اهتمام الله بالمحتاجين إلي الحب +++ البابا شنوده الثالث



من كتاب المحبة قمة الفضائل +++ البابا شنوده الثالث
اهتمام الله بالمحتاجين إلي الحب

لقد اهتم الله بالكل، وبخاصة أولئك الذين لم يكن أحد يهتم بهم. فأولاهم حبًا كانوا في مسيس الحاجة إليه. ومنح حبه للمظلومين والمقهورين، وقال للتعابى:

(تعالوا إلي جميع المتعبين والثقيلي الحمال، وأنا أريحكم) (مت11:28).

وكانت هذه النقطة هي من أبرز خواص رسالة السيد المسيح له المجد. وقال في ذلك (روح السيد الرب علي، لأنه مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأعصب منكسري القلب. لأنادي للمسببين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق.. لأعزي جميع النائحين.. لأعطيهم جمالًا عوضًا عن الرماد، ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة) (أش61:1-3).

نعم، إنه رجاء لمن ليس له رجاء..

ومعين من ليس له معين -كما نقول في صلوات القداس الإلهي- عزاء صغيري القلوب، وميناء الذين في العاصف..

وهكذا كان يعطي الحب للذين لا يجدون حبًا من أحد. وكان يذكر الذين ليس لهم أحد يذكرهم. وهو باستمرار الباب المفتوح، حينما تكون سائر الأبواب مغلقة. وسنضرب بعض أمثلة:

الحب الذي قدمه الرب للعشارين المحترقين من الناس.

كان العشارون منبوذين من المجتمع اليهودي، يرونهم عنوانًا للظلم والبعد عن الروحانية. ولكن الله الحب أراد أن يرد لهم اعتبارهم، ويعيد إليهم كرامتهم، وبخاصة أمام الفريسيين المشهورين. بالتدقيق في حفظ الوصايا. فذكر مثل الفريسي والعشار. وكيف أن العشار في توبته وانسحاق قلبه، كان أفضل من الفريسي في كبريائه وافتخاره. وكيف أن العشار خرج من الهيكل مبررًا دون ذاك (لو18:9-14).

 وكان يحضر ولائم العشارين، ويدخل بيوتهم. وبهذا يرفع من معنوياتهم وبجذبهم إليه.

وما كان يبالي بانتقاد الفريسيين والكتبة له (لو15:2). حتى أنهم قالوا لتلاميذه (لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟!). أما هو فكان يجيب (لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي.. لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلي التوبة) (مت9:11-13). وكان يقول أيضًا (يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلي توبة) (لو15:7).

حقًا ما أعمق اهتمام المسيح بالخطاة والمرضي.

أنه ما كان يتعالي عليهم أو يحتقرهم، كما كان يفعل الفريسيون، بل كان يدخل إلي بيوتهم، كما دخل إلي بيت زكا رئيس العشارين، حتى تذمر الجمع قائلين إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ (لو19:7). أما السيد فقد منح زكا الحب الذي تاب به. وقال: اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت، إذ أيضًا ابن إبراهيم) بل قال إنه:

(قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك) (لو19:10).

عميقة جدًا هذه العبارة.. لم يقل يخلص من قد ضل أو أخطأ، بل ما قد هلك..! إذن فتحي الهالك له رجاء، وله مكان في محبة الله يمكن به أن يخلص. وليس فقط يخلص، بل أن الرب قد اختار أحد هؤلاء العشارين، ليكون واحدًا من تلاميذه الاثني عشر، وهو متى الذي كان جالسًا عند مكان الجباية (مت9:9).

أي حب هذا، هو حب الرب الذي قيل عنه:

(المقيم المسكين من التراب، والرافع البائس من المزبلة، ليجلسه مع أشراف شعبه) (مز113: 7، 8).

هذا هو تعامل الرب المملوء حبًا والمملوء اتضاعًا، مع المساكين والمحتقرين، مع الخطاة والعشارين، المنبوذين من المجتمع. أعطاهم فوق ما كانوا ينتظرونه منه بمراحل.. لقد أذاب قلوبهم بهذا الحب.. زكا مثلًا، كانت أقصي أمنيته أن يراه. أما أن يقف الرب عنده، ويناديه باسمه، ويدخل إلي بيته، ويعلن أنه أيضًا من أبناء إبراهيم. فقد كان هذا فوق احتماله.. فأعلن توبته، وأعلن الرب خلاصه.

طائفة أخري هي السامريون، وكان المجتمع اليهودي لا يعاملونهم (يو4:9). وكيف عاملهم الرب بحب..

كان اليهود يحتقرونهم، ويرون أنهم غير مؤمنين. وفعلًا لم يكن إيمانهم سليمًا.. ولكن حتى هؤلاء، ما كنت محبة الرب بعيدة عنهم، ولا كان خلاصه مغلقًا أمامهم. وإذا بالرب يشرح مثل السامري الصالح، الذي أظهر فيه كيف أن ذلك

السامري كان أفضل في حبه من الكاهن واللاوي (لو10:25-37). ورد بهذا المثل علي سؤال أحد الناموسيين (من هو قريبي) فأظهر له أن السامري أيضًا قريبه.

وفي معجزة شفاء العشرة البرص، أظهر أن الوحيد الذي رجع فشكر كان سامريًا.. وقال لهذا الرجل (الغريب الجنس) (إيمانك خلصك) (لو17:12-19).

إن محبة الله تشمل أيضًا "الغريب الجنس"، وترفع معنوياته، وتفتح له باب الإيمان والخلاص.

ولم يكتف الرب بهذا من جهة السامريين، بل زارهم ودخل مدينتهم. ومعروفة قصة هدايته للمرأة السامرية، وحديثة معها عن الماء الحي، واجتذابها إلي التوبة وإلي الإيمان.. ثم بعد ذلك أهل مدينتها كلهم (جاء إليه السامريون وسألوه أن يمكث عندهم. فمكث هناك يومين) وآمن كثيرون وقالوا (إن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم) (يو4:5-42).

إنه بالحب قد خلص كثيرين من السامرة.

وقال لتلاميذه (ارفعوا عيونكم وانظروا الحقول: إنها قد ابيضت للحصاد.. أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه) (يو4:35،38). وهكذا لم ينس الرب السامرة في إرساليته لتلاميذه، بل قال لهم بعد القيامة (وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلي أقصي الأرض) (أع 1:8).

جميل أن يعرف كل إنسان أنه ليس منسيًا من الله، ولو كان في أقصي الأرض. وهذا يذكرنا بالأمم.

كان الأمم أيضًا محتقرين من اليهود، لأنهم ليسوا أبناء لإبراهيم، وليسوا من شعب الله!! ولكن الرب أظهر محبته لهم أيضًا، من جهة المعجزات، والإيمان..

يكفي أنه بالنسبة إلي قائد المائة الأعمى الذي شفي الرب غلامه، أنه قال عنه: الحق أقول لكم:

(لم أجد ولا في إسرائيل كلها إيمانًا بمقدار هذا) (مت8:10).

ثم فتح بمحبته باب الملكوت أمام الأمم وقال: (إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات) (مت 8: 11).

كذلك نذكر محبة الرب للأطفال..

هؤلاء لم تكن لهم قيمة في المجتمع، بل للأسف كانوا يطردونهم أحيانًا من حضرة المسيح. ولكنه في حب قال لهم (دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعونهم. لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات) (مت19:14). ووضع يديه عليهم وباركهم.

وفي مناسبة أخري دعا ولدًا وأقامه في وسط التلاميذ وقال (الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السموات) (مت18:3). وحامي عن هؤلاء الصغار، فقال (من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر) (مت18:6).

والرب احتضن الأطفال، ووضع يديه عليهم، وباركهم (مر10:16) (مر9:36).

وكما رفع معنويات الأطفال، رفع معنويات النساء.

سمح للمرأة أن تنضم إلي جماعة تلاميذه. ونسوة كثيرات كن يخدمنه من أموالهن (لو8:3). وكان من بين من أقامهم من الأموات ابنه يايرس (لو8:54،55). وقد شفي نازفة الدم، وقال لها إيمانك قد شفاك (لو8:48). وكان يدخل بيت مريم ومرثا. وامتدح مريم قائلاُ إنها (اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها) (لو10:42).

وتكفي المكانة العظيمة التي قدمها للقديسة العذراء.

التي أصبحت جميع الأجيال تطوبها. ولما وصل سلامها إلي أليصابات امتلأت أليصابات من الروح القدس. وارتكض الجنين في بطنها (لو1:48،41). وخاطب السيد المسيح أمه علي الصليب وجعلها أمًا روحية لتلميذه يوحنا (يو19:26،27).

وبعد القيامة قيل إنه (ظهر أولًا لمريم المجدلية) (مر16:9). وقال لها ولمريم الأخرى (اذهبًا بسلام وقولًا لأخوتي أن إلي الجليل، هناك يرونني) (مت28:10).

ولا ننسي دفاع الرب عن المرأة.

دافع عن المرأة التي ضبطت في ذات الفعل، وأنقذها من الرجم (يو8). ودافع عن المرأة التي بللت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها (لو7). ودافع عن المرأة سكبت الطيب علي رأسه في بيت سمعان الأبرص. ولما احتج البعض قائلين (لماذا هذا الإتلاف. لأنه كان يمكن أن يباع هذا الطيب بكثير ويعطي للفقراء) قال الرب (لماذا تزعجون المرأة؟! إنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني) بل طوبها قائلًا (حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يخبر أيضًا بما فعلته هذه المرأة تذكارًا لها) (مت26:6-13).