا يا أحبائي أن الإيمان يدخل بنا إلى حضرة المسيح، ويقدمنا إلى الله (الآب) فنُحسب مستحقين لكلماته.

رابعًا: إذ أمر السيد أن يُنادي، تحولت القوى المقاومة إلى قوة عاملة، إذ نادوه قائلين: ثق، قم، هوذا يناديك.

إن كانت هذه الجموع تشير أيضًا إلى الجسد الذي كثيرًا ما يقاوم النفس حين تود الالتقاء مع مخلصها ببث روح الخمول والتراخي، لكن النفس المثابرة تستعطف المخلص فيحول الجسد إلى آلات برّ تعين النفس في لقائها مع الرب. لهذا يقول القديس يوحنا سابا: يتنعم الجسد والنفس معًا في الرب بالمحبة والفرح.

خامسًا: طرح الأعمى رداءه وقام وجاء إلى يسوع. إنه تدريب يومي تقوي، فيه يطرح المؤمن أعمال الإنسان القديم كرداء، ويتمتع بالقيامة مع السيد ليكون دومًا معه وفي حضرته.

سادسًا: سأله السيد: ماذا تريد أن أفعل بك؟ ليس من عدم معرفة، إنما ليعلن إيمانه أمام الجميع، وليؤكد أنه يعطي من يسألونه.

سابعًا: تمتع بالبصيرة فتبع يسوع في الطريق، وكما يقول القديس جيروم:أنتم أيضًا تستردون بصيرتكم أن صرختم إليه وطرحتم رداءكم القذر عنكم عند دعوته لكم... دعوة يلمس جراحكم ويمر بيديه على أعينكم، فإن كنتم قد وُلدتم عميان من البطن، وإن كانت أمهاتكم قد حبلت بكم بالخطية فهو يغسلكم بالزوفا فتطهرون، يغسلكم فتصيرون أبيض من الثلج (مز 51: 5، 7).

مجموعة اقوال مختارة للاباء القديسين 5



مجموعة اقوال مختارة للاباء القديسين 5

من له النور يسهر "والظلمة لا تدركه" (يو5:1)، ولا ينام، حيث لا توجد ظلمة.من يستنير يكون يقظًا من جهة الله، هكذا يعيش. ++ القديس اكليمنضس السكندري

الجهل يصحبه على الدوام الاندفاع، ويقود الناس إلى أن يصبغ على خيالاته الشريرة أهمية عظمى. هكذا فإن ضحايا هذا المرض يظنون في أنفسهم شيئًا عظيمًا، ويحسبون أنهم أصحاب معرفة لا يقدر أحد أن يبلغ إليها. يبدو أنهم ينسون ما يقوله سليمان: "لا تكن حكيمًا في عيني نفسك" (أم 3: 7)، أي حسب حكمك المنفرد ++ القديس كيرلس السكندري
هل تؤمن أن الله يعول خليقته وقادر أن يفعل كل شيء؟ اسمح للأعمال المناسبة أن تتبع إيمانك، وعندئذ يسمع لك. لا تفكر في القبض على الرياح بقبضة يديك، أي بالإيمان بدون الأعمال ++ القديس مار افرام السرياني

يقول سليمان: لا تعطني فقرًا ولا غنى، اعطني فقط ما هو ضروري وما فيه الكفاية، لئلا إذا شبعت أكفر. وأقول: من يراني؟ أو بكوني فقيرًا أسرق وأنكر اسم إلهي، هكذا الغنى يمثل التخمة، والفقر يمثل الحرمان الكامل من ضروريات الحياة، والاكتفاء هو حالة تحرر من العوز وبدون فيض زائد. الاكتفاء يختلف حسب الحالة الجسدية والاحتياجات الحاضرة... فكل حالة تحتاج إلى رعاية خاصة لإيجاد مائدة صالحة دون تعدٍ لحدود الاحتياجات الحقيقية ++ القديس باسيليوس الكبير

عندما يطرأ بذهنك أنك معجب بنفسك لأنك متواضع تذكر سيدك. تذكر إلي أية درجة وضع نفسه، حينئذ لن تُعجب بنفسك ولن تمدحها قط ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

لأحتمي من الجاهل صرت أبكمًا لم أفتح فمي، لأنه لمن أُخبر عما يجري في داخلي؟ فإنني أنصتُّ إلى قول الله الرب لي في داخلي، "فإنه يتحدث بالسلام مع شعبه" (مز 85: 8).+++ القديس اغسطينوس


لقد أبغضت التأديب. عندما أصفح تُرتل وتُسبح، وعندما أؤدب تتذمر. عندما أعفو أكون إلهك، وعندما أؤدب لا أكون إلهك. "إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه" (رؤ 3: 19). ++ القديس اغسطينوس

جعلت نفسي مستعدًا لاحتمال التجارب التي قد تفاجئني بغتة، وتمنعني عن حفظ وصاياك. ++ أنثيموس أسقف أورشليم

لا يصنع الله اعوجاجًا يسبب دمارًا، إنما يظهر من هم في اعوجاج. مكتوب: "أما العادلون إلى طرق معوجة، فيُذهبهم الرب مع فعلة الإثم" (مز 125: 5). ليس الله هو الذي يقودهم بغير إرادتهم مع الذين هم فعلة الإثم، إنما يُظهر أولئك الذين انحرفوا عن الطريق بعد أخذهم قرارًا سلوكيًا لأناس كهؤلاء +++ القديس ديديموس الضرير
ماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه!" (متى16: 26).
وإن خسرت نفسك، ماذا تعطي عوضًا عن نفسك؟! وكل أولئك الذين ماتوا وتركوا هذا العالم، بماذا نفعتهم مشغولياتهم؟! ولما تركوا هذه المشغوليات بموتهم، هل ارتبك العالم؟ كلا، طبعًا. هذا العالم قال عنه الحكيم:
"الكل باطل وقبض الريح. ولا منفعة تحت الشمس" (جا2: 11).
البابا شنودة الثالث


قال سمعان العمودى: "الاتضاع هو مسكن الروح وموضع راحته. والمتواضع لا يسقط أبدًا. إذ كيف يسقط, وضميره وفكره تحت جميع الناس..؟! سقوط عظيم هو الكبرياء. وعلو عظيم هو الاتضاع. فلنعوّد نفوسنا من الآن أن نتمسك بالإتضاع ونجعله لنا عادة, حتى إن كان قلبنا لا يشاء. 
++ البابا شنودة الثالث


قال مارأوغريس: إن الشياطين تخاف من المتواضع لأنهم يعرفون أنه قد صار مسكنًا للرب"، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وقال أيضًا "كما أن كثرة الأثمار تضع أغصان الأشجار, كذلك كثرة الفضائل تضع قلب الإنسان". 
++ البابا شنودة الثالث

سئل شيخ: "كيف أنه يوجد أناس يقولون إننا نرى ملائكة؟" فأجاب: طوباه الذي يرى خطاياه كل حين.
قال أنبا بيمن: "كما أن الأرض لا تسقط لأنها كائنة إلى أسفل, هكذا من يضع نفسه لا يسقط". 
++ البابا شنودة الثالث

قال شيخ: الإتضاع خلّص كثيرين بلا تعب. وتعب الإنسان بدون اتضاع يذهب باطلًا. لأن كثيرين تعبوا فاستكبروا وهلكوا.
وقال آخر: إن نزل الاتضاع إلى الجحيم, فإنه يصعد حتى إلى السماء. وإن صعدت العظمة إلى السماء, فإنها تنزل إلى الجحيم.
وفي إحدى المرات قال أخ للقديس تيموثاوس "إنى أرى فكرى مع الله دائمًا". فأجابه: الأفضل من ذلك أن ترى نفسك تحت كل الخليقة.


قال أحد القديسين: تشبه بالعشار لئلا تُدان مع الفريسى.
وقال قديس آخر: إنى أفضل أن أكون مهزومًا باتضاع, على أن أكون منتصرًا بافتخار. 
++ البابا شنودة الثالث

قال مار اسحق: الذي يعرف خطاياه, خير له من نفعهالخليقة كلها بمنظره. والذي يتنهد كل يوم على نفسه بسبب خطاياه, خير من أن يقيم الموتى.. والذي استحق أن يبصر خطاياه, خير له من أن يبصر ملائكة.

قال الأنبا موسى: تواضع القلب يتقدم الفضائل كلها. كما أن الكبرياء أساس الشرور كلها.
قد قدّم القديسون مثالًا آخر عن التواضع والكبرياء, فقالوا:
إن غصن الشجرة المحمل بالثمار, يكون منحنيًا من ثقل ما يحمل. أما الغصن الفارغ فيكون مرتفعًا! 
++ البابا شنودة الثالث

وهناك تشبيه آخر وهو الأساس والبناء: فالأساس يعمل في اختفاء, وهو غير ظاهر, تحت الأرض لا يراه أحد. ولكنه يحمل البناء كله في إنكار ذات.. وفي نفس الوقت يقدّم البناء في كرامة. فيمدح الناس البناء لأنه ظاهر أمامهم. ويندر أن يفكر أحد في مدح الأساس المخفى. ++ البابا شنودة الثالث

قال القديس أغسطينوس: المتواضعون كالصخرة, تنزل إلى أسفل, ولكنها ثابتة وراسخة.. أما المتكبرون فإنهم كالدخان يعلو إلى فوق ويتسع. وفيما هو يعلو ويتسع, يضمحل ويتبدد.

لما سئل القديس مقاريوس "أى الفضائل أعظم؟" أجاب "كما أن التكبر أسقط ملاكًا من علوه وأسقط الإنسان الأول, كذلك الإتضاع يرفع صاحبه من الأعماق". أليس هو المقيم المسكين من التراب ليجلس رؤساء شعبه" (مز 113) "أنزل الأعزاء عن الكراسى, ورفع المتضعين" (لو 1: 52). ++ البابا شنودة الثالث

من تفسير امثال سفر سليمان 30 ++ الاباء القديسين



من تفسير امثال سفر سليمان 30
لِلْعَلُوقَةِ ابْنَتَانِ: "هَاتِ هَاتِ!" ثَلاَثَةٌ لاَ تَشْبَعُ.أَرْبَعَةٌ لاَ تَقُولُ: "كَفَا"
من يستطيع أن يخفي عن نفسه ما يعنيه هذا اللغز؟ "للعلوقة ثلاث بنات، عزيزات محبوبات، لكنها لا تشبع، وبالرابعة لا تشبع عندما تقولون أنتم: كفا: القبر، ومحبة المرأة، وأرض لا تشبع ماءً، والنار لا تقول كفا". العلوقة هي الشيطان، وبنات الشيطان أعزاء محبوبات، وهن لا يشبعن بدماء القتلى: القبر وحب المرأة والأرض الجافة والحرق بالحرارة". إنه لا يتحدث عن زانٍٍ أو زانية، وإنما عن محبة امرأة تُنهم بصفة عامة أنها نهمة. انزعها خارجًا، فإنها تتفجر في لهيب نار، بفيض، فإنها لا تشبع، إنها تجعل ذهن الرجل واهنًا، وتستحوز على كل الفكر لكي ما يغذي الشهوة ++ القديس جيروم

تصير نفس الإنسان إلى الباطل إن انشغل بأمور العالم وركز على احتياجات الجسد. ففي كل يوم نستيقظ لنأكل ونشرب، ومع هذا لا يشبع أحد حتى لا يجوع أو لا يعطش. إننا بعد برهة وجيزة نسعى يومًيا وراء الربح ويصيبنا الشره بلا حدود، "لا تشبع العين من النظر ولا الأذن من السمع"! من يحب الفضة لا يشبع بالفضة... ليس من حدود للكد، ولا منفعة من الكثرة... كل الموجودات قائمة أصلًا وليس من جديد تحت الشمس، لكن الكل باطل ++ القديس أمبروسيوس

"للعلوقة ثلاث بنات عزيزات محبوبات". بناتها يقدمن إلى الخطية، بنات الزنا والقتل وعبادة الأوثان هؤلاء الثلاثة لا يشبعن إياها، إذ هي لا تشبع. بتحطيم الإنسان بهذه الأعمال، لا تتغير الخطية بل تنمو باستمرار. أما الرابعة فلن تقتنع لتقول كفا، أي أنها شهوة جامحة... كما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة، هكذا الخطية، فهي واحدة، وتحوى في داخلها شهوات متعددة بواسطتها تلقي شباكها للبشر ++ القديس هيبولتيس

كلمة منفعه من القديس مقاريوس الكبير


من اقوال القديس مقاريوس الكبير

يا أولادي، كل مَنْ يسمع التأديب ولا يقبله ولا يعمل به، فهو خاسر نفسه، ويُصبح معذَّب النفس دائمًا، لا يهدأ له سرٌّ أبدًا، ويصير غضوبًا حزينًا كئيبًا مهمومًا مغمومًا كثير الأفكار، تُطالبه نفسه بعمل الشر وبالكلام الرديء، لأنّ الأدب هو مثل طريق الملك التي عليها الحرّاس يحرسونها نهارًا وليلًا، فكل مَنْ يسلكها بالنهار أو بالليل يكون آمنًا على نفسه! أمّا الجهالة وقلة السمع والإعجاب بالنفس فهي طريقٌ وعرة غير مسلوكة، وكل مَنْ مشى فيها ضلّ وتعب وربما هلك، لأنّ موطن اللصوص هناك! وكل مَنْ مشى في الطريق المسلوكة واتفق أن عثر في أمرٍ أو عارضٍ كان عُذره مبسوطًا وعلاجه حاضرًا، أمّا مَنْ ترك عنه طريق الملك واختار أن يسير في الطريق الوعرة، فلا عُذر له ولا علاج.


 لا ترتبط بصداقةٍ مع أي إنسانٍ إلاّ مع إخوتك الفقراء، لا تُسرع نحو أي إنسان لكي يعمل لك خيرًا، بل أسرع إلى الله وحده واهتم بخدمته، إنه هو الذي يضمّك في أحشاء أبوّته. أما أنت فاحترس من الدالَّة مع الناس ولا تكن دالَّتك كلها إلاّ بينك وبين الله. لا تُسرع نحو أي إنسانٍ لكي تستمتع بالراحة في دالَّتك معه، لا تكن لك دالَّة على مسكنه، ولا تمكث عنده دون أن تتلقّى أمرًا بذلك حتى لا تكون ثقيلًا عليه. يا أخي، إذا أردتَ أن تكون في راحةٍ كل حياتك، وأن تكون أفكارك متحدةً بالله كل ساعةٍ، اِحترس من الدالَّة مع الناس. إذا أتى إليك أخوك حسب الجسد ولم تُرد أنت أن تصدّه، فخذه وسلِّمه ليديّ أخٍ آخر حيث يجد في قلوب الإخوة راحةً له لأنها قلوبٌ مخلصة، أما أنت فامكث في مسكنك حتى لا تفقد كنوز غناك.

كلمة منفعة من القديس الانبا انطونيوس الكبير



من اقوال القديس الانبا انطونيوس الكبير

يا ابني... فكِّر في أعمال الله ولا تكسل، لأن صلاة الكسلان كلام باطل. اجتهد أن تبتعد من الناس عادمي الرأي. إذا صنعتَ أعمالًا فاضلة، فلا تفتخر وتقول إني صنعتُها. لأنك إن ظننتَ أنك صنعتَها فلستَ بحكيمٍ. عار عليك أن تأمر غيرك بأوامر لم تصنعها في ذاتك، لأنك لا تنتفع بعمل غيرك. الرجل الحكيم يعرف طريق سلوكه، فلا يبادر بالكلام، بل يتأمل ما يقول وما يصنع.


تجرَّد من الشرّ وارتدِ البساطة، اِخلع عنك العين الشريرة والبس البساطة والقلب الرحيم. لا تُبغض أي إنسان، لا تمشِِ إطلاقًا مع ذي السيرة الرديئة، بل مع مَنْ له سيرة أكمل منك ومع الذي يكمِّل تدبيره. لا تخشَ مذمّة الناس، اِبغض كل شيء فيه ضرر لنفسك، لا تترك إرادة الله لتعمل مشيئة الناس لكي يكون الله معك.

من اقوال القديس باسيليوس الكبير عن الفقير



من اقوال القديس باسيليوس الكبير

افترض أنك شخص وضيع المولد وغير مرموق، فقير، من طبقة وضيعة، بلا بيت ولا مدينة، مريض، محتاج إلى القوت اليومي، ترهب أصحاب السلطة، ترتعد أمام كل أحدٍ بسبب ظروفك، يقول الكتاب المقدس: "أما الفقير فلا يسمع انتهارًا" (أم 13: 8). نعم، لا تيأس ولا تفقد كل رجاءٍ صالحٍ، لأن حالك الحاضر لا تُحسد عليه مطلقًا. بالحري حوِّل أفكارك إلى البركات التي نلتها بالفعل من الله، والبركات المحفوظة لك بالوعد الخاص بالمستقبل

احترس من ثياب الحملان +++ البابا شنودة الثالث




تامل من كتاب حياة التوبة والنقاوة +++ البابا شنودة الثالث
احترس من ثياب الحملان

الخطية لا تحب أن تكشف ذاتها، إنما أحيانا تتنكر.

هي لا تكشف ذاتها إلا للمستهترين الذين يحبونها. أما بالنسبة إلى أولاده الله، فإنها دائما تتنكر، حتى لا يتنبهوا لها ويبعدوا عنها. ولا مانع مطلقا من أن تتنكر في زى فضيلة، أو وراء أي اسم لطيف غير مكشوف. ويمكن أن ينطبق على أمثال هذه الخطايا قول الرب:

يأتونكم بثياب الحملان. ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة (مت 7: 15).

المضللون من المعلمين الكذبة يفعلون هكذا. والخطايا التي تضلل الإنسان وتستغل بساطته تفعل هكذا أيضًا. والشيطان نفسه يأتي بثياب الحملان. وكما يقول الرسول:

الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور.

وخدامه أيضًا يغيرون شكلهم إلى شبه خدام للبر (2كو 10: 14، 15). بحدث هذا لكي تتم الخديعة، فتتم السقطة. ولهذا يحتاج أولاد الله دائما إلى حكمة وإفراز، لكي يميزوا بين طريق الرب وطريق الشيطان، ويميزوا إرادة الله من الإرادات الخاطئة.

فكثيرا ما يسلك البعض في طريق خاطئ نتيجة للجهل وعدم المعرفة، ونتيجة لخديعة الشياطين لهم. لذلك فالأب الكاهن في القداس الإلهي يطلب من الله المغفرة والصفح قائلا "عن خطاياي وجهالات شعبك".

ولماذا نسميها جهالات؟ لأن الكتاب يقول:

توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت.

ذكرت هذه الآية في سفر الأمثال (أم 14: 12). وتكررت لأهميتها مرة أخرى في نفس السفر بنفس النص (أم 16 : 25).. مادام هكذا، ويمكن للإنسان أن يخدع، وكما قال الرب "هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو 4: 6).

على فهمك لا تعتمد (أم 3: 5).

وهكذا نرد داود النبي يصرخ كثيرا في مزاميره ويقول "علمني يا رب طرقك فهمني سبلك" (مز 119). فإن كان النبي العظيم -الذي حل عليه روح الرب- يقول هكذا، فماذا نقول نحن؟

ليس جميع الناس حكماء، وليس الحكماء حكماء في كل شيء "الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام" (جا 2: 14). ونحن لا ندعى الحكمة. فماذا نفعل إذن؟

علينا بالمشورة، حتى لا تخدعنا ثياب الحملان.

والكتاب يقول في ذلك "طريق الجاهل مستقيم في عينيه. أما سامع المشورة فهو حكيم" (أم 12: 15). وليس كل شخص نسمع منه المشورة. فقد كانت مشورة بلعام ضلالة (يه 11). وكانت مشورة أخيتوفل ليست حسب مشيئة الله. لذلك نستطيع أن نقول إنه ليست كل مشورة هي من الله، فقد قال الوحي الإلهي: "يا شعبي، مرشدوك مضلون" (أش 3: 12).

فما أكثر الذين هلكوا نتيجة الإرشاد الخاطئ. ولبس هذا الإرشاد المضلل ثياب الحملان، وهلك به أصحابه، كما يقول الكتاب "أعمى يقود أعمى، كلاهما يسقطان في حفرة" (متى 15: 14). وقد رأينا كيف ضاع رحبعام نتيجة سماعه للمشورة الخاطئة (1مل 12: 10). وقد وبخ الرب الكتبة والفريسيين على إرشادهم الخاطئ، وقال إنهم "قادة عميان" (متى 23: 16، 13).

هؤلاء طبعا غير المرشدين القديسين (عب 13).

الذين يقول عنهم الكتاب "أذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله انظروا إلى نهاية سيرتهم وتمثلوا بإيمانهم" (عب 13: 17). لذلك نحتاج لإفراز شديد لنميز بين الإرشاد السليم والإرشاد الخاطئ، بين روح الحكمة وروح الضلال. كما قال الرسول "امتحنوا الأرواح هل هي من الله" (1يو 4: 1).

و الذي يتمسك بروح الله فيه، سيرشده الروح. فأشعياء النبي يقول عن روح الرب إنه "روح الحكمة والفهم، روح المشورة" (أش 11: 2). فلنصل إذن أن ينقذنا الرب من كل خداع الشياطين، ومن الخطايا التي تتنكر في زى فضائل لتضلنا.

على أنه إن سقط أحد في خداع الشياطين هذا، فإن الاتضاع يرفعه من سقطته. لأنه حالما ينكشف له الأمر، أو ينهيه صديق مخلص أو مرشد حكيم، يعترف حينئذ بخطئه، ولا يعود إلى ذلك الخطأ مرة أخرى. ويكتسب بذلك معرفة وتوبة. أما المتعجرف بمعرفته أو بسلوكه، فإن توبته صعبة..

وذلك لأن الإنسان البار في عيني نفسه، يدافع عن خطيئته، ويسميها بغير اسمها حتى لا يخجل!

لأنه إن اعترف بأن هذه خطية، يعترف بالتالي انه مذنب. وكبرياؤه تمنع هذا! إذن لا مانع من أن يلبسها ثياب الحملان، ويسميها باسم آخر مقبول، غير محرج له، حتى لا ينكشف أمام الناس، وحتى يخدع نفسه فلا ينكشف أيضًا أمام نفسه، إن أمكن..

و الذين يغطون خطاياهم بثياب الحملان، لا يتوبون.

إذ كيف يتوبون عنها ويتركونها، وهم لا يحسبونها خطية، ولا يعترفون أنها خطية؟! بل قد يسمونها باسم فضيلة! وبهذه التسمية يدافعون عن سلوكهم، وبالتالي يستمرون فيه.
وقد يصبح عادة لهم أو طبعا لهم أو منهجا ثابتا في حياتهم لا يغيرونه، لأنهم يسمون الخطية بغير اسمها الحقيقي، ويغطون عليها فلا تظهر!

وبهذه التسمية وهذه التغطية، تهتز المبادئ والقيم عندهم.

تامل من مزمور 119 .. صرخات قلبية ++ القمص تادرس يعقوب



تامل من مزمور 119 ++ القمص تادرس يعقوب
قريب أنت يا رب ...
1 - صرخات قلبية

يؤمن المرتل بعدالة الله ويثق في أحكامه مهما كانت الظروف المحيطة به، بهذا تخرج صلاة القلب لتستقر في قلب الله، وتجد هناك تجاوبًا معها. يصرخ بقلبه إلى الله العادل والقريب إليه جدًا، ليسمعه ذاك الحالّ في قلبه.

"صرخت من كل قلبي،فاستجب لي يا رب؛أطلب حقوقك"

بينما كان موسى النبي صامتًا بفمه قال الرب: "مالك تصرخ إليّ؟!" خر15:14. هكذا إذ كان قلب موسى النبي مقدسًا سمع الله صرخاته الخفية واستجاب لها قبل أن يعبِّر عنها بشفتيه. على العكس قد يصرخ إنسان لله لساعات طويلة فيسمع القول: "ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات".

لكي يسمع الله صرخاتنا يلزمنا أن نقدمها من كل القلب، فلا يكون القلب مشغولًا بآخر غير إلهه، وأن يكون القلب مقدسًا متجاوبًا مع الله القدوس، وأن تكون الصرخة متفقة مع فكر الله وإرادته.

لقد كان داود رجل صلاة بحق يعرف كيف يقدم صلواته فتستجيب له السماء:

كان يقدمها من كل قلبه. هذا هو جوهر الصلاة، حيث تتكرس النفس بكل طاقاتها ومشاعرها لحساب الله.

كان يطلب حقوق الله، أي صلاة حسب إرادته الإلهية.
يطلب لنفسه الخلاص لا الأمور الزمنية.
يطلب عونًا ليحفظ وصاياه، أيضًا ينفذها ويثابر عليها.
يطلب استجابة الصلاة من الله وحده، إذ لا رجاء له في ذراع بشري. لقد أدرك أن الحاجة إلى واحدٍ (لو 42:10).

الصرخة ليست إلا صوتًا قويًا يدل على أهمية ما ينقله إلى الله. في الحقيقة، يصرخ الصديق إلى الله عندما يطلب أمورًا عظيمة وسماوية. هكذا قيل عن هابيل الصديق عند موته: "صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض" تك10:4. قيل هكذا لتوضيح أن الصديق يصرخ إلى الرب مصدرًا صوتًا قويًا.

يقول الرب لموسى النبي المُطارد من المصريين: "مالك تصرخ إليّ؟" خر15:14. أما نحن، فعندما نصير قديسين، تكون في داخلنا هذه الصرخة، لأن الروح الساكن فينا يصرخ، قائلًا: "يا أبَّا الآب" رو15:8؛ غل6:4...

أيضًا اسمع القول: "وقف يسوع وصرخ قائلًا: "إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب" يو35:7. إذن، من هو هذا الذي يصرخ إلى الله؟ ذاك الذي يتضرع من أجل أمورٍ عظيمةٍ، ولا يطلب أمورًا تافهة.

كيف صرخت؟ "من كل قلبي، فاستجب لي"... يقول المرتل: إنني لا أنطق بفتور، ليس بشفتي ولا بالفم فقط، وإنما انطق بقلبي... أوجه إليك صلاتي طالبًا منك أن تستجب لي يا رب، إذ أنا أطلب حقوقك، كي أنال فهمًا دقيقًا وأصير بها حكيمًا. +++ العلامة أوريجينوس

إلى أي مدى تنفع صرخته، يجيب: "إني أبحث عن البرّ. لهذا الهدف يدعو الله من كل قلبه". لقد اشتهي أن ينال هذا من قِبل الرب الذي ينصت إليه طالبًا برَّه.++ القديس اغسطينوس

"صرخت إليك فخلصني،لأحفظ شهاداتك"

كانت صلاته قصيرة جدًا: "خلصني"، لكنها تحمل معانٍ كثيرة، منها:
خلاص من مؤامرات الأعداء.
خلاص من التجارب القاسية.
خلاص من الخطايا والإغراءات.
خلاص للنفس بتجديدها المستمر.
خلاص من العار وللتمتع بالمجد الفردوسي المفقود.
أما غاية هذه الصلاة أو غاية خلاصه فهو: "لأحفظ شهاداتك"، أيضًا يبقى شاهدًا أمينًا لله مخلصه بحياته الملتهبة حبًا لله والناس.

يقول القديس أغسطينوس أنه في بعض النسخ اليونانية واللاتينية جاءت "دعوتك" بدلًا من "صرخت إليك". ماذا تعني "دعوتك" إلا أنه بدعوتي إليك أبتهل إليك.

عندما قال: "خلصني"، ماذا أضاف؟ "لأحفظ شهاداتك". فإنه متى كانت النفس سليمة (غير مريضة، أي متمتعة بالخلاص) فإنها تتمم ما يلزم أن تعمله. فتجاهد حتى إلى موت الجسد، وذلك عندما تمتد التجربة إلى هذه الدرجة من أجل الدفاع عن الحق الخاص بالشهادات الإلهية. أما إذا كانت النفس عليلة فيغلب عليها الضعف ويصير الحق مُستهانًا به. ++ القديس اغسطينوس

طلبتك بصوتٍ عالٍ لذلك "خلصني"، وأنا أتعهد أنني إذ أخلص أحفظ الأوامر التي سلمتني إياها أمام الشهود من أجل خلاصنا. ++ العلامة أوريجينوس

تامل من كتاب حروب الشياطين ++ لا تخافوا ++ البابا شنودة الثالث



تامل من كتاب حروب الشياطين +++ البابا شنودة الثالث
لا تخافوا

لا تخافوا مطلقا من الشيطان. فهو على الرغم من كل مواهبه وقوته وحيله، كائن ضعيف أمام أولاد الله. قال عنه الرب: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء" (لو 10: 18).

لقد داسه الرب على الصليب، ولم يعد "رئيس هذا العالم "كما كان. بل قال عنه الرب قبيل الصليب "الآن دينونة هذا العالم. الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا" (يو 12: 31)، "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11). لذلك قال الرب:

"ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10: 19). إن وعد الرب لنا أن ندوس كل قوة العدو، هو وعد كله قوة وعزاء، ينزع الخوف من أي قلب.. ومن محبة الكنيسة لهذا الوعد الإلهي، وضعته لنا في آخر صلاة الشكر، نذكره فى صلواتنا كل قوة العدو.

إذن ليس للشيطان سلطان علينا، بل لنا سلطان عليه.

حتى الشياطين تخضع لنا باسم الرب (لو 10: 17). بل جعل الرب إخراج الشياطين في مقدمة الآيات التي تتبع المؤمنين (مر 16: 17). وطبعًا موهبة إخراج الشياطين لابد أن يسبقها الانتصار أولًا في حروب الشيطان صلبا، يبدأ أن يخافه. ويصير لهذا الإنسان سلطان عليه.

هناك محاضرة جميلة للقديس أنطونيوس عن ضعف الشياطين..

سجلها القديس أثناسيوس الرسولي في كتابة عن حياة القديس أنطونيوس، يمكن أن تقرأوها، لكي تتقوى قلوبكم فلا تخافوا الشيطان.

وكم من رهبان بسطاء، لم ينالوا من العلم كثيرا ولا قليلا، استطاعوا أن يحطموا الشيطان في البرية. ومنهم القديس بولس البسيط.

كذلك فإن الشهداء والمعترفين استطاعوا أن يحطموا جميع إغراءاته وكل قوته وأسلحته.

والشيطان لا يسيطر إلا على الذي يخضع نفسه له..

وعلى رأى المثل "إن العبيد هم الذين يخلقون السادة"، أي أن ما في العبيد من ذل وخضوع، هو الذي يساعد السادة على السيطرة والتعالي. وكذلك الحال مع الخاضعين للشيطان. أما الذين حررهم الابن، فبالحقيقة هم أحرار (يو 8: 36).

أكثر شيء يحبه الشيطان، أن يجدك تخاف منه.

لأنك في خوفك تضعف أمامه وتضطرب، وتظن أنك لا بد واقع في يديه، فتخور معنوياتك، وتستسلم له، عاجزًا عن المقاومة.

وهذا عين ما يريده منك، لأن الخوف يعطيه سلطة عليك. ولكن السيد المسيح نصحنا ألا نخاف مطلقا، بقوله:

أنا هو. لا تخافوا. لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع (متى 14: 27، يو 14: 27).

لا تخف إذن. لأن قوة الله العاملة فيك، هي أعظم بما لا يقاس من قوة الشيطان الذي يجربك من الخارج. وثق أن خوفك في داخلك هو أكثر ضررا عليك من حرب الشيطان الخارجية.

تامل من كتاب من هو الإنسان؟ ... النفس ++ البابا شنوده الثالث



تامل من كتاب من هو الإنسان؟ ++ البابا شنوده الثالث
النفس

نذكر أولا الفرق بين النفس والروح.

النفس هي التي تعطي الحياة للجسد.. والروح هي التي تعطي حياة للإنسان مع الله لذلك فللحيوانات أنفس،

وليست أرواح كالبشر.

 أرواحنا خالدة، والحيوانات ليست لها أرواح خالدة.

 وما دامت النفس تعطي الحياة للجسد، لذلك قيل في سفر اللاويين:

" نفس الجسد في دمه" (لا 17: 11،14).

 ولهذا حرم الله أكل الدم. فقيل "لا تأكلوا دم جسد ما، لأن نفس كل جسد هي دمه. كل من أكله يُقطع"، "لا تأكل نفس منكم دمًا، ولا يأكل الغريب النازل في وسطكم دمًا" (لا 17: 14،12).

وهذا المنع عن الدم بدأ من أيام أبينا نوح.

فلما صرح الله للبشرية بأكل اللحم، منعها عن الدم فقال لهم "كل دابة حية تكون لكم طعاما. كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أن لحما بحياته لا تأكلوه" (تك 9: 3،4) واستمر هذا المنع في العهد الجديد. فحينما قرر الآباء الرسل قبول الأمم في الأيمان، أرسلوا إليهم "أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم والمخنوق والزنا" (أع 15: 29).

الدم فيه حياة الإنسان. إن سفك دمه، انتهت حياته، انتهت نفسه.

ولعل أحدا يقول إن موت الإنسان يعنى موت المخ، أي توقفه بكل مراكزه عن الحركة. وبالتالي موت القلب، أي توقفه عن النبض. وفى الواقع ليس هناك تناقض بين هذا وما قلناه. لأنه إن سفك دم الإنسان، لا يصل دم إلى المخ فيموت. وأيضا لا يجد القلب دمًا يضخه، فيتوقف عن النبض. وتتوقف الرئتان عن عملهما في التنفس. فيلفظ الإنسان نفسه الأخير. ولذلك قيل أيضا إن كلمة النفس أخذت من النفس (في التنفس).

 ولأن نفس الإنسان في دمه، استخدم الدم في التكفير عن الخطايا، لأن نفسا تؤخذ عوضا عن نفس.

 وهكذا يقول الرب "لأن نفس الجسد هي في الدم، فأنا أعطيتكم إياه على المذبح للتكفير عن نفوسكم. لأن الدم يكفر عن النفس" (لا 17: 11). وهكذا كان يرش دم الذبيحة مستديرا حول المذبح أو على حوائطه (لا1: 5،11،15) (لا 3: 2،8)..

(لا4: 29،30،34). وما كانوا يأكلون منه إطلاقًا.

المعاني الثلاثة للنفس

1- قلنا أن المعنى الأول للنفس هو أنها مصدر الحياة الجسدية للإنسان. وأن نفس الإنسان في دمه، إذا سفك دمه مات..

2- النفس تعنى الإنسان كله:
وهكذا في خلق الإنسان، قيل "إن الله نفخ في آدم نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حية" (تك2: 7). إذن كلمة نفس تعنى الإنسان كله.

ومن جهة الذين خلصوا من الطوفان في الفلك، قال القديس بطرس الرسول عن الفلك "الذي فيه خلص ثماني أنفس بالماء" (1بط3: 20). ويقصد بثماني أنفس ثمانية أشخاص.

 وقيل في سفر التكوين عن النبي يعقوب الذين جاءوا إلى مصر "جميع النفوس ليعقوب التي أتت إلى مصر الخارجة من صلبه، ما عدا نساء بني يعقوب، جميع النفوس ست وستون نفسا" (تك 46: 26). ويقصد بذلك 66 شخصًا.

 يشبه هذه ما قاله ملك سادوم لأبينا إبراهيم بعد انتصاره في حرب كدر لعومر وباقي الملك، وبعد أن رد سبي سادوم. قال هذا الملك لأبينا إبراهيم "اعطني النفوس، وأما الأملاك فخذها لنفسك" (تك 14: 21). يقصد هنا أعطني الناس..

 وبنفس المعنى قال السيد الرب "تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت11: 29) أي تجدوا راحة لأشخاصكم.

 وبنفس المعنى أيضًا قيل في آخر رسالة معلمنا يعقوب "من رد خاطئًا عن ضلال طريقه، يخلص نفسا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا" (يع5: 19). أي يخلص هذا الخاطئ كله.

وفى عقوبة من يأكل شيئًا مختمرًا في أسبوع الفطير بعد الفصح، قيل "سبعة أيام لا يوجد خمير في بيوتكم. فإن كل من أكل مختمرًا تقطع تلك النفس من جماعة إسرائيل" (خر12: 19).. أي يقطع ذلك الشخص من جماعة المؤمنين.

 وفى نفس الكلام عن أن نفس الإنسان في دمه، قيل" لا تأكل نفس منكم دمًا" (لا17: 12). أي لا يأكل شخص منكم دمًا.

وأيضا قال الرب في سفر حزقيال النبي "النفس التي تخطئ هي تموت" (حز18: 20).. أي الشخص الذي يخطئ هو يموت.

النفس أحيانًا بمعنى الروح

 مثل قول الرب للغنى الغبي الذي قال "أهدم مخازني وأبني أعظم منها، وأجمع هناك جميع غلاتى وخيراتي.." فقال له الله "يا غبي، في هذه الليلة تطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟!" (لو12: 18، 20). يقصد تؤخذ روحه منه، فيموت.

فالمعروف أن روح الإنسان هي التي تخرج بالموت. كما قال السيد على الصليب "يا أبتاه في يدك أستودع روحي" (لو23: 46). 

وكما قال القديس اسطفانوس أثناء رجمه "أيها الرب يسوع، أقبل روحي" (أع 7: 59).

مثال آخر وهو قول الرب "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم" (مت10: 28).. وكلمة (نفس) هنا، المقصود بها هو الروح.

كل شيء مستطاع ++ البابا شنوده الثالث


تامل من كتاب حياة الرجاء ++ البابا شنوده الثالث
كل شيء مستطاع

كونوا أن الله يستطيع كل شيء (مت 19: 26) هذا أمر طبيعي.. ولكن هوذا بولس الرسول يقول "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13). ولكن اكبر آية تدعو إلي الرجاء هي:

"كل شيء مستطاع للمؤمن" (مر 9: 23).

بهذا الرجاء ننال قوة ننتصر بها في حياتنا. أما الشيطان فطريقته أن يدفع الناس إلي اليأس، وإلي الخوف، والتردد، والشعور بالضعف والعجز، لكي يشل حركتهم.. ويشدهم بثقل الصليب، ويخفهم من الباب الضيق والطريق الكرب، حتى ما يستطيعون التقدم خطوة واحدة. أما أنت فقل مع بولس الرسول:

أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني.

الذي حول الطرسوسي يستطيع أن يحولني. والذي منح التوبة لاوغسطينوس يمكنه أن يتوبني. والذي أعان داود علي جليات يمكنه أن يعينني. والذي قبل المزدري وغير الموجود يقبلني.

الرجاء يعطي قوة علي العمل، وعدم التفكير في الفشل. إننا لا نعترف بالفشل إطلاقًا، مادامت يد الله معنا. كل شيء يدعو لليأس، نضع أمامه قوة الله غير المحدود، وتدخل الله بكل محبته لتغيير الأمور إلي أفضل..

ما أكثر قول الله: لا تخف. لا تخافوا.

إنه لم يسمح لموسي أن يخاف. من ملاقاة فرعون (خر 4). ولم يسمح لأرميا أن يخاف لصغر سنه. وقال ليشوع بن نون بعد موت موسي النبي "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.. لا أهملك ولا أتركك. تشدد وتشجع.. لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك" (يش 1: 5، 9).. إن إيمانك بعمل الله معك يعطيك رجاء ثم انظر إلي هذا الوعد العجيب جدًا، في قول الرب:

"من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا اعملها، يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها" (يو 14: 12).

من نحن يا رب أمام هذا الوعد؟ إنه الوعد؟ إنه أكبر منا. ولكن عجيبة هي محبتك ووعودك.
ولكننا نؤمن بمحبتك وبكرمك في العطاء، وتدخلك للمعونة ونؤمن أيضا بأن الحرب للرب (1 صم 17: 47)، والله ليس لديه مانع أن يخلص بالكثير أو القليل (1 صم 14: 6).

الله قادر أن يغلب بجيش يشوع. وقادر أن يغلب بحصاة داود. مهما كنت ضعيفًا أو صغيرًا، الله قادر أن يعمل بك وفيك، كما عمل في ارميا الطفل، وداود الصبي. واستخدم صموئيل الطفل ليبكت به عالي الكاهن العظيم (1 صم 3: 10-18). مادامت الحرب للرب، اعتمد عليه إذن، وليكن رجاؤك فيه، مهما وقفت ضدك خطية أو شهوة، تجربة أو مشكلة. ومهما وقف ضدك الناس الأشرار. وتذكر قصص رجال الله، الذين تقوا من ضعف (عب 11: 33، 34) وصاروا أشداء في الحرب، وقهروا ممالك.

هؤلاء هم جبابرة، الذين لا يخافون.

لا تضعف. لا تهزك التجارب ولا الضيقات، ولا الخطايا ولا الشهوات، ولا الأعداء. كن كالبيت المبني علي الصخر، الذي لم تقو عليه الأمطار ولا الرياح (مت 27: 25). كن كالجنادل التي في مجرى النيل، ثابتة لا تقوي عليها المياه.

ضع أمامك بعض الآيات التي تعزيك وتقويك.

"أن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا لأنك أنت معي" (مز 23: 4) "إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي. وإن قام علي قتال، ففي هذا أنا مطمئن (مز 27: 3) "مرارًا كثيرة حاربوني منذ صباي، وأنهم لم يقدروا علي.. الرب صديق هو يقطع أعناق الخطاة" (مز 129: 2، 4). "الفخ انكسر ونحن نجونا. عوننا من عند الرب.." (مز 124: 7، 8) "دفعت لأسقط والرب عضدني. قوتي من عند الرب" (مز 117).

تذكر سير القديسين الذين لم يخافوا مطلقاُ، ولم يفشلوا.

الحكيم يتعلم من الأخطاء والحوادث السابقة ++ المتنيح الأنبا مكاري أسقف سيناء



تامل من كتاب محاسبة النفس اخر كل عام
الحكيم يتعلم من الأخطاء السابقة والحوادث السابقة
المتنيح الأنبا مكاري أسقف سيناء

يعنى فيه قديس اسمه أغاثون لًما كان يغلط كان لا يبكت نفسه كثيرًا علي الخطأ، إنما كان يقول لنفسه بمعونة ربنا لن يكون لها ثانيا، يعنى مش هتتكرر ثاني. إنسان بيتعلم من الأخطاء. والأخطاء السابقة متحزنش عليها كثيرًا وتقدم توبة وندم بس مش زيادة عن اللازم. وإنما تقول ممكن درس لي دي تعلمني أن أكون حريص أكثر. تعلمني إني ابقي مش متسرع، تعلمني أفكر. تعلمني أن افتح قلبي وأصلي، تعلمني أن اتجنب المكان ده، تعلمني أن أكون مع الشخص ده حريصًا في كلامي.

الأخطاء السابقة..الإنسان الحكيم يستفيد منها والحوادث السابقة سواء في حياتي أنا أو في حياة الآخرين. يعني مثلًا تسمعوا أنه فيه كنيسة كانت طالعة رحلة فيها شبان وشابات وحدث ان عربية بمقطورة خبطت الأتوبيس وحصل أن عدد كبير من الشباب والشابات انتقلوا. دي حادثة ما حصلتش في حياتي، حصلت في حياة الناس الآخرين، مفروض نستفيد من الحادثة، وتقول معناه إيه الحادثة دي؟ طب نستفيد إيه من الحادثة دي؟ كان فيها شبان مش عواجيز. وطبعا الشبان دول في لحظة تواجهوا مع الله وانتهت حياتهم وقال لكل واحد أعطي حساب وكالتك، فالإنسان يستفيد من الأخطاء السابقة والحوادث السابقة، سواء في حياتي أو في حياة الآخرين.

كل حاجة بتحصل ما تقولش دي بتحصل صدفة. لا نشوف ممكن أن يد الله وراء الموضوع ده، الله ضابط الكل، وخصوصًا الحوادث الكبيرة، لكن الإنسان اللي عنده حسن روحي كل حاجة بيترجمها لسبب روحي. ليه الحاجة الفلانية التي تضيع مني. إذ تتسرق مني ليه اتسرقت. أقولك شوف يمكن أنت مش أمين في فلوس ربنا. يمكن العشور لا تدفعها لربنا، كل حاجة ترجمها، ليه حصل كده؟ فكر أو صلي، قوله ليه يا رب كده. لا تأخذ الأمور بتفكير بشري. افحص الموضوع بطريقة روحية، وإن معرفتش صلي، قوله يا ربي عايز اعرف ليه حصل كده؟! ليه سمحت بكده؟! يبقي الإنسان يأخذ موعظة من الحوادث والأخطاء اللي بتحصل في حياته أو في حياة الآخرين.

فيه قصة.. كان فيه إنسان فلاح أو بستاني قال إن ربنا أداني الصحة وأديني باشتغل، فاشتغل في الأرض، قال يا رب أنا بأكسب أو كده أنا هأعيش بأد كده، وأوعدك الباقي ده ليك أنت. وعاش بالعهد ده فترة ويأخذ الإيراد يوم بيوم عايش احتياجاته الضرورية، وجه في يوم الشيطان وسوس في ودانه وقال له أنت دلوقت بتضيع كل اللي بيجيلك أول بأول، إنت دلوقتي ربنا مديك صحة وبتشتغل، إفرض بكره وبعده لما تبقي كبير في السن متقدرش تشتغل، هتتسول؟

أو إفرض إن جالك مرض من الأمراض ولم تقدر أن تشتغل، هتعمل إيه؟

مين يصرف عليك؟ هتعيش إزاي؟

مش لازم القرش البيض ينفع في اليوم الأسود؟

وأنت بتبعثر، مش لازم تشيل علشان بكره ومحدش ضامن الزمن والكلام ده. قال.. فعلا الكلام ده مضبوط، أنا لازم أوفر وكفاية يا رب متزعلش مني. اللي أنا اعطيته للفقراء قبل كده كفاية، أنت مش هتطلب مني ثاني ونحوش لبكره. وذات يوم بيغزق دخلت في رجله شوكه ورجله بقي فيها جرح والميكروب اشتغل بسرعة وبعد كده أخذوه للطبيب. الراجل رجله متورمة. قال الطبيب، للأسف دي معدش ينفع فيها علاج مفيش مضاد حيوي. مفيش مطهر. قال لهم دي دلوقتي مينفعش فيها غير القطع. دي بقت غرغرينه في رجلك خلاص. تنقطع طبعًا وقد يصرف كل اللي حوشه علي الأطباء والعلاج.

مفيش فايده وبالليل صابح يقطعوا رجله. وبعدين وهو بيصلي ليه يا رب حصل كده، رجلي تنقطع ليه يا رب.

قاله ما أنت بتحوش علشان العلاج، أنت بتحوش علشان بكره وبعده، إنت كنت في الأول متكل عليً وكنت بتلقي همومك عليً ومكنتش بتفكر في بكره وكنت عامل الآية اللي بتقول (لا تهتموا بما للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه).

أنت دلوقتي بتفكر وتقول نفسك بكره وبعده، علشان كده اللي حصلًك أنت تعرف سببه. قاله أخطأت يا رب وبعدين أُخذ في غفوة وجد واحد من القديسين عمل له العملية في رجله، وفي الصباح جاء الدكتور ومعاه المنشار علشان يقطع رجله.
لقي رجله سليمة و24 قيراط ومعالجة. قال أنت فيه دكتور غيري جالك وعملًك عملية؟
قال له أيوه، فيه دكتور غيرك عمل لي العملية. وقال أشكرك يا رب أنك رحمتني وصححت أفكاري ونجيتني من الشرير. ورجع لطقسه الأول زي ما كان في الأول. فالواجب علينا أننا نستفيد من الحوادث والأخطاء اللي في حياتنا وحياة الآخرين، صحيح بتقدم توبة عن الأخطاء، لكن الأخطاء مفروض تدينا درس وموعظة نقتني فيها زيادة في المعرفة والحكمة وخبرة روحية علشان يزداد تمسكنا بربنا وخضوعنا له، ويزداد إيماننا وطاعتنا للرب.

ولربنا المجد دائما أبديًا آمين.

اهتمام الله بالمحتاجين إلي الحب +++ البابا شنوده الثالث



من كتاب المحبة قمة الفضائل +++ البابا شنوده الثالث
اهتمام الله بالمحتاجين إلي الحب

لقد اهتم الله بالكل، وبخاصة أولئك الذين لم يكن أحد يهتم بهم. فأولاهم حبًا كانوا في مسيس الحاجة إليه. ومنح حبه للمظلومين والمقهورين، وقال للتعابى:

(تعالوا إلي جميع المتعبين والثقيلي الحمال، وأنا أريحكم) (مت11:28).

وكانت هذه النقطة هي من أبرز خواص رسالة السيد المسيح له المجد. وقال في ذلك (روح السيد الرب علي، لأنه مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأعصب منكسري القلب. لأنادي للمسببين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق.. لأعزي جميع النائحين.. لأعطيهم جمالًا عوضًا عن الرماد، ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة) (أش61:1-3).

نعم، إنه رجاء لمن ليس له رجاء..

ومعين من ليس له معين -كما نقول في صلوات القداس الإلهي- عزاء صغيري القلوب، وميناء الذين في العاصف..

وهكذا كان يعطي الحب للذين لا يجدون حبًا من أحد. وكان يذكر الذين ليس لهم أحد يذكرهم. وهو باستمرار الباب المفتوح، حينما تكون سائر الأبواب مغلقة. وسنضرب بعض أمثلة:

الحب الذي قدمه الرب للعشارين المحترقين من الناس.

كان العشارون منبوذين من المجتمع اليهودي، يرونهم عنوانًا للظلم والبعد عن الروحانية. ولكن الله الحب أراد أن يرد لهم اعتبارهم، ويعيد إليهم كرامتهم، وبخاصة أمام الفريسيين المشهورين. بالتدقيق في حفظ الوصايا. فذكر مثل الفريسي والعشار. وكيف أن العشار في توبته وانسحاق قلبه، كان أفضل من الفريسي في كبريائه وافتخاره. وكيف أن العشار خرج من الهيكل مبررًا دون ذاك (لو18:9-14).

 وكان يحضر ولائم العشارين، ويدخل بيوتهم. وبهذا يرفع من معنوياتهم وبجذبهم إليه.

وما كان يبالي بانتقاد الفريسيين والكتبة له (لو15:2). حتى أنهم قالوا لتلاميذه (لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟!). أما هو فكان يجيب (لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي.. لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلي التوبة) (مت9:11-13). وكان يقول أيضًا (يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلي توبة) (لو15:7).

حقًا ما أعمق اهتمام المسيح بالخطاة والمرضي.

أنه ما كان يتعالي عليهم أو يحتقرهم، كما كان يفعل الفريسيون، بل كان يدخل إلي بيوتهم، كما دخل إلي بيت زكا رئيس العشارين، حتى تذمر الجمع قائلين إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ (لو19:7). أما السيد فقد منح زكا الحب الذي تاب به. وقال: اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت، إذ أيضًا ابن إبراهيم) بل قال إنه:

(قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك) (لو19:10).

عميقة جدًا هذه العبارة.. لم يقل يخلص من قد ضل أو أخطأ، بل ما قد هلك..! إذن فتحي الهالك له رجاء، وله مكان في محبة الله يمكن به أن يخلص. وليس فقط يخلص، بل أن الرب قد اختار أحد هؤلاء العشارين، ليكون واحدًا من تلاميذه الاثني عشر، وهو متى الذي كان جالسًا عند مكان الجباية (مت9:9).

أي حب هذا، هو حب الرب الذي قيل عنه:

(المقيم المسكين من التراب، والرافع البائس من المزبلة، ليجلسه مع أشراف شعبه) (مز113: 7، 8).

هذا هو تعامل الرب المملوء حبًا والمملوء اتضاعًا، مع المساكين والمحتقرين، مع الخطاة والعشارين، المنبوذين من المجتمع. أعطاهم فوق ما كانوا ينتظرونه منه بمراحل.. لقد أذاب قلوبهم بهذا الحب.. زكا مثلًا، كانت أقصي أمنيته أن يراه. أما أن يقف الرب عنده، ويناديه باسمه، ويدخل إلي بيته، ويعلن أنه أيضًا من أبناء إبراهيم. فقد كان هذا فوق احتماله.. فأعلن توبته، وأعلن الرب خلاصه.

طائفة أخري هي السامريون، وكان المجتمع اليهودي لا يعاملونهم (يو4:9). وكيف عاملهم الرب بحب..

كان اليهود يحتقرونهم، ويرون أنهم غير مؤمنين. وفعلًا لم يكن إيمانهم سليمًا.. ولكن حتى هؤلاء، ما كنت محبة الرب بعيدة عنهم، ولا كان خلاصه مغلقًا أمامهم. وإذا بالرب يشرح مثل السامري الصالح، الذي أظهر فيه كيف أن ذلك

السامري كان أفضل في حبه من الكاهن واللاوي (لو10:25-37). ورد بهذا المثل علي سؤال أحد الناموسيين (من هو قريبي) فأظهر له أن السامري أيضًا قريبه.

وفي معجزة شفاء العشرة البرص، أظهر أن الوحيد الذي رجع فشكر كان سامريًا.. وقال لهذا الرجل (الغريب الجنس) (إيمانك خلصك) (لو17:12-19).

إن محبة الله تشمل أيضًا "الغريب الجنس"، وترفع معنوياته، وتفتح له باب الإيمان والخلاص.

ولم يكتف الرب بهذا من جهة السامريين، بل زارهم ودخل مدينتهم. ومعروفة قصة هدايته للمرأة السامرية، وحديثة معها عن الماء الحي، واجتذابها إلي التوبة وإلي الإيمان.. ثم بعد ذلك أهل مدينتها كلهم (جاء إليه السامريون وسألوه أن يمكث عندهم. فمكث هناك يومين) وآمن كثيرون وقالوا (إن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم) (يو4:5-42).

إنه بالحب قد خلص كثيرين من السامرة.

وقال لتلاميذه (ارفعوا عيونكم وانظروا الحقول: إنها قد ابيضت للحصاد.. أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه) (يو4:35،38). وهكذا لم ينس الرب السامرة في إرساليته لتلاميذه، بل قال لهم بعد القيامة (وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلي أقصي الأرض) (أع 1:8).

جميل أن يعرف كل إنسان أنه ليس منسيًا من الله، ولو كان في أقصي الأرض. وهذا يذكرنا بالأمم.

كان الأمم أيضًا محتقرين من اليهود، لأنهم ليسوا أبناء لإبراهيم، وليسوا من شعب الله!! ولكن الرب أظهر محبته لهم أيضًا، من جهة المعجزات، والإيمان..

يكفي أنه بالنسبة إلي قائد المائة الأعمى الذي شفي الرب غلامه، أنه قال عنه: الحق أقول لكم:

(لم أجد ولا في إسرائيل كلها إيمانًا بمقدار هذا) (مت8:10).

ثم فتح بمحبته باب الملكوت أمام الأمم وقال: (إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات) (مت 8: 11).

كذلك نذكر محبة الرب للأطفال..

هؤلاء لم تكن لهم قيمة في المجتمع، بل للأسف كانوا يطردونهم أحيانًا من حضرة المسيح. ولكنه في حب قال لهم (دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعونهم. لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات) (مت19:14). ووضع يديه عليهم وباركهم.

وفي مناسبة أخري دعا ولدًا وأقامه في وسط التلاميذ وقال (الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السموات) (مت18:3). وحامي عن هؤلاء الصغار، فقال (من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر) (مت18:6).

والرب احتضن الأطفال، ووضع يديه عليهم، وباركهم (مر10:16) (مر9:36).

وكما رفع معنويات الأطفال، رفع معنويات النساء.

سمح للمرأة أن تنضم إلي جماعة تلاميذه. ونسوة كثيرات كن يخدمنه من أموالهن (لو8:3). وكان من بين من أقامهم من الأموات ابنه يايرس (لو8:54،55). وقد شفي نازفة الدم، وقال لها إيمانك قد شفاك (لو8:48). وكان يدخل بيت مريم ومرثا. وامتدح مريم قائلاُ إنها (اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها) (لو10:42).

وتكفي المكانة العظيمة التي قدمها للقديسة العذراء.

التي أصبحت جميع الأجيال تطوبها. ولما وصل سلامها إلي أليصابات امتلأت أليصابات من الروح القدس. وارتكض الجنين في بطنها (لو1:48،41). وخاطب السيد المسيح أمه علي الصليب وجعلها أمًا روحية لتلميذه يوحنا (يو19:26،27).

وبعد القيامة قيل إنه (ظهر أولًا لمريم المجدلية) (مر16:9). وقال لها ولمريم الأخرى (اذهبًا بسلام وقولًا لأخوتي أن إلي الجليل، هناك يرونني) (مت28:10).

ولا ننسي دفاع الرب عن المرأة.

دافع عن المرأة التي ضبطت في ذات الفعل، وأنقذها من الرجم (يو8). ودافع عن المرأة التي بللت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها (لو7). ودافع عن المرأة سكبت الطيب علي رأسه في بيت سمعان الأبرص. ولما احتج البعض قائلين (لماذا هذا الإتلاف. لأنه كان يمكن أن يباع هذا الطيب بكثير ويعطي للفقراء) قال الرب (لماذا تزعجون المرأة؟! إنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني) بل طوبها قائلًا (حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يخبر أيضًا بما فعلته هذه المرأة تذكارًا لها) (مت26:6-13).

من كتاب المسيح مشتهى الأجيال المسيح في معاملاته مع الخطاة ++ الأنبا بيشوي



من كتاب المسيح مشتهى الأجيال منظور أرثوذكسي
 (مع حياة وخدمة يسوع)...المسيح في معاملاته مع الخطاة ++ الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ والبراري و رئيس دير القديسة دميانة

جاء السيد المسيح لكي يحمل خطايا آخرين، ويشفع في المذنبين ولذلك كان لطيفًا جدًا في معاملاته مع الخطاة. ودائمًا كان يقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.. لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 12، 13).

ومع إنه كان حازمًا مع المستكبرين، وقساة القلوب، ورافضى التوبة، والمرائين، والمنافقين، ومع الذين يعتبرون أن التقوى تجارة.. إلا أنه كان رقيقًا، متواضعًا، مترفقًا، طويل الأناة مع المنكسرين، والضعفاء، والمنسحقين، والمأسورين، والمشتاقين إلى التوبة والخلاص.. مثلما قال: "روح الرب علىَّ لأنه مسحنى، لأبشر المساكين. أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب، لأنادى للمأسورين بالإطلاق، وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 18، 19).

محبة الخطاة

من أجل محبته للخطاة، ورغبته في خلاصهم، احتمل الكثير من التعيير الذي أثاره ضده الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود. إذ اتهموه بأنه محب للعشارين والخطاة، وأنه دخل ليمكث في بيت إنسان خاطئ.

وفى قبوله لتوبة المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها قالوا: "لوكان هذا نبيًا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هى إنها خاطئة" (لو7: 39).

وفى النهاية حينما عُلّق على الصليب حاملًا خطايا كثيرين، كانوا يعيّرونه قائلين: "خلّص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت27: 42)

السيد المسيح في اتضاع عجيب تعامل مع الخطاة، بل وحمل تعييرات كان المفروض أن يحملوها هم فحملها عوضًا عنهم راضيًا مختارًا.

فى لقائه مع السامرية

بادرها قائلًا: "أعطينى لأشرب" (يو4: 7)، مُظهرًا نفسه كالمحتاج مع أنه هو ينبوع الماء الحى..

وحينما "أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج، قال لها يسوع: حسنًا قلت ليس لي زوج.. هذا قلتِ بالصدق" (يو4: 17، 18)، مادحًا صدقها في هذا الأمر، كاشفًا لها أعماق حياتها "لأنه كان لكِ خمسة أزواج والذي لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو4: 18). فقالت المرأة: "يا سيد أرى أنك نبى" (يو4: 19).

فبمنتهى الاتضاع والحرص على مشاعرها، اقتادها إلى الاعتراف، وإلى التوبة، وإلى المناداة باسمه بين أهل مدينتها.

مع اللص اليمين

كان اللصان اللذان صُلبا مع السيد المسيح يعيرانه قائلين: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا" (لو23: 39).

وفيما كان السيد المسيح يدفع ثمن خطية اللص المذنب، احتمل تعييراته، وكان يصلّى من أجل خلاصه وتوبته.

وعلى مدى ساعات الصلب كان اللص يراقب السيد المسيح ويستمع لكلماته، وكيف كان يهتم بغيره..

سمعه وهو ينادى الآب طالبًا المغفرة لصالبيه "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو23: 34).

رأى صبره ووداعته واحتماله لتعييرات اليهود، إذ لم يرد بكلمة واحدة على ما وجِّه إليه من شتائم وإهانات.

ربما فكّر اللص اليمين في نفسه قائلًا (لاشك في أن يسوع المصلوب يؤدى رسالة يدفع فيها ثمن خطايا آخرين، وهو برئ من كل خطية لأن الذي استطاع أن يقيم لعازر من الموت، لا يعسر عليه أن يُسكت هؤلاء المجدفين عليه).

لهذا بدأ اللص اليمين يوبّخ زميله الآخر: "أَوَلاَ أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه. أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله" (لو23: 40، 41). ثم استطرد معلنًا إيمانه بألوهية السيد المسيح الذي احتمل كل هذا من أجلنا: "اذكرنى يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23: 42، 43).

أى أن السيد المسيح قد وعد اللص بأن يذهب إلى مكان انتظار أرواح الأبرار، تمهيدًا لدخوله إلى الملكوت في اليوم الأخير.

فى اتضاعه المعهود لم يؤاخذ السيد المسيح اللص على تجاديفه السابقة وتعييراته له. بل حتى لم يعاتبه.. واكتفى بما أظهره من حب وإخلاص، ورغبة صادقة في السلوك في طريق الحق، وإيمان برسالة السيد المسيح كفادى ومخلص وملك للمفديين.

وهكذا نرى السيد المسيح في اتضاعه، وقد حمل خطايا كثيرين وشفع في المذنبين ووبخهم برقته ووداعته العجيبة حتى تحولوا من خطاة إلى قديسين.

مع المرأة الخاطئة

سأل السيد المسيح مضيفه سمعان الفريسى "كان لمداين مديونان، على الواحد خمسمئة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما جميعًا. فقل أيهما يكون أكثر حبًا له. فأجاب سمعان وقال: أظن الذي سامحه بالأكثر. فقال له بصواب حكمت" (لو7: 41-43).

إن الغفران الذي قدّمه السيد المسيح للمؤمنين به هو غفران مدفوع الثمن.

والثمن هو دم المسيح،  لهذا قال معلمنا بولس الرسول: "وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هى لله" (1كو6: 19، 20).

وقال معلمنا بطرس الرسول: "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى.. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1بط1: 18، 19).

إن البشر لم يكن بمقدورهم أن يوفوا الدين الذي عليهم لله بدون تجسد ابن الله الوحيد الذي هو وحده قادر أن يوفى الدين، وهو نفسه الله الظاهر في الجسد الذي صالحنا مع أبيه السماوي.

وعن عدم مقدرة البشر منفردين عن الله بأنفسهم أن يوفوا الدين، قال السيد المسيح في هذا المثل: "وإذ لم يكن لهما ما يوفيان" (لو7: 42).

لقد أوفى السيد المسيح الدين الذي علينا واشترانا وصرنا ندين له بهذا الحب العجيب، أي أنه قد اجتذبنا بمحبته وغفرانه المدفوع الثمن، فصرنا نحبه وتزداد محبتنا له كلما تأمّلنا في آلامه لأجلنا.

وقال السيد المسيح لسمعان عن المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها ومسحتهما بالطيب وانهمكت في تقبيل قدميه "من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا. والذي يُغفر له قليل يحب قليلًا" (لو7: 47).

إن الغفران المدفوع الثمن في المفهوم المسيحي هو الذي يجعلنا نحب الرب كثيرًا. كما أنه هو الذي يجعلنا نكره الخطية، لأنها تسببت في آلام فادينا وموته على الصليب.

كيف ننسى هذا الحب العجيب الذي يبكتنا على كل خطية اقترفناها أو نقترفها، ويجعلنا نشعر بالاشمئزاز من الخطية، ويجعلها تبدو خاطئة جدًا.

إن الخاطئ الذي يتأمل في جراحات المخلّص الوديع يشعر بأنه لا يطيق نفسه، ولا يتصور أنه من الممكن أن يخون هذا الحب الكبير. لهذا قال السيد المسيح: "إن كان أحد يأتي إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لو14: 26).

وما معنى أن يبغض الإنسان نفسه، إلا أن يبغض كل تصرف تميل إليه نفسه في أنانيته لإرضاء شهواتها.

هذه هى فلسفة تعاليم السيد المسيح في قوله: "من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلى يجدها" (مت16: 25).

من أهلك نفسه من أجل المسيح سوف يجدها، لأنه سوف يتحرر من سلطان الخطية والموت الأبدى، وبهذا سوف يرث الحياة الأبدية ويجد نفسه في الأبدية والسعادة الحقيقة في حرية مجد أولاد الله.

الإيمان بالسيد المسيح بأنه هو ابن الله الحى والإيمان بموته المحيى وقيامته من الأموات يؤهل الإنسان أن ينال سر العماد المقدس لأن "الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يو1: 12).

وبالميلاد الفوقانى ينال المؤمن الحق في أن ينال سر المسحة المقدسة ويصير مسكنًا للروح القدس الذي يثبّته في حالة البنوة لله ويمنحه ثمارًا لازمة للخلاص، كما يمنحه مواهبًا لبنيان الكنيسة.

وبالميلاد الفوقانى أيضًا يؤهَّل الإنسان للاتحاد بالحياة الأبدية في المسيح بالتناول من جسده المقدس ودمه الكريم في سر الافخارستيا، الذي يعطيه ثباتًا في المسيح ويؤهّله لشركة الحياة الأبدية. ومن خلال سر التوبة والاعتراف يؤهل لتجديد مفاعيل العماد المقدس في الاتحاد بالمسيح بشبه موته وقيامته من الأموات في سر الافخارستيا (التناول).

إن العطايا الروحية التي ينالها المؤمن بالمسيح تمنحه قوة للانتصار على محاربات الشيطان، والتمتع بحياة القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب. وفي كل ذلك يضع المؤمن أمام عينيه صلب المخلص وجراحاته وآلامه.

لأن الصليب هو سلاح الغلبة. وهو مصدر كل العطايا والنعم التي يمنحها الروح القدس للمؤمنين بالمسيح، الذين يتمتعون بغفران مدفوع الثمن، يمنحه لهم الروح القدس باستحقاقات دم المسيح الفادى والمخلص العجيب.

تامل من كتاب انطلاق الروح .. اتركيني الآن ++ البابا شنودة الثالث



من كتاب انطلاق الروح ++ البابا شنودة الثالث
اتركيني الآن

هوذا أنا هكذا يا رب أتدخل باستمرار فيها لا يعنيني. لست أقصد التدخل في شئون غيري من الناس، كيف يتصرف، وكيف تتصرف أنت معه – ولو أنني أقع كثيرا في هذا الخطأ – وإنما أقصد تدخلي في شئون نفسي. بينما هي أمور لا تعنيني أنا بقدر ما تعنيك أنت..

نفسي ليست ملكي، وإنما هي ملكك، اشترها بدمك الكريم فأصبحت لك. وليس لي بعد أن أتدخل في شئونها، لأنك أنت تدبرها حسب مشيئتك الصالحة الطوباوية.

علي إذن أن أنظر وأمجدك.

متى يأتي الوقت الذي لا أتدخل فيه في شئون نفسي، وإنما أتركها لك: حيثما تسيرِّني أسير، وكيفما تصيرني أصير؟ متي أرض بحالتي التي ارتضيتها أنت لي، فلا ألِح عليك في تغييرها كأنك غافل عن صالحي؟

متى تتحول صلاتي من طلب إلي شكر؟ أو متى ابحث عن شيء أطلبه فلا أجد لأني لست أجد خيرا لي الآن مما أنا فيه؟..

متى يأتي الوقت الذي يصبح فيه عملي الوحيد هو ألا أعمل شيئًا، وإنما اترك نفسي في يديك وأنساها هناك، ولا أذكر إلا هاتين اليدين اللتين جبلتاني وصنعتاني واللتين كنت تضعهما علي كل واحد فتشفيه.

متى أؤمن بك الإيمان كله. فاستأمنك علي حياتي تدبرها كيف تشاء، أنت يا صانع الخيرات، دون أن أقحم نفسي في عملك هذا وأتلصص متجسسا عليك لأري ماذا تعمل بي!! وكيف تعمل.. وهل عملك مقبول أم لا!

وهل يستدعي الأمر تدخلا مني أم لا يستدعي؟

آه يا رب كم أنا وقح في تصرفي معك! جاهل أنا وأتدخل في أعمال حكمتك محاولا أن أوقفها لأنفذ مشورتي الغبية!! كم يكون أحكمني لو أنني سكت وأخذت منك موقف المتفرج لا موقف الشريك. إذن لكنت أري عجائب من حكمتك.

أنني يا رب أفكر كثيرا في ذاتي، ولا أفكر ولو قليلا فيك أنني أثق كثيرا بذاتي، ولا أثق ول قليلا بك. ذاتي هي صنمي متي يتحطم لكي أعبدك العبادة الحقة؟ أن كنت لا أحطم بنفسي هذا الصنم لكونه جميلا في عيني، أو لكونه متى لدي جدا، فتول أنت يا رب تحطيمه، وعند ذلك لا يبقي لك منافس في قلبي فأحبك، ولا يبقي لك منافس في إيماني لأعبدك. 

 لو كنت يا رب أفكر فيك بقدر ما أفكر في ذاتي، ولو كنت اعتمد عليك بقدر ما أعتمد علي مقدرتي الخاصة، ولو كنت أحبك بقدر ما أحب نفسي، إذا لأصبحت مثل أولئك القديسين الذين أنكروا أنفسهم ليعرفوك.

متى تعتقني يا رب من ذاتي؟ متى؟ لا لكي أصير قديسًا، وإنما لكي أجدك.

متى تخرج من الحبس نفسي، وأطلق عبدك بسلام؟ متى أضيع ذاتي من أجلك لكي أجدك؟ وحينئذ أجدها فيك. متى أهلك ذاتي من أجلك؟ أذن لكانت تحيا بك. متى انظر إلي ذاتي فلا أجدها، وإنما أجدك أنت، متى أنظر إليها فأراك؟ متى أنظر إلي العالم فأراك؟ وإلي الناس فأراك؟ وتصبح لي الكل في الكل وليس سواك.

هي تبيد وأنت تبقي، وكلها كثوب تبلي، وكرداء تطويها فتتغير. ولكن أنت أنت وسنوك لا تفني.

قالوا لي: (أعرف نفسك). وقالوا لي:(أدخل إلي ذاتك). آه يا رب هي ذاتي هذه سبب متاعبي كلها..

متى أدخل إليها فلا أجدها؟!...

كم مرة نظرت إلي ذاتي فوجدتها معلقة علي الصليب بلا حراك. فلما أمعنت النظر إليها، أبصرتك أنت، ففرحت. لم افرح بذاتي لأنها ورثت الملكوت وإنما فرحت بك لأني وجدتك.

ويخيل إلي أنني سوف لا أجدك في كل مرة إلا هناك في وادي ظل الموت، لأنني أن سرت في وادي ظل الموت فأنت معي. لقد خلقتنا للحياة، ولكننا بخطيتنا اخترنا لنا الموت، فإذا بك أنت البسيط الذي كل شي طاهر قدامك، تقدس الموت وتجعله لنا بابا للحياة!! بل هو الباب الوحيد للحياة. (من وجد نفسه يضيعها، ومن أضاع نفسه من اجلي يجدها) (أنكر ذاتك واحمل صليبك وأتبعني).

الارتباط بك. لأنني لم ادخل إلي الوحدة من أجلك، وإنما من اجل نفسي. أما لترضي هي عن ذاتها، أو ليرضي الناس عنها.

لكنني في السنة الثانية عرفت معني الانحلال من الكل بتفسير آخر، وهو الانحلال من نفسي، لأنني أجعلها بالنسبة إلي الكل في الكل.

وفي السنة الثالثة أي معني سأعرفه لهذه العبارة؟ لست ادري. ليتني أكون قد نسيتها، ونسيت التفكير في معناها، من فرط الانشغال بك.

كنت أقول عن اجتماعي بالأخوة، أننا باجتماعنا معا علي الأرض هنا نعطل أنفسنا عن الانشغال بالله، وربما نتسبب بذلك في عدم اجتماعنا كلنا هناك معه في الأبدية. وأريد الآن أن أقول أن اجتماعي بنفسي هو الذي يعطلني بالأكثر.

أنني اشعر أنني محتاج، بين الحين والحين، كلما أخلو إلي نفسي، أن أقول لها: (اتركيني الآن، فهذا خير لنا) اتركيني لكي أخلو بالله، وبهذا أستطيع أن أتمتع بوعده من أن تثبتي فيه. فأجلس – لا مع ذاتي وإنما مع الله الحال في ذاتي.

آلام السيد المسيح جزء 3 ++ القمص تادرس يعقوب




تامل من مراثي أرمياء 3 ++ القمص تادرس يعقوب
رجاء مشرق وسط الظلمة

آلام السيد المسيح جزء 3

مَيَّلَ طُرُقِي وَمَزَّقَنِي.جَعَلَنِي خَرَابًا .

بقوله: "ميَّل طرقي" يعني أنه يبدو كمن بدد كل مشوراته وخططه. كمن يجعله ينحرف في طرق خطرة، فيتعرض للوحوش المفترسة.

يا للعجب ذاك القدوس الذي بلا لوم في تواضعه سمح للأشرار أن يتهموه بأن طرقه ملتوية وشريرة، ومختل (مر 3: 21)، بل وحسبوه بعلزبول رئيس الشياطين (لو 11: 15). أية صورة أبشع من هذه؟

 اِحتمل كل هذه الأمور لكي نسلك على إثر خطواته، ونحتمل هذه السخريات التي تقلق أكثر من أي توبيخ. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

مَدَّ قَوْسَهُ وَنَصَبَنِي كَغَرَضٍ لِلسَّهْمِ .

خلال الحب الحقيقي بمسرته قَبِلَ السيد المسيح الصليب كسهمٍ، يُجرح به من أجل أحبائه. وفي نفس الوقت يخترق المصلوب قلوبنا فتتمتع بجراحات الحب الإلهي الشافية. تناجيه النفس البشرية، قائلة: "أنْعشوني بالتّفّاح، فإنّي مجروحة ٌحبًّا" (نش 2: 5). سرّ جراحات النفس بالحب، كما يقول العلامة أوريجينوس، هو المسيح نفسه، الذي هو كلمة الله الحيّ الفعّال، الأمضى من سيف ذي حدين، يدخل إلى أعماق النفس ويجرحها بالحب الإلهي.

 إن التهب أحد ما في أي وقت بالحب الصادق لكلمة الله، إن تَقّبل أحد الجراحات الحلوة لهذا "السهم المختار" كما يسميه النبي، إن كان قد جُرح أحد برمح معرفته المستحقة كل حبٍ حتى أنه يحن ويشتاق إليه ليلًا ونهارًا، فلا يقدر أن يتحدث إلاَّ عنه، ولا ينصت إلاَّ إليه، ولا يفكر إلاَّ فيه، ولا يميل إلى أية رغبة أو يترجى سواه. متى صار الأمر هكذا تقول النفس بحق: "إنيّ مجروحة حبًا". إنها تتقبل جرحها من ذاك الذي تقول عنه: "جعلني سهمًا مختارًا، وفي جعبته يخفيني" (إش ٤٩: ٢).

يليق بالله أن يضرب نفوسنا بجرحٍ كهذا، يجرحها بمثل هذه السهام والرماح، يضربها بمثل هذه الجراحات الشافية...

مادام الله "محبة"، فإنهم يقولون عن أنفسهم: "إنيّ مجروحة حبًا". حقًا إنها دراما الحب إذ تقول النفس: إنيّ تقبلت جراحات الحب!

النفس التي تلتهب بالشوق نحو حكمة الله، أي التي تقدر أن تنظر جمال حكمته، تقول بنفس الطريقة: "إنيّ مجروحة بالحكمة". والنفس التي تتأمل سمو قدرته، وتدهش بقوة كلمته، يمكنها القول: "إنيّ مجروحة بالقدرة". أظن أن مثل هذه النفس هي بعينها التي قالت: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أجزع؟!" (مز ٢٦). 

والنفس التي تلتهب بحب عدالة الله، وتتأمل عدل تدابير عنايته، تقول بحق: "إنيّ مجروحة بالعدل". والنفس التي تتطلع إلى عظمة صلاحه وحنو محبته تنطق أيضًا بنفس الطريقة. أما الجرح الذي يشمل هذه الأمور جميعها فهو جرح الحب الذي به تعلن العروس: "إنيّ مجروحة حبًا"++ العلامة أوريجينوس

يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة (١ يو ٤: ٨)، فقد صوب ابنه الوحيد "السهم المختار" (إش ٤٩: ٢) نحو المختارين، غارسًا قمته المثلثة في روح الحياة.

رأس السهم هو الإيمان، الذي يربط ضارب السهم بالمضروبين به، وكأن النفس ترتفع بمصاعد إلهية، فترى في داخلها سهم الحب الحلو يجرحها. متجملة بالجروح...

إنه جرح حسن وألم عذب، به تخترق "الحياة" النفس. إذ بواسطة دموع "السهم" تفتح النفس الباب الذي هو مدخلها. +++ القديس غريغوريوس النيسي

ليت غير الأصحاء يجرحون، فإنهم إذ يجرحون كما يليق يصيرون أصحاء! ++ القديس اغسطينوس

أَدْخَلَ فِي كُلْيَتَيَّ نِبَالَ جُعْبَتِهِ .

 يليق بنا أن نفهم الكليتين بمعنى الأفكار العميقة والرغبات الداخلية... أتطلع دومًا إلى الكليتين أنهما تشيران إلى الإدراك الحسِّي والفكر السليم... هذه هي عادة الكتاب المقدس عندما يقصد الإعلان عن أمر سرِّي مخفي وسرائري يقول: "يا فاحص القلب والكلى، يا الله" (راجع مز 7: 10).+++ القديس جيروم

هذا يشير إلى موته على الصليب، لأن الصليب يمس أعماق محبة السيد المسيح لنا، فقد قدم ذاته فدية وخلاصًا عن جراحات حبه الفائق من نحونا.

حقًا بالصليب يحملنا روح الله القدوس كما إلى أعماق قلب السيد المسيح -إن صح التعبير- فنتلامس مع الحب الإلهي في أروع صوره، وفي نفس الوقت إذ نحمل المصلوب في أعماقنا ننعم نحن بنبال جعبته فنشتهي أن نصلب معه، وأن نعمل على الدوام من أجل خلاص كل نفس.

صِرْتُ ضُحْكَةً لِكُلِّ شَعْبِي،وَأُغْنِيَةً لَهُمُ الْيَوْمَ كُلَّهُ .

هذه صورة للساخرين بالسيد المسيح من القادة والشعب، بل وحتى من اللصين اللذين كانا عن يمينه ويساره، إذ كانا يعيرانه. يكشف النبي هنا عن السيد المسيح أنه مات موت العار، حيث كان القادة والشعب يهزأون به (مت 27: 39-44).

"عار عند البشر ومحقر الشعب" (مز 22: 6). تواضعي جعلني موضع سخرية البشر، فيستطيعون القول باستخفاف وبروح الإساءة: "أنت تلميذ ذاك" (يو 9: 28)، وهكذا يقودون الغوغاء إلى احتقاره.

"كل الذين يرونني يسهزئون بي" (مز 22: 7). كنت أضحوكة كل من ينظر إليّ.

"يفغرون الشفاه ويُنغِضون الرأس" (مز 22: 7). صمتت قلوبهم، فنطقوا بشفاههم وحدها.++ القديس أغسطينوس

أَشْبَعَنِي مَرَائِرَ،وَأَرْوَانِي أَفْسَنْتِينًا.

في محبته الإلهية الفائقة احتمل كلمة الله المتجسد كل مرارة لكي يلجأ إليه كل مُرّ النفس، فيجد راحة فيه. بالحب صار مسيحنا مُرّ النفس لحسابنا، وبالتوبة نرجع إليه في مرارة نفسٍ من أجل خطايانا، فننعم بعذوبةٍ لا يُعبّر عنها.

 تعال، انظر الوليمة التي وضعتها (الأمة اليهودية) أمامه. أحضرت المُر، مزجت الخل، استلت السيف. عوض المن أعطته الخل. عوض المياه المرة التي جعلها لها حلوة، وضعت له المُر في المياه الحلوة.

 انظر في المسيح، كم أحتمل من الأثمة؟!

ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه!
كيف تجاسرت أيها اللسان أن تنضح بالبصاق...؟!
كيف احتملتِ أيتها الأرض هزء الابن...؟!
نظرة مخوفة، مملوءة دهشًا، أن ينظر الإنسان الشمع قائمًا ويتفل في وجه اللهيب...
وهذه أيضًا من أجل آدم حدثت، لأنه كان مستحقًا البصاق لأنه زل! وعوض العبد قام السيد يقبل الجميع!
قدم وجهه ليستقبل البصاق، لأنه وعد في إشعياء أنه لا يرد وجهه عن احتمال خزي البصاق...!
شفق سيد (آدم) على ضعفه، ودخل هو يقبل الخزي عوضًا عنه.! +++ القديس يعقوب السروجي

ينصت الآب إليك وأنت تتكلم في داخل نفسك، ويسرع لمقابلتك. عندما تكون لا تزال بعيدًا يراك ويركض.
إنه ينظر ما في داخل قلبك، ويُسرع حتى لا يؤخرك أحد، بل ويحتضنك.
"مقابلته لك" هي سبق معرفته، و"احتضانه لك" هو إعلان رحمته، وتعبير عن حبه الأبوي.
يقع على عنقك لكي يقيمك أنت الساقط تحت ثقل الخطايا، ولكي يرجعك إلى السماء إذ اتجهت إلى الأرض، فتطلب خالقك.
يقع المسيح على عنقك، لكي يخلص عنقك من نير العبوديَّة، فيحملك نيره الهين (مت 11: 30).

يقع على عنقك بقوله: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم" (مت 11: 28).هكذا يحتضنك الرب عندما تتوب ++ القديس أمبروسيوس

وَجَرَشَ بِالْحَصَى أَسْنَانِي.كَبَسَنِي بِالرَّمَادِ .

هنا تصوير لمرارة الآلام الشديدة غير المُحتملة، وكأن الآب قد سمح له أن يضع له حصى في فمه ليأكله بأسنانه، ورمادًا على رأسه علامة الحزن الشديد على ميتٍ، حتى صار كمن قد فقد كل أملٍ أو رجاءٍ.

احتمل هذا كله، ليقدم لنا كل عذوبة، إذ صار لنا سرّ بهجة وتهليل.

ربنا، ليلبسْ تفكيري محبتك بتمييز، ويصف خبر محاكمتك بمحبة.
بالمحبة فقط يقدر الفم أن يتحدث عنك، لأن المحبة أيضًا سحبتك لتتألم لأجلنا (يو 3: 16).
محبة الآب العظمى هي قتل ابنه، لأنه أحب العالم حتى أنه أسلم وحيده.
كيف أحبنا بحيث أعطى ابنه للموت وخلصنا، لنتكلم إذا عن مخلصنا بنفس تلك المحبة.
للمحبة غصبٌ عظيم حيثما وُجدت، فلا توجد عند مقتنيها قوة أشد منها.
مَن كان يقدر أن يغصب الآب ليسلم ابنه، إلا المحبة التي هي أعظم من الكل كما هو مكتوب (يو 15: 13، 1 كو 13: 13).
بهذه العلامة يقترب الإنسان من الله الذي اقترب أيضًا منا بهذه (المحبة) وصار منا...

في ساعة القتل نزلت المراحم إلى المعركة، ولم تنتصر من بين كل المراحم إلا (مراحم) الابن.
انهزم الرؤساء (التلاميذ)، ولم يهرب الراعي من رعيته، ليعرف القطيع بهذا مَن الذي يحبه . ++ القديس يعقوب السروجي

وَقَدْ أَبْعَدْتَ عَنِ السَّلاَمِ نَفْسِي.نَسِيتُ الْخَيْرَ.

من يتطلع إلى الصليب يظن أن الخطة قد وضعت بإحكام ليفقد المصلوب أي رجاء في الإنقاذ، بل وينسى كل سلامٍ قد سبق أن اختبره.

قَبِل السيد المسيح ذلك لكي بصليبه يهب سلامًا لنفوسنا مع أجسادنا خلال مصالحتنا مع الآب وتمتعنا بعطية روحه القدوس، كما صالح الشعب مع الشعوب، والأرض مع السماء، والبشر مع الطغمات السمائية. يقول الرسول بولس: "وليملك في قلوبكم سلام الله الذي إليه دعيتم في جسدٍ واحدٍ، وكونوا شاكرين" (كو 3: 15).

 من يطلب السلام يطلب المسيح، لأنه هو سلامنا (كو 1: 20)، الذي يجعل الاثنين واحدًا (أف 2: 14)، صانعًا السلام بدم صليبه سواء على الأرض أو في السماء. ++ القديس باسيليوس الكبير

  يكون كمال السلام حيث لا توجد مقاومة. فأبناء الله صانعو سلام، لأنه ينبغي للأبناء أن يتشبَّهوا بأبيهم. إنهم صانعو سلام في داخلهم، إذ يسيطرون على حركات أرواحهم ويخضعونها للصواب، أي للعقل والروح، ويُقمعون شهواتهم الجسديَّة تمامًا.
هكذا يظهر ملكوت الله فيهم، فيكون الإنسان هكذا: كل ما هو سامٍِ وجليل في الإنسان يسيطر بلا مقاومة على العناصر الأخرى الجسدانيَّة...
هذا وينبغي أن يخضع ذلك العنصر السامي لما هو أفضل أيضًا، ألا وهو "الحق" ابن الله المولود، إذ لا يستطيع الإنسان السيطرة على الأشياء الدنيا، ما لم تَخضع ذاته لمن هو أعظم منها.
هذا هو السلام الذي يعطي الإرادة الصالحة، هذه هي حياة الإنسان الحكيم صانع السلام! +++ القديس أغسطينوس

وَقُلْتُ: بَادَتْ ثِقَتِي وَرَجَائِي مِنَ الرَّبِّ.

كل من يتطلع إلى المسيح أثناء صلبه يظن كمن صار بلا رجاء، غير أنه بصليبه فتح لنا نحن الخطاة باب الرجاء، بل صار هو نفسه رجاءنا.

 بكونه إنسانًا يتكلم حاملًا مخاوفي، فإننا إذ نكون في وسط المخاطر نظن أن الله قد تركنا. لهذا كإنسان اكتأب، وكإنسان بكى، وكإنسان صُلب . ++ القديس أمبروسيوس

لا تسقط في اليأس بسبب عثراتك. لست أقصد أنه يلزمك ألاَّ تشعر بالألم بسببها، وإنما يلزمك ألاَّ تحسبها غير قابلة للشفاء.
فإنه من الأفضل أن تكون جريحًا عن أن تكون ميتًا.
يوجد بالحق الشافي، ذاك الذي طلب على الصليب الرحمة لصالبيه، الذي غفر للقتلة عندما عُلق على الصليب.
جاء المسيح من أجل الخطاة ليشفي منكسري القلوب، ويضمد جراحاتهم. يقول: روح الرب عليَّ، لهذا مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأعتق المسبيين، لأُفتح أعين العميان (لو 4: 18)، ليقوي المتعبين بالغفران.

ويقول الرسول في رسالته: "جاء يسوع المسيح إلى العالم ليخلص الخطاة" (1تي 1: 15). ويشهد ربه أيضًا: "لم آت لأدعو أبرارًا، لأنه لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (مر 2: 17) ++القدِّيس مار اسحق السرياني

ذِكْرُ مَذَلَّتِي وَتَيَهَانِي أَفْسَنْتِينٌ وَعَلْقَمٌ .

مجرد محاولة تصوير ما حلّ به يحمل ذلك نوعًا من المرارة كالأفسنتين والعلقم، بل وتنهار النفس وتنحني (مز 137: 1، 5).

 بالتأكيد أخذ مرارة حياتنا في جسم بشريته ++القديس أمبروسيوس

ذِكْرًا تَذْكُرُ نَفْسِي،وَتَنْحَنِي فِيَّ.

أخطر عدو للنفس البشرية هو اليأس، وللأسف إذ يتذكر البعض تأديبات الرب لهم، عوض التأمل في محبته، يحل بهم اليأس من خلاصهم. إذ يتطلع الناس إلى المصلوب يظنون كأنه قد سقط في اليأس، وأحنى رأسه على الصليب كما في التراب أو القبر. هذا الفكر يُفسد نظرة البعض إلى الصليب، أما الرسول بولس فيرى في الصليب "قوة الله للخلاص" (1 كو 1: 18).

لا تخجل من صليب مخلصنا بل بالأحرى افتخر به. لأن "كلمة الصليب عند اليهود عثرة، وعند الأمم جهالة"، أما بالنسبة لنا فخلاص (1 كو 2:1، 3). إنه عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهو قوة الله (1 كو 18:1،23). لأنه كما سبق أن قلت إنه لم يكن إنسانًا مجردًا ذاك الذي مات عنا، بل هو ابن الله، الله المتأنس...

من ينكر قوة المصلوب فليسأل الشياطين!

من لا يؤمن بالكلام فليؤمن بما يرى، فكثيرون صُلبوا في العالم، لكن الشياطين لم تفزع من واحدٍ منهم، لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذي صُلب عنا يُصعقون، لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب آثامهم، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الآخرين... "لأنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" (إش 9:53؛ 1 بط 22:2). لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. لكن إشعياء قال أيضًا، ذاك الذي لم يكن حاضرًا معه بالجسد لكنه تنبأ بالروح عن مجيئه بالجسد.

ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا؟ فها هو بيلاطس نفسه الذي حكم عليه يقول: "لا أجد في هذا الإنسان علة" (لو 23:14) ولما أسلمه غسل يديه قائلًا: "أنا بريء من دم هذا البار".

هناك شهادة أخرى عن يسوع البار الذي بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس، إذ بكَّت زميله منتهرًا إياه قائلًا: "أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله (لو 23:41)، لأن كلينا تحت قضائه ++ القديس كيرلس الأورشليمي

أُرَدِّدُ هَذَا فِي قَلْبِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُو .

في الآيات السابقة تصوير لما حلّ بالسيد المسيح من الآم خاصته منذ القبض عليه في البستان حتى إنزال جسده لدفنه. الآن وقد نزل جسده للدفن، في الوقت الذي فيه انطلقت نفس السيد المسيح لتحرر الأسرى من الجحيم، أشرق نور الرجاء، وانكشفت مراحم الله الدائمة التجديد، والتي لن تفنى.

في الطقس القبطي تبدأ الكنيسة أثناء قراءة هذه النبوة في بداية الساعة الثانية عشرة من الجمعة العظيمة تتحرك لتنزع علامات الحزن، وترتدي كل نفس ثياب الفرح والبهجة بالخلاص الذي تممه السيد المسيح على الصليب، وتحطيم متاريس الهاوية، ونزع سلطان إبليس وملائكته، ليحيا المؤمن في حرية مجد أولاد الله مادام ممسكًا بيد مخلصه.

إن كان القسم الأول من المرثاة وصف السيد المسيح كرجل آلام، خاصة وهو تحت المحاكمات الدينية والمدنية والصلب والموت والدفن، الآن وقد سلم السيد الروح، وبدأ نور الصليب يشرق، حلّ الرجاء في حياة المؤمنين به.

بموته وعبوره إلى الجحيم أطلق الأسرى، انقشعت السحابة، وبدأت خطة الله تتكشف. نغمة النبي بدأت تتغير، وعوض النظر إلى أحداث الصليب من الخارج بدأت بصيرته تنفتح لتدرك سرّ الصليب بكونه قوة الله للخلاص، وينبوع مراحم الله الفائقة تفيض كل صباح بلا توقف.

في المرثاتين السابقتين كان النبي يكشف عن آلامه التي كانت تتدفق من أعماقه كشاهد عيان لما حلّ بوطنه وشعبه. الآن وقد تحول نظره إلى حامل آلام البشرية في جسده بالصليب، انكشف أمامه سرّ الحب الإلهي، وامتلأ قلبه بالرجاء في الرب، وتلامس مع إحسانات الرب، وأدرك أن مراحمه لن تشيخ، بل تبقى تفيض مع كل صباح، جديدة في فاعليتها في حياة كنيسته والمؤمنين به.