من كتاب تأملات في سفر يونان النبي +++ البابا شنودة الثالث
طاعة غير العاقلين
لقد أخجل الرب يونان النبي بطاعة أهل نينوى، وببر أهل السفينة وأيمانهم، وأيضا بطاعة الجمادات والمخلوقات غير العاقلة. ومن الجميل أن نرى كل هؤلاء في إرساليات إلهية وفي مهمات رسمية أدوها على أكمل وجه وأفضله.
فما هي هذه الكائنات غير العاقلة التي كانت عناصر نافعة في إتمام المشيئة الإلهية؟
عندما ركب يونان السفينة، يقول لنا الوحي الإلهي " فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر، فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر" (1 : 4).
لقد أدت الريح واجبها، وكانت رسولا من الرب، قادت الناس إلى الصلاة. فصرخ كل واحد إلى إلهه. دخل النبي إلى السفينة، ولم يهتم إلى أن يدعو الناس إلى الصلاة. أما هذه الريح العاصفة، فقد نجحت ما فشل فيه هذا النبي.. وتحقق فيها قول داود في المزمور " الريح العاصفة الصانعة كلمته" " مز 148 : 8 ". ونحن نتغنى بهذا الوصف الجميل مرتلين به كل يوم في التسبحة في الهوس الرابع متأملين في هذه الريح "الصانعة كلمته"!!
وكما أدت هذه الريح الشديدة مهمتها في أول القصة أدت مهمة أخرى في أخر القصة، إذ يقول الكتاب " وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحا شرقية حارة. فضربت الشمس على رأس يونان فذبل فطلب لنفسه الموت.." (4 : 8) . وهكذا دخل مع الله في تفاهم انتهى إلى المصالحة مع الله، بسبب هذه الريح " الصانعة كلمته". أليس من الجميل أن تأخذ هذه الريح نفس الوصف تقريبا الذي أطلق على ملائكة الله المقتدرين قوة "الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه" " مز 103 :20 "!!
وكما أستخدم الله الريح، أستخدم الحوت أيضا لتنفيذ مشيئته : وفي ذلك يقول الكتاب أولا "وأما الرب فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال" " 1 : 17 ". ثم يعود فيقول " وأمر الرب الحوت، فقذف يونان إلى البر " "2 :10". وهكذا كان الحوت ينفذ أوامر إلهية تصدر إليه، وينفذها بدقة وحرص حسب مشيئة الرب.
وكما أستخدم الله الريح والحوت، أستخدم الشمس والدودة واليقطينة.
ويقول الكتاب " فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان.." " 4: 6" ويقوا "ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد، فضربت واليقطينة فيبست " "4 : 7 " وأيضا " أن الله أعد ريحا شرقية حارة فضربت الشمس على رأس يونان " "4 : 8 ".
إن كل الكائنات في يد الرب، يستخدمها وفق مشيئته حسبما يريد، وهى في يده مطواعة خاضعة…يقول لها "أذهبي يا ريح،أذهبي يا شمس.. أذهبي يا موجة،اذهبي يا دودة.." فيتم كل شيْ دون نقاش..كلهم رسل أوفياء وهكذا استخدم الله الجماد ليقنع الإنسان، واستخدم غير العاقل ليقنع العاقلين..
في سفر يونان كانت كل هذه الكائنات مطيعة للرب، الوحيد الذي لم يكن مطيعا،هو الإنسان العاقل، يمنان…الذي منحه الله حرية إرادة يمكنه بها أن يخالفه!
حقا أن الإنسان كثيرا ما يستخدم عقله وحريته استخداما رديئا. وكثيرا ما يثق الإنسان بحكمته وثوقا يصطدم فيه بمشيئة الله. لذلك نصحنا الكتاب بقوله "وعلى فهمك لا تعتمد ""أم 3 : 5 ". وعلل ذلك بهذه العبارة الحكيمة التي وردت مرتين في سفر الأمثال " هناك طريق تبدو للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت " " أم 14 : 12 ".
"أم 16 :25 "الإنسان مغرور دائما في حكمته وفي حسن تصرفه. ولذلك يقول الكتاب "كل طرق الإنسان مستقيمة في عينية "أم 21 : 2 " حتى الجاهل أيضا " أم 12 :15 ".
هكذا الإنسان أما باقي الكائنات فلا تعرف غير الطاعة. على أنه لم يكن كل أنسان غير مطيع في سفر يونان، بل كل الناس أطاعوا، ما عدا يونان النبي!
ولعل أهم طاعة يطلبها منا الرب هي الطاعة في الإرساليات المتعِبة، وقد أعطانا مثالا بطاعة باقي الكائنات.
لعلنا نسر ونبتهج عندما يرسلنا الله برسالة مفرحة، وينطبق علينا قول الكتاب " ما أجمل أقدام المبشرين بسلام المبشرين بالخيرات " "رو10 : 15". نفرح بهذه الإرساليات لما سيصادفنا فيها من مجد باطل نتيجة لمدح الناس وشكرهم إما الرسالة المتعبة فهي صعبة وعندما ننفذها إنما نفعل هذا من أجل الله وحده.
ما اصعب رسالة يطلب فيها الله من أحد أولاده أن ينادي على مدينة بالهلاك. إبراهيم أبو الآباء تشفع من أجل سدوم طالبا عدم إهلاكها مع أنه لم يكن هو المكلف بالمناداة بإهلاكها ولكنه لم يحتمل سماع الآمر ولو من بعيد…
على أن يونان لم يهرب من المهمة إشفاقا على نينوى، من الهلاك، بل على العكس هرب خوفا من أن تبقى المدينة ولا تهلك… لم يقل كلمة إشفاق، ولم يشفع فيها كإبراهيم عندما تشفع في سدوم. بل أنه حزن واغتاظ واغتم غما شديدا ورأى أن الموت هو أفضل لنفسه من الحياة، كل ذلك لآن الله لم يتتم إنذاره وهلك المدينة.. هل كان في قلب يونان شيْ من القسوة أو الغلظة؟ أم أن اعتزازه بكلمته طغى على كل شيْ.. حتى على الحب والإشفاق؟ لست أدرى.
أما الكائنات الأخرى في سفر يونان فنفذت كل ما أمر به الرب، سواء كان مفرحا في ظاهره أو متعبا، يكفى أنه آمر قد صدر من فم الله.
أمر الله الريح أن تصدم السفينة بشدة حتى كادت تنكسر، ففعلت كما أمر، وكان كذلك. لم تقل ما ذنب هؤلاء البحارة البررة الآمنين، ولماذا نسبب لهم نوءا عظيما في البحر؟ كلا أننا لسنا أحن من الله وقد أثبت الله فعل إن ذلك كان تدبيرا حكيما منه. يقود بها بحار السفينة وركابها إلى الإيمان.
أراد الله للبحر أن يهيج فهاج، وأراد له أن يهدأ بعد إلقاء يونان فيه، فهدأ.. ما أعجب الطبيعة المطيعة التي لا تعصى لله أمرا، كالإنسان.
وأمر الله الحوت أن يبتلع يونان فأبتلعه، دون أن يؤذيه لآته لم يأخذ أمرا من الله بأن يأكله. ثم أمر الله الحوت أن يقذف يونان إلى البر، فقذفه إلى حيث أراد الله.
آني أقف أحيانا في عجب، أتأمل كيف كانت هذه الكائنات تتلقى أوامرها من الله، كيف كانت تتفهمها وتنفذها. أنها لا تعي ولا تدرك. ولكن الآمر يرجع إلى مشيئة الله العاملة فيها.
وكما أمر الحوت الضخم الكبير لكي ينفذ جزءا من الخطة الإلهية، كذلك أمر الدودة البسيطة، أمرها أن تضرب اليقطينة فيبست.. ما أعجب هذا أن نرى حتى الدودة جزءا في العمل الإلهي المقدس الكامل.. حقا ما أجمل قول الكتاب " انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار " " متى 18 :10".
أنها مشيئة الله منفذه كما يطلبها هو، لا كما تقترح الخليقة في جهالتها. وحكيم هو الذي يستسلم لمشيئة الله أيا كانت صورتها.
يأمر الله اليقطينة لكي ترتفع ويكون ظلا على رأس يونان " لكي يخلصه من غمه" فتنفذ اليقطينة هذا الآمر العطوف. ويكلف الله الشمس أن تضرب على رأس يونان فيذبل ويشتهي الموت، فتفعل كما يأمر الرب.. أنها ليست احن منه على يونان. لابد أن في ضربة الشمس فائدة ليونان وآلا ما كان الله قد أمر بها.. وكان كذلك.
حقا أن الطبيعة وكل الكائنات غير العاقلة، مثلها مثل الكائنات السمائية، من حيث إنها لا تعرف في علاقتها مع الله سوى عبارة "لتكن مشيئتك "…
ليتنا نأخذ درسا من كل هؤلاء، وندرك نحن أيضا عمق عبارة "لتكن مشيئتك " في حياتنا وحياة الناس. هذه العبارة التي فشل يونان في ممارستها، ولم يستطع أن يصل إليها آلا بعد تجارب كثيرة وصراع مع الله، وعقوبات، واقناعات.. أخيرا استطاع الله أن يقنعه بخيرية المشيئة الإلهية، مهما كانت مخالفة لمشيئته الذاتية.
لقد خلق الله العقل نعمة للإنسان. ولكن هذا العقل كثيرا ما يقف حائلا بين الإنسان وحياة التسليم!
يحدث هذا إذا انفرد العقل بذاته، بعيدا عن الاستنارة بالروح القدس، وبعيدا عن الاتضاع الذي ينحني به العقل خاضعا لمشيئة الله.. أمسك أحدهم برأسه بين يديه، وقال "هذه هي "تفاحة أدم" التي يتحدث عنها البعض"، يقصد أن عقله هو سبب كل سقطاته وتجاربه..
وليس العقل وحده هو الذي يقف ضد مشيئة الله، عندما يقتنع بأشياء أخرى تخالف ما يأمر به الرب، أو عندما يضع أوامر الرب في بوتقة الفحص والتحليل.. أنما هناك أيضا العاطفة التي قد تشتهى أمورا يمنعها الرب عنها، فتقف هذه العاطفة أو هذه الشهوة ضد مشيئة الله...
ولذلك عندما يكون عقل الإنسان وعاطفته في يد الله، عندئذ تتفق مشيئة الإنسان مع مشيئة الله. وتكون طاعة الإنسان عن رضى واقتناع ومحبة لوصايا الله. وتكون طاعة الإنسان فرحة بوصايا الله وأوامره كمن وجد غنائم كثيرة كما كان يفعل داود... أما إذا تعارضت مشيئة الإنسان مع مشيئة الله، فلابد أن يكون هناك خلل في الإنسان، إما في طريقة تفكيره، وإما في شهوات قلبه.
وفي حالة تعارض المشيئتين هذه، يكون أمام الإنسان أحد طريقين للطاعة: أما أن يتضع الإنسان، ويلوم ذاته شاعرا بخطئه، محاولا أن يصلح داخله لكي يتقبل مشيئة الرب بفرح. وأما أن يغصب الإنسان نفسه على الطاعة سواء فهم إرادة الرب أم لم يفهمها، رضى بها في داخله أم لم يرضى. المهم أنه لا يخالف... وأن يقول للرب في كل أمر " لتكن مشيئتك ".
على أن يونان لم يستطع أن يقول للرب " لتكن مشيئتك ". لم يستطع أن يتواضع أمام الرب، ولم يستطع أن يغضب ذاته على الطاعة. فاضطر الرب أن يتدخل بنفسه.