تأمل من سفر نشيد الأناشيد ... أنا نائمة وقلبي مستيقظ جزء 1 (نش 5: 2) +++ البابا شنودة الثالث


تأمل من سفر نشيد الأناشيد ... أنا نائمة وقلبي مستيقظ جزء 1 (نش 5: 2) +++ البابا شنودة الثالث

 هذا النشيد يعطي روح الرجاء، حتى بالنسبة إلي النائمين.

ما أجمل قول المسيح للتلاميذ وهم نائمون في البستان "الروح نشيط أما الجسد فضعيف" (مت26: 41). إذن فحتى لو كان الجسد ضعيفًا، لا يستطيع أن يتمشي مع عمل الروح، فإننا نشكر الله الذي يمتدح الروح علي الرغم من ضعف الجسد، ويعطيها رجاء.

 وعذراء النشيد تجد نفسها هنا (نائمة): لا يقظة روحية، ولا نشاط، ولا حرارة، ولا حيوية، ولا عمل روحي.
ومع هذا النوم تري نافذة من رجاء مفتوحة: وهي قلبها المستيقظ.
علي الرغم من نومها، مازال قلبها مستيقظًا. مازلت حساسة لصوت حبيبها، تسمعه وهو يقول لها "افتحي لي".
إذن هو مجرد نوم، وليس موتًا، ومازال القلب نابضًا بالحياة.
هنا حياة قد تكون خاملة، ولكنها موجودة..

 الشجرة لا تعطي ثمرها، ولكنها لا تزال حية، ربما لو نقب الرب حولها ووضع زبلًا، تعطي ثمرًا فيما بعد.. النفس نائمة ولكنها حساسة لصوت الرب ولندائه، تميزه عن صوت الغرباء، وتشعر أنه حبيبها علي الرغم من عدم صلتها به..

أنا نائمة وقلبي مستيقظ. لا نضيع الوقت في توبيخ النوم، وإنما نفرح بيقظة القلب، فهي التي ستقيم النفس من نومها.

 نشكر الله أنه لم ييأس من النائمين، وإلا هلكوا وضاعوا..

قد تكون نفسي أمامك يا رب، أرضًا خربة مغمورة بالمياه، وعلي وجه الغمر ظلمة (تك1: 2)، ولكن المفرح أن روحك مازال يرف علي وجه المياه، وسيأتي وقت تقول فيه ليكن نور، فيكون نور (تك1: 3)..

ما أجمل قول النبي "لا تشمتي بي يا عدوتي، فإني إن سقطت أقوم (مي7: 8)، قد أكون نائمًا، ولكني سأستيقظ.. "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه، ولكن أنت يا رب ناصري. مجدي ورافع رأسي" هكذا قال المزمور:

 "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب معي" (مز3)

ربما تكون لي أربعة أيام في القبر، يقولون عني قد أنتن (يو11: 39). ولكني واثق أن صوتك سيأتيني "لعازر هلم خارجًا" (يو11: 43) وتقوم نفسي النائمة، حينما يسمع صوتك قلبي المستيقظ.

 حقًا لا نستطيع أن نغلق باب الرجاء، أمام أي نفس..

مهما كانت حالتها تبدو ميئوسًا منها!.. الله قادر أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم (مت3: 9).. إن الرسول يقول: لا نفشل حتى إن مات إنساننا الخارج يفني، فالداخل يتجدد يومًا فيوم" (2كو4: 16).

هذا يعطي رجاءً ليس للنائمين فقط، وإنما للخدام أيضًا.

لا تيأس من أحد، مهما بعد عن الرب.. ربما تكون البذرة في حالة خمول، ولكن الحياة الكامنة فيها تنتظر وسائل إنبات لكي تدب فيها الحياة من جديد..
إن الرياح في الصحراء قد تحمل البذار وتلقيها بعيدًا حيث تدفن في الرمال، وتظل مدفونة مددًا طويلة، إلي أن تسقط بعض الأمطار، فتدب الحياة في هذه البذار المدفونة وتنبت..
وهناك بذار بطيئة في نموها، كنواة البلح، تمضي شهورًا طويلة بدون علامة حياة علي وجه الأرض، ثم تظهر الخضرة..

 نحن لا نيأس مطلقًا من النفوس النائمة مهما طال نومها.

كان الرسل النائمين، خائفين ومختبئين في العلية. ولكن جاء الوقت الذي ظهروا فيه، وملأوا الدنيا كرازة وتبشيرًا..
وحتى لو ظل النائمون مستمرين في نومهم، فلا نيأس مادامت هناك نفوس أخري ساهرة من أجلهم.
يذكرني هذا بالرعاة المتبدين الذين كانوا يسهرون في حراسات الليل علي غنمهم وقت ميلاد المسيح (لو2: 8) . ويذكرني أيضًا بقول بولس "من يعثر وأنا لا ألتهب" (2كو11: 29). قد تكون هناك نفوس نائمة، ولكن الكنيسة ساهرة من أجلها، لتوقظها..

 وحتى إن نام الرعاة، هناك عين الله الساهرة، التي لا تنام.

إن لم تستطع نفسي أن تقول "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" فإنها ستقول لك يا رب "أنا نائمة ويكفي أنك أنت مستيقظ".

إن كلمة الرب قد تصل إلي النفس، وربما يبدو أنها لم تحدث أثرًا ولم تأت بنتيجة. ولكن عمل الروح القدس الدائم في النفس، سيظهر هذه النتيجة فيما بعد، لأن كلمة الرب لا ترجع فارغة (أش55: 11) إنها كالخبز علي وجه المياه، بعد أيام كثيرة تجده (جا11: 1).

 "أنا نائمة وقلبي مستيقظ". ربما يكون نومي كسلًا، وضعفًا، وفتورًا، وسقوطًا، ولكنه لن يكون خيانة..

فقلبي مستيقظ، وقلبي لك، يسمع صوت حبيبه قارعًا. قد أسقط في الخطية، ولكني أسمع الصوت في داخلي يوبخني ويقول إن هذا لا يليق.. قد أبعد عنك، ولكن نخسك لقلبي مستمر. ولن أستطيع مقاومته مدة طويلة.. قد أقاوم محبتك إلي حين، ولكن صعب علي أن أرفس مناخس (أع9: 5)..

  أنا أعلم أنني سأستيقظ. ولكن لا يجوز أن يطول نومي.

إن الرجاء لن يدفعني إلي التراخي، بل سيبكتني ضميري عليه فيما بعد، وسأوبخ نفسي كما قال لك القديس أوغسطينوس "لقد تأخرت كثيرًا في حبك". وكما قال بولس "أنا الذي كنت مضطهدًا للكنيسة" (1كو15: 9) إن مناخسك تعمل في قلبي وأنا نائم…

أنا يا رب لا أستطيع أن أبعد عنك: إحساسي بمناخسك في قلبي، تدل علي أن القلب مستيقظ، وأنه لن يقبل النوم.. إنني أسمع صوت الكنيسة تقول "قوموا يابني النور، لنسبح رب القوات" وقول الرسول "إنها الآن ساعة لنستيقظ" (رو13: 11) وأيضًا:

"استيقظ أيها النائم، فيضئ لك المسيح" (أف5: 14).

 "أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا".
إنني أعجب لهذه النفس التي تسمع صوت حبيبها وتظل نائمة!
بينما الله "فيما نحن ندعو، هو يستجيب".. إننا لا نعامله بنفس المعاملة. ما أكثر ما نغلق أبوابنا في وجهه، حتى يمتلئ رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل..

ولكننا نشكر الله في كل ذلك علي صبره وطول أناته.

إنه يدعو قائلًا "قومي يا حبيبتي وجميلتي وتعالي" (نش2: 10). ونحن نسمع ولا نستجيب. ويظل الرب يقرع علي أبوابنا ويقول "مددت يدي طول النهار لشعب معاند ومقاوم" (رو10: 21)..

 والعجيب أن أعذارنا كثيرة، نحاول بها أن نبرر بها عدم استجابتنا..

"غسلت رجلي، فكيف أوسخهما؟ّ خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟!.

يطبق القديس أغسطينوس هذه الآية علي النفس في دعوتها إلي الخدمة: نفس لبست البر، ونالت الطهارة، واستراحت إلي هذا ونامت. وصارت تحتج: كيف أخرج إلي الخدمة وأصطدم بما فيها من مشاكل وتعب! وفيما أنا أسير علي الأرض في طريق الخدمة قد تتسخ رجلاي مرة أخري، فكيف أوسخهما؟

ويجيب القديس أوغسطينوس: لا تتضايق إذا اتسخت رجلاك، فالمسيح قد غسل أرجل تلاميذه. وسيظل يغسلك كلما اتسخت..

إذا دعاك الرب، فلا تضع أمامك عوائق، ولا تعتذر بأعذار.. فطالما الأعذار موجودة، منخاس الله موجود..

 هل انتفعت هذه العروس بأعذارها؟! لقد قالت: حبيبي تحول وعبر..

ومع ذلك كان صوت حبيبها أقوي من جميع أعذارها.. كما أنها لم تستطع أن تحتمل عملًا آخر من أعمال محبته "حبيبي مد يده من الكوة، فأنّت عليه أحشائي".

لقد أنت أحشاؤها، لأن قلبها كان مستيقظًا ولم تحتمل محبة الرب.
"أنا نائمة" إنه اعتراف. والمعترفة بخطاياها قريبة من اليقظة.
إن كنت نائمًا، قم إذن واستيقظ، فالسيد الرب يقول "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة".

أولاد الله دائمًا متيقظون قلبًا وفكرًا وروحًا، متيقظون من نحو أنفسهم ونحو الآخرين "من يعثر وأنا لا ألتهب" (2كو11: 29).

ما أجمل ما نفهمه من هذا الفصل: إنه حتى الأبواب المغلقة لا يتركها الله، وإنما يق وراءها قارعًا، في حب وانتظار.

تأمل من سفر نشيد الأناشيد ...كَمْ رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب! (نش 4: 1) +++ البابا شنودة الثالث


 تأمل من سفر نشيد الأناشيد ...كَمْ رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب! (نش 4: 1) +++ البابا شنودة الثالث

 عبارة الطيب تتكرر كثيرًا في سفر النشيد: فهي في أوله، و في أخره، و خلال إصحاحاته الثمانية:

ففي أوله "رائحة أدهانك الطيبة"، "اسمك طيب مسكوب" (1: 3).
وفي أخره "أهرب يا حبيبي وكن كالظبي.. على جبال الأطياب" (8: 14).
وفي داخله "كم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب" (4: 10). وأيضًا "حبيبي نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات" (6: 2) "قطفت مري مع طيبي" (5: 1).

يضاف إلى هذا، ذكر كثير من مركبات الطيب:

وأخصها (المر) وهو عطر سائل، طعمه مرَ، ورائحته زكية جدًا.. مثال ذلك "اذهب إلى جبل المرَ، وإلى تل اللبان" (4: 7) "يداي تقطران مرًا" (5: 5). ومجموعة كبيرة من مركبات الطيب في (نش 4: 14): "ناردين وكركم، قصب الذريرة وقرفة، مع كل عود اللبان. مر وعود، مع كل أنفس الأطياب" (4: 14).

 في العهد القديم:

هذا الطيب يذكرنا بالدهن الذي للمسحة المقدسة في العهد القديم.
هذه المسحة التي كان يتم بها مسح الملوك والكهنة والأنبياء في العهد القديم، فيحل عليهم الروح القدس وبمواهبه.
كما كان يمسح بها بيت الله ومذابحه وكل أوانيه، فتصير مقدسة للرب.. حقا إننا ننظر إلى هذا الدهن المقدس وفاعليته، ونقول لكنيسة العهد القديم "رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب".

  عن هذا الدهن قال الرب لموسى النبي "و أنت تأخذ لك أفخر الأطياب: مرًا قاطرًا.. و قرفة عطرة.. وقصب الذريرة.. وسليخة.. و زيت الزيتون. و تصنعه دهنًا مقدسًا للمسحة. عطر عطارة، صنعة العطار.

دهنًا مقدسًا للمسحة يكون. و تمسح به خيمة الاجتماع، و تابوت الشهادة، و المائدة وكل آنيتها، والمنارة وكل آنيتها، و مذبح البخور، و مذبح المحرقة وكل آنيته، والمرحضة وقاعدتها". "و تقدسها فتكون قدس أقداس. كل ما مسها يكون مقدسًا". "و تمسح هرون وبنيه، و تقدسهم ليكهنوا لي. وتكلم بنى إسرائيل قائلاَ: يكون هذا لي دهنًا مقدسًا للمسحة في أجيالكم" (خر 30: 22 – 31) "مقدس هو، و يكون مقدسًا عندكم" (خر30: 32).

  حقًا، ما أعجب أدهانك أيتها الكنيسة، التي هي قدس أقداس، و كل ما مسها سيكون مقدسًا! إنها "أطيب من كل الأطياب".

 وفعل موسى حسب كل ما أمره الرب، هكذا فعل" (خر 40: 16). "أخذ موسى دهن المسحة، و مسح المسكن وكل ما فيه وقدَسه. و نضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته.."، "وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه.." (لا 8: 10 – 12).

  إنه دهن، طيب عطر، مقدس، كان الروح القدس يعمل من خلاله، للتقديس..
 ونسمع بعد ذلك أن صموئيل النبي "أخذ قنينة الدهن، و صب على رأس شاول ومسحه" (1 صم10: 1).

فكانت النتيجة"أن الله أعطاه قلبًا آخر " "و حل عليه روح الله فتنبأ"حتى قال الشعب "أشاول أيضًا بين الأنبياء" (1 صم10: 9 – 11). و صار شاول بهذه المسحة ملكًا..
 كذلك مسح صموئيل الفتى داود بهذا الدهن المقدس "فحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا" (1صم16: 13)

 حقًا، إن رائحة أطيابك أفخر من كل الأطياب".
 والدهن المقدس في العهد القديم كاب يمسح به الأنبياء أيضًا، كما مسح إيليا أليشع نبيًا عوضًا عنه (1 مل 19: 16).

 في العهد الجديد:

 أول طيب نذكره هو اسم الله، وبه ننال المعمودية.

 يقول سفر النشيد -حسب الترجمة البيروتية- "اسمك دهن مهراق" (نش 1: 3). ولكن أفضل من هذه الترجمة، الترجمة التي نستخدمها في طقسنا القبطي "طيب مسكوب هو أسمك (القدوس)".

 اسم الله هو طيب عطر، نستخدمه في كل صلواتنا. وبهذا الاسم نتعمد. كما قال الرب لتلاميذه القديسين "و عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19). كما قال القديس بطرس الرسول لليهود في يوم البندكستي "توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا.." (أع 2: 38).

 وهكذا في المعمودية، أخذنا طيب التبرير والميلاد الثاني (تى 3: 5) وغفران الخطايا (أع 2: 38).

 إن اسم الرب الذي دُعي علينا، نأخذ البنوة له في المعمودية. وبه نبدأ كل عمل، وكل صلاة. وباسمه نبدأ كل يوم من أيام حياتنا. ونذكر قول المرتل في المزمور (مز 63: 4، 5).

 "باسمك ارفع يديَّ، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم".

 حقًا إن "اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنع" (أم 18: 10). و ما أجمل ما نقوله للرب في التسبحة "اسمك حلو ومبارك: في أفواه قديسيك".

  "الطيب المقدس الذي نأخذه بعد ذلك، هو دهن الميرون المقدس.
 ونلاحظ أنه يشتمل على الأطياب التي وردت في مركبات مسحة العهد القديم في (خر 30) وأيضًا ما ورد في أطياب سفر النشيد (نش 4: 14).

 وبهذا الدهن المقدس ننال التقديس وسكنى الروح القدس فينا.

 نصبح هيكلًا للروح القدس، والروح القدس يسكن فينا (1 كو 3: 16) (1 كو 6: 19). ويعمل فينا روح الله، و ندخل في شركة الروح القدس. ألا يليق بنا، و نحن نرى هذا، أن نقول للكنيسة المقدسة"رائحة أدهانك أفخر من كل الأطياب".

 ذلك لأن الأب الكاهن، فيما يرشم المعمد بهذا الدهن المقدس (زيت الميرون) يقول هذه الصلوات:

 مسحة الروح القدس، آمين.. مسحة عربون ملكوت السموات، آمين.. مسحة مقدسة للمسيح إلهنا، وخاتم لا ينحل، آمين.

 كمال نعمة الروح القدس، ودرع الإيمان والحق آمين.
 وبهذا الدهن المقدس، يقدس كل أطراف المعمد، ومفاصله وفتحات جسمه. ويبدأ الروح يعمل فيه، بقوته، و مواهبه، وإرشاده.
 حقًا: رائحة أدهانك -أيتها الكنيسة- أفخر من كل الأطياب.

 "الطيب الرابع الذي نأخذه من الكنيسة، هو عمل الكهنوت.
 وكان عمل الكهنوت.. في العهد القديم – يبدأ بسكب الطيب المقدس على رأس رئيس الكهنة، كما يقول المزمور".. كالطيب الكائن على الرأس، الذي ينزل على اللحية، لحية هرون النازلة على جيب قميصه" (مز 132 ).

 لاشك أن الكهنوت هو طيب في الكنيسة، ننال به كل نعم الأسرار المقدسة، وننال به الرعاية والعناية.

 ننال به مغفرة الخطايا، حسب قول الرب لتلاميذه "من غفرتم خطاياه، غُفرت له" (يو 20: 23) "ما حللتموه على الأرض يكون محلولًا في السماء" (مت 18: 18). وننال بالكهنوت نعمة العماد (مت 28: 19)، "و الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس" (تى 3: 5). والمسحة التي لنا من القدوس (1 يو 2: 20)، والتناول من جسد الرب ودمه (1 كو 11).

 وبالكهنوت ننال التعليم الصحيح (تى 2: 1)، حيث من فم الكاهن تطلب الشريعة (ملا 2: 7) وهو يفصل كلمة الحق باستقامة (2 تى 2: 15).

 أيتها الكنيسة المقدسة، هذه هي "رائحة أدهانك الطيبة" (نش 1: 3).
 بل من الكهنوت أيضًا، نأخذ البركة في ختام كل اجتماع، بل البركة في كل وقت. كما علّم الرب موسى "هكذا تباركون.. قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد 6: 23 -26).

 وطيب الكهنوت لا يشمل فقط الأسرار والتعليم والبركة، وإنما يشمل أيضًا العمل الروحي كله.

 ومنه خدمة المصالحة، كما قال القديس بولس الرسول".. وأعطانا خدمة المصالحة.. إذن نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 18، 20). وفي هذه الخدمة كل ما يتعلق بالرابطة الروحية بين الله والناس. كل ما يتعلق "بتكميل القديسين، وعمل الخدمة، وبنيان جسد المسيح" (أف 4: 11، 12).

 حقًا يا كنيستنا المقدسة، "رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب".
  "طيب آخر تقدمه لنا الكنيسة المقدسة، وهو رائحة المسيح الزكية في حياتنا:

 وهكذا تكون الكنيسة مصدرًا للطيب، لرائحة الحياة الطيبة، كما يقول الرسول "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته.. ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان"، "لأننا رائحة المسيح الزكية لله" (2 كو 2: 14، 15). "رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16).

 رائحة الحياة الطيبة، هي طيب تقدمه الكنيسة إلى العالم.

 وهي -في قداستها وطهرها- "معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6) . يرى الناس أعمالها الحسنة، فيمجدون الآب الذي في السموات (مت 5: 16).
 إن أستير الملكة، كانت مثالًا، حينما بدأت حياتها كملكة، بأن وضعوها في العطور والأطياب مدة ستة أشهر (إس 2: 12).

 ورقم ستة في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل. كما خلق الله العالم في ستة أيام، وقام بعمل الفداء في اليوم السادس وفي الساعة السادسة..
 وكانت الملكة أيضًا – كما في حياة أستير: توضع أيضًا في زيت المر ستة أشهر. والمر عطر، له رائحته الطيبة وطعمه المر، يرمز إلى طيب الكنيسة في آلامها.

 وعن طيب الحياة، قيل عن الكنيسة في قدسية حياتها:
 "المر والميعة والسليخة من ثيابك" (مز 45).

 يعطينا هذا مثلًا عن ثوب البر الذي ينبغي أن نلبسه أمام الله، والثياب البيضاء التي نظهر بها هنا، وكان يظهر بها كما في ظهوراتهم في قصة القيامة (يو 20: 12). وكما يخدم الآباء الكهنة في الهيكل بثياب بيض..

 ثياب القديسين "غير المدنسة من الجسد" (يه 23) كانت طيبًا أمام الله، وكانت بركة أمام الناس. ونذكر في هذا المجال أنه قيل عن القديس بولس الرسول "كان يؤتى عن جسده بمناديل ومآزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشريرة" (أع 19: 12).

 إنها معطرة روحيًا أمام الله.
  وقد أشاد الله بالعطر ورائحته في كتابه المقدس:

 فقد أمر الرب موسى النبي من جهة البخور الذي يجب إعداده لتقديمه للرب إنه يكون "بخورًا عطرًا صنعة العطار" (خر 30: 25). كما يرمز الطيب إلى الحياة الطيبة.
 إن الكنيسة بالطيب الذي تظهر به في حياتها الطيبة، تبدو كما قيل في سفر الرؤيا "كعروس مزينة لعريسها" (رؤ 21: 2).

 ولعل هذا يذكرنا بقول أبينا إسحق أبى الآباء في مباركة ابنه يعقوب: "رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب" (تك 27: 27). حقًا إن الرب يحب الرائحة العطرة ويريدها:
 والطيب أيضًا يظهر في التقدمات والذبائح التي تقدمها الكنيسة للرب.

 وقد قيل عن أبينا نوح بعد رسو الفلك: إنه "أصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضًا بسبب الإنسان.." (تك 8: 20، 21).

  آخر طيب في حياتنا هو الطيب الخاص بتكفين الإنسان بعد موته:
 إن المرأة التي سكبت على السيد زجاجة طيب من ناردين غالى الثمن، ولامها بعض التلاميذ قائلين "لماذا هذا الإتلاف؟! لأنه يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء"، فقال لهم الرب "لماذا تزعجون المرأة. فإنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي، إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني" (مت 26: 8-12).

 وحدث هذا فعلًا في تكفين السيد المسيح أن أتى نيقوديموس "وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّا" فأخذ هو ويوسف الرامي جسد السيد، ولفاه بأكفان مع الأطياب كما لليهود عادة أن يكفنوا" (يو 19: 39، 40). كذلك في فجر الأحد جاء إلى القبر النسوة "حاملات الحنوط الذي أعددنه" (لو24: 1).

 أجساد القديسين الطاهرة التي عاشوا بها على الأرض كانت طيبًا صاعدًا إلى السماء استقبلتها الملائكة قائلين "من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6).

 أجساد كانت طيبًا يعطر الكنيسة، ولما تنيح أصحابها، صعدت أرواحهم إلى السماء كطيب عطر، و بقينا نضمخ رفاتهم بالطيب.

 المقصود أن الإنسان كما تكون حياته على الأرض طيبًا، فإن الطيب يفوح من جسده أيضًا عند تكفينه ودفنه.

 وهكذا نفعل مع رفات القديسين، إذ يضمخ الرفات بالأطياب والحنوط حتى تصبح رائحة رفات القديس عطرة باستمرار.

تامل من لوقا 1 ... البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا +++ القمص تادرس يعقوب


تامل من لوقا 1 ... البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا +++ القمص تادرس يعقوب

 البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا

 جاء السيِّد المسيح مخلِّصا للعالم، يهبه شبعًا داخليًا وفرحًا سماويًا، لذلك ففي الإعداد لمجيئه تمتَّعت أليصابات العاقر بإنجاب "يوحنا" الذي يعني "الله يتحنَّن أو يُنعم"، وانفتح لسان زكريَّا الصامت بالتسبيح. فإنَّ كانت أليصابات كامرأة تشير إلى الجسد، فبحنان الله ونعمته نُزع عن الجسد عاره، وتمتَّع بثمر روحي عجيب، بينما زكريَّا يمثِّل النفس وقد انطلقت في الداخل بروح التسبيح والفرح عوض الصمت القائم على العجز.

 يحدّثنا القدّيس لوقا عن قصّة البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا بلغة العابد المتخشِّع، فيقول:

"كان في أيام هيرودس ملك اليهوديّة كاهن اسمه زكريَّا من فرقة أبيَّا، وامرأته من بنات هرون واسمها أليصابات. وكانا كلاهما باريْن أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن لهما ولد، إذ كانت أليصابات عاقرًا، وكان كلاهما متقدَّميْن في أيَّامهما".

 ويلاحظ في عرضه للقصّة الآتي:

 ا. إذ كان القدّيس لوقا رجلًا علميًا كطبيبٍ، حدَّد بدقة تاريخ الحدَّث، أنه في أيام هيرودس الكبير ملك اليهوديّة، الابن الثاني لأنتيباس، الأدومي الأصل. تزوَّج عشر نساء، قتلا إثنتين منهنَّ، وكان له أبناء كثيرون، أعدم أحدهم. وقتل أطفال بيت لحم، وفي فراش الموت طالب بقتل شرفاء القدس حتى لا يجد أحد مجالًا للبهجة بعد موته، لكنه مات قبل تحقيق أمنيَّته.

 على أن الأحوال وسط هذا الجو القاتم سياسيًا ودينيًا، إذ توقَّفت النبوَّة أكثر من ثلاثة قرون، وعاش الكل في جوٍ من الفساد، ظهر إنسانان بارَّان أمام الله، هما "زكريَّا" ويعني "الله يذكر"، و"أليصابات" وهي الصيغة اليُّونانيّة للكلمة العبريّة "اليشبع" وتعني "الله يُقْسِم" أو "يمين الله". أنجب الاثنان "يوحنا" أي "الله حنَّان" أو "الله يُنعم". وكأنه وسط فساد هذا العالم، إذ نذكر الله ونلتحم بقسمه ومواعيده الصادقة ننعم بحنانه ونعمته الإلهيّة عاملة فينا.

 يعلِّق القديس أمبروسيوس على التعبير: "كانا كلاهما بارَّيْن أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم" بقوله: عبارة "بارّيْن أمام الله" لها مغزاها، فالأبرار أمام الناس ليسوا بالضرورة أبرارًا أمام الله. نظرة الإنسان تختلف عن نظرة الله، "لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فينظر إلى القلب" (1 صم16: 7).

فقد يبدو لي أن إنسانًا ما يستحق أن يُدعى بارًا، لكنه عند الرب ليس هكذا، لأن الدافع لقداسته هو التملُّق لا القلب البسيط. إذن فالإنسان لا يقدر أن يميِّز الخفيَّات، والمكافأة الكاملة هي أن نُحسب أبرارًا أمام الله، وكما يقول الرسول: "الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" (رو2: 29). مطوّب بحق ذاك الذي يتبرَّر أمام الله! مطوّب بحق ذاك الذي يتأهَّل أن يسمع الرب يقول عنه: "هوذا إسرائيلي حقًا لا غشَّ فيه" (يو 1: 47). فالإسرائيلي الحقيقي هو الذي يرى الله ويُدرك أن الله يراه، كاشفًا خبايا قلبه.

 يوضَّح العلامة أوريجينوس معنى تعبير "بارّيْن أمام الله" بقوله: قد لا يجد إنسان ما يشتكي به عليَّ بعد فحصه إيّاي، فإني بار أمام الناس... ولكن حكم الناس غير صحيح، فهم يجهلون إني يومًا ما أخطأت في الخفاء في داخل قلبي، ويجهلون إن كنت قد نظرت إلى امرأة واشتهيَّتها وعشت في زنا القلب. قد يراني الناس أتصدّق بحسب إمكانيَّاتي لكنهم يجهلون إن كنت أفعل ذلك لأجل وصيّة الله أم لطلب مديح الناس... طوبى للإنسان البار أمام الله، والذي مدْحه من الله، فالإنسان عاجز لا يقدر أن يحكم بعدل ووضوح. قد يمجِّد الناس من لا يستحق التمجيد، ويدينون من لا يستحق الإدانة. الله وحده عادل في المدح والإدانة.

 ويعلِّق العلامة أوريجينوس أيضًا على تعبير "بلا لوم" قائلًا: قيل عن الكنيسة بأنها "مجيدة لا دنس فيها ولا غضَن" (أف7: 25). ليس معنى هذا أن ابن الكنيسة لم يُخطئ قط، إنما يعيش في حياة التوبة. تعبير "بلا غضَن" يعني بغضه للإنسان العتيق وكفِّه عن الخطيّة، لذلك يكمِّل العبارة "لتكون مقدَّسة بلا عيب"، فقد ورثت النفس الخطيّة، لكنها تصير طاهرة بلا لوم إن زال عنها وسخ الخطيّة .

هذا ويُعلن الإنجيل برِّهما أمام الله وأنهما بلا لوم بالسلوك العملي في جميع وصايا الرب وأحكامه، وكأن البرّ الخفي يرتبط بطاعة الوصيّة وقبول أحكام الله؛ هذا هو طريق برّنا بالروح القدس الذي يهبنا في استحقاقات الدم أن ندخل إلى الوصيّة ونعيشها بالطاعة في فرح، ونتفهّم أحكام الله وتدابيره فنحمل روح التمييز فينا.

 إذ عالج القديس أغسطينوس موضوع "البرّ في المسيح" حدَّثنا عن برّ زكريَّا وأليصابات معلنًا أن رجال العهد القديم حُسبوا أبرارًا أيضًا في المسيح، خلال رجائهم في المسيَّا المنتظر الذي يقدَّم حياته مبذولة ثمنًا لبرّنا. ففي حديثه عن "الطبيعة والنعمة" يورد كلمات القديس أمبروسيوس، قائلًا: بلا شك عاش رجال العهد القديم بمثل هذا الإيمان في المسيح حتى قبل موته (على الصليب). فالمسيح وحده يرسل الروح القدس المعطَى لنا، خلاله تنسكب المحبَّة في قلوبنا، وبها وحدها يُحسب الأبرار أبرارًا .وفي موضع آخر يؤكِّد القديس أغسطينوس أن برّ زكريَّا قائم على عمل السيِّد المسيح الذبيحي خلال ممَّارسته الكهنوتيّة وتقديمه الذبائح الحيوانيّة كرمز لذبيحة المسيح، قائلًا: اِعتاد زكريَّا بلا شك أن يقدَّم ذبائح عن خطاياه .

 إن كان زكريَّا يُحسب بارًا، لكن هذا لا يعني أنه لم يصنع خطيّة، فقد كرّر القديس أغسطينوس في مواضع كثيرة قول القديس أمبروسيوس: ليس أحد في العالم بلا خطيّة.

ب. كان "زكريَّا من فرقة أبيَّا"، كلمة "أبيَّا" تعني "أبي هو يهو". هذه الفرقة من نسل أليعازر الكاهن، تعتبر الثامنة من الأربعة والعشرين فرقة التي قُسِّمت إليها طائفة الكهنة منذ وقت داود، كل فرقة تقوم بالعمل أسبوعًا كل ستة أشهر حسب قرعتها. وكانوا يلقون قرعة أيضًا ليعرفوا من يقع عليه اختيار الله للقيام بخدمة البخور من وسط الفرقة، وكان اليهود عادة يقدَّمون البخور صباحًا ومساءً فقط.

يرى القديس أمبروسيوس أن زكريَّا وقد "أصابته القرعة أن يدخل الهيكل ويبخِّر"  إنما يشير إلى السيِّد المسيح بكونه رئيس الكهنة الذي وحده يدخل إلى الأقداس السماويّة، يكْهِن لحسابنا ويشفع فينا بدمه، وأن إصابة القرعة تشير إلى إرساليته التي لم تكن من الناس بل من قِبل الآب.

 ج. يعلِّق العلامة أوريجينوس على تعبير الإنجيلي: "فظهر له ملاك الرب واقفًا عن يمين مذبح البخور"  بقوله أن الإنسان إذ له جسد كثيف لا يقدر أن يُعاين الكائنات الروحيّة والإلهيّة، ولا أن يشعر بها ما لم تظهر له. كأن ظهورات الله وملائكته تتوقَّف علي إرادة الله ورغبته أن نرى، فالله حاضر معنا، وأيضًا ملائكته ومع ذلك لا نراهم. ‎فمن كلماته:

ظهر الرب لإبراهيم ولأنبياء آخرين حسب نعمة الله، فليست عين إبراهيم الروحيّة (الداخليّة) هي علَّة الرؤيا للرب، إنما نعمة الله هي التي وهبت له ذلك.

يمكن أن يوجد ملاك بجوارنا الآن ونحن نتكلَّم، لكننا لا نستطيع أن نعاينه بسبب عدم استحقاقنا. قد تبذل العين المجرّدة أو الداخليَّة مجهودًا لتبلغ هذه الرؤيا، لكن إن لم يُظهِر الملاك نفسه لنا لا يقدر أن يراه المشتاقون إلى رؤيَّته.

هذه الحقيقة لا تخص رؤيتنا لله في هذا الزمان الحاضر فحسب، وإنما حتى حينما نترك هذا العالم، لا يظهر الله وملائكته لجميع الناس بعد الانتقال مباشرة... إنما تُمنح هذه الهبة لمن له القلب النقي الذي تأهَّل لرؤيّة الله. أما صاحب القلبالمثقل بالأوحال، فقد يوجد مع صاحب القلب النقي في مكان واحد، لكن يعاين صاحب القلب النقي الله، وأما صاحب القلب غير النقي فلا يري ما يشاهده الآخر.

اِعتقد أن هذا حدث بالنسبة للسيِّد المسيح حين كان بالجسد علي الأرض، فإنَّه ليس كل من نظره عاين الله... فبيلاطس رأي يسوع وهيرودس الوالي رآه ومع ذلك لم ينظراه كما هوإذ لم يستحقَّا ذلك.

وجاء تفسير القديس أمبروسيوس يحمل ذات الفكرتين أن الله وملائكته يظهرون حينما يريد الله كعطيّة إلهيّة، وأن القلب النقي يعاين الله... فمن كلماته:

إننا نرى الرب عندما يريد ذلك، لكننا لا نستطيع أن نراه بطبيعته كما هو... ظهر لإبراهيم لأنه أراد ذلك. لكن إن لم يردّ الإنسان فلا يظهر له الرب. رأى القدّيس إسطفانوس السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله، بينما كان الشعب يرجمه (أع7: 9)، ولم ينظر الشعب الله. أيضًا أبصر إشعياء السيِّد رب الجنود (إش 6: 1)، لكن أحدًا غيره لم يستطع أن ينظره.

ما الذي يدهشنا إن كان لا يرى أحد الله في هذا العالم إذ هو غير منظور، فلا يُرى ما لم يكشف هو عن ذاته؟ إنما في القيامة لا يراه غير أنقياء القلب، لأنه "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت5: 8). لقد طوَّب الرب الكثيرين، لكنه لم يعد بمعاينة الله إلا لأنقياء القلب.

لا نعاين الله في مكان ما بل في القلب النقي، لا تبحث عن الله بالعين الجسديّة... بل من يستطيع أن يدرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو، ويعرف محبَّة المسيح الفائقة المعرفة (أف4: 20)، فبرأفة الله علينا ورحمته يبلغ بنا إلى ملء قامة المسيح حتى نستطيع أن نعاينه.

 لكن ما يجب تأكيده أن الله وهو غير منظور يود أن يُعلن ذاته ويشتاق أن نراه، هذه عطيَّته المجانيّة يقدَّمها للقلب النقي؛ فهو يعمل فينا بلا انقطاع بروحه القدِّوس لكي تتنقّى قلوبنا فيه، وترتفع لمشاهدته، والتمتَّع بأحضانه الأبويّة، وشركة الأمجاد السماويّة.

د. ظهر ملاك الرب عن يمين مذبح البخور، أي ما بين المذبح الذهبي (الصلاة) ومائدة خبز الوجوه (سّر الإفخارستيا). وكأن من يريد أن يلتقي مع القوات السمائيّة يلزمه أن يبسط يديه بالصلاة، فيقدَّم ذبيحة حب وبخور طيب قدام الله، وأن يدخل إلى مائدة الرب، يلتقي برب السمائيِّين ويحمله في داخله.

فمن جهة الصلاة يقول القدّيس أوغريس: اِعلم أن الملائكة القدّيسين يدفعوننا إلى الصلاة، ويقفون إذ ذاك إلى جانبنا فرحين مصلِّين من أجلنا، فإذا تكاسلنا متقبِّلين أفكارًا غريبة نغيظهم كثيرًا، لأننا بينما هم يحاربون عنَّا بهذه القوّة، لا نريد نحن حتى التضرع إلى الله من أجل أنفسنا، بل نعرض عن خدماتهم، ونبتعد عن الرب إلههم لنذهب إلى الشيَّاطين الأدناس .

أما بخصوص الاقتراب من المائدة المقدَّسة، فيتحدَّث عنه القديس يوحنا الذهبي الفم قائلًا: كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، يطير مع السيرافيم، يترنَّم بالتسبحة المقدَّسة.

ه. "فلما رآه زكريَّا اضطرب، ووقع عليه خوف، فقال له الملاك: لا تخف يا زكريَّا..." . إن كانت رؤيّة السمائيِّين تجعل القلب مضطربًا لأنه ينظر أمرًا غريبًا، لكنه لا يبقى في اضطرابه، بل يجد السماء عينها تهتم به وتناديه باسمه، وتهتم به شخصيًا، وتشبعه بالسلام الداخلي مع عطايا وخيرات إلهيّة فائقة.

 يقدَّم لنا القديس أنطونيوس الكبير تمييزًا بين الرُؤى السماويّة والمناظر المخادعة، فالأولي حتى إن بدأت بخوف أو اضطراب لأن الإنسان لم يعتد رؤيَّتها لكنها تبعث سلامًا حقيقيًا في النفس، أما الأخرى فتفقد النفس سلامها؛ الأولي تلهب القلب بالسمائيَّات أما الثانية فتشعل الذهن وتربكه بالزمنيَّات، إذ يقول: [ظهور هذه الأرواح (الملائكة) هادئ وصامت يخلق فرحًا في النفس وشجاعة، لأن الرب فرحنا.

الأفكار التي تخلقها هذه الظهورات تجعل النفس غير متزعزعة حتى تُنيرها بهذا الفرح، فتعرف ما هي الأرواح التي تظهر لها، إذ أن الشوق الإلهي وشوق الخيرات العتيدة يدخلان النفس ويتَّحدان بها. إن كان يوجد من يخاف من ظهور الأرواح الشرِّيرة فهذه الأرواح (الصالحة) تطرح عنهم الخوف جانبًا بالمحبَّة التي تظهرها كما فعل جبرائيل مع زكريَّا (لو1: 3)، وكما فعل الملاك الذي ظهر للنسوة عند قبر الرب (مت28: 5)، وعندما ظهر للرعاة قال لهم: لا تخافوا (لو2: 10).

إن خوف هؤلاء لم يكن نتيجة الخوف بل نتيجة اليقين بظهور الملائكة الصالحين؛ هذا هو ظهور الملائكة القدّيسين. كما يقول:إذا ما رأينا أرواحًا وأثارت اضطرابًا وضربات خارجيّة وتخيُّلات دنيويّة وتهديدًا بالموت وكل ما ذكرناه، فلنعرف أن هذا هو هجوم أرواح شرِّيرة.

 و. لعل زكريَّا قد نسيَ طلبته من الله أو فقد الرجاء في الإنجاب، لكن اسمه "زكريَّا"يعني "الله يذكُر"، فقد ذكر الله له ولامرأته طلباتهما ووهبهما لا من يُفرح قلبيهما وحدهما، وإنما من يُبهج قلوب الكثيرين. إنه يعطي ما طلبناه بالرغم من نسياننا، ويعطينا أكثر ممَّا نسأل وفوق ما نطلب، يعطي مؤكِّدًا عطيَّته، فقد عيَّن له اسمه.

أما من جهة "يوحنا" كعطيّة الله لزكريَّا وأليصابات، فقد أعلن الملاك الآتي:

 أولًا: سّر فرح للكثيرين: "ويكون لك فرح وابتهاج، وكثيرين سيفرحون بولادته" . قلنا أن إنجيل لوقا البشير هو "إنجيل الفرح"، فقد أرسل الله يوحنا السابق لينادي بالتوبة مهيِّئًا الطريق للرب في قلوب الكثيرين، فيفرح السمائيُّون كما يفرح المؤمنون. غاية الله أن يردّنا إلى فرحه الأبدي، ونُوجد في سلامٍ سماويٍ لا يشوبه ضيق أو مرارة، وها هو يُعد لهذا الفرح حتى بالبشارة بميلاد السابق له.

في دراستنا لسفر اللاويِّين (ص 12) رأينا في شريعة المرأة التي تلد كيف تبدأ فترة الميلاد للطفل بفترة تُحسب فيها الوالدة كمن في نجاسة، إذ التصقت الخطيّة بنا حتى في ميلادنا وموتنا، والآن إذ بدأ يُشرق شمس البرّ علي البشريّة ويصالحها مع السمائيِّين تحوّلت حياتنا فيه إلى فرح، وصار الميلاد مُفرحًا، وكما يقول القديس أمبروسيوس: يوجد فرح خاص في بداية الحمل بالقدّيسين وعند ميلادهم، فالقدّيس لا يُفرِّح عائلته فحسب، وإنما يكون سببًا في خلاص الكثيرين. إن هذه العبارة تعلَّمنا أن نتهلَّل بميلاد القدّيسين.

أقول ليتنا نحن أيضًا إن كنا قد عشنا زمانًا هذا مقداره بنفسٍ عاقرةٍ وجسدٍ بلا ثمر روحي، فلنتقبَّل وعود الله السمائيّة، ونحمل حنان الله ونعمته أي "يوحنا"في داخلنا، فنبتهج ونتهلَّل بالله، ويفرح معنا كثيرون بل والسماء عينها تشترك معنا في فرحنا (لو15: 7).

لتكن حياتنا مثمرة في الرب فتبهج الكثيرين، ولا تكن عقيمة أو ثمرها قاتل أو مميت. يقول الأب تادرس: الحياة والموت ليسا في ذاتهما صالحين أو شرِّيرين، ويؤكِّد هذا ميلاد يوحنا ويَّهوذا. أحدهما كانت حياته نافعة ويظهر ذلك ممَّا قيل عنه:"وكثيرون سيفرحون بولادته"(لو1: 14). والآخر قيل عنه: "كان خيرًا لذلك الرجل لم يولد" (مت26: 24).

 ثانيًا: "لأنه يكون عظيمًا أمام الرب". لم يكن بعد قد وُلد يوحنا، ولا حبلت به في أحشائها،يدعوه الملاك "عظيمًا أمام الرب". فالعظمة لابكثرة الأيام والسنين، ولابقوّة الجسد والأعمال الظاهرة، إنما بالحياة الداخليّة القويّة.

كان العالم في ذلك الحين يحتقر الأطفال بوجه عام ولايقدَّم لهم حقًا إنسانية. لكن إنجيل السيِّد المسيح يكشف عن صداقته للأطفال، فيتطلَّع إليهم كعظماء في عينه،الأمر الذي أكده السيِّد المسيح فيما بعد لتلاميذه حين قدَّم لهم طفًلا ليمتثلوا به من أجل بلوغ العظمة السماويَّة (مت 18: 2-3؛ لو 18: 15).

لنكن أطفالًا في الشرِّ فنحسب عُظماء وناضجين في الرب، لكن لا نسلك في ضعف الطفولة غيرالناضجة، وإلا حُسبنا مُستعبَّدين تحت أركان العالم (غلا 4: 3)، وكما يقول القديس أمبروسيوس: الإنسان الناضج (روحيًا) وحده يتخطَّى أركان هذا العالم. لنكن ناضجين روحيًا في الرب فلا نحتقر الصغار كقول الرب:"اُنظروا لاتحتقروا أحد هؤلاء الأصاغر"(مت18: 10).

يحدّثنا القديس أمبروسيوس في تفسيره لإنجيل لوقا عن عظمة يوحنا المعمدان قائلًا: حياتنا لا تُقيَّم حسب الزمن وإنما حسب درجات الفضيلة... فقد دُعي يوحنا عظيمًا لابسبب قوَّته الجسديّة بل الروحيّة، فإنَّه لم يقهر إمبراطوريَّات ولا وضع في برنامجه أن تكون له غنائم ونصرات، بل تطلَّع إلى ما هو أفضَّل جدًا،إذ كان الصوت الصارخ في البريّة الذي صرع الملذَات الجسديّة وتراخي الجسد بسمو روحه وقوَّتها. كان صغيرًا في الأمور العالميّة، عظيمًا في الروحيات. أخيرًا فإنَّ سر عظمته هو عدم سيطرة حب هذه الحياة الزمنيّة عليه الأمر الذي لم يعقه عن إدانة الخطيّة.

 ثالثًا: "ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس". بعد أن حدَّد اسمه وأعلن فاعليته كمُفرِّح للقلوب أوضح إمكانيَّاته، فمن الجانب السلبي "خمرًا ومسكرًا لا يشرب"، كنذير للرب لا يكون لملذَات العالم أو بهجته موضع في قلبه أو في جسده، أما من الجانب الإيجابي فإنَّه لا يعيش محرومًا بل يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه. يُحرم من الخمر المادي المسكر ويرتوي بالخمر السماوي المفرح!

 يقول العلامة أوريجينوس:جاء رئيس ملائكة يعلن عن ميلاد يوحنا الذي يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه...، ففي بطن أمه تهلَّل يوحنا من الفرح، ولم يستطع أن يتوقَّف عندما جاءت أم يسوع، بل كان يحاول أن يخرج من بطن أمه..."هوذا حين صار صوت سلامك في أذني اِرتكض الجنين بابتهاج في بطني".

ويقول القديس أمبروسيوس: كان يفتقر لروح الحياة (كجنين) ونال روح النعمة، فإنَّ حقيقة الحياة تسبقها النعمة للتقديس، إذ يقول الرب: "قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدَّستك، جعلتك نبيًا للشعوب"(إر 1: 5). شتَان بين روح العالم وروح النعمة،فالأولى تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، أما الثانية فلا يحدّها الزمن ولا السنين، ولا يطفئ الموت شعلتها، ولا يغلق عليها رحم الأمومة... إن من يمتلك روح النعمة لا يعود يفتقر إلى شيء، ومن نال الروح القدس بلغ قمة الفضائل.

 رابعًا: "ويردّ كثيرون من بني إسرائيل إلى الرب إلههم". هنا يؤكِّد رسالته وهي ردْ الكثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم بتمهيد الطريق بالتوبة لقبول السيِّد المسيح مخلِّص العالم. يرى العلامة أوريجينوس أن العالم في حاجة مستمرَّة إلى عمل يوحنا الذي يسمِّيه "سرّ يوحنا" ليدخل بكل نفس إلى الثبوت في المسيح، إذ يقول: اِعتقد من جانبي أن سّر يوحنا لا يزال يتحقّق إلى يومنا هذا، فيستطيع الإنسان أن يؤمن بيسوع المسيح إن كان له روح يوحنا وقوَّته في نفسه، هذا لكي يعد شعبًا كاملًا لربِّنا، وإن كان له الخشونة ويسلك الطريق الضيق... إلى اليوم روح يوحنا وقوَّته يسبقان مجيء الرب يسوع .

 خامسًا: "ويتقدَّم أمامه بروح إيليَّا وقوَّته" . يعلِّق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة هكذا: لم يقل بنفس إيليَّا بل "بروح إيليَّا وقوَّته"، فكان لإيليَّا روح وقوّة كسائر الأنبياء... الروح الذي سكن في إيليَّا سكن يوحنا، والقوّة التي في إيليَّا كانت في يوحنا .

ويقدَّم لنا القديس أمبروسيوس مقارنة لطيفة بين إيليَّا ويوحنا المعمدان، جاء فيها:

عاش إيليَّا في البريّة وكذا يوحنا،

وكانت الغربان تعول الأول أما الثاني ففي طريق البريّة قد داس كل إغراءات الملاهي، وأحبَّ الفقر مبغضًا الترف. الواحد لم يسَعََ لكسب رضاء آخاب الملك، والثاني اِحتقر رضا هيرودس الملك.

رداء الأول مزَّق مياه الأردن، بينما الثاني جعل من هذه المياه مغسلًا يهب خلاصًا.

الأول ظهر مع الرب في المجد (عند التجلِّي)، والثاني يحيا مع الرب في الأرض.

واحد يسبق مجيء الرب الأول والآخر يسبق مجيئه الثاني.

الأول أنزل الأمطار على الأرض بعد أن جفَّت ثلاث سنوات والثاني غسل تراب أجسادنا في مياه الإيمان خلال ثلاث سنوات (سنة عهد الآباء وسنة عهد موسى والأنبياء؛ ثم سنة مجيء الرب إلهنا ومخلِّصنا).

إن سّر القوّة في القدّيس يوحنا أنه حمل روح إيليَّا، لا بمعنى روحه كشخص، إنما روح القوّة التي وُهبت له من قِبل الله، أو الإمكانيَّات التي قُدَّمت له، لهذا يقول القديس أغسطينوس: يقصد بروح إيليَّا الروح القدس الذي تقبله إيليَّا .

عظة الأربعاء عن الشيطان بتاريخ 6 أكتوبر 2010 بالقاهرة +++ البابا شنودة الثالث


عظة الأربعاء عن الشيطان بتاريخ 6 أكتوبر 2010 بالقاهرة  +++ البابا شنودة الثالث

الشيطان
† نحن نصلي كثيرًا قائلين "نجنا من حيل المضاد" والمضاد هو الشيطان وأريد أن أعرفكم بعض الشيء عن الشيطان إن كنتم لا تعرفوه.

من هو الشيطان؟

† الشيطان هو روح، فقد كان في الأصل ملاكًا من درجة "الكروبيم" كما يظهر ذلك في "حزقيال 28" حيث يقول له "أَنْتَ الْكَرُوبُ الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ"، "أَيُّهَا الْكَرُوبُ الْمُظَلِّلُ" (سفر حزقيال 28: 14، 16). كان الشيطان ملاك ولكنه سقط في الكبرياء ففي "أشعياء 14" نجده يقول: "أصعد إلى السماء فوق كواكب الله وأصير مثل العلي"، ونص الآية هو: "وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ" (سفر إشعياء 14: 13، 14) والعلي هو الله، ولذلك سقط.

† وعندما سقط الشيطان أسقط معه كثيرين جدًا من بعض طبقات الملائكة الذين نقول عليهم "الرؤساء والسلاطين والقوات والكراسي"، لكني لم أسمع أنه أسقط أحدًا من طبقة السيرافيم المتخصصة في التسبحة. ولا من طبقة العروش.

† والشيطان له أعوان كثيرون، سواء من الملائكة الذين سقطوا أو من البشر المطيعين له. فهو يعطيهم تعليماته وهم يطيعونه.

الشيطان دفع العالم القديم إلى عبادة الأصنام:
† عمل الشيطان في القديم كان واضحًا، حيث استطاع أن يلقي غالبية العالم في عبادة الأصنام. ومر وقت لم يكن فيه أحد يعبد الله إلا شعب الله. وحتى هذا الشعب أسقطه أيضًا في عبادة العجل الذهبي عندما كان موسى على الجبل، ولم يتبقى في هذا الوقت إلا ثلاثة يعبدون الله هم: موسى النبي - ويشوع بن نون - وكالب بن يفنة، فقط. والباقين جميعًا يعبدون الأصنام.

† الله قيد الشيطان 1000 سنة (1000 سنة هنا تعني مدة محددة). بعد هذا خرج أيضًا ليضل الأمم. وأريد أن أحدثكم عن صفات الشيطان؟ وما هو عمله؟

عمل الشيطان:

† عمل الشيطان هو الوقوف ضد ملكوت الله على الأرض فهو يحاول أن يضل الناس. لقد أضل أبوينا الأولين آدم وحواء، وأضل الناس في الشر إلى الدرجة التي جعلت الله يعاقب البشرية بالطوفان. وأضل أهل سدوم بالشذوذ الجنسي إلى الدرجة التي جعلت الله يعاقبهم بحرقها. وظل الشيطان ينشر الشر في كل مكان. فعندما سأله الله في قصة أيوب: "من أين أتيت؟" رد قائلًا: "من الجولان في الأرض والتمشي فيها"، ونص الآية هو: "الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «مِنَ أَيْنَ جِئْتَ؟». فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «مِنْ الْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ، وَمِنَ التَّمَشِّي فِيهَا»" (سفر أيوب 1: 7؛ 2: 2). أي أنه يتجول في الأرض ليلتقط صيدًا "كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ" (رسالة بطرس الرسول الأولى 5: 8).

حسد الشياطين:

† الشيطان هو العدو الأول للبشرية. وهو دائم العمل بنشاط شديد. وهناك ما يسمى "حسد الشياطين" فالشيطان إذا وجد إنسانًا بارًا يحسده على بره ويحاول أن يسقطه في الخطيئة بأي طريقة.

فمثلًا إذا وجد الشيطان شابًا عفيفًا يوجِد في طريقه فتاة قد تكون سببًا في إسقاطه في الخطيئة. وأيضًا إذا وجد فتاة عفيفة يرسل لها شابًا قد يكون سببًا في ضياعها.  وإذا وجد إنسان عابد لله يحاول بشتى الطرق أن يعطله عن عبادته. فالشيطان يجول يصنع شرًا وهذا ما نسميه "حسد الشياطين".  وسأعطيكم أمثلة من الكتاب المقدس على حسد الشيطان:

الشيطان حسد أيوب الصديق:

† قال الله عن أيوب: "أنه كامل ومستقيم يفعل الخير ويبعد عن الشر وليس مثله". وقد حسد الشيطان أيوب على بره فأراد أن يجربه.

الشيطان حسد يوسف الصديق:

† يوسف الصديق كان إنسانًا بارًا وكان الله معه وامتلأ بيت فوطيفار خيرًا بسببه. فكانت النتيجة أن الشيطان دخل في امرأة فوطيفار فرفعت عينيها إلى يوسف وكانت سببًا في متاعب كثيرة له، ولكن يوسف تمسك بطهارته وساندته النعمة.

الشيطان حسد داود النبي:

داود كان إنسانًا ناجحًا وهو الذي قتل جليات الجبار مما أثار عليه حسد الشيطان وأثار عليه النساءات الطيبات الذين قالوا "قتل شاول ألوفه وداود ربواته" فتسببوا في غيرة شاول الذي ظل يطارد داود ليتخلص منه. وهنا أود أن أقول لكم أن أحيانًا المحبة تؤذي. فهؤلاء النساء اللاتي أحببن داود مدحوه بطريقة أثارت غيرة شاول فأراد التخلص منه.

† دائمًا أقول للنساء: "اخلطوا عواطفكم بالعقل".  فقد تتسبب عدم الحكمة في إظهار العواطف إلى إثارة الكثير من المشاكل.  وأحيانًا يؤدي إعلان المرأة عواطفها تجاه رجل إلى إيذاء هذا الرجل.

صفات الشيطان:-

الشيطان متنوع في أساليبه:

† الشيطان أساليبه كثيرة لا تحصى.  قد يلقي الإنسان في ضيق أو في مرض أو في شهوة أو في إغراء أو في انحراف فكري أو في هرطقة. فكما قال بولس الرسول: "صرت لكل أحد كل شيء لكي أخلص على كل حال قومًا"، ونص الآية هو: "صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 9: 22) يقول الشيطان: "صرت لكل أحد كل شيء لكي أهلك على كل حال قومًا". فهذه وظيفته..

الشيطان لا ييأس أبدًا:

† والشيطان لا ييأس أبدًا. وهذه فضيلة يتميز بها الشيطان. ففي قصص الآباء قيل أنه ظل يحارب راهب متعبد لمدة 50 سنة حتى أسقطه. ظل يحاربه خمسين سنة دون أن ييأس.

† فالشيطان يسير بمبدأ: "الذي لا يسقط اليوم يسقط غدًا" و"الذي لا يأتي إليَّ اليوم يأتي إليَّ غدًا" فهو لا ييأس أبدًا.

الشيطان يحارب الجميع حتى الأقوياء روحيًا:

† قيل عن عمله في الكتاب المقدس: "أن الخطيئة طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء" فالشيطان يحب أن يسقط هؤلاء الأقوياء. يحب أن يجعلهم لعبته. ويفرح بسقوطهم. ولا ييأس من محاربتهم.

أسقط آريوس:

†كان آريوس واعظًا مشهورًا، بل كان من أشهر وعاظ الإسكندرية. أسقطه الشيطان في هرطقة وجعله سببًا لكثير من المشاكل.

أسقط يهوذا:

† يهوذا كان أحد التلاميذ الاثنى عشر الذين تبعوا المسيح. وقد استأمنه السيد المسيح على الصندوق وكان يجلس بجوار السيد المسيح في الفصح، ويقول الكتاب أن يهوذا عندما أخذ لقمة من الصحفة دخله الشيطان وخرج من تلك الليلة.   

الشيطان يعمل بحكمة وذكاء ودهاء:

† الشيطان يوصف بالحكمة والذكاء. ليست كل حكمة طاهرة نقية فحكمة الشيطان حكمة شريرة (حكمة في الشر). وقد قيل عن الحية القديمة التي ترمز للشيطان في قصة آدم وحواء "كانت أحيل حيوانات البرية". أكثرهم حيلة ومكر. فالشيطان يقترب من الإنسان ويرقبه ويحاربه بالطريقة التي تناسبه والتي يستطيع بها إسقاطه. فالذي يحب العظمة يسقطه بالعظمة. والذي يحب المال يسقطه بالمال. والذي يحب الشهوات الجسدية يسقطه بالشهوات الجسدية. يحارب كل إنسان بالطريقة التي تنجح في إسقاطه.

† كذلك الشيطان يختار الوقت المناسب لمحاربة الإنسان. فإذا وجد إنسان قويًا في روحياته ومحترس من الخطيئة يتركه وينتهز أي فرصة يكون فيها هذا الإنسان ضعيف أو بعيد عن الله فيهاجمه.

† يعمل الشيطان بدهاء في الوقت المناسب ومع الشخص المناسب ويرسل له المناسب من أعوانه. والشيطان له أعوان كثيرين وقد تكلمت في هذا الموضوع قبل ذلك في كتاب كان يتكلم عن ترقية شيطان في مدرسة الشياطين.

الشيطان نهاز للفرص ولديه خبرة في إسقاط البشر:

† الشيطان يقال عنه أنه نهاز للفرص وإذا وجد فرصة فهو يتمسك بها. وعنده خبرة كبيرة في إسقاط البشر في الخطيئة فلا أعرف في كل الذين قرأت عنهم في جميع الكتب من لديه خبرة مثل الشيطان.

† الشيطان لديه خبرة 7000 سنة في مقاتلة البشر من أول آدم وحواء إلى يومنا هذا. مرت عليه عقليات كثيرة. ونفسيات كثيرة وظروف كثيرة وأنواع أقوياء وأنواع ضعفاء وأنواع نشطين وأنواع كسالى وهو يتعامل مع الكل وعنده خبرة هائلة .

فإذا أراد الشيطان أن يشكك إنسان في الإيمان فلديه أفكار الشكوك من أول الفلاسفة القدماء إلى يومنا هذا. من الذي لديه علم وخبرة مثل الشيطان؟!

الشيطان له قوة الملاك:

† إذا أردت أن تقاومه يقول لك: "كان غيرك أشطر" كم حاربت أكبر منك وأسقطته. فالشيطان عنده قوة بحكم طبيعته الأولى كملاك. لقد فقد طهارته ولكنه لم يفقد طبيعته. يستطيع الشيطان مثلًا أن يتحرك من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في لمح البصر (كملاك).

† الشيطان لديه قوة يستطيع بها أن يوسوس في العقول ويوسوس في القلوب. فهو روح. ولكنه روح نجس. ولذلك يستطيع أن يصرع بعض البشر. أي يدخل في الإنسان ويؤذيه أذية شديدة.

† وقد حكى لنا الكتاب المقدس عن قرية الجرجسيين التي كان بها إنسان عليه روح نجس (شيطان). وكان الشيطان يجعله في منتهى القوة حتى أنهم يضطروا إلى تكتيفه بالسلاسل.

الشيطان لديه القدرة على التنكر والخداع:

† أيضًا الشيطان عنده القدرة على الخداع والتنكر. قيل عنه أنه يستطيع أن يظهر في هيئة ملاك من نور.

† قيل عن راهب متعبد جاءه الشيطان في هيئة ملاك وقال له: "أنا الملاك جبرائيل أرسلني الله إليك". فرد عليه الراهب القديس قائلًا: "أنا إنسان خاطئ لا أستحق أن يظهر لي ملاك، لعلك أُرْسِلت إلى غيري وأخطأت الطريق".

† وفي أحد المرات ظهر الشيطان لراهب متوحد في الجبل وأظهر له مركبة نارية وقال له: "الرب رأى أعمالك الصالحة العجيبة وقرر أن يرفعك في مركبة من نار مثل إيليا" وقد أراد الشيطان بذلك أن يجعل الراهب يصدق هذا الكلام ويضع رجله في هذه المركبة الوهمية فيسقط وينتهي لولا أن الرب أنقذه.

† فالشيطان خداع وكذاب وقال عنه الرب أنه "هو كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ" (إنجيل يوحنا 8: 44).

† وقد يظهر الشيطان في صورة صديق ينصحك نصيحة تتسبب في أذيتك. وقد يقوم بعمل آيات ورؤى كاذبة وأحلام كاذبة.

† في أحد المرات جاء للقديس الأنبا أنطونيوس وهو نائم وقال له: "قم واستيقظ للصلاة" فرد عليه الأنبا أنطونيوس قائلًا: "أنا أصلي عندما أريد الصلاة ولا أسمع منك. اذهب عني". فلا تظنوا أن الشيطان يدفعك للسرقة أو للزِنى أو للظلم فقط، بل قد يدفعك للصلاة وتكون هذه حيلة معينة ليسقطك بها (بطريقته..  وذلك من خلال الكبرياء مثلًا، أو أفكار خاطئة أو غيره.. إلخ)..

† وقد جاء في رسالة بولس الرسول الثانية إلى تسالونيكي ما سيحدث في أواخر الزمان وذلك المقاوم المرتفع على كل ما يرى إلهًا والذي سيعمل آيات ومعجزات بقوة الشيطان  وبكل خديعة الإثم في الهالكين.

† كذلك السحرة (إن وجدوا حاليًا) فهم يقومون بأعمال خارقة للعادة بقوة الشيطان.  فكان هناك سحرة في أيام موسى النبي وكانوا يصنعون أعمالًا عجيبة. فهذه خديعة الشيطان.

الشيطان مثابر جدًا في عمله:

† والشيطان مثابر جدًا للوصول إلى غرضه. أي يحتمل القديسين مهما صلوا وعبدوا وينتظر وقت ضعفهم ليضربهم بالخطيئة. الشيطان وصل به الأمر أن قام بحرب مع ميخائيل رئيس الملائكة.

† والشيطان في محاربته لك يهمس لك قائلًا: "أنا معك حيثما حللت"، "تشرق تغرب أنا معك". "لا أتركك أبدًا فأنت حبيبي أظل معك حتى تصير معي". وقد يأتيك في يوم الصوم أو التناول ويحاربك محاربات متتالية. قد يكون الناس في رأس السنة محترسين ويريدون أن يبدءوا سنة جديدة بدون خطيئة. فيحرص الشيطان على محاربتهم حتى يفسد هذه السنة الجديدة. فهذه طبيعة الشيطان.

البعض يفتخر بقوة الشيطان!

† بعض الناس يعرفون قوة الشيطان ويتكلمون عنها بافتخار. كمن يقول للآخر: "لقد أتتني فكرة جهنمية" ويقولها بافتخار أن أفكاره جهنمية.

† أحيانًا الناس يطلقون على الشخص شديد الذكاء لفظ "شيطان" فيقولون "هذا شيطان" أي بالغ الحكمة والدهاء. وقيل عن أحد الأولاد "ولكم تَشَيْطَن كي يقول الناس عنه تشيطن"! أي يقوم بأعمال شيطانية حتى يمتدح الناس شقاوته.
وعجيب أن يفتخر الناس بالشيطنة.

الشيطان يطور أساليبه:

† الشيطان من اهتمامه بإسقاط البشر في الخطيئة تجده يطور أساليبه ويجددها. يتطور مع التكنولوجيا ويدخل فيها ويحارب بها فهو يحارب بالإنترنت وبالكمبيوتر وبالموبايل يستخدمها كلها لمحاربة البشر.

† لعل الشيطان يجمع أعوانه ليمنحهم برنامج متقدم advanced course  لكي يصيروا شياطين عصريين على علم بأحدث أساليب الإيقاع بالبشر أي شياطين up to date.

† صدقوني حتى في اللاهوتيات يطوِّر الشيطان نفسه! ففي هذا الجيل الجديد سمعنا عن شهود يهوه، وعن المورمون وسمعنا كذلك عن السبتيين الأدڤنتيست، وهناك أيضًا التابعين للنقد الكتابي Biblical Criticism  فهم يخرجون ببدع وللأسف بعض الناس يعجبون بكلامهم لأنه غريب وينشرونه بكتبهم. شيء صعب.

ولكني بعد كل هذا لا أريدكم أن تخافوا من الشيطان، لأن الله لا يترك أولاده.

 موقف الله من الشيطان

الله يضع حدودًا لعمل الشيطان:

† الله برحمته يعمل بمبدأ تكافؤ الفرص فيترك الشيطان يأخذ فرصه لكن لا يتركه تمامًا بل يسمح له بالعمل في حدود معينة لا يتجاوزها.

† كما في قصة أيوب. سمح له أن يضع يده على ممتلكاته فقط. وعندما أراد الشيطان أن يجربه أكثر سمح له أن يجربه في جسده ولكن لا يمس نفسه. إذًا الله يضع للشيطان حدود لا يستطيع أن يتجاوزها.

 النعمة والروح القدس تشددنا لنغلب الشيطان:

† وأيضًا الله يتدخل بعمل النعمة حتى توقف عمل الشيطان. كما يتدخل بعمل الروح القدس لكي يوقف عمل الشيطان، ولكي يقوّي البشر إيجابيًا حتى يستطيعون مقاومة الشيطان.

 الله أعطى الرسل سلطانًا على الأرواح النجسة:

† بل أن الله أعطى الرسل سلطانًا على الأرواح النجسة ليخرجوها.

أنت بنعمة الله أقوى من الشيطان:

† لا تقل أنا ضعيف أمام الشيطان. بل يجب أن تشعر أنك أقوى منه بنعمة الله التي لديك. الشيطان يضعف أمام النعمة التي عندك. كم من الآباء استطاعوا أن يخرجوا شياطين. والشياطين كانت ترتعب أمامهم.

† هناك قصة عن رجل كان عليه شيطان وكان أحد الآباء يحاول إخراج هذا الشيطان بالضرب والتهديد بالحرق بشمعة أو عود كبريت. وفيما هو يفعل ذلك مر إنسان قديس في الطريق مرورًا عابرًا فخرج الشيطان لمجرد مرور هذا  الإنسان القديس. لم يستطع الشيطان أن يحتمل اقترابه. فالشيطان يخاف من الإنسان البار.

† طريقة الشيطان أن يقترب منك فإذا وجدك من النوع الضعيف المتراخي يحاربك لِيُسْقِطَك. ولكن إذا وجدك قويًا ومتمسك بالنعمة لا يقترب منك بل يهرب. وكم من القديسين والأبرار كانت الشياطين تهرب منهم.  وكم من الآباء كانوا يقولون للشيطان أخرج فيخرج. فالشيطان ليس بهذه القوة التي تخافها، بل هو ضعيف أمام الناس الأبرار مهما كانت قوته.. ومهما كانت خبراته..

الرب يكون معنا وينجينا من كل الأعمال الشيطانية.

من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (ج) ++ البابا شنودة الثالث


من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (ج) ++ البابا شنودة الثالث

 كنيسة الأمم:

إنها عبارة تتوجه بها كنيسة الأمم إلى بنات أورشليم، أي إلى كنيسة اليهود الذين يحتقرون الأمم، ولا يعترفون بهم شعبا لله..

يرون أن جماعة الأمم سوداء، لأنها قد حُرمت من أصل الآباء، ومن الناموس والأنبياء، بلا شريعة إلهية، بلا تقاليد، بلا عهد مع الله، وبلا وعود إلهية، بلا تاريخ، بلا نسب إلى أب الآباء إبراهيم.

لذلك فإن كنيسة الأمم تقول لهم أنني وإن كنت سوداء، إلا أنني جميلة في المسيح يسوع والانتساب إليه..

إن كنت سوداء، ليس لي إبراهيم أبًا، فأنا جميلة لأن لي أبًا في السماء. وأمي هي المعمودية التي وُلدت فيها من الروح القدس والماء.

 إن كنت سوداء لم أتعلم في مدرسة الناموس والأنبياء، فأنني جميلة إذ تدربت في مدرسة النعمة. لم أدرك الحرف، لكنني أدركت الروح "جعلنا الله كفاة لأن نكون خدام عهد جديد، لا بالحرف بل بالروح. لأن الحرف يقتل، ولكن الروح يحيي" (2كو 3: 6).

أنا لم أدرك الوصايا العشر، لكني أدركت العظة على الجبل وتعليم الإنجيل وسفر الأعمال وكتابات الرسل القديسين.

 أنا سوداء في نظر بعض البشر، لكنني جميلة كما يراني الرب.

سوداء في حكم قسوتكم كبشر. لكنني جميلة بحنان الرب ورحمته. إن الرب قد بسط علي جماله (حز 16: 14). وساواني بكم على غير استحقاق.

ماذا أقول للرب الذي أعطاني دينارًا، كالذين جاءوا إليه من أول النهار، أنا الذي أتيت في الساعة الحادية عشرة (مت 20: 9 – 15).

"بماذا أكافئ الرب عن كل ما أعطانيه؟! كأس الخلاص آخذ، وباسم الرب أدعو.." (مز 116: 12، 13).

 أنا سوداء لأنني زيتونة برية..

ولكنني جميلة لأنني طُعمت في الزيتونة الأصلية، فصرت شريكة في أصل الزيتونة ودسمها (رو 11: 17). هي قُطعت من أجل عدم الإيمان وأنا بالإيمان ثبت وأصبح الأصل يحملني. ولن أفتخر على الأصل (رو 11: 18).

 أنا سوداء بالنسبة إلى حياتي الماضية، ولكنني جميلة وأنا مغسولة بدم الذي أحبنا وغسلنا من خطايانا بدمه (رؤ 1: 5)

وهكذا صرت بيضاء كالثلج.. سوداء بطبيعتي الترابية المادية. وجميلة بحلول الروح القدوس في هيكلي (1كو 3: 16). فأناره وقدسه ودشنه.

سوداء كخيام قيدار (حفيد إسماعيل) التي لها شعر الماعز الأسود. ولكني جميلة كشقق سليمان، كستائر الهيكل التي من أسمانجوني وقرمز وأرجوان.. من الداخل. "وكل مجد ابنة الملك من داخل" (مز 45).

 أنا سوداء كالعشار في نظر الفريسي (لو 18: 11).

وكالمرأة الخاطئة في نظر فريسي آخر هو سمعان (لو 7: 39). وكالمرأة السامرية في نظر التلاميذ الذين تعجبوا من أن الرب كان يتكلم معها (يو 4: 27). نعم سوداء، كالمولود أعمى الذي شتمه اليهود قائلين له: أنت تلميذ ذاك (أي المسيح).. في الخطايا وُلدت بجملتك" (يو 9: 28، 34).

ولكنني جميلة في نظر الرب الذي بررني كل أولئك..

 أنا سوداء كالمرأة الكوشية التي أتخذها موسى النبي امرأة له (عد 12: 1).

ولكنها صارت باتحادها بهذا النبي، حسب تعليم الرب (1كو 7: 14) . وعلى الرغم من أن مريم وهارون قد تكلما على موسى بسبب تلك الكوشية، إلا أن الرب لم يوافقهما على ذلك، بل وبخهما وامتدح موسى.

وقد كانت تلك المرأة الكوشية رمزًا لي، أنا كنيسة الأمم.

وكالمرأة الكوشية، كانت ملكة سبأ، كلتاهما سوداء وجميلة.

وكل منهما كانت رمزًا. ومع أن ملكة سبأ (ملكية التيمن) كانت سوداء، إلا أنها كانت جميلة. لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان. وقد طوبها الرب وقال أنها ستقوم في يوم الدين مع ذلك الجيل وتدينه (مت 12: 12).

 كذلك مدينة نينوى كانت رمزًا لي أيضًا: سوداء وجميلة.

كانت سوداء في خطيتها، التي بسببها أرسل الله يونان النبي لكي ينادي عليها بالهلاك (يون 1: 1، 2). وكانت أممية أيضًا مثلي. ولكنها كانت جميلة في توبتها وصومها. حتى أن الله لما رأي أن أهلها قد "رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه" (يون 3: 10). بل قال ليونان".. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة؟!" (يون 4: 11).

وأكثر من هذا أن الرب قدَمها كمثال يوبخ بها اليهود، فقال لهم: "رجال نينوى سيقومون في يوم الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا" (مت 12: 11).

 أنا سوداء وجميلة، معترفة بحالتي. لست أنكر أصلي ولا شكلي. ولكنني جميلة في حياة الرجاء التي قدمها لنا الرب.

لي رجاء في الله الذي قبل إليه الابن الضال، قائلا أنه كان ميتًا فعاش، وكان ضالًا فوُجد" (لو 15: 24). ولم يكتفِ بهذا، بل ذبح له العجل المسمَن، وقال كان ينبغي أن نفرح ونُسر" (لو 15: 32).

حياة ذلك الابن الضال كانت سوداء في سقطتها، وجميلة في توبتها.

بل إن قصة هذا الابن الضال، كانت أيضًا رمزًا لكنيسة الأمم، التي بعدت أولًا عن الرب ثم عادت إليه، وفرح الله بعودتها بينما الابن الأكبر كان يرمز إلى كنيسة اليهود التي افتخرت بخدمتها له، ولم تفرح برجوع الأمم إليه (لو 15: 15 – 30).

 أنا سوداء، ولكن لي رجاء في الله الحنون الطيب.

الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز 18: 23). الله "الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا بحسب آثامنا. وإنما مثل ارتفاع السموات على الأرض، قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا.. لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 10-14).

 أنا سوداء في اعترافي بخطاياي. وجميلة بما آخذه من غفران وحل.

كذبيحة الخطية تُحرق خارج المحلة لأنها حاملة خطايا (عب 13: 11). ومع ذلك فهي جميلة لأنها قدس أقداس للرب (لا 6: 34).. وكذبيحة المحرقة التي تأكلها النار كلها حتى تتحول إلى رماد (لا 6: 10). ولكنها مع ذلك فهي جميلة، لأنها "رائحة سرور للرب" (لا 1: 9، 13، 17).

 أنا سوداء كفحمة في المجمرة، جميلة كلما اشتعلت بالنار.

تتوهج كلما أتقدت النار فيها، ولا نعود نبصر سوادها. وتتحول من فحمة إلى جمرة. وكل من يراها لا يقول عنها إنها فحمة. وإنما يقول: هذه نار، نار طاهرة.. صارت جميلة..

أنا سوداء كسحب الدخان، التي ترتفع من بخور عطر يحترق.

سوداء في لونها، ولكنها جميلة في رائحتها الزكية، وفي رموزها، وفي ارتفاعها إلى فوق، كصلوات القديسين.. كالمر غير المقبول في مذاقه، ولكنه جميل في رائحته الزكية، وفي رمزه لآلام المسيح.

 أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، هكذا تقول كنيسة الأمم.
ولكنها في بعض الأوقات كانت أكثر جمالًا من بنات أورشليم.
كان ذلك حينما قبلت الإيمان، في الوقت الذي رفضته فيه أورشليم التي أحبت الظلمة أكثر من النور (يو 3: 19). وهكذا قال الرب لبولس الرسول "اذهب فأني سأرسلك بعيدًا إلى الأمم" (أع 22: 21).

بل قبل ذلك حينما قال الرب مطوبًا إيمان قائد المائة:

"الحق أقول لكم: لم أجد ولا في أورشليم إيمانًا بمقدار هذا" (مت 8: 10).

وأضاف "وأقول لكن إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون في الظلمة الخارجية.." (مت 8: 11، 12). ومن هم أولئك الذين أتوا من المشارق والمغارب، إلا أبناء تلك السوداء الجميلة.

 يذكرني هذا بسوداء جميلة أخرى هي المرأة الكنعانية.

كانت سوداء لأنها تنتمي إلى شعب قد لُعن من قبل (تك 9: 5). ولكنها كانت جميلة حينما لجأت إلى السيد. وكانت جميلة بالأكثر حينما قالت له في انسحاق قلب "وأيضًا الكلاب تأكل من الفتات الساقط من مائدة أسيادها". وقد طوَب الرب جمال نفسيتها قائلًا لها "عظيم هو إيمانك" (مت 15: 27، 28).

 أخيرا فإن هذه السوداء الجميلة في سفر النشيد، تقول:

أنا سوداء، ولكني لن أبقى سوداء إلى الأبد.

أنا سوداء في هذا الجسد المادي، ولكنني سأصير جميلة في الجسد النوراني الروحاني الذي سآخذه عندما يلبس الفاسد عدم فساد، ويلبس المائت عدم موت، فيقوم في مجد وفي قوة (1كو 15: 43-24).

سأصير جميلة، وأنا آكل من شجرة الحياة، وأطعم المن المخفي (رؤ 2: 7، 16) ويعطيني الرب اسمًا جديدًا، ويلبسني ثيابًا بيضاء (رؤ 2: 16) (رؤ 3: 5).

من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (ج) ++ البابا شنودة الثالث


من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (ج) ++ البابا شنودة الثالث

 "أنا سوداء يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان. لا تنظرن إلىّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني" (نش 1: 5، 6).

"أنا سوداء" عبارة جميلة، تقولها النفس المتواضعة المعترفة بأخطائها. لا تجد حرجًا من ذكر نقائصها.

كلما تعترف هذه النفس بشيء من سوادها، يمحوه الله بدمه، ولا يعود يحسبه عليها. يغسلها الرب، فيبيضّ أكثر من الثلج..

 "أنا سوداء". تقول ذلك أمام الله والناس، وأمام ذاتها.

أمام الله: حينما تقول "إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت" (مز 51). وأما الناس: إذ لا تتفاخر ولا تتباهى. وأمام ذاتها: إذ هي نفس منسحقة في الداخل، ليست بارة في عيني نفسها..

فالنفس البارة في عيني نفسها، لا يمكن أن تقول "أنا سوداء"! أمنا حواء لم تستطع أن تقول هذه العبارة، ولا أبونا آدم استطاع.

 أنا سوداء بإرادتي وحريتي، وجميلة بمحبة الله التي تطهرني.
أنا سوداء، لأن الشمس قد لوحتني.

الشمس هي شمس البر، أي الله تبارك اسمه. وكلما تقترب النفس من الله الكلي القداسة الكلي البر، تشعر بأخطائها، وترى أنها لا شيء.. حتى إن كان لها برّ، فهو إلى جوار كمال الله يبدو كخرقة الطامث (حز 36: 17). فتصرخ هذه النفس قائلة: "أنا سوداء.. لأن الشمس قد لوحتني". بهاء الله أشعرني بسوادي..

حقًا إنه أمام الله، يتضاءل الكل "السموات ليست طاهرة أمامه وإلى ملائكته ينسب حماقة" (أي 4: 18).. فكم بالأكثر نحن الأذلاء!!

إننا إن تأملنا برّ القديسين والرسل والملائكة، نجد أننا لسنا شيئًا. فكم بالأولى إن تأملنا كمال الله وقداسته..

هذا الكمال الإلهي غير المحدود، قد لوّحني، فأصبحت أرى نفسي في الموازين إلى فوق (مز 62: 9).. ولكني على الرغم من هذا جميلة. لأن الرب سوف يلبسني ثوبًا أبيض، ويهبني إكليل البر، ويمنحني التجلي الذي أعطاه لتلاميذه، ويعيد إلىّ الصورة الإلهية التي خلقت بها وفقدتها..

 "أنا سوداء وجميلة" عبارة تصوّر حالة القديسين الذين -إمعانًا في الاتضاع- كانوا يتظاهرون بالجهل والتهاون والخبل!!

مثل القديسة العظيمة التي كشف سرّها القديس الأنبا دانيال، التي كانوا يدعونها (الهبيلة). وكانت تلقي بذاتها في تراخ وكسل خارج الكنيسة، ولا تحضر الصلاة مع الراهبات، ولا تقوم أمامهن بأي عمل من أعمال العبادة. فإذا نمن كلهن، قامت في ظلام الليل، وانتصبت أمام الله في صلوات عميقة طول الليل. حتى إذا ما استيقظت الراهبات تتراجع إلى صورة التراخي، وتتعرض للاحتقار والإهانة.

كانت في نظر الناس سوداء، لأنها أخفت برّها عنهم. ولكنها كانت في حقيقتها جميلة، وأجمل من الكل.

 القديس الأنبا رويس، كان -في أيامه- يبدو أمام الناس رجلًا حافيًا، يسير وراء جمله، بلا لقب ولا وظيفة ولا كهنوت. يزفه الأطفال قائلين: المجنون المجنون!!

صورته سوداء، ولكنها جميلة.

ويعوزني الوقت، إن سردت قصص القديسين الذين ساروا في هذا الطريق.. كأولئك الذين قالت لهم القديسة سارة:

"بالحقيقة إنكم إسقيطيون. لأن ما عندكم من الفضائل تخفونه! وما ليس فيكم من النقائص تنسبونه إلى أنفسكم!

 صورة تبدو أمام الناس سوداء. وهي في حقيقتها جميلة..

صورة الذين باستمرار يأخذون المتكأ الأخير، محتقرين ومرذولين من الناس. وقد ماتت نفوسهم عن المجد الباطل ومحبة المديح.

العشار وهو واقف من بعيد في مذلة الخطاة، لا يجرؤ أن يرفع نظره إلى فوق، كانت نفسه في نظر الفريسي سوداء، وهي جميلة!

كذلك الخاطئة التي بللت قدمي المسيح بدموعها (لو 7). كانت في نظر سمعان الفريسي سوداء! وفي نظر المسيح كانت جميلة.

إنها النفس المنسحقة التي تدين ذاتها، وهي غارقة في دموعها. التي يقول لها الرب حوّلي عينيك عني، فإنهما غلبتاني.

 يمكن أن عبارة (سوداء) تطلق على حياة الحرمان والتجرد، التي يحياها النساك وأشباههم من أجل الرب..

إن لعازر المسكين الذي كان يشتهي الفتات الساقط من مائدة الغني، وكانت الكلاب تلحس قروحه (لو16)، قطعًا كانت نفسيته تبدو سوداء في نظر الغني وأهل بيته. ولكنها كانت نفسًا جميلة حملتها الملائكة إلى حضن إبراهيم (لو 15: 22).

فإن كان من احتمل حرمانًا وقع عليه بغير إرادته، قد حسب أهلًا لهذا المجد، فكم بالأكثر من يتجرد بإرادته..!

أولئك الذين باعوا أملاكهم لُتعطى للفقراء، وعاشوا في جوع وعطش. وقد خسروا كل الأشياء، وهم يحسبونها نفاية لأجل معرفة المسيح (في 3: 8). ووضعوا أمامهم قول الرسول "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1يو 2: 15).. لاشك أن حياة أولئك وهي خالية من كل مباهج الدنيا، كانت تبدو لغيرهم سوداء! ولكنها كانت حياة روحية جميلة..

 هكذا الفتاة التي ترفض الملابس الخليعة، وما يناسب تلك الملابس من زينة، تبدو هذه الفتاة في نظر الأخريات فلاحة ومتأخرة! ولكنها جميلة..

إن النفس البارة التي لا تتشبه بأهل العالم "ولا تُشاكِل أهل هذا الدهر" (رو12: 2)..

تستطيع أن تقول لنظائرها "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". أنا لا أتمتع بشيء من مباهج الدنيا، ولكنني لا أشعر بحرمان! إنما يشعر بالحرمان، الشخص الذي يشتهي الشيء ولا يناله. أما الذي لا يشتهيه، فهو لا يشعر بحرمان. بل هو سعيد بما فيه. حياته في تجرده جميلة في عينيه..

 فضيلة التجرد في نظر الناس سوداء، وكذلك إخلاء الذات.

السيد المسيح أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد (في 2: 7). وُولد في مزود بقر، وعاش في بيت رجل نجار فقير، ومن أم يتيمة وفقيرة، ومن قرية صغيرة. وُدعي ناصريًا نسبة إلى الناصرة التي كانوا يتعجبون أن يخرج منها شيئًا صالح (يو 1: 46). وهرب في طفولته إلى مصر. ثم عاش لا يجد أين يسند رأسه (مت 8: 20). وكان "رجل أوجاع، ومختبر الحزن" (أش 53: 4). وأخيرًا حكم عليه بالموت، واستهزأوا به وصلبوه كفاعل إثم بين لصين..

صورة تبدو سوداء. وربما في نظر الناس تمثل المهانة والضعف! ولكنها كانت جميلة، تمثل الحب والبذل والفداء وإخلاء الذات.

 المحبة وهي صاعدة على الصليب، تقول للناس: لا تنظروا إلىّ لكون صورتي على الصليب تبدو سوداء في نظركم. لأن الشمس قد لوّحتني. عملية الإخلاء صيرتني سوداء.

وكذلك البذل والفداء جعلني "كشاه تساق إلى الذبح، كنعجة صامتة أمام جازيها" (أش 53: 7). إنها صورة سوداء وجميلة.

صدقوني إن قصة التجسد والفداء، في هذه العبارة العميقة "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم".

هذه الصورة التي حاول البعض أن يتبرأ منها: "ملعون من ُعلق علي خشبة" (غل 3: 13).. صارت أبهى وأجمل صورة في الوجود، يمجدها ويقبّلها الجميع. وتزين الناس والأماكن. ولا ينظرون إليها لكونها سوداء. فإن الشمس قد لوّحتها.. وكيف لوّحتها؟

 لقد غيّر السيد المسيح موازين العالم. غير الإيديولوجيات التي يؤمن بها الناس. وجعل هذه السوداء تبدو جميلة.

وهكذا كثير من الفضائل تبدو سوداء وهي جميلة.

ربما تبدو أمامك صورة سوداء، أن تحوّل الخد الأخر، وتمشي الميل الثاني. وتكون دائمًا مراضيًا لخصمك مادمت في الطريق (مت 5: 25). ولكنها صورة جميلة، تدل على نقاوة القلب من الداخل، وخلوه من الحقد ومن الرغبة في الانتقام.

إن التسامح أكبر وأقوى من الإهانة التي تصدر من أشخاص مغلوبين من أعصابهم!
ولذلك فإن الرسول يطلب من الأقوياء أن يحتملوا ضعف الضعفاء (رو 15: 1).
قوة الاحتمال تبدو كأنها ضعف، وكأنها سوداء وهي جميلة!
مثل مياه النيل المحملة بالطمي، هي أيضًا سوداء وجميلة.
كذلك فضيلة الصبر، فضيلة تبدو سوداء وُمرة. ولكن ما أجمل الصبر. يقول الكتاب "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 13).

 عبارة (سوداء وجميلة) تنطبق أيضًا على أولئك المظلومين، الذين لا يدافعون عن أنفسهم، ويظهرون كأنهم مذنبون، وهم أبرياء!

صورة أمام الناس سوداء، وهي جميلة. وليست فقط جميلة لأنهم أبرياء، بل بالأكثر لأنهم لم يدافعوا عن أنفسهم، ولم يهتموا أن يظهروا أمام الناس أبرياء.

مثال ذلك يوسف الصديق الذي كان في نظر الناس عبدًا، وقبل الأمر في صمت وعلى الرغم من إخلاصه الشديد لسيده، أتهمته المرأة ظلمًا، وألقى في السجن كفاجر.. بصورة سوداء، ولكنها في أعماقها أجمل الصور روحيًا.

لو دافع يوسف عن نفسه وقت بيعه، لأحرج أخوته الذين كانوا يبيعونه. ولو دافع عن نفسه في تهمة الزنا، لأحرج امرأة فوطيفار. وهكذا فضّل ألا يحرج أحدًا، وليكن هو الضحية وكبش الفداء.

صورة جميلة لنفسِ نبيلة، على الرغم مما فيها من العبودية والظلم.

 عكس الصورة التي تبدو سوداء وجميلة، الصورة التي تبدو جميلة وهي في حقيقتها سوداء.

مثل القبور المبيضة من الخارج، وفي الداخل عظام نتنه (مت 23: 27).

أما أولاد الله، فلا يهمهم الخارج ماذا يكون "ليكن أسود في نظر الناس، إنما المهم هو القلب من الداخل كما يراه الله الذي قال "يا ابني أعطني قلبك" (أم 23: 26).

إنهم يهتمون بالداخل الذي يراه الله، وليس بالخارج الذي يراه الناس. وهكذا يخفون صومهم وصلاتهم وصدقتهم، كما أمر الرب. وأبوهم الذي يرى في الخفاء، هو يجازيهم علانية (مت 6).

من كتاب مصر في تاريخ خلاصنا ... مصر ملجأ المسيح +++ القمص تادرس يعقوب ملطي


من كتاب مصر في تاريخ خلاصنا +++ القمص تادرس يعقوب ملطي

 مصر ملجأ المسيح

 تفسد الخطية قلب الإنسان وتحطمه فتجعل منه عبدًا ذليلًا عدوًا للخير، وفي نفس الوقت يشاركها عنفها وقسوتها. وأيضًا عوض الاتكال على الله يتكل الإنسان على ذراع بشر كما فعل إسرائيل ويهوذا حين أرادا التحالف مع فرعون مصر لينقذهما من بابل. الآن إذ يلجأ السيد المسيح إلى القلب يحول مصر الوثنية العبدة لإبليس إلى مصر الحرة المتمتعة بالبنوة لله. هكذا يتحد الإنسان الداخلي مع ابن الله الوحيد الجنس  بعمل روحه القدوس فيصير ابنًا بالنعمة.

يقول الإنجيلي متى: "وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم، قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر" (مت13:2،14).

هروب الطفل يسوع المسيح إلى مصر مع القديسة مريم والدته والقديس يوسف لم يكن بالأمر الثانوي في أحداث الخلاص. لقد رآه إشعياء النبي قبل حدوثه بأكثر من سبعة قرون وسجّل لنا هذا الحدث في الاصحاح التاسع عشر.

افتتح إشعياء نبوته عن مصر بصورة مفرحة تخص مصر، قائلًا: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها" (إش 1:19). وتسبح الكنيسة في عيد دخول السيد المسيح أرض مصر، قائلة: افرحي وتهللي يا مصر مع بنيها وكل تخومها، لأنه قد أتى إليك محب البشر، الكائن قبل كل الدهور.

 يرى القديس كيرلس الكبير أن السحابة الخفيفة السريعة (الترجمة السبعينية) هي القديسة مريم التي قدسها روح الرب فصارت خفيفة ومرتفعة، تحمل رب المجد يسوع لتهرب به إلى مصر من وجه هيرودس (مت 13:2،14). بدخوله ارتجفت الأوثان واهتزت العبادة الوثنية، وذاب قلب المصريين حبًا ليقبلوه ساكنًا فيهم.

يرى القديس أغسطينوس أن النفس التي ترتبط بالسيد المسيح خلال الإيمان الحي العامل بالمحبة تحمله فيها روحيًا، وكأنها قد صارت له كالقديسة مريم التي حلمته روحيًا كما حملته بالجسد! تحمله لكي تدخل به إلى كل قلب فيتمتع بالسيد المسيح فيه.

كان يمكن للسيد أن يلتجئ إلى مدينة في اليهودية أو الجليل لكنه أراد تقديس أرض مصر، رائدة العالم الأممي، ليقيم في وسطها. اهتم الوحي بهذه الزيارة الفريدة، بها صارت مصر مركز إشعاع إيماني حي. وكما خزن يوسف في مصر الحنطة كسندٍ للعالم أثناء المجاعة سبع سنوات، هكذا قدم السيد المسيح فيض نعم في مصر لتكون سرّ بركة للعالم كله.

 مصر التي امتلأت بالعبادة الوثنية حيث أقامت عجل أبيس والقطط والتماسيح والضفادع... آلهة، استقبلت رب المجد فيها، فأقام من قلوب المصريين مقدسًا له. تحولت مصر من كونها أكبر معقل للوثنية إلى أعظم مركز للفكر المسيحي والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية في فترة وجيزة. تلألأ نجم كنيسة مصر بمدرسة الإسكندرية معلمة اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس للعالم المسيحي الأول، وقائدة حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكوني. ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها تسحب قلب الكنيسة إلى البرية، تمارس الحياة الداخلية الملائكية في نفس الوقت الذي فيه انفتحت أبواب البلاط الإمبراطوري لرجال الدين، وكان الخطر يلاحق الكنيسة حيث يختلط العمل الروحي الكنسي بالسلطة الزمنية والسياسية. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "هلموا إلى برية مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات من الطغمات الملائكية في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليين... لقد تهدم طغيان الشيطان، وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة... حصنت نفسها بالصليب! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك".

 حملت كنيسة مصر صليب عريسها عبر الأجيال وقدمت أعدادًا بلا حصر من الشهداء والمعترفين، فاستشهدت أحيانًا مدن بأسرها وتسابق الكثيرون على نوال الأكاليل الاستشهاد بفرح وبهجة قلب.

يتحدث أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذه الزيارة المباركة لمصر لتقديسها، فيقول: "إذ كانت مصر وبابل هما أكثر بلاد العالم ملتهبتين بنار الشر أعلن الرب منذ البداية أنه يرغب في إصلاح المنطقتين لحسابه، ليأتي بهما إلى ما هو أفضل، وفي نفس الوقت تتمثل بهما كل الأرض، فتتطلب عطاياه، لهذا أرسل للواحدة المجوس والأخرى ذهب إليها بنفسه مع أمه"، كما يقول: "تأمل أمرًا عجيبًا: فلسطين كانت تنتظره، مصر استقبلته وأنقذته من الغدر!"

تحقق فيها الوعد الإلهي منذ يوم البنطقستي حيث سمع المصريون الرسل يتكلمون بلغتهم (أع 10:2)، وجاء القديس مرقس الرسول والإنجيلي يكرز بكلمة الإنجيل.

 تأديب مصر

هروب العائلة المقدسة إلى مصر وإقامة مذبح للرب هناك لا يعنى التغطية على شرورها، وإنما على العكس كشف الرب عن ضعفاتها وجراحاتها الروحية حتى ينزع الرب عنها كل ضعف (مملكة الشر) ويقيم فيها ما هو جديد (ملكوت الله). مجيء الرب يعنى هدم أوثانها وإزالة رجاساتها لأجل تقديس شعبها.

أولًا: قيام حروب أهلية: "وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه مدينة مدينة ومملكة مملكة، وتهراق روح مصر داخلها" (إش 2:19،3). هذه ثمرة طبيعية لاعتزالها الله واهب السلام الداخلي والحب والوحدة.

ثانيًا: فقدان الحكمة الحقيقية، فقد عُرف المصريون كشعب ذكي جدًا. يشهد الكتاب المقدس أن موسى قد تهذب بكل حكمة المصريين (أع20:7)، لكن اعتزالهم لله أفقدهم كل شيء فلم تسعفهم حكمتهم ولا علمهم وحضارتهم، فلجأوا إلى الأوثان يطلبون المشورة: "وأفنى مشورتها، فيسألون الأوثان والعازفين وأصحاب التوابع والعرافين" (إش3:19).

ثالثًا: المعاناة من حكام عتاة (إش4:19) يميلون إلى التسلط والسيطرة لا إلى خدمة الشعب وبنيان البلد. فإذ تقسو قلوب الشعب ببعدهم عن الله واهب اللطف والصلاح يسمح لهم بقيادات عنيفة، حتى كما يفعلون يُفعل بهم.

عندما يقسو قلبنا الداخلي نحو الغير لا نتوقع إلا أن يُكال لنا من ذات الكيل الذي به نكيل للغير، لذا يسمح لنا أن نسقط تحت قيادات عنيفة. هذا ما يحدث حتى في حياتنا اليومية في العمل والأسرة وحياتنا الشخصية. فإن من يقسو على والديه مثلًا نجد جسده عنيفًا في حربه الشهوانية ضد النفس. ما نزرعه للغير إنما نحصده في حياتنا الشخصية.

رابعًا: المعاناة من حالة جفاف: "وتنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس، وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقي مصر ويتلف القصب والأسل... والصيادون يئنون وكل الذين يلقون شصًا في النيل ينوحون... ويخزى الذين يعملون الكتان الممشط والذين يحيكون الأنسجة البيضاء، وتكون عمدها مسحوقة وكل العاملين بالأجرة مكتئبي النفس" (إش5:19-10).

خامسًا: فقدان الحكماء والمشيرين، فلا يعاني الإنسان فقط من حالة حرمان مادي، وإنما من معينين حكماء يسندونه وسط ضيقه. لذا قيل: "إن رؤساء صُوعن أغبياء، حكماء مشيري فرعون مشورتهم بهيمية. كيف تقولون لفرعون أنا ابن حكماء ابن ملوك قدماء، فأين هم حكماؤك فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر" (إش 11:19،12).

سادسًا: فقدان الوعي والدخول في حالة سكر. "مزج الرب في وسطها روح غيّ فأضلوا مصر في كل عملها كترنح السكران في قيئه" (إش14:19). لما كانت الخطية مُسكرة تُفقد الإنسان وعيه وهدفه في الحياة لذا متى شرب كأسها يسمح الله أن يحل به روح الضلال أيضًا ليترنح كالسكران بلا هدف. لا يكون له عمل جاد لبنائه وبناء الغير، سواء كان عظيمًا أو محتقرًا، نخلة أو أسلة (حلفاء). وهذا هو أخطر ما يصل إليه الإنسان، إذ يفقد بذلك كيانه الإنساني ليعيش أشبه بميت، لا طعم للحياة عنده.

سابعًا: الارتباك بحالة من الخوف. "في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترجف من هزة يد رب الجنود الذي يقضي به عليها" (إش16:19). فرعون الذي يحسب نفسه منقذًا لإسرائيل ويهوذا من يد أشور في عجرفة وكبرياء يرتعب هو ورجاله ويصيرون كالنساء أمام رب الجنود وأمام يهوذا (إش17:19). وكأن الرب يشجع يهوذا ألا يرتعب من كلما ت فرعون ولا يدخل معه في تحالف كما فعل إسرائيل وآرام، فإن فرعون نفسه يرتعب لا أمام أشور بل أمام يهوذا نفسه.

 إقامة مذبح للرب

بعد أن كشف الله عن جراحات مصر وما فعلته الخطية بها من فقدان للوحدة الداخلية والحكمة الحقة مع معاناة من قسوة الحاكم وقسوة الطبيعة (الجفاف) وارتباك في اقتصادياتها (الزراعة والصناعة) وعجز في الطاقات البشرية القيادية بل ودخول في حالة من اللاوعي والسكر مع الخوف والارتباك حتى أمام يهوذا المملكة الصغيرة، فإن الله يتدخل ليشفي جراحاتها ويخلصها، مقدمًا لها البركات التالية:

ا. لغة جديدة: "في ذلك اليوم يكون في أرض ممر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود يقال لإحداها مدينة الشمس" (إش18:19). ما هذه المدن الخمس إلا حواس المؤمن؛ فإذ يُقبل الأمم على الإيمان بالسيد المسيح يسلمون الحواس الخمس في يديه لتقديسها لتتكلم بلغة الروح عوض لغة الجسد، فيقال لها كما قيل لبطرس الرسول: "لغتك تظهرك" (مت73:26؛ مر70:14).

يرتفع قلب المؤمن إلى كنعان السماوية ليس فقط أثناء اشتراكه في سرّ الأفخارستيا وفي كل الليتورجيات الكنسية الحيّة، وإنما أيضًا أثناء عبادته الخاصة، بل وفي خلال حياته اليومية حتى في لحظات أكله وشربه ونومه. هذا هو عمل روح الله القدوس في حياتنا، يحملنا إلى السماء لنختبرها في أعماقنا، وتصير لغتنا كنعانية أي سماوية، لغة الحب والفرح الداخلي. نشارك السمائيين ليتورجياتهم وفرحهم الدائم، ولا نكون شعبًا "غامض اللغة" (حز5:3).

ب. القسم باسم رب الجنود؛ "تحلف لرب الجنود" (إش18:19). كان القسم دليل الثقة والإيمان بمن يقسم الإنسان باسمه؛ فعوض القَسَم بالآلهة الوثنية يقبل الأمم، وعلى رأسهم مصر، الإيمان برب الجنود ويتمسك المصريون باسمه، حاسبين ذلك سرّ قوتهم.

ج. دعوة إحدى المدن "مدينة الشمس" (إش8:19)، يقصد بها "هليوبوليس" التي كانت مركزًا لعبادة الشمس، فقد تحولت عن العبادة للشمس المادية إلى العبادة لشمس البر الذي يشرق على الجالسين في الظلمة. جاءت في الترجمة السبعينية "المدينة البارة"، إذ تحمل برّ المسيح فيها.

 د. إقامة مذبح للرب: "في ذلك الوقت يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها" (إش19:19). يقصد بهذا مذبح كنيسة العهد الجديد، إذ كان مذبح العهد القديم في أورشليم ولا يجوز تقديم ذبائح للرب خارجها. لقد عبرت العائلة المقدسة إلى صعيد مصر واختفت حوالي ستة شهور في الموضع الذي أقيم عليه الآن دير العذراء الشهير بالمحرق، وهو يعتبر في وسط مصر، فيه أقيمت كنيسة للرب وتُقدم عليه ذبيحة الإفخارستيا، التي هي تمتع بذبيحة الصليب عينها.

أما العمود الذي في تخمها فهو القديس مارمرقس الرسول الذي جاء إلى الإسكندرية (على تخم مصر) يكرز بالإنجيل، ويقيم مذبح كنيسة العهد الجديد، لكي يتمتع المصريون بالخلاص من عدو الخير مضايقهم، ويكون الرب نفسه محاميًا وشفيعًا ومنقذًا لهم (إش20:19).

هـ. المعرفة الروحية: "فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم" (إش21:19). اهتم المصريون بالمعرفة الروحية، وأُقيمت مدرسة الإسكندرية لهذه الغاية، نشر معرفة الرب لا خلال أفكار عقلانية مجردة، وإنما خلال حياة تعبدية نسكية وخبرة شركة مع الله الآب في ابنه يسوع المسيح بروحه القدوس. امتزجت المعرفة بالعبادة، إذ يكمل النبي: "ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرًا ويوفون به" (إش21:19). ولعل أروع من كتب عن ارتباط المعرفة بالعبادة كما بالسلوك الإنجيلي في الحياة اليومية هو القديس إكليمنضس السكندري، إذ جاء هذا الفكر خطًا ذهبيًا في كل كتاباته. فمن كلماته عن المعرفة (الغنوسية): هذه هي العلامات التي تميز غنوسيتنا: أولًا التأمل، ثم تنفيذ الوصايا، وأخيرًا تعليم الصالحين. متى وجدت هذه السمات في إنسان ما يحسب غنوسيًا كاملًا. وإذا فقد الإنسان إحدى هذه السمات تعطلت غنوسيته.

و. شفاء داخلي: "ويضرب الرب مصر ضاربًا فشافيًا فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم" (إش22:19). يسمح الله بضربها، أي بتأديبها عن الضعف الذي فيها لكي تكتشف ذاتها وتدرك حاجتها إلى المخلص، فترجع إليه لتجده الطبيب القادر وحده أن يشفي جراحات النفس ويرد لها سلامها. جاء مسيحنا طبيبًا ودواء في نفس الوقت:

 مبارك هو "الطبيب" الذي نزل وبتر بغير ألم، شفي جراحاتنا بداء غير مرير، فقد أظهر ابنه "دواء" يشفي الخطاة! +++ القديس مار افرآم السرياني

جاء الرب إلى مصر وضرب أوثانها ليجد المصريون فيه وحده سرّ شفائهم.

ز. إذ كان الصراع العالمي في ذلك الحين قائم بين أشور ومصر، وكانت الدول الأخرى من بينها إسرائيل ضحية هذا الصراع، فإن مجيء رب المجد يسوع يعطى للكل سلامًا، ويشعر الكل -في المسيح يسوع- أن الأرض للرب ولمسيحه، وليست مركزًا للنزاع، ويشترك الكل معًا في العبادة. في تصوير رائع لهذا السلام يقول النبي: "في ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى أشور، فيجيء الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى أشور، ويعبد المصريون مع الأشوريون. في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة في الأرض، بها يبارك رب الجنود قائلًا: مبارك شعبي مصر وعمل يدي أشور وميراثي إسرائيل" (إش24:19).

ماذا يعني "في ذلك اليوم" التي تكررت حوالي خمس مرات في الأعداد 18-25، إلا ملء الزمان الذي فيه جاء السيد المسيح ليحقق لنا هذه البركات، جاء بكونه "الطريق" الذي فيه تجتمع الأمم لتتمتع بروح الوحدة الروحية وفيض البركة. وماذا يعني اجتماع مصر وأشور وإسرائيل معًا في التمتع بالبركة الإلهية والميراث الأبدي؟ إنها صورة رمزية للكنيسة الجامعة التي ضمت الأعداء معًا بروح الحب والوحدة. لقد كانت إسرائيل في ذلك الحين في صراع بين التحالف مع مصر أو أشور القوتين العالميتين المتضادتين في ذلك الحين. لكن مجيء السيد المسيح عالج المشكلة إذ صار الكل أعضاء في كنيسة واحدة تتمتع بالعمل الإلهي، فدُعي المصريون شعب الله، وأشور عمل يديه، وإسرائيل ميراثه.

من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (ب) ++ البابا شنودة الثالث


من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (ب) ++ البابا شنودة الثالث

 يمكن أن تستخدم عبارة "أنا سوداء وجميلة" للدلالة على الإنسان الذي هو في حالة ضعيفة ومحتقرة أمام البشر.

مثل الآباء الرسل الذين كانوا صيادين من جهال العالم، حيث قيل عن بطرس ويوحنا إنهما "إنسانان عديما العلم وعاميان" (أع 4: 12). وكما كانت القديسة العذراء في نظر الناس إنسانة فقيرة خطيبة رجل نجار، ومع ذلك جعلها الله أسمى من الشاروبيم وأعلى من السارافيم وقبل رؤساء الملائكة.

 ويمكن لعبارة " أنا سوداء وجميلة " أن تكون وصفا لغير الإنسان:

كقرية بيت لحم التي كانت تعتبر أنها "الصغرى بين رؤساء يهوذا" ولكنها صارت من أعظم المدن إذ "خرج منها مدبر يرعى شعب إسرائيل" (مت 2: 6) هو المسيح الرب. وكذلك يمكن أن يوصف بنفس العبارة " مزود البقر " الذي ولد فيه رب المجد. أماكن سوداء ولكنها جميلة. ومثل مدينة الناصرة التي قيل عنها في تعجب "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!" (يو 1: 46). ومع ذلك كل تلك الأماكن مواضع مقدسة: سوداء كما كانت في نظر ذلك الزمان. ولكنها صارت جميلة.

مزود البقر الذي تعافه النفس، أتى إليه أباطرة وملوك لكي يتباركوا منه ويسجدوا فيه. وكل حبة تراب من أرضه تغنى قائلة: أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم.

عبارة "سوداء وجميلة" تستخدم أيضا في مجال الفضائل والمثاليات.

 فكثير من الفضائل تبدو للإنسان سوداء، بينما هي جميلة. ومن أمثلة ذلك الباب الضيق والطريق الكرب (مت 7: 14) وهكذا الصليب الذي ينبغي أن تحمله كل من يسير وراء الرب (مت 10: 38).

وقد تبدو سوداء، الأمور التي يتعب فيها الإنسان نفسه، وتضغط على إرادته: مثل تقديم الخد الأخر لمن يلطمه اللطمة الأولى (مت 5: 39). وكأن يبارك لاعنيه، ويحسن إلى مبغضيه (مت 5: 44). ويقبل الظلم في صمت. كشاه تساق إلى الذبح، ولا يفتح فاه " (أش 53: 7).. كل هذه تبدو أمامه أمورًا ضاغطة. و لكنها تهمس في أذنيه "أنا سوداء وجميلة"..

 هكذا كل أنواع التعب التي يتحملها الإنسان من أجل الخير:

ليس في الروحيات فقط، وإنما حتى في جميع الواجبات كتلميذ يسهر الليل، ولا يخرج لاهيا مع أصحابه. إنما يحبس نفسه في بيته، ويذاكر لكي ينجح. وأيضا رب الأسرة الذي يكدح ليلا ونهارا لأجل الحصول على قوت أسرته. أمثله كلها تعب، ولكنها جميلة.

الجلجثة عموما تبدو في نظر الناس سوداء، وكذلك الصليب.

سواء كان ذلك لأجل الفضيلة، وفي محيط الخدمة. انظروا ماذا يقول القديس بولس الرسول عن خدمته وخدمة معاونيه: مكتئبين في كل شيء، ولكن غير متضايقين. متحيرين ولكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين.. نسلم دائما للموت لأجل يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا المائت (2كو 4: 8-11).

 وما عبارات: مكتئبين، متحيرين، مضطهدين، نسلم دائما للموت، إلا عبارات تبدو سوداء، وهي جميلة.

كذلك يقول بنفس المعنى عن الخدمة "كمضلين ونحن صادقون. كمجهولين ونحن معروفون. كمائتين وها نحن نحيا.. كحزانى ونحن دائما فرحون. كفقراء ونحن نغنى كثيرين".. (2 كو 6: 8 10).

ونحن ننظر إلى عبارات: مضلين، ومجهولين، ومائتين، وحزانى، وفقراء.. فتهمس في أذننا "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم".

 وعبارة "بنات أورشليم" إنما ترمز إلى أولاد الله السائرين في طريقة. الذين ينتمون إلى أورشليم "مدينة الملك العظيم" (مت 5: 35)

إن أورشليم ترمز كثيرا إلى الكنيسة المقدسة. والأبرار سوف يسكنون في أورشليم السمائية، النازلة من السماء كعروس مزينة لعريسها (رؤ 21: 2) وبنات أورشليم هي النفوس المنتمية إليها التي تتحدث إليها عذراء النشيد. " أنا سوداء". أنا الباب الضيق الذي يوصل إلى الملكوت. أنا الوصايا الصعبة التي تبدو ضاغطة على " الأنا "، على الذاتية، على الكرامة البشرية، على الإرادة التي يناديها الرسول بقوله "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1 يو 2: 15)، بينما هي لم تتخلص بعد من محبة العالم..

 إننا مدعوون جميعا لأن نمشى في طريق الجلجثة حاملين الصليب.

ولا يوجد طريق إلى القيامة سوى الجلجثة. وإن نتألم مع المسيح، فلن نتمجد معه (رو 8: 17). ألام الزمان الحاضر قد تبدو سوداء، ولكنها لأنها تؤدى إلى المجد العتيد الذي سيستعلن فينا (رو 8: 18).

وجميع صلبان الحياة الروحية تصيح قائلة: أنا سوداء وجميلة.

هذه الصلبان (السوداء!) خاف من سوادها بطرس الرسول، فقال للرب "حاشاك يا رب أن يكون لك هذا" (مت 16: 21، 22). وظن بطرس أن الجمال يكون على جبل التجلي فقال للرب " يا سيدي، جيد أن نكون ههنا" (مر 9: 5).. كلا، أيها الرسول العظيم. إن المسامير والجلدات والأشواك، كلها سوداء، ولكنها جميلة، لأنها عن الحب، وفيها البذل والفداء.

 أيضا فضيلة الزهد والموت عن العالم، هي سوداء وجميلة.

قد يبدو صعبًا ومتعبًا، أن يحرم الإنسان نفسه من كل ملاذ العالم، حتى الحلال منها ويحيا في الوحدة، والصوم، وفي العوز والفقر، متجردا من كل الرغبات والشهوات.. ولكنها حياة جميلة.

صدقوني، إن الحياة الروحية كلها، يمكن أن تندمج تحت هذه العبارة: "سوداء وجميلة". إنها تذكرنا بقول الرب:

 " من وجد حياته، يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلى، يجدها" (مت 10: 39).

من ذا الذي يقبل أن يضيع نفسه؟! في نظره هذه العبارة سوداء. ولكنها جميلة، لأنها الطريق الوحيد الموصل إلى الله. ولهذا ذكرها الله كبداية للسير وراءه، فقال "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني" (مت 16: 24).. نعم، لابد أن تختفي ذاته، لكي يظهر الله في حياته.. تموت ذاته، لكي يحيا الله فيه..

 إن الحياة مع الله تبدأ بالموت. فتموت لكي نحيا.

ندفن معه في المعمودية، لكي نقوم في جدة الحياة. يموت إنساننا العتيق، لكي يولد إنسان جديد على صورة الله (رو 6: 3-8).

وهكذا يصرخ الطفل حينما نغطسه في الماء، ولكننا نلبسه بعد ذلك ملابس بيضاء، رمزا للحياة الطاهرة الجديدة التي يحياها. ونهنئ أهله على أن ابنهم قد مات مع المسيح. ماتت طبيعته القديمة. وكل شيء صار جديدا.

 التجارب والضيقات هي أيضا في المفهوم الروحي سوداء وجميلة.

أنظروا إلى تجربة أيوب كمثال. كانت تبدو سوداء للغاية، إذا قد تم تجريده من كل شيء: من الأولاد والمال وكل غناه، ومن صحته ومن راحته. حتى من أصحابه الذين عيروه ظلما. حتى من كرمته أيضا، إذ يقول أيوب " أقاربي قد خذلوني، والذين عرفوني نسوني. نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبيًا. صرت في أعينهم غريبا. عبدي دعوت فلم يجب. بفمي تضرعت إليه. نكهتي مكروهة عند امرأتي، وخممت عند أبناء أحشائي.. كرهني كل رجالي، والذين أحببتهم انقلبوا على (أى 19).

وبقدر ما كانت تجربة أيوب سوداء، إلا أنها كانت جميلة .
إذ قال فيها لله: بسمع الأذن سمعت عنك. والآن رأتك عيني (أى 42: 5).

دخل في التجربة السوداء. فخرج أبيض أكثر من الثلج. خرج منها بخيرات مضاعفة (أي 32: 10، 12). وبخبرات روحية عميقة (أى 40: 4) (أى 40: 4) (أى 42: 2 6). كما كانت تجربة جميلة، كقدوة للآخرين ومثال (بع 5: 10، 11).

 إننا نصلى إلى الله قائلين "لا تدخلنا في تجربة" (مت 6: 13). ولكن جمال التجارب التي نخافها، يظهر في قول يعقوب الرسول:

"أحسبوه كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع 1: 2).

خذوا تجربة ثانيه هي تجربة أبينا إبراهيم: كم كانت شديدة وحساسة جدًا، إذ قال له الرب "خذ أبنك، وحيدك، الذي تحبه نفسك، إسحق.. وأصعده لي محرقة على أحد الجبال الذي أريك إياه" (تك 22: 2). أمر صعب، ويبدو فوق الاحتمال. وأخبار تبدو سوداء. حتى أن إبراهيم لم يستطيع أن يقولها لزوجته سارة، خوفًا من أن تسقط ميتة عند سماعها.. ! ومع ذلك كانت هذه التجربة جميلة، في أنها أثبتت إيمان إبراهيم وطاعته، وجعلته مثلا في الطاعة. كما كان من نتيجتها قول الرب له " من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وجيدك عنى، أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء، وكالرمل الذي على شاطئ البحر.." (تك 22: 16، 17)

مع أن تجربة إبراهيم في ذبح ابنه كانت تبدو سوداء، إلا أنها كانت جميلة، كمثال للفداء، وللطاعة، وللإيمان. صورة رائعة..

 بالفهم البشرى كل تجربة تبدو سوداء. ومن الناحية الأخرى لا بد أن وراءها خيرًا. أول معرفة ابرام بالله، كانت تبدو تجربة، حيث قال له " اذهب من أرضك ومن عشيرتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك" (تك 12: 1).. حرمان من الأهل ومن الأقارب والوطن. ومع ذلك كانت التجربة جميلة، إذ قال له الرب فيها: " فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم أسمك، وتكون بركة.. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تك 12: 2، 3).

إن سواد التجربة يكمن في الفهم البشرى الخاطئ لها. أما جمالها فهو في القصد الإلهي منها، والفهم الروحي لها.

 الطاعة أيضًا قد تبدو سوداء أحيانًا، عندما تضغط على الإرادة.

صعب أن يتخلى الإنسان عن مشيئته ورغبته، وربما عن فكره الخاص، وينفذ مشيئة غيره.. كالطفل الذي يحرمه أبوه من ألعابه وأصحابه، ليجلس إلى دروسه.. ولكن الطاعة جميلة، لأن فيها الخير. وبها تتدرب نفوسنا وتكبر. وما أخطر ان يسلك الإنسان حسب هواه، كما يفعل الابن الضال! وكما يفعل الوجوديون الملحدون الذين يطيعون هواهم ليتمتعوا بوجودهم!!

 أيضا من الأشياء التي تبدو سوداء وجميلة: التوبيخ والتأديب:

صعب على الإنسان المهتم بكرامته، أن يسمع كلمة توبيخ وكلمة انتهار، وأن توقع عليه عقوبة..! بينما نرى النفس التي تسعى إلى خلاصها، ترحب بكلمة التوبيخ وتفرح بها، لأنها تكشف لها أخطاءها، لكي تعالجها فتخلص..

إن التأديبات جميلة "لآن الذي يحبه الرب يؤدبه" (عب 12: 6).

ولكنها سوداء في نظر الذين لا يحتملونها. إذ تخدش "الذات" التي يحرصون عليها، وتحرم من المديح الذي يحبونه!

عندما قال الرب لبطرس "اذهب عنى يا شيطان. أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله، لكن بما للناس" (مت 16: 23).. لم يغضب بطرس، بل سمع عبارة التوبيخ في محبة، لخلاص نفسه.

إن الله يعلمنا الحياة: بكلمات الحب حينًا، وبكلمات التوبيخ حينا أخر. بالبشارة المفرحة حينا، وبالصليب حينا أخر.. بالخيرات التي تنسكب من السماء حتى نقول كفانا كفانا، وأيضا بالتجارب والضيقات..

 أيضا فضيلة التعب من أجل الرب، هي كذلك سوداء وجميلة..

سواء التعب في السهر والصوم والنسك والمطانيات وضبط النفس.. ما أسهل أن يستريح الإنسان، ويسترخى تحت فراشه الدافئ.. ولكن الجميل هو أن يقوم ويصلى صلاة نصف الليل، فيجد التعزيات الجميلة. كذلك الذين يمارسون المطانيات لا يشعرون فيها بتعب إنما بلذة روحية. و الصوم أيضا ليس حرمانا للجسد بل هو نشوة للروح. كما أنه مفيد للجسد من نواح متعددة..

 نفس الكلام نقوله عن العشور والبكور، والعطاء عن احتياج.

ما أصعب ممارسة البعض لهذه الوصية، مع شعورهم باحتياجهم لكل قرش يدفعونه! ولكن ما أجملها في البركة وفي البذل، وفي المحبة التي نظهرها نحو الفقراء، وفي إطاعة الوصية..

إن الفضيلة قد تكون صهبة وسوداء بالنسبة إلى المبتدئين، الذين يشتهى فيهم الجسد ضد الروح. أما عند القديسين فهي جميلة ومحبوبة.

إن الكاملين الذين ذاقوا حلاوة الحياة الروحية ولذة العشرة مع الله، لا يرون الفضيلة سوداء مهما بدت صعبة! بل هي في نظرهم جميلة يشتهونها بكل قلوبهم. وهكذا يقول القديس يوحنا الحبيب " ووصاياه ليست ثقيلة" (1 يو 4: 3). ويتغنى داود كثيرا بوصية الرب فيقول إنها "مضيئة تنير العينين" (مز 19). وإنها أحلى من العسل في فمه، وأغلى من الجوهر (مز 119).

 إن النفس التي تعبت من أجل الرب وعاشت في العالم كسوداء، "لا صورة لها ولا جمال" (أش 53: 2) في مذلة الاتضاع والاحتمال، لا متعة لها بالعالم وكل ما فيه، ولا غنى فيه وجاه، "خسرت كل الأشياء وهي تحسبها نفاية لكي تربح المسيح" (في 3: 8)، وأضاعت نفسها لكي تجدها.

هذه النفس عندما تصعد إلى فوق، ستقول لنفوس الأبرار في الفردوس "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم".

من تأملات سفر نشيد الأناشيد ... أنا سوداء وجميلة (أ) (نش 1: 5) ++ البابا شنودة الثالث


من تأملات سفر نشيد الأناشيد ...  أنا سوداء وجميلة (أ) (نش 1: 5) ++ البابا شنودة الثالث

 هذه العبارة تقولها كنيسة الأمم.

التي تعتبر سوداء لأنها كانت غريبة عن رعوية شعب الله بلا ناموس, لا أباء ولا أنبياء, بلا وعود من الله, وبلا عهود منه, وبلا معرفة إيمانية به (أف 2: 12). فهي من هذه الناحية سوداء في نظر اليهود ولكنها تخاطبهم قائلة "أنا سوداء يا بنات أورشليم" من وجهة نظركم أنتم ولكني جميلة في عيني الرب.

 النفس البشرية الخاطئة, هي أيضا سوداء.

سوداء من جهة ضعفها وسقوطها ولكنها جميلة بدم المسيح الذي يطهرها من كل خطية (1 يو 1: 7) فهي تقول أنا سوداء في حالة الخطية ولكن جميلة في حالة التوبة, سوداء في حاضري وماضي ولكني جميلة في المستقبل, بالرجاء.. آنا سوداء وآنا بعيدة عن الله ولكني أؤمن بقوة الله الذي سينتشلني مما أنا فيه وهو الذي سوف يتوبني فأتوب (أر 31: 18) وأصبح جميلة, لأن الجمال هو طبيعتي التي خلقت بها كصورة الله على شبهة ومثالة (تك 1) باعتباري نفحة خرجت من فم الله, واستقرت في ترابي (تك 2).

 أنا جميلة -كصورة الله- أما الخطية فهي دخيلة على طبعي.

هذه الخطية زحفت إلي من سبب خارجي "لأن الشمس قد لوحتني" ولكني جميلة باعتبار أن نعمة الله لابد ستفتقدني في يوم ما, وسيعمل في روحه القدوس ولن يتركني إلي سوادي.

 لقد كنت سوداء بخطيتي الجدية المورثة.  ثم تجددت في المعمودية.

دخلت جرن المعمودية، حيث صُلِبَ إنساني العتيق (رو 6: 6) "ليبطل جسد الخطية".  وخرجت من جرن المعمودية بيضاء وجميلة.

ثم اسودَّت بشرتي، لأن الشمس قد لوَّحتني.  ولكني واثقة أنني سأدخل جرن التوبة، حيث يغسلني الرب فأبيض أكثر من الثلج (مز 50) وأصبح جميلة.

الله الحنون سوف ينضح عليَّ بزوفاه فأطهر.  سيخلق فيَّ قلبًا نقيًا.  وأيضًا سوف يجدد روحًا مستقيمًا في أحشائي (مز 50).  وبنعمته سوف يردني إلى رتبتي الأولى، الجميلة.

 أنا سوداء لأني في مرحلة من التخلي "طلبته فما وجدته".

ولكني واثقة بالرجاء أني لابد سأجدهُ ولو بعد حين. وحينئذ سيلقي على بره, فأصبح جميلة مرة أخرى.

 أنا سوداء يا بنات أورشليم البيض الجميلات.. ولكني أحذركن:

لا تشمتن بي، ولا تهزأن بسوادي كأنه عار.

فالرسول يمنعكن إذ يقول " أذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم. واذكروا المذلين كأنكم انتم أيضًا في الجسد" (عب 13: 3). كما يقول من هو قائم، فلينظر لئلا يسقط (رو 11)، كلكم معرضون أن تلوحكم الشمس مثلي.

 لقد كانت لي أخت سوداء وصارت جميلة. أنها الأرض!

قيل في اليوم الأول أن الأرض "كانت خربة وخاوية، وعلى وجه الغمر ظلمة" (تك 1: 2) تلك الظلمة تعني أنها سوداء.. "ثم قال الله: ليكن نور, فكان نور". وصارت الأرض الخربة جميلة، وامتلأت بالثمار والأزهار " ورأى الله ان ذلك حسن".

وأنا أيضًا أنتظر اليوم الذي يقول فيه الرب: ليكن نور.

فيكون نور. ويرى الله النور إنه حسن. وأصير جميلة.

إنني أعيش برجاء ذالك اليوم لست أعيش في ظلمتي الحاضرة, وألا خنقني اليأس!.. إنني بالرجاء انتظر النور الآتي. انتظر أن يغسلني الرب, فابيض أكثر من الثلج. أن عبارة "أبيض أكثر من الثلج" عبارة معزية مملوءة بالرجاء. سأعيش فيها.

 إن كنيسة الأمم عندما قالت أنا سوداء وجميلة, كانت في عمق الإيمان بالخلاص الأتى.

كانت مؤمنة بمجيء من يحمل خطايا العالم كله.

وعندما قالت أنا جميلة ذكرتني بقول المرتل في المزمور: " أرحمني فأني بار" (مز 86)، وفي قوله هذا، لم يتكلم عن بره الذاتي، إنما عن البر الأتي بالدم المسفوك، الذي سيطهره فيبيض أكثر من الثلج "متبررًا مجانا بالنعمة" (رو 3: 24) وبنفس الوضع تقول عذراء النشيد عن نفسها إنها جميلة فالرسول يقول " لان جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح (غل 3: 27) أي لبستم البر الذي له.

 لي أخت أخرى كانت سوداء وجميلة. هل تعرفنها يا بنات أورشليم؟ إنها أورشليم نفسها كما وصفها سفر حزقيال.

قال لها الرب وهي مطروحة بنجاستها على الأرض "مررت بك ووجدتك مدوسة بدمك. فقلت لك بدمك عيشي" (حز16). هكذا كانت حياتها وهي سوداء.. ثم يقول لها الرب بعد ذلك " فمررت بك ورأيتك وإذ زمنك زمن الحب. فبسطت ذيلي عليك وسطرت عورتك ودخلت معك في عهد, فصرت لي. فحممتك بماء. (أي المعمودية) وغسلت عنك دمائك (بمغفرة خطاياك), ومسحتك بزيت, (أي بزيت الميرون في المسحة المقدسة) وألبستك مطرزة. وكسوتك بزًا أي حرير (بسر التوبة) وحليتك بالحلي (بالفضائل) فتحليت, وجملت جدا فخرج لك أسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملا ببهائي الذي جعلته عليك" (حز 16).

هذه قصة السوداء التي صارت جميلة، إذ افتقدها الرب.

وكان ذلك في "زمن الحب" أي الزمن الذي رآه الرب مناسبا لإظهار حبة، وما أدق عبارة "جمالك كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليك" إنه جمال من الله وليس جمال من تلك النفس، إنه بر المسيح وليس برها الذاتي. إنه منحة الله للنفس، وليس عمل الذراع البشري.

 نفوس كثيرة كانت سوداء وصارت جميلة.

مثل نفوس التائبين جميعا, مثل موسى الأسود, وأغسطينوس، وبيلاجية، ومريم القبطية، وأريانوس والي أنصنا، واللص اليمين..

ولكن هذه النفوس لا تقول "أنا سوداء وصرت جميلة" وإنما تقول "أنا سوداء وجميلة" لأنها تعيش بالرجاء. فترى المستقبل كأنه قائم أمامها, إنها نفس واثقة, إنها غالية عند الرب, مهما سقطت!

 هناك نفوس أخرى ترونها أنتم سوداء ويراها الرب جميلة!

مثال ذلك شاو ل الطرسوسي المضطهد للكنيسة. كم كان أشد سواد هذه النفس في نظر المؤمنين, حينما كان يهجم ويقتاد رجالا ونساء إلي السجن. أما الرب فنظر إلي نفس شاول السوداء, بل التي كانت جميلة في غيرتها وإن كانت غيرة ليست حسب المعرفة وقال له " صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 9).. إنني أغسلك وأنت ترفض الصابون والماء والليف! ومع ذلك سأظل أغسلك إلي أن تبيض أكثر من الثلج فيما تغسل خطاياك (أع 22: 16) وبعد ان تبيض سأريك كم ينبغي أن تتألم من أجلي, سيرجمونك, وسيضربونك بالسياط, ويسيل الدم على نفسك البيضاء.. وأغني لك أنشودتي " حبيبي أبيض وأحمر".

 أنا نفسي سوداء قد أكون مائتة مثل الابن الضال.
حسبما قيل عنه "ابني هذا كان ميتا فعاش" (لو 15: 24).
 وقد يقال عني "قد أنتن" مثل لعازر (يو 11: 39).
أنا واثقة من إني سأخرج من القبر, وسأرجع إلي بيت عنيا. وهناك سيزورني الرب ومعي مريم ومرثا..

 أنا نفسي ساقطة, ولكنني لست ضائعة..

سيمسك واحد من السارافيم جمرة من على المذبح, ويمسح بها شفتي, قائلًا: قد طهرت. قد كفر عن خطيئتك. لن تموت.. وسيأتي الرب بلقان, وسيأتي بمئزر ويغسل قدمي, لكي أصير طاهرا كلي، كباقي التلاميذ، وكباقي النفوس التي هي مثلي سوداء. ويقول "ها أنتم الآن طاهرون" (يو 13: 10).

 أنا سوداء وجميلة, والخطية تلطخني من الخارج فقط. أما قلبي فهو في داخلي يحب الله!

مثل بطرس الذي أنكر سيدة ثلاث مرات, وسب ولعن وقال لا أعرف الرجل (مت 26: 72) ومع ذلك قال للرب بعد القيامة: أنت يا رب تعرف كل شيء. أنت تعلم أني أحبك (يو 21: 17).

  الخطية غريبة عني, وأنا غريب عنها, أنها سقطة ضعف وليست خيانة!

إرادتي في الخارج سوداء, أما نفسي من الداخل فهي بيضاء, كل ما كان مني من إنكار هو نفسي الخارجية الضعيفة السوداء, أما الحب الذي في قلبي، فهو نفسي الحقيقية الجميلة , نفسي الخارجية يلطمها الشيطان فتسود، أما قلبي من الداخل فجميل، وهذا السواد الخارجي سوف أخلعة حتمًا, سأخلعة الآن. وسأخلعه عندما ألبس جسدًا نورانيًا روحانيًا لا يخطئ (1كو15: 44, 49) جسما لا يتصل بالمادة بعد.

 أنا سوداء وجميلة كخيام قيدار، كشقق سليمان. وكأنة قيل عني, كنت خلال ذلك أكافح، نفسي وأجاهد, حتى كأنني اثنان في واحد, هذا يدفعني, وذلك يمنعني.

هذه النفوس المجاهدة التي تحارب حروب الرب. فتسقط حينا، وتقوم حينا أخر، وقد يجرحها الشيطان وقد يشوه بعض أعضائها، هي على الرغم من سقوطها، سوداء وجميلة، مهما جرحت في الحرب، هي جميلة، لأنها لا تلقي سلاحها، ولم تستسلم نهائيا للعدو. ولم تفقد إخلاصها الداخلي للرب، مهما جرحت.

 كلما عاش الإنسان في حياة الاتضاع، يجد نفسه سوداء وفي نفس الوقت جميلة!

مثل نفس العشار الذي لم يجرؤ أن ينظر إلي فوق.. وإنما بانكسار قلب وبخجل, قال: ارحمني يا رب فأني خاطئ (لو 18: 13) حقا إنها نفس سوداء وجميلة, ما أعظم وأعمق هذه المقابلة:

العشار نفسه سوداء وجميلة, والفريسي لم يكن جميلا وهو أبيض.

نفس أخرى كانت سوداء وجميلة, هي نفس اللص اليمين على الصليب, كان لصا ومازلنا نسميه باللص, وهي كلمة ترمز لسواده، وكلمة اليمين ترمز لبره في المسيح.

راحاب الزانية -كذلك اللص- كانت سوداء وجميلة.

كانت امرأة مشهورة إنها خاطئة، ولكن الحبل القرمزي كان يقول إنها أكثر جمالًا من كل سكان أريحا (يش 6).

 كل نفس سوداء وجميلة تناديكم: لا تحكموا حسب الظاهر.

إن الظاهر لا يقدم الحقيقة مطلقا. لما رأى صموئيل النبي الابن البكر ليسى قال "هوذا أمام الرب مسيحة "، بينما قال الرب " أنا قد رفضتة" وقال لصموئيل: "لا تحكم حسب الظاهر "، بينما اختار الرب داود الذي كان يقول " صغيرا كنت في بيت أبي، ومحتقرا عند بني أمي". هذا الصغير الذي صار مسيحآ للرب وحل علية روح الرب (1 صم: 16).

 عبارة " أنا سوداء وجميلة " يمكن أن يقولها كل ضعيف اختاره الرب.

فالرب قد أختار تلك النفوس السوداء الجميلة "أختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء, وأختار الله ضعفاء العالم ليخزي الحكماء, وأختار أدنياء العالم والمزدري وغير الموجود.. (1كو1: 27, 28) أختار مجموعة من الصيادين ليكونوا رسله، وأختار موسى الأغلف الشفتين ليكون كليمه، وأختار أرميا الصغير ليكون نبيا للشعوب.. واختار العشار متى بين لأثنى عشر، وتوما الشكاك أيضًا بينهم. إنها نفوس كانت تبدو للكثيرين سوداء في ضعف مكانتها، ولكنها كانت في نظر الله جميلة. نعم إنه الله الذي قيل عنة: الساكن في الأعالي، والناظر إلي المتواضعات.

المقيم المسكين من التراب والرافع البائس من المزبلة, لكي يجلس مع رؤساء شعبة. الذي يجعل العاقر ساكنة في بيت, أم أولاد فرحة (مز 113). نعم هذه النفس الخارجة من التراب ومن المزبلة تصلي إليه قائلة في شكر: أنا سوداء وجميلة.

 أنا ضعيفة أعمل بقوة الله،وجاهلة أتكلم بحكمة الله

أنا المزدري وغير الموجود, ولكن الله منحني وجودًا..

في إحدى المرات اختار الله حفنة تراب مدوسة في الأرض, ونفخ فيها نسمة حياة، فصارت نفسا حية (تك 2)، وجعلها الله على صورته ومثاله وإذ صارت كذلك، انطبقت عليها عبارة:

"أنا سوداء وجميلة".

ألست ترى معي أيها القارئ العزيز أن هذا الموضوع له بقية طويلة؟ نعم إنه لكذلك..