تفسير الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي ++ نجاح الكنيسة في تسالونيكي ++ القمص تادرس يعقوب
اعتاد الرسول بولس أن يبدأ رسائله بإبراز الجوانب الطيبة لتشجيع من يكتب إليهم، فلا يتحدث عن المشاكل أو الضعفات مهما تفاقمت أو بلغت خطورتها إلاَّ بعد أن يشجع، فاتحًا باب الرجاء أمام الجميع. وهنا إذ يكتب إلى كنيسة تئن من الضيق، يعلن في وضوح عن نجاحها في حياتها الإيمانية العملية، وشهادتها للسيد المسيح أمام كنائس أخرى.
مقدمة الرسالة
"بولس وسلوانس وتيموثاوس إلى كنيسة تسالونيكي،،في الله الآب والرب يسوع المسيح.نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع" [1].
ليس للرسول بولس مقدمة ثابتة يفتتح بها كل رسائله، وإنما يكتب لكل رسالة المقدمة التي تناسبها. وهنا إذ يكتب إلى كنيسة تئن من الضيق، نلاحظ في مقدمته الآتي:
أ. يذكر الرسول اسمه "بولس" دون الإشارة إلى لقبه الرسولي، لأن الإنسان في وسط الضيق يود أن يجد الكل حوله بلا ألقاب ولا كلفة، إنما يتحدث معهم بروح الصداقة الأخوية. ولعله لذات السبب يضم إلى اسمه سلوانس وتيموثاوس كأنهما شريكان معه في كتابة الرسالة، مع أنه هو الكاتب لها وحده. لقد أراد في تواضع أن يؤكد للمؤمنين أنه ليس وحده يحمل إليهم مشاعر الحب والحنو وسط ضيقتهم، وإنما يشاركه في ذلك كل من اشترك في خدمتهم.
يا له من راعٍ محبٍ مملوء تواضعًا, يدخل وسط الحملان كحمل معهم يشاركهم آلامهم, لا ليربطهم به شخصيًا لحساب كرامته الخاصة، وإنما ليعلن لهم محبة كل راعٍ، فيلمسوا محبة المسيح لهم فيه كما في غيره!
ب. يوجه الكاتب رسالته "إلى كنيسة التسالونيكيين" في الله الآب والرب يسوع. فقد ضمت الكنيسة الحديثة في ذلك أعضاء من اليهود كما من الأمم، لكن الكل صار كنيسة واحدة، بدخولها في "الرب يسوع المسيح" كجسده الواحد المقدس، لتجد لها موضعًا في الله الآب، لأنه حيث يوجد الابن تكون معه كنيسته في الأحضان الأبوية. وكما يقول السيد: "حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا... ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي" (يو 14: 3، 6)
ج. يلقب الرسول الله "أبانا"، فالمؤمنون محتاجون في ضيقتهم إلى التمتع بأبوة الله الحانية، وإدراك اهتمامه بخلاصهم ومن ناحية أخرى إذ يكتب الرسول في صلب رسالته عن أبوته لهم أراد في المقدمة أن يؤكد أبوة الله نفسه التي هي مصدر كل أبوة روحية وجسدية.
د. يطلب لهم الرسول النعمة والسلام؛ فإن السلام الحقيقي الداخلي لا يتحقق برفع الآلام التي تحل بنا، وإنما بتمتعنا بنعمة الله الخفية. ففي وسط الضيق يحاصر الإنسان بأفكار قاتمة قادرة على تحطيم سلامه الداخلي، لكن نعمة الله تستطيع أن ترفع الفكر فوق الأحداث، وتسنده ضد كل هجوم فيمتليء بسلامٍ إلهيٍ فائقِ. عندئذ ينفتح لسان القلب الداخلي ليرنم، قائلًا: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19).
نجاح الكنيسة
إذ كانت الكنيسة مُحاصرة بالضيق من اليهود كما من الأمم سحب الرسول فكرها بالروح القدس إلى النجاح الذي حققته في حياتها الروحية بالرب، فحدثها عن ثلاثة أمور:
أ. شكره لله على نجاحهم وصلاته من أجلهم [2].
ب. ابرز الجوانب الطيبة في حياتهم [٣-٦].
ج. صيرورتهم قدوة للجميع [٧-١٠].
أ . شكره لله على نجاحهم وصلاته من أجلهم
"نشكر الله كل حين من جهتكم، ذاكرين إياكم في صلواتنا" [٢]. إذ يرى الرسول نجاح كنيسة التسالونيكيين الناشئة يقدم هو ورفيقاه، القديسان تيموثاوس وسيلا، الشكر لله في كل حين، كما يصلون من أجلهم ليزدادوا نموًا. حقا إنه راعٍ حكيم لا تسحبه الآلام عن النظر إلى النفع الروحي للمتألمين، لهذا وإن كان يئن معهم مشاركًا إياهم آلامهم، لكنه في نفس الوقت يقدم الشكر لله من أجل البركات الروحية التي ينعمون بها وسط ضيقتهم. بهذه الكلمات أيضًا يرفع الرسول شعبه فوق الآلام الخارجية، الأمر الذي كما أظن كان غاية هذه الرسالة، ومن ناحية أخرى يؤكد لهم أن سرّ كل بركة روحية ونجاح في حياتهم هو الله نفسه، رافعًا إياهم نحو التواضع. وأخيرًا فإنه إذ يذكرهم في صلواته يعلن صدق حبه لهم.
ب . إيمانهم ورجاؤهم ومحبتهم
يحول الرسول بولس أنظار شعبه عن التفكير في الأحداث الجارية إلى التأمل في عمل نعمة الله داخلهم خلال الإيمان والرجاء والمحبة، إذ يقول: "متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم ربنا يسوع المسيح أمام الله وأبينا" [٣]. كأنه يسألهم إلاَّ ينشغل فكرهم في شيءٍ غير هذه الأمور، متذكرين بلا انقطاع عمل الله فيهم خلال أعمال إيمانهم وتعب محبتهم وصبر رجائهم. إنه يود أن يتأملوا على الدوام في الإيمان والمحبة والرجاء، لا خلال مفاهيم نظرية عقلية بحتة، وإنما كما يعيشونها عمليًا، ناسبًا للإيمان العمل، وللمحبة التعب وللرجاء الصبر.
ماذا يقصد بقوله "عمل إيمانكم"؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يؤمن يحتمل الكثير، فإن إيمان الإنسان يظهر خلال أعماله. لهذا بحق يُقال أن الإيمان ليس أمرًا مجردًا، وإنما يعلن خلال أعمالكم وثباتكم وغيرتكم[3].]
ويتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن "تعب المحبة"، قائلًا: [أي تعب هو للمحبة...؟حينما تثور آلاف الأمور لتسحبنا بعيدًا عن المحبة، فنقف نحن أمام جميعها، أفلا يحسب هذا تعبًا؟[4]]
لعل الرسول يشير بقوله "تعب محبتكم" إلى ما ورد في سفر الأعمال (١٧ : ٥-٦) عن ياسون وأهل بيته كيف احتملوا الكثير من أجل محبتهم للرسولين بولس وسيلا، ومن أجل محبتهم للإنجيل، عندما ثار الأشرار عليهم وقدموهم أمام حكام المدينة.
أخيرًا إذ لم يتوقف الضيق الذي حلَّ بالكنيسة منذ بدء انطلاقها، بل استمر حتى بعد ترك الرسولين المدينة، واجهت الكنيسة الناشئة حديثًا بصبر من أجل رجائها في الملكوت، وانتظارها لعريسها الحقيقي ربنا يسوع المسيح، لهذا يكمل الرسول: "وصبر رجائكم ربنا يسوع المسيح أمام الله وأبينا".
هذه هي الأمور الثلاثة التي من أجلها يقدم الرسول الشكر لله، والتي يركز أنظاره عليها أثناء صلواته عن هذه الكنيسة: عمل إيمانهم، تعب محبتهم، وصبر رجائهم. هذه الأمور في الحقيقة تمثل وحدة واحدة لا يمكن تقسيمها أو فصلها عن بعضها البعض، فإن كان الإيمان بكلمة الحق يدفع المؤمن للعمل لحساب الملكوت الأبدي، فإنه يفتح القلب بالحب لله والناس، فيشتهي المؤمن لا أن يعمل بل يتعب، مسرعًا بنفسه إلى الصليب عوض الراحة الزمنية، وإذ يفتح قلبه بالحب يرى السماوات كأنها مُعلنه قدامه فيترجى التمتع بكمال مجدها. فلا يئن من الضيق والتعب، بل يحمل صبر المسيح الذي "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب ١٢: ٢). حقًا تحل الأبدية فيزول الإيمان إذ نرى الله وجهًا لوجه، وينتهي الرجاء إذ ننعم بما كنا نترجاه، لكنه تبقى المحبة التي لا تسقط أبدًا (١ كو ١3: ٨)، هذه التي قامت على أساس الإيمان، وانطلق لهيبها خلال الرجاء. في بقاء الحب الأبدي تكريم للإيمان وتتويج للرجاء!
أما سرّ نجاح مؤمني تسالونيكي وتمتعهم بالإيمان الحي والمحبة والرجاء فهو اختيار الله لهم كأولاد له، إذ يقول الرسول: "عالمين أيها الإخوة المحبوبون من الله اختياركم" [٤]. وكأن الرسول يؤكد لهم أن سرّ القوة فيهم وسط آلامهم ليس منهم بل من الله الذي أحبهم ويحبهم. إنه العامل فيهم من أجل اختياره لهم وهكذا بقدر ما خشي الرسول لئلا يتحطموا بسبب ثقل الضيقات المحيطة بهم وبه كان يحدثهم عن نجاحهم الروحي مفتخرًا بهم. كان حريصًا أيضًا لئلا يسقطوا في الكبرياء بسبب صبرهم على التجارب، فكان يوجه أنظارهم نحو الله الذي أحبهم أولًا، لأنه اختارهم، ولا يزال يعمل فيهم حتى يدخل بهم إلى أمجاده. ما أحوج الكنيسة إلى الراعي الحكيم الذي يسند شعب الله بالكلمات المفرحة التي تبعث في النفوس الرجاء والثقة، وفي نفس الوقت بلا تملق أو مداهنة يوجههم إلى الله الذي وحده سرٍّ نجاحهم ونموهم!
ولعل كلمات الرسول: "عالمين أيها الإخوة المحبوبون من الله اختياركم" يقصد بها الكشف عن سرّ حب الرسول نفسه لهم وجهاده من أجلهم. كأنه يقول: إن كان الله يحبكم وقد اختاركم أولادًا له، فهل أكف عن العمل ليلًا ونهارًا في خدمتكم لتحقيق غاية الله فيكم؟ هذه هي نظرة الراعي الحكيم للخدمة، فإنه لا يعمل في كرم بشري لحساب الناس، لكنه يخدم البشرية خليقة الله المحبوبة لديه والتي يشتهي الله خلاصها والدخول بها إلى أمجاده الأبدية، فيعمل لحساب الله، ومن خلاله وبإمكانيات الله!
إدراك الرسول بولس حب الله لهم واختياره لهم جعل كرازته لهم ليست مجرد كلمات ينطق بها، أو فلسفة يقدمها لهم، وإنما بالحق قوة قادرة على تجديد حياتهم، فدخل إليهم بالروح القدس في يقينٍ شديدٍ أن الله يعمل فيهم. وكما يقول الرسول: "إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط، بل بالقوة أيضًا، وبالروح القدس وبيقين شديد، كما تعرفون أي رجال كنا بينكم من أجلكم" [٥]. وكأن الرسول بولس يؤكد لهم أن حب الله لهم واختيارهم من قبله قدم له ثلاث إمكانيات للعمل بينهم: "القوة، والروح القدس، واليقين الشديد". هذه الإمكانيات هي سرّ نجاحه.
لقد انطلق إليهم يحمل "القوة". أي قوة الإنجيل للخلاص. الله الذي اختارهم قدم لهم الخلاص بقوة خلال الصليب أو الإنجيل، فجاء الرسول مختفيًا في هذا الصليب بالإنجيل، فلم يقدم لهم كلمات مجردة، بل سرّ الحياة الجديدة القوية خلال الصليب. لم يدخل إليهم هزيلًا، بل تسلح بالإنجيل القادر أن يأسر الإنسان في الحب الإلهي، ويدخل به إلى ملكوت الله، ليحيا كابن لله بقوة الروح.
حب الله للمؤمنين واختياره لهم قد سلحاه بقوة إنجيل الخلاص، وقدما له روح الله القدوس لكي يعمل فيه للخدمة والكرازة. لقد دخل إليهم بالروح القدس، الذي وحده يقدر أن يعلن محبة الآب لنا المتجسدة في تقديم ابنه فدية عنا. حقًا إن الإنجيل هو قوة الكارز في تحقيق رسالته، لكن لا يقدر الكارز أن يعمل إلاَّ بالروح القدس الذي يجتذب النفوس بقوةٍ إلى دائرة الصليب، وينطلق بها إلى المصالحة مع الله في ابنه، ويدخل بها إلى الحياة الجديدة على المستوى السماوي.
أخيرًا، فإن إدراك الرسول لاختيارهم بواسطة الله جعله يدخل إليهم "بيقين شديد"، مطمئنًا أن خلاص البشر يشتهيه الله نفسه ويعمل على تحقيقه. إنه مطمئن، وفي رجاء أن الله يحقق غايته خلال كرازته. أقول أن سرّ قوة الرسول بولس هو نظرته المملوءة رجاء حتى في وسط الضيقات الخارجية أو الداخلية. إن هاج اليهود أو الأمم أو قامت انقسامات وانشقاقات فإن الرسول يثق أن الله قادر على العمل لتجديد الخليقة. إنه يعمل بغير تشاؤم ولا يأس مهما كانت الظروف!
يقول الرسول بولس: "كما تعرفون أي رجال كنا بينكم من أجلكم" [٥]. وكأنه يقول أن جهادنا وسط الآلام ورعايتنا لكم ليلًا ونهارًا أو والتهاب قلبنا بالعمل الكرازي وسطكم يشهد كيف كنت متسلحًا بالقوة والروح القدس واليقين الشديد. ولكن الفضل ليس لي، وإنما لكم إذ أنتم موضوع حب الله واختياره.
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [(حديثه) هنا يمس أعمالهم الصالحة بطريقة خفية، فإنه يرغب في تضخيم مديحهم. وكأنه يقول: إني أعرف أنكم عظماء وشرفاء، إذ أنتم مختارون، لهذا نحتمل كل شيء من أجلكم. فقوله: "أي رجال كنا بينكم من أجلكم"هو تعبير ينطق به من يظهر غيرة عظيمة ونشاطًا زائدًا. إننا مستعدون أن نقدم حياتنا من أجلكم، ومع هذا فالشكر واجب لكم وليس لنا، لأنكم مختارون. ولهذا يقول في موضع آخر: "أنا أصبر على كل شيء لأجل المختارين" (٢ تى 2: 10) فإنه أي شيء لا يحتمله الإنسان من أجل محبوبي الله؟[5]]
أما الذي يفرح قلب الرسول فهو امتثالهم به، بل وبالرب نفسه في احتمالهم الألم بفرح، إذ يقول: "وأنتم صرتم متمثلين بنا وبالرب، إذ قبلتم الكلمة في ضيقٍ كثيرٍ بفرح الروح القدس" [٦]. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم:
يا للعجب! أي مديح هذا، فقد صار التلاميذ معلمين فجأة!
فإنهم لم يسمعوا الكلمة فحسب، وإنما ارتفعوا إلى علو بولس.
إنه يمدحهم قائلًا: "قبلتم الكلمة في ضيق كثير بفرح الروح القدس". قبلوها ليس في ضيقٍ فحسب وإنما في ضيق كثير. هذا ما يخبرنا به سفر أعمال الرسل كيف ثار الاضطهاد ضدهم (أع ١٧ : ٥-٨)، فقد هيج (الأشرار) كل حكام المدينة ضدهم، وأثاروا المدينة عليهم. ولم يقف الأمر عند تألمهم وإيمانهم مع حزنهم وإنما فرحوا، الأمر الذي فعله الرسل، إذ قيل عنهم أنهم (ذهبوا) "فرحين لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه" (أع ٥ : 4١).
هذا هو العجب، فإن احتمال الضيقات ليس بالأمر الهين، ومع ذلك نجد بعضًا من البشر قد تعدوا حدود الطبيعة البشرية، وكأنهم بلا جسد يتأثر بالألم!
ولكن كيف كانوا متمثلين بالرب؟ لأنه احتمل آلامًا كثيرة بفرحٍ، متقدمًا إليها بإرادته، فمن أجلنا أخلى ذاته، وإذ كان الوقت يقترب لكي يُبصق عليه ويُضرب ويُصلب، كان يفرح باحتماله هذه الأمور، قائلًا للآب: "مجدني" (يو ١٧ : ١ -٥)...
ولكن لكي لا يقول أحد: كيف يتحدث عن الضيق والفرح معًا؟ كيف يلتقي الاثنان معًا؟ لهذا يضيف: "بفرح الروح القدس". فيتحقق الضيق في الأمور الجسدية، أما الفرح ففي الروحيات؛ كيف؟ الأمور التي حدثت لهم مؤلمة، لكن الروح لا يتركهم.
لهذا يمكن لمن يتألم ألا يفرح إن كان ذلك بسبب خطاياه، ويمكنه أن يكون مبتهجًا إن تألم من أجل المسيح. هذا هو فرح الروح.
فما يبدوا محزنًا يلد بهجة! يقول الرسول أنهم يضايقونكم ويضطهدونكم، ولكن الروح لا ينساكم حتى في هذه الظروف.
وكما أن الثلاثة فتية في النار تمتعوا بالندى، هكذا أنتم تنتعشون في الضيقات. حقًا إنه ليس من طبيعة النار أن تمطر ندى ... هذا ليس من طبيعة الضيق أن ينتج فرحًا، لكن الروح يلطف الألم متى كان من أجل المسيح، ففي أتون النار يكون (المؤمنون) في راحة[6].
لقد وعدنا السيد بالألم لكن ليس بدون الفرح ، إذ يقول: "فأنتم كذلك عندكم الآن حزن، ولكن سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم... قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا (أفرحوا) أنا غلبت العالم "(يو 16 : 22، 32).
ج . صيرورتهم قدوة للجميع
"حتى صرتم قدوة لجميع الذين يؤمنون في مكدونية وفي آخائية" [٧]. لقد آمنت مكدونية بالسيد المسيح قبل تسالونيكي، لكن الأخيرة صارت مثالًا وقدوة للأولى. لقد صارت كمعلمة ليس لغير مؤمنين بل لمؤمنين سبقوهم في الإيمان . في وقت قصير قبلت تسالونيكي الإيمان وصارت مثلًا حيًا ليس فقط لمكدونية التي في الشمال والتي تُعتبر تسالونيكي من أهم مدنها، وإنما أيضًا لآخائية في الجنوب. وكأن أثرها قد امتد شمالًا وجنوبًا.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، قائلًا: ليته لا ييأس أحد قط حتى وإن كان قد أضاع زمنًا طويلًا دون أن يفعل شيئًا، فإنه يستطيع في وقت قصير جدًا أن يحقق الكثير مما لم يسبق له عمله في الماضي. إن كان الذين لم يكونوا قبلًا مؤمنين قد صاروا هكذا مشرقين منذ بداية إيمانهم، فكم بالحري يمكن للذين كانوا مؤمنين من قبل أن يفعلوا هكذا (أي منذ ميلادهم)؟[7]
يكمل القديس بولس حديثه عن فاعلية حياتهم الجديدة وإيمانهم الممتدة في كل موضع، إذ يقول:
"لأنه من قبلكم قد أذيعت كلمة الرب،ليس فقط في مكدونية وآخائية،بل في كل مكانٍ أيضًا قد ذاع إيمانكم بالله،حتى ليس في حاجة أن نتكلم شيئًا،لأنهم هم يخبرون عنا أي دخول كان لنا إليكم،وكيف رجعتم إلى الله من الأوثان
لتعبدوا الله الحي الحقيقي،وتنتظروا ابنه من السماء الذي أقامه من الأموات، يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي" [٨ -١٠].
وللقديس يوحنا الذهبي الفم تعليق جميل على هذه العبارات، إذ يقول: كما أن الطيب الزكي الرائحة لا يحتفظ برائحته الكامنة فيه، وإنما ينشرها إلى مسافات بعيدة، معطرًا الهواء بنسماته، فيتقبله الجيران، هكذا أيضًا مشاهير الناس وعظماؤهم لا يغلقون على فضائلهم في داخلهم، وإنما يربحون بسمعتهم الطيبة الكثيرين ويحولونهم إلى حياة أفضل. هذا هو ما حدث هنا... وكأنه يقول لهم: لقد أشبعتم جيرانكم بالتعليم وملأتم العالم بالدهشة[8]!
إن قوله "قد أذيعت" إنما يعبر عن نوع من القوة الروحية لإيمانهم وحيويته، فقد سمع العالم بإيمانهم، كأنه قد أذيع للجميع، ولم تعد هناك حاجة إلى حديث الرسول عنه، إذ يقول: "حتى ليس لنا حاجة أن نتكلم شيئًا". كانت حياتهم الإيمانية العملية تحمل شهادة داخلية، وكأنها بوق عالٍ يدوي لا في الولايات المحيطة بهم فحسب وإنما على مسافات متباعدة جدًا. وقد سُمع صوته "في كل مكان". لقد كان الرسول يود أن يتحدث عنهم كمثال حيّ يشهد به عن عمل الله في الإنسان، لكن الذين رأوهم في قوة حياتهم شهدوا لهم مبوقين في كل موضع، وكأنهم قاموا بالرسالة التي اشتهى الرسول أن يتممها!
ماذا يقصد بقوله: "لأنهم هم يخبرون عنا أي دخول كان لنا إليكم!" لعله أراد أن يعلن لهم أن حياتهم الروحية المجيدة وسط الضيقات والآلام لم تذع مجدهم الروحي، فحسب وإنما أيضًا قدمت تطويبًا للرسول نفسه، فصار الكل يتحدثون عن دخوله إليهم ومعه سيلا، وكيف خدما هناك وحولا هؤلاء الرجال إلى الإيمان الحي بالله القادر أن يقيمهم من الموت إلى الحياة. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذا التعبير إنما يوضح دخول السيد إليهم في وسط مخاطر وميتات كثيرة قبلها بفرح وها هم الآن يحملون المخاطر كما سبق فاحتملها الرسول ... أما سر احتمال الألم بفرح سواء بالنسبة للرسول أو لهم فهو إيمانهم بالقائم من الأموات.
هنا يوجه الرسول أنظارهم وهم وسط الضيق إلى الآب السماوي الذي أطاعه الابن نيابة عنا محتملًا الموت، فأقامه بالإرادة، أما الابن فقام بقوته وسلطانه كقوله: "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها" (يو 10: 18).