تفسير سفر طوبيا 2 .... الاحتفال بالعيد ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا



تفسير سفر طوبيا 2 .... الاحتفال بالعيد ++ الراهب القمص يوأنس الأنبا بولا

 الاحتفال بالعيد:

"و في يوم عيد الرب أن صُنِعَت مأدبة عظيمة في بيت طوبيا فقال لابنه هلم فادع بعضًا من سبطنا من المتقين لله ليأكلوا معنا(طو 2: 1، 2)"

كان من عادة اليهود أن يعيدوا ثلاثة أعياد رئيسية في خلال العام (لا 23 ، تث 16: 16).
بالإضافة إلى يوم الكفارة الذي كانوا يعيدون له في اليوم العاشر من الشهر السابع والأعياد الثلاث هي:-

1- عيد الفطير: وهو لمدة سبعة أيام، وكان يبدأ من اليوم الخامس عشر من شهر أبيب إلى اليوم الحادي والعشرين من نفس الشهر، وكانوا في هذه المدة لا يأكلون خبزًا مختمرًا بل فطيرًا، وعادة كان يلازم هذا الأسبوع عيد الفصح، حيث كان يذبح خروف الفصح في مساء اليوم الرابع عشر من نفس الشهر وعشية اليوم الخامس عشر.

2- عيد الحصاد: وكان يطلق عليه عيد الأسابيع أو العنصرة، وكانت تقدم فيه تقدمة للرب، وهو العيد الوحيد الذي كان يقدم فيه للرب خبزًا مختمرًا كتقدمة (لا 2 : 7). وكان يحسب له بعد أن يأتوا بحزمة الترديد سبعة أسابيع كاملة ويكون العيد في اليوم الخمسين.

3- عيد الجمع: وكان يطلق عليه عيد المظال، حيث كان بنو إسرائيل يقيمون خارج منازلهم لمدة سبعة أيام في مظال من سعف النخل وأغصان شجر الزيتون. تذكارًا لتيهان آبائهم في البرية لمدة أربعين سنة، وكان يبدأ في اليوم الخامس عشر من الشهر السابع. ففي أحد هذه الأعياد -وبعض النسخ تذكر أنه عيد العنصرة- أقام طوبيا مأدبته. ونجد أن طوبيا يشدد على الذين سيشتركون معه وأسرته في المائدة أن يكونوا من عشيرته أي من بني إسرائيل وليس من الأمم، لكي لا يتنجسوا بوجودهم إذا كان بعض منهم مس أي شيء نجس. نلاحظ أن الشريعة أوصت أن لا يسمح لأى غريب -إنسان غير مختتن- أن يأكل من خروف الفصح حتى لو كان عبدًا في البيت، وفي نفس الوقت كانت تسمح بأكثر من أسرة أن تشترك في خروف واحد للفصح، وكانت تشدد جدًا على العطف على الفقراء أو المحتاجين، ونجد أن طوبيا كان يراعى ذلك دائمًا.

 فذهب ابنه وعاد إليه، ولكن بدلًا من أن يأتى بأحد الفقراء، أتى بخبر غير سار وهو أن أحد بني جنسه مقتول في أحد الشوارع وجثته ملقاة كدمية على وجه الأرض.

فترك طوبيا وليمته في الحال، وقام مسرعًا، وأخذ معه بعضًا من عبيده - وكان القانون يسمح للإسرائيلين باقتناء بعضًا من الأمم كعبيد لهم. وجعلهم يحملون الجثة ويخبئونها إلى غروب الشمس لكي لا يتنجس ويأكل من وليمته في وقتها، حيث كان اليهود يعتبرون بداية اليوم الجديد من عشية اليوم الذي يسبقه أي بعد غروب الشمس. ونلاحظ هنا أنه نسب إلى طوبيا أنه هو الذي قام بأخذ الجثة وتخبئها إلى بعد الغروب ودفنها مثلما ننسب إنجاز شيء إلى الملك أو الرئيس الذي تتم في أيامه. ونجد أن يوسف الرامى ونيقوديموس قاما بدفن المسيح على عَجَلٍ قبل غروب الشمس لكي يستطيعا أن يأكلا من خروف الفصح ويعيدا عيد الفطير في ميعاده.

ونرى فضيلة دفن الموتى من الغرباء والفقراء قد تأصلت لدى اليهود. وهذا ما نلاحظه في دفن يوسف الرامى للسيد المسيح. ونلاحظ أيضًا أن قادة اليهود قاموا بشراء قطعة أرض وجعلها مقبرة للغرباء بالثمن الذي باع به يهوذا الاسخريوطى السيد المسيح له المجد.

"وبعد أن خبأ الجثة أكل الطعام باكيًا مرتعدًا فذكر الكلام الذي تكلم به الرب على لسان عاموس النبي أيام أعيادكم تتحول إلى عويل ونحيب (طو 2: 5، 6)".

 نرى هنا أن طوبيا يتذكر ويعى جيدًا أقوال الأنبياء الذين سبقوه، ومنهم قول عاموس النبي"وأُحَول أعيادكم نوحًا وجميع أغانيكم مراثى (عا 8: 10)"، وهذا يوضح لنا أن حفظ أقوال الله يحفظنا من كل خطية. ويذكرنا بحلوله في وسطنا. وكلامه دائمًا لا يكون كلام هباء بل كل ما يقوله يفعله ويتممه حتى لو أبطأ بعض الوقت.

" وكان جميع ذوى قرابته يلومونه قائلين: "لأجل هذا أمر بقتلك وما كدت تنجو من قضاء الموت حتى عدت تدفن الموتى (طو 2: 8)"

إننا نجد أن بعض الأهل والأقرباء هم أكثر معوق في الطريق الروحى -للأسف الشديد- فبدلًا من أن يشجعوا كل من أراد أن يسلك في الطريق نحو الله، نجدهم بقدر المستطاع يجذبوهم إلى أسفل. وكأن من أراد أن يسير مع الله. يفعل شرًا عظيمًا. ولابد مِن ترك هذه الرذيلة من وجهة نظرهم. والا أصبح لهم عدوًا، فيترصدون له الأخطاء. ناسين أنهم بشر ولهم ضعفتهم، ومازالوا في حرب مع الشيطان وكل أعوانه، فلابد أن يسقطوا ويقوموا ولذلك قيل: "الصديق يسقط سبع مرات في اليوم ويقوم (ام 24: 16)"، أو يشبعونه استهزاء، وسخرية بكلمات لاذعة وعنيفة ما بين التهكم، أو اعتباره قديسًا، أو ملاكًا ليس من هذا الكوكب، ولذلك نجد أن السيد المسيح يحذرنا قائلًا: "أعداء الإنسان أهل بيته (مت 10: 36)".

وفي موضع آخر يقول "ليس نبى بلا كرامة إلا في وطنه (مر 6: 4)". أما طوبيا الذي يعى جيدًا "يجب أن يطاع الله أكثر من الناس (أع 5: 21)." لا يهتم بكلامهم، ويواصل السير في هذه الفضيلة لكي تنمو معه يومًا فيومٍ إلى ملء قامة المسيح (اف 4: 13).

وعادةً أي فضيلة بها قوة داخلية تعمل وتساعد كل مَنْ أراد أن ينفذها. ولهذا نجد طوبيا لا يخشى أمر الملك (طو 2: 9) بل يستمر في دفن الموتى.

 تجربته:

وعندما ينتصر طوبيا على تجربته الاولى، من خلال ثباته في الفضيلة، وأثبت عمليًا أنه يجب أن يطاع الله أكثر من الناس (أع 5: 21)، فكان له أن يتعرض إلى تجارب أخرى لكي تزكى هذا الإيمان وتثبته، وتأصله في أعماق وجدانه البشرى، لكي كل من يرى أعماله الصالحة يمجد الله، ولذلك نجد أن الله سمح له أن يتعرض إلى تجربة من نوع جديد، وهي إصابته بالعمى نتيجة وقوع بعض من ذرق أحد الطيور في عينيه وهو سخن عندما كان نائمًا بجوار الحائط (طو 2: 10 - 13)، فنجده ينتصر في هذه التجربة المريرة أيضًا التي أفقدته بصره، وبعد ذلك أمواله التي أنفقها على الأطباء لعلاجه لكن من دون فائدة.

ونراه يقدم الشكر لله (طو 2: 14) على كل حال، ومن أجل كل حال، وفي كل حال. وقد يتعجب البعض كيف يشكر الله على فقدانه بصره وأمواله ومركزه، نعم يشكر الله لأنه أخذها من يد الله الذي يعرف ماذا تحتاج إليه نفسه لإصلاحها، وتقويمها، وتنقيتها، وتزكيتها أمامه.

فالهنا كأب حنون، لا يمكن أن يعطى إلا كل خير، ما ينظر إليه البعض على أنه مصيبة حالة بهذا الإنسان. وليس معنى أن طوبيا يشكر الله أنه لا يتألم، بل يتألم أشد الألم، والشيطان يحاول أن يستغل هذه الفرص، ويشككنا في محبه الله، وعنايته ويظهره كأنه تخلى عنا. وأصبحنا من غير خاصته ولماذا كل هذه الآلام ؟! ويجلب الأهل والأصدقاء لتأكيد هذا الفكر، كيف نكون أبناء الله ويعرضنا لمثل هذه التجارب؟! وأين أعمالنا التي كنا نقدمها من أجل الله؟! ناسين أنه لابد للشجرة أن تقلم لكي تأتى بثمر. فإلهنا الصالح ينزع منا كل ما لا يأتى بثمر لمجده، وهذا النزع لابد له أن يحدث ألمًا. ولذلك نجد أن القديس بولس الرسول يصف الإنسان المؤمن الواقع تحت التجربة قائلًا: "ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيُعطى الذين يتدربون به ثمر بر للسلام (عب 12: 11) ".

ونجد أن طوبيا وضع في تطابق مع أيوب الصديق (طو 2: 12 - 16). وكأنه على كل نفس مؤمنة أن توضع في هذا التطابق العجيب. فتخرج هي الأخرى أنقى من الذهب المصفى (أى 23: 10)، حيث تتم تنقيتها بين يدى ضابط الكل، الذي يعرف جيدًا متى يرفع التجربة، ومتى يحولها، أو يحفظها، لأنه لا يتركنا للتجارب التي فوق طاقتنا. حيث لا يدعنا نجرب فوق ما نستطيع لكنه يجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لنستطيع أن نحتملها (1 كو 1: 13)، فالشكر لا يلغى الآلام الناتجة عن التجربة. ولا الآلام تقدر أن تجعلنا لا نشكر الله على كل حال، ونتذمر عليه، وإن كان هذا لا يمنع من الدخول في عتاب مع الله، مثلما فعل كل من أيوب البار (أى 7: 7 -12) وإرميا (إر 12: 1) وحبقوق (حب 1:12 -17) وغيرهم كثيرون.

"فإنما نحن بنو القديسين وإنما ننتظر تلك الحياة التي يهبها الله للذين لا يصرفون إيمانهم عنه أبدًا (طو 2: 18)".

 آه يا رب....

أرجوك يا إلهي الصالح. أعطنا أن نعى جيدًا أننا بنو القديسين، كما أعطيت ابنك طوبيا.

هبنا يا رب أن لا نشاكل أهل هذا العالم في تصرفاتهم وملابسهم......

وفى أسلوبهم في الكلام والحياة...
وفى المشى والحركات...
نحن الأن يا رب في أشد الاحتياج لأن نعى أننا بنو القديسين...
فلقد نسينا هويتنا في هذا العالم المضطرب....
نسينا أننا بنو الشهداء القديسين الذين سفكوا دماءهم من أجل الحفاظ على الإيمان والعقيدة...
وإن تذكرناهم نحيا على ذكراهم...
وكأننا انفصلنا عنهم.
ولا نعى أننا لابد أن نسير على مبادئهم....
ونسير على نفس الدرب الذي ساروا هم فيه....
وأن ننظر إلى نهاية سيرتهم ونتمثل بإيمانهم (عب 13: 7).
فأنك يا إلهى لا تتخلى عن أحد من أبنائك إن كان في شدة أو في ضيقة...
وانك لابد أن تكافاه هنا على الأرض....
وفى السماء أضعاف أضعاف.
أعطنا يا إلهى أن ننظر إلى تلك الحياة التي نعيش فيها معك إلى الأبد....
ولا يستطيع شيء مهما كان أن يفصلنا عنك أبدًا.
وإن خُرْنَا هنا لبعض الوقت فأنت دائمًا تسندنا ولا تجعلنا نسقط...
لأنك انت مسند أيادينا (مز 37: 24).

وفى الأعداد (طو 2: 19- 22) نجد أن حنة امرأته تحمل على أكتافها أعباء مضاعفة لم تتعود عليها من قبل، منها الاهتمام برجلها الذي أصبح كفيفًا ولم يتعود على الحياة بدون بصره، ابنها الصغير الذي لا يقدر على الاهتمام بمسئولية الحياة، وعلاوة على كل ذلك التكفل بنفقات المعيشة بعملها في الحياكة. فلقد أخذت على عاتقها أن تخفف من شدة التجربة الحالة بزوجها قدر الإمكان. ولم تحاول أن تتهرب من هذه الاعباء بحجج واهية كما يفعل البعض الآن، ولكنها فضلت أن تعيش تحت هذا النير من أن تترك بيتها، ولم تحاول خلق المشاكل، أو أن تثير شكوك زوجها. إلى أن جاء يومٍ كان كئيبًا على الأسرة. حينما رجعت من عملها ومعها جديًا صغيرًا. فطوبيا يعلم جيدًا حدود الدخل التي تحصل عليه من عملها وأنه لا يكفى شراء جدى. ومع أنه يقدر جيدًا تعبها من أجله تساءل في شيء من الريبة والشك "من اين جاء هذا الجدي؟! فلو كان مسروقًا ردوه إلى أصحابه"، ولكنها لم تستطع أن تقنعه أنه ليس بمسروق.

وتحت ضغط هذه المشاحنات تلفظت ببعض الكلمات التي آلمت طوبيا حيث أتت كلمات التعيير من أحبائه ومن خاصته، وما أصعب الجروح التي تتم من الأحباء، حيث لا نتوقع منهم هذا، ولكننا نتوقع منهم كل خير، وحب مقابل بذلنا وحبنا لهم. وهذا ما عبر عنه داود النبي بقوله: لأنه ليس عدو يعيرنى فأحتمل. ليس مبغضى تعظم على فأختبئ منه، بل أنت إنسان عديلى ألفى وصديقى الذي معه كانت تحلو لنا العشرة (مز 55: 12 -14)". وكان من نتيجة هذا الجرح الذي ألّمَ به نفسيًا أن وقف يصلى امام الله بدموع.