تفسير سفر أعمال الرسل 10 .. انفتاح عينيّ بطرس الرسول على خدمة الأمم .. رؤيا كرنيليوس ++ القمص تادرس يعقوب


 تفسير سفر أعمال الرسل 10 .. انفتاح عينيّ بطرس الرسول
على خدمة الأمم .. رؤيا كرنيليوس ++ القمص تادرس يعقوب

"وكان في قيصرية رجل اسمه كرنيليوس، قائد مائة من الكتيبة التي تدعى الإيطالية".

 في  الأصحاح السابق يقدم لنا القديس لوقا صورة ممتعة لرجلٍ دخل تحت الناموس مع عظمة مركزه يتمتع بعظمة تقواه وشوقه العجيب لدراسة الكتاب المقدس، وغيرته المتقدة نحو خلاص نفسه (خصي كنداكة). وفي هذا الأصحاح يقدم لنا إنسانًا عظيمًا في رتبته، ومع كونه لم يكن يهوديًا، ولا تحت الناموس، لكنه كان عظيمًا في تقواه.

وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: إنه يظهر عظمة تقواهما، فإنه من المدهش أن نجد شخصًا ما هكذا وهو في غنى وسلطان مثل هذين الشخصين.

ما يسبب مدحًا للأول أنه قام برحلة طويلة بينما لم يكن في وقت عيد يستلزم هذا، وقراءته في الطريق، وهو في المركبة، وتوسله لفيلبس، وأمور أخرى عديدة. وأما عظمة مديح الأخير (كرنيليوس) أنه يقدم صدقات وصلوات، وكان تقيًا ويتمسك بوصية كهذه +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

اختار السيد المسيح بكور مؤمنيه من اليهود من صيادي السمك البسطاء ليخزي بهم الحكماء؛ أما بالنسبة للأمم فاختار قائدًا رومانيًا. لم يختر فيلسوفًا يونانيًا ولا كاهن أوثان، بل قائدًا، كل ما يشغله حفظ الأمن وتنفيذ القوانين وتمتع البشر بالحرية، خاصة أصحاب الجنسية الرومانية. إنه صاحب فكر حر، ليس من يضغط عليه، ولا من يقدر أن يخدعه.

 كان كرنيليوس قائدًا في الجيش الروماني تحت قيادته مئة جندي. سبق فسمعنا عن قائد المئة الذي سبق بإيمانه كل من في إسرائيل ليتكىء في ملكوت السماوات مع إبراهيم وإسحق ويعقوب (مت ٨: ١١ - ١٢). أما القائد الثاني فهو الذي شهد للسيد المسيح ومن معه أثناء الزلزلة، قائلين: "حقًا كان هذا ابن الله" (مت ٢٧: ٥٤). والآن نحن أمام قائد مئة ثالث الذي اشتاق إلى الحق الإلهي، فاستخدمه الله درسًا للقديس بطرس لفتح باب الإيمان للأمم. انضم إلى هذه الفئة قائد مئة رابع كان مكلفًا بحراسة الرسول بولس في الأسر ليذهب به إلى روما، هذا رفض قتل الأسرى حين انكسرت السفينة حتى يخلص بولس (أع ٢٧: ٤٢-٤٣).

 يقول المؤرخ بوليبييوس Poliybius أن قواد المائة في الجيش الروماني كانوا معتبرين ملح الجيش الروماني، ممتدحًا أخلاقهم، إذ يُشترط أن يكونوا متعقلين، مستقيمين، ذوي حكمة ورزانة، قادرين على ضبط نفوسهم.

 "من الكتيبة الإيطالية": كان قوامها ما بين ٦٠٠ و ١٠٠٠ جندي، لكن لم تكن مثل هذه القوات الكبيرة موجودة في فلسطين حتى سنة ٤١م، ولكن في أيام أغريباس الأول (أع ١٢: ١) وُجدت عدة قوات مثل هذه.

دًعيت الكتيبة الإيطالية، ربما لأن كل جنودها كانوا رومانيين قادمين من الجيش الروماني في إيطاليا، وهم متميزون عن بقية الجنود في الجيش المختارين من ولايات أخرى. هؤلاء كانوا موضع ثقة الإمبراطور، حتمًا يعملون لحساب السلطة الرومانية، لن يقوم من بينهم خائن للإمبراطورية.

 "وهو تقي وخائف اللَّه مع جميع بيته،يصنع حسنات كثيرة للشعب،ويصلّي إلى اللَّه في كل حين".

بلا شك أن بعض اليونانيين والرومانيين، حتى الذين كانوا يعملون في الجيش تأثروا ببعض اليهود الأتقياء، فصاروا يعبدون الله الواحد (المجهول) بروح التقوى ومخافة الرب، فكانوا لا يميلون إلى عبادة التماثيل، ولا ينغمسون في الملذات والشهوات الجسدية، مثل هؤلاء فتح الروح القدس قلوبهم ليقبلوا الإيمان المسيحي.

 يقول: "وهو تقي خائف الله، مع جميع بيته"، فلا تظن أن ما حدث كان بسبب رتبته العظمى.
عندما أُجتذب شاول لم يظهر ملاك بل الرب نفسه، لم يرسله إلى شخصٍ عظيمٍ، بل إلى رجل عادي جدًا.
هنا على العكس جلب رسولًا عظيمًا لهؤلاء الأمم ولم يرسلهم إليه، لقد نزل إلى ضعفهم، فهو يعرف كيف يتعامل معهم.
في حالات كثيرة نجد المسيح نفسه مسرعًا إليهم بسبب أنهم أكثر ضعفًا. أو لأن كرنيليوس لم يكن قادرًا أن يترك بيته. هنا أيضًا نجد المديح العلوي للصدقات كما قُدم في حالة طابيثا.

"خائف الله مع جميع بيته". ليسمع هذا من كان منا مهملًا لأهل بيته، بينما كان هذا الرجل يعتني بجنوده أيضًا +++ القديس يوحنا الذهبي الفم

كان كرنيليوس رجلًا متدينًا، لا يعبد الأصنام، ولا آلهة باطلة، ولا يسمح لنفسه أن ينغمس في الرجاسات التي اتسم بها العالم الوثني. كل ما يعرفه ويؤمن به هو وجود إله خالق السماء والأرض، إله واحد حقيقي حي، لكنه مجهول بالنسبة له. مع كونه صاحب سلطان كقائد مئة، لكنه يحمل مخافة وخشية لله المجهول اتسم بثلاث سمات هامة:

قاد بيته إلى الحياة التقوية التعبدية، لم يضم تحت سقفه أي عابد للأوثان، ولا من يسلك بالشر، بل كان جميع أهل بيته وكل العاملين في البيت يخشون الله.

 اتسم بالحنو العملي وتقديم الصدقات؛ غالبًا وهو روماني يعمل في الكتيبة الإيطالية في قيصرية كعاصمة الولاية مدنيًا، يقدم صدقاته للفقراء والمحتاجين من اليهود. مع كونه أمميًا كان يعطي بسخاء للمحتاجين من اليهود.

كان رجل عبادة وصلاة، يمارس الصلاة الدائمة في كل حين، يمزج العمل الصالح بحياة الصلاة.

ظن البعض أن كلمات القديس بطرس وأيضًا غيره من التلاميذ أنه كان أمميًا غريب الجنس، لم يختتن ولم يقبل الناموس (أع 11: 1-3؛ 10: 28). ربما أعجب بالديانة اليهودية من جهة الإيمان بالله الواحد، كما أُعجب بالمبادئ الأخلاقية والسلوكية وبالالتجاء إلى الله والصلاة إليه، لكنه لم ينضم إليهم كعضوٍ في الأمة اليهودية أو كأحد أفراد الشعب، ولا حُسب دخيلًا. يدعوه البعض شبه دخيل.

 "فرأى ظاهرًا في رؤيا نحو الساعة التاسعة من النهار،ملاكًا من اللَّه، داخلًا إليه، وقائلًا له: يا كرنيليوس".

 إذ كان اليهود يعتزون أنهم تسلموا الناموس بخدمة ملائكة، فهوذا رجل أممي تقي محب للصلاة يتمتع بخدمة الملائكة.
في الساعة التاسعة، أي الثالثة بعد الظهر، حيث كان ذلك موعد الصلاة عند اليهود ظهر ملاك مرسل من الله، لا في الهيكل وسط المتعبدين، بل لرجلٍ أمميٍ يتعبد مع أسرته في بيته، ظهر له لا في حلم بل علانية.
لعله تعلم من اليهود ممارسة الصلاة في ساعات معينة، إذ كانوا يصلون ثلاث مرات: الصباح الباكر، والتاسعة من النهار، والغروب.
قدم كرنيليوس صلاته فصعدت كبخورٍ طيبٍ، كتقدمةٍ أو تذكارٍ أمام الله، مع أنه كان أمميًا. لقد قبل الله صلواته وصدقاته ذبائح سرور أمام الله، وإن كان محتاجًا إلى التمتع بالدم الثمين الذي بدونه لا تحصل مغفرة.

 وضعت الكنيسة تدبيرًا للمؤمن أن يصلّي في ساعات معيّنة، حتى لا يهمل الصلوات، وإن كان هذا التدبير لا يمنع رفع الصلوات في كل حين، وانشغال الفكر باللَّه. في هذه الصلوات نتذكّر أعمال اللَّه الخلاصيّة، حتى لا يفارق الصليب فكرنا، ولا تُنزع صورة المخلّص عن قلوبنا.

 لتقم صلواتك في الساعة الثالثة (مر15: 25)، ففي ذلك الوقت أصدر بيلاطس الحكم على ربّنا ومخلّصنا بصلبه... ولتقم صلواتك أيضًا في الساعة السادسة، لأنّه وقت الصلب... أنّنا نلاحظ أيضًا الساعة التاسعة، ففي ذلك الوقت اِظلمّت الشمس وارتعدت الأرض، إذ لم تكن قادرة أن تتطلّع إلى مرارة القسوة ++ القوانين الرسولية

إذا كنت بالحقيقة في بيتك، فصلِّ في الساعة الثالثة وسبّح اللَّه، وإن كنت في موضع آخر وجاء ذلك الوقت فصلِّ في قلبك إلى الله. لأنه في تلك الساعة نُظر المسيح وهو يُسمرّ على الخشبة. ولأجل هذا ففي (العهد) القديم يأمر الناموس أن يُقدّم خبز التقدمة دائمًا في الساعة الثالثة (مثالًا لجسد المسيح ودمّه). وذُبح الحمل الصامت الذي هو مثال الحمل الكامل، لأن المسيح هو الراعي وهو أيضًا الخبز الذي نزل من السماء.

صلِّ أيضًا في الساعة السادسة، لأنّه في تلك الساعة عُلِّق المسيح على خشبة الصليب، وانشق ذلك اليوم، وحدثت ظلمة عظيمة. فليُصلَّ إذن في تلك الساعة صلاة قويّة، متشبّهين فيها بصوت من صلّى وصيَّر كل الخليقة مظلمة لليهود غير المؤمنين.

ليقيموا أيضًا صلاة عظيمة وتسبحة عظيمة في الساعة التاسعة، لتعرف أن نفوس الأبرار تبارك الرب الإله الحق، هذا الذي ذكر قدّيسيه، وأُرسل لهم ابنه الذي هو كلمته لينير عليهم. لأنّه في تلك الساعة طُعن المسيح في جنبه بالحربة، فخرج دم وماء، وأنار بقيّة ذلك اليوم إلى المساء. لذلك عندما بدأ ينام ابتدأ يوم آخر، فأعطى بذلك مثال القيامة ++ التقليد الرسولي لهيبوليتس

 لماذا رأى ملاكًا؟ هذا أيضًا كان من أجل التأكيد الكامل لبطرس، أو بالأحرى ليس (لكرنيليوس) بل للآخرين الضعفاء (الذين كانوا معه) ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ انتهى من اهتماماته وصار في سكون انشغل بالصلوات والندامة ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

مع أن كرنيليوس لم يتعلّم وصايا الإنجيل صلّى سرّيًا وبإخلاصٍ في حجرته، فوُجد أهلًا أن يسمع صوت الملاك يتحدّث. وماذا نقول عن يونان، الذي لم يكن حتى في حجرته، بل في فخ مِعْدّة الحوت، تأهّل جدًا أن تُسمع صلواته التي من أعماق البحر، ولم يلحقه أذى من معدة وحشٍ عظيمٍ هكذا، وبقي حيًا؟ ++ خروماتيوس أسقف أكويلا

تمت هذه الرؤيا في وقت الساعة التاسعة، أي في وضح النهار، فلا مجال أن يسقط كرنيليوس فريسة لأوهام أو تخيلات، فقد كان يقظًا متنبهًا.

هذا وقت تمت هذه الرؤيا وقت الصلاة في الهيكل، حيث كان الكهنة يشتهون أن يسمع الله صلواتهم ويقبل ذبائحهم وتقدماتهم عن الشعب، ولم يدركوا أن الله مهتم بأممي في قيصرية في بيته. وأن الله قد أرسل إليه ملاكه، يعلن له عن قبول صلواته وصدقاته ليرتل مع النبي: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك. ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية" (مز 141: 2).

 "فلما شخص إليه ودخله الخوف قال: ماذا يا سيد؟
فقال له: صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام اللَّه".

 إذ رأى كرنيليوس بهاء الملاك وطريقة ظهوره، أدرك أنه كائن أعظم من الإنسان وليس بأقل من ملاك، فدخله الخوف بسبب الظهور المفاجئ، ودعوته له بالاسم. أدرك أنه رسول سماوي، قادم خصيصًا لأجله، يحمل رسالة شخصية، لكن ما هي هذه الرسالة؟ لذا تساءل: "ماذا يا سيد؟"

حمل شوقًا صادقًا للتعرف على فكر الله، وكان مستعدًا أن يسمع ويستجيب لأي أمرٍ سماويٍ يصدر إليه، وذلك كما سبق فقال يشوع بن نون: "ماذا يقول سيدي لخادمه؟" وكما قال صموئيل النبي: "تكلم يا رب فإن عبدك سامع".

كشف له الملاك أن صلواته وصدقاته قد صعدت معا إلى حضرة الله. هكذا لا قيمة للصلاة بلا حب ورحمة، ولا قيمة لعمل الرحمة للبشر بلا حب لله مترجم خلال الصلاة. لقد انطلقت صلواته وأصوامه، لا إلى الشوارع لكي ينال مجدًا من الناس كما كان يشتهي الفريسيون، وإنما صعدت معًا خفية إلي عرش الله، لتُسجل في سفر التذكار الذي يًكتب في حضرة الله، ليضم فيه أسماء خائفي الرب.

"شخص إليه": إذ تمتع كرنيليوس بقلبٍ محبٍ لله والناس، أمكن حتى لعينيه أن تتركزا في رؤية كل ما هو سماوي، دون أن تسحبهما الأمور الأرضية الزمنية.

بينما كان اليهود يقدمون الذبيحة المسائية في تلك الساعة، ويأملون أن تكون صعيدة مقبولة إذا بالملاك المرسل من الله يعلن صدقات وصلوات هذا الأممي أنها صعيدة أمكنها أن ترتفع وتصعد حتى أمام العرش الإلهي. فإن الله يطلب صعائد لذبائح الحب والطاعة والتسبيح (إش 1: 11-15؛ عا 5: 21-22؛ 1 صم 15: 22؛ هو 6: 6؛ جا 5: 1).

قد يتساءل البعض: كيف صعدت صلوات وصدقات هذا الأممي؟ ألم يكن في حاجة إلى دم ابن الله الوحيد للمصالحة مع الآب؟ ليس من شهادة أن هذا الأممي قد اعتمد على أعماله البارة الذاتية، لكنه كان يقدم صلوات وصدقاته خلال مخافته لله. كان يشتهي أن يتعرف على إرادة الله ويود أن يتممها، لهذا إذ ظهر له الملاك لم يجادل في شيء بل في خضوعٍ كاملٍ تمم ما صدر إليه من أمر إلهي. كان مشتاقا إلى مخلص، لذا أصغى إلى الرسالة السماوية وقبل كرازة القديس بطرس له بخصوص الخلاص بسرور في غير جدالٍ.

لنتعلم عن السيد المحب المتحنن كيف لا يتجاهل أحدًا. وإنما إذ يرى نفسًا سامية يسكب نعمته عليها بسخاء. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

الصلاة فوق الكل يمكنها أن تحفظ باستمرار بهاء هذا الثوب الروحي. مع الصلاة يكون السخاء في العطاء الذي هو تاجنا في العمل الصالح ووسيلة خلاص نفوسنا. الصلاة مع العطاء يمكنهما أن يمدانا بخيرات علوية بلا عدد، وأن يطفئا نار الخطية في نفوسنا، ويهبانا حرية عظيمة. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 ليسمع ذلك المقيدون في الجيش، وليتعلموا أن الخدمة العسكرية لا تقف عائقًا ضد االفضيلة لمن يرغب أن يكون ساميًا. ليتعلموا أنه يمكن للإنسان أن يعطي اهتمامًا عظيمًا لفضيلته حتى وإن ارتدى حلة الجندية والمنطقة، وإن كان له زوجة ومهتمًا بأطفال، ومديرًا لبيت، حتى وإن كان ملتزمًا بعملٍ عامٍ. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

  لا تسمح لحب الغنى أن يلتهب فيكم أو يمتلككم، بل لتهلك هذه الشهوة المفرطة، وتتبدد بنار الروح. لتتمزق بسيف الروح. إنها ذبيحة رائعة لا تحتاج إلى كاهن، بل يقدمها من يمارسها. إنها ذبيحة رائعة تتم أسفل (على الأرض) لكنها للتو ترتفع إلى العلي... هكذا كانت تقدمات كرنيليوس، فقد قيل: "صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام الله". انظروا إنه أروع اتحاد . ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

لاحظوا كيف لم يتحدث الملاك فورًا بل رفع أولًا عقله وسما به. عند رؤية الملاك صار خوف، لكنه خوف معتدل، قدرما يخدم تركيز ذهنه. الخوف رفعه، والمديح خفف ما في الخوف مما هو غير مبهج . ++ القديس يوحنا الذهبي الفم
علمنا الرب نفسه أن الشياطين العنيفة جدًا لا يمكن أن تُغلب إلا بالصلاة والصوم. وُجد كرنيليوس أهلًا لنوال عطية الروح القدس خلال الصدقات والأصوام المستمرة قبل العماد ++ القديس جيروم

 "والآن أرسل إلى يافا رجالًا، واستدع سمعان الملقّب بطرس".

لقد أرسل الله ملاكًا لكرنيليوس ليقوده إلى الكنيسة ممثلة في أحد رسلها، لكنه لم يقدم له إنجيل الخلاص، ولا أعلن له عن الإيمان بيسوع المسيح، إنما طالبه باستدعاء الرسول بطرس الذي يقدم رسالة الإنجيل ويقوده إلى طريق الخلاص. فالكرازة بالإنجيل هو عمل خدام الكلمة وليس الملائكة. إنها نعمة فائقة مقدمة لرجال الله تكشف عن غنى المسيح الفائق (أف 3: 8). حقا أن الملائكة هم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 2: 5)، يبعثون من الله إلى المعلمين أو الآباء كما إلى المحتاجين إلي التمتع بكلمة الخلاص.. غايتهم أن يلتقي الكل بالمسيح يسوع في كنيسته المقدسة.

  "أنه نازل عند سمعان رجل دباغ، بيته عند البحر، هو يقول لك ماذا ينبغي أن تفعل".

"بيته عند البحر" أي عند الشاطئ حيث كان سمعان دباغًا، والدباغة تحتاج إلى ماء كثير، خاصة وأن ماء البحر مفضل في عمليات الدباغة. ولعل ما كان يهم الإنجيلي لوقا هو أن هذا البيت لا تجاوره بيوت أخرى، إذ كان اليهود يحسبون عمل الدباغة دنسًا.

 ألا تلاحظون كيف أحب الرسل الخلوة والسكون فاختاروا الأماكن البعيدة للمدن؟ ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 "فلما انطلق الملاك الذي كان يكلم كرنيليوس، نادى اثنين من خدامه وعسكريًا تقيًّا من الذين كانوا يلازمونه".

  في طاعة وبسرعة في غير تردد أرسل كرنيليوس اثنين من خدامه وجنديًا ليستدعى القديس بطرس. لو أن كرنيليوس وحده كان مشتاقا أن يحقق إرادة الله ويتمتع بالخلاص لذهب بنفسه إلى القديس بطرس، لكن كان كل أهل بيته وربما بعض جنوده وأصدقائه أيضًا مهتمين بخلاصهم، لذا أرسل يستدعي القديس.

 "وأخبرهم بكل شيء، وأرسلهم إلى يافا".
 عاشت الكنيسة في مجدٍ عجيبٍ يقدمه لها الروح القدس قائد الكنيسة والمعزي لها. لذا نرى في حركة الكنيسة ظهور ملائكة، وأحلام مقدسة، ورؤى إلهية، بل وأحيانًا يحمل الروح الخدام وينطلق بهم إلى مواضع للكرازة.

حقًا إنه لأمر عجيب أن يرى قائد أممي ملاكًا يصدر له أمرًا باستدعاء رجل يهودي لم يتعرف عليه قبلًا، وربما لم يسمع عنه، فيرسل بعثة، ويحدد لها موقع البيت واسم الشخص، وكأن الأمر قد صدر إليه من أعلى درجات القيادة لجيش السماء. تحرك القائد في طاعة كاملة بغير أدنى تشكك، ليصير بحق بكر كنيسة الغرلة، يتقبل الروح القدس بطريقة فريدة، ليفتح أمام إخوته أهل الغرلة مخازن الروح القدس ونعمه الفائقة.

 لاحظوا شخصية هذا الرجل المتواضعة، فإنه لم يقل لهم: استمعوا إليّ، بل أخبرهم بكل الأمر - ما أفعله إنما أُمرت به من قبل العناية الإلهية. فإنه لم يرد أن يستخدم سلطانه لإحضار بطرس إليه، لهذا "أخبرهم بكل شيء" ++ القديس يوحنا الذهبي الفم

 نقف بكل تقديرٍ واعتزازٍ أمام هذا القائد الذي يرى في السلطة حبا واتساع قلب، فإنه لم يصدر أوامره ويلتزم خدامه وجنوده بالطاعة العمياء، وإنما اخبرهم بكل شيء كأب محب يعلن أسراره لأولاده المحبوبين لديه، حتى يشاركونه البركات الإلهية. صورة رائعة لمفهوم القيادة والسلطة كثيرًا ما لا نجدها حتى في حياة الوالدين أو المرشدين أو الكهنة!

أرسلهم إلى يافا، حيث ينطلق القديس بطرس من هناك إلى قيصرية يجتذب بكر المؤمنين من بين الأمم. وهي نفس البقعة التي منها انطلق يونان النبي ليكرز لأهل نينوى، الشعب الأممي، ليقدموا توبة ويتمتعوا بالمراحم الإلهية.