تامل من إنجيل مرقس اصحاح 10 +++ القمص تادرس يعقوب
الحاجة إلى تفتيح الأعين
إذ كان السيد خارجًا إلى أريحا، منطلقًا إلى أورشليم ليدخل إلى الآلام ويحمل الصليب عنا التقى بأعميين، ذكر القديس مرقس احدهما بالاسم "بارتيماوس بن تيماوس". كان هذا الأعمى "جالسًا على الطريق يستعطى. فلما سمع أنه يسوع الناصري، ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود ارحمني. فانتهره كثيرون ليسكت، فصرخ أكثر كثيرًا: يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وأمر أن يُنادي، فنادوا الأعمى قائلين له: ثق، قم، هوذا يناديك. فطرح رداءه وقام، وجاء إلى يسوع. فأجاب يسوع وقال له: ماذا تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب، إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر، وتبع يسوع في الطريق"
لهذا العمل الإلهي أهميته الخاصة، فمن جهة أنه تم في الطريق حيث كان السيد مسرعًا نحو الصليب، وكأنه أراد أن يعلن غاية آلامه تفتيح عيني البشرية الداخليتين، أي بصيرتها القلبية، لتعاين أمجاد ملكوته القائم على صلبه وقيامته. ومن جانب آخر جاء هذا العمل يعلنه الإنجيلي بعد رفض الشاب الغني التبعية للمسيح وانشغال التلاميذ بالمراكز الأولى والتمتع بالكرامات الزمنية. وكأن طريقه الصعب يحتاج إلى عمله الإلهي ليهب النفس استنارة داخلية، فتتعرف على ملامح الطريق وتسلك فيه. وقد قدم لنا الإنجيلي تفاصيل تفتيح عيني هذا الأعمى لما حمله هذا العمل من مفاهيم روحية عميقة:
أولًا: تم تفتيح العينين عند أريحا على الطريق... ويرى القديس جيروم أن اسم المدينة ملائم للموقف، فإن معناه "قمر" أو "أناثيما"، أي "محروم"، حيث كان السيد منطلقًا إلى أورشليم ليحتمل الآلام والحرمان بالجسد لأجل خلاصنا.
كان الأعمى جالسًا على الطريق يستعطى. فإن كان طريق العالم سهلًا وطريق الرب صعبًا، لكن الأول يفقد النفس بصيرتها وحيويتها فيجعلها كمن في الطريق خاملة بلا عمل، تجلس في خيبة أمل تستعطي الآخرين.
ثانيًا: كانت صرخات الأعمى: "يا يسوع ابن داود" تعلن إيمانه به أنه المسيا المنتظر، الموعود به. إنه ابن داود الذي تترقبه الأجيال. يقول القديس كيرلس الكبير: إذ تربى في اليهودية، وكان بحسب الميلاد من هذا الجنس لم تهرب من معرفته النبوات الواردة في الناموس والأنبياء بخصوص المسيح. لقد سمعهم يسبحون هذه العبارة من المزامير: "أقسم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه، من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11). لقد عرف أيضًا أن الطوباوي إشعياء النبي قال: "ويخرج قضيب من جزع يسى وينبت (يزهر) غصن من أصوله" (إش 11: 1)، وأيضًا قال: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا، وتدعو اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (إش 7: 14؛ مت 1: 23). فإنه إذ آمن أن الكلمة بكونه الله تنازل بإرادته ليولد حسب الجسد من عذراء مقدسة، اقترب منه كما من الله، وقال له: "ارحمني يا ابن داود"... لقد شهد أيضًا لمجده بسؤاله عملًا لا يقوم به غير الله وحده .
ثالثًا: كانت الجموع تحيط بالسيد وتزحمه جسديًا، وعندما أراد الأعمى أن يلتقي به إيمانيًا لم يجد من الجموع إلا المقاومة، إذ قيل: "فانتهره كثيرون ليسكت"، وأمام هذه المقاومة: "صرخ أكثر فأكثر"، من واعز إيمانه الذي لا يُغلب.
حتى في داخل الكنيسة حينما يود إنسان أن يلتقي بالسيد خلال الروح قد يجد مقاومة وروح النقد تثبط الهمم، لكن النفس التي تتمسك بالإيمان الحيّ تشعر باحتياجها للمخلص، فتزيدها المقاومة صلابة، ويزداد صراخها الداخلي أكثر فأكثر، فيكرمها السيد المسيح بدعوتها أن تقترب منه وتتمتع بحضرته كما بعمله الداخلي فيها. يقول القديس كيرلس الكبير:لتفهموا من هذا يا أحبائي أن الإيمان يدخل بنا إلى حضرة المسيح، ويقدمنا إلى الله (الآب) فنُحسب مستحقين لكلماته.
رابعًا: إذ أمر السيد أن يُنادي، تحولت القوى المقاومة إلى قوة عاملة، إذ نادوه قائلين: ثق، قم، هوذا يناديك.
إن كانت هذه الجموع تشير أيضًا إلى الجسد الذي كثيرًا ما يقاوم النفس حين تود الالتقاء مع مخلصها ببث روح الخمول والتراخي، لكن النفس المثابرة تستعطف المخلص فيحول الجسد إلى آلات برّ تعين النفس في لقائها مع الرب. لهذا يقول القديس يوحنا سابا: يتنعم الجسد والنفس معًا في الرب بالمحبة والفرح.
خامسًا: طرح الأعمى رداءه وقام وجاء إلى يسوع. إنه تدريب يومي تقوي، فيه يطرح المؤمن أعمال الإنسان القديم كرداء، ويتمتع بالقيامة مع السيد ليكون دومًا معه وفي حضرته.
سادسًا: سأله السيد: ماذا تريد أن أفعل بك؟ ليس من عدم معرفة، إنما ليعلن إيمانه أمام الجميع، وليؤكد أنه يعطي من يسألونه.
سابعًا: تمتع بالبصيرة فتبع يسوع في الطريق، وكما يقول القديس جيروم:أنتم أيضًا تستردون بصيرتكم أن صرختم إليه وطرحتم رداءكم القذر عنكم عند دعوته لكم... دعوة يلمس جراحكم ويمر بيديه على أعينكم، فإن كنتم قد وُلدتم عميان من البطن، وإن كانت أمهاتكم قد حبلت بكم بالخطية فهو يغسلكم بالزوفا فتطهرون، يغسلكم فتصيرون أبيض من الثلج (مز 51: 5، 7).