من كتاب المسيح مشتهى الأجيال منظور أرثوذكسي
(مع حياة وخدمة يسوع)...المسيح في معاملاته مع الخطاة ++ الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ والبراري و رئيس دير القديسة دميانة
جاء السيد المسيح لكي يحمل خطايا آخرين، ويشفع في المذنبين ولذلك كان لطيفًا جدًا في معاملاته مع الخطاة. ودائمًا كان يقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.. لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 12، 13).
ومع إنه كان حازمًا مع المستكبرين، وقساة القلوب، ورافضى التوبة، والمرائين، والمنافقين، ومع الذين يعتبرون أن التقوى تجارة.. إلا أنه كان رقيقًا، متواضعًا، مترفقًا، طويل الأناة مع المنكسرين، والضعفاء، والمنسحقين، والمأسورين، والمشتاقين إلى التوبة والخلاص.. مثلما قال: "روح الرب علىَّ لأنه مسحنى، لأبشر المساكين. أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب، لأنادى للمأسورين بالإطلاق، وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 18، 19).
محبة الخطاة
من أجل محبته للخطاة، ورغبته في خلاصهم، احتمل الكثير من التعيير الذي أثاره ضده الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود. إذ اتهموه بأنه محب للعشارين والخطاة، وأنه دخل ليمكث في بيت إنسان خاطئ.
وفى قبوله لتوبة المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها قالوا: "لوكان هذا نبيًا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هى إنها خاطئة" (لو7: 39).
وفى النهاية حينما عُلّق على الصليب حاملًا خطايا كثيرين، كانوا يعيّرونه قائلين: "خلّص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت27: 42)
السيد المسيح في اتضاع عجيب تعامل مع الخطاة، بل وحمل تعييرات كان المفروض أن يحملوها هم فحملها عوضًا عنهم راضيًا مختارًا.
فى لقائه مع السامرية
بادرها قائلًا: "أعطينى لأشرب" (يو4: 7)، مُظهرًا نفسه كالمحتاج مع أنه هو ينبوع الماء الحى..
وحينما "أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج، قال لها يسوع: حسنًا قلت ليس لي زوج.. هذا قلتِ بالصدق" (يو4: 17، 18)، مادحًا صدقها في هذا الأمر، كاشفًا لها أعماق حياتها "لأنه كان لكِ خمسة أزواج والذي لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو4: 18). فقالت المرأة: "يا سيد أرى أنك نبى" (يو4: 19).
فبمنتهى الاتضاع والحرص على مشاعرها، اقتادها إلى الاعتراف، وإلى التوبة، وإلى المناداة باسمه بين أهل مدينتها.
مع اللص اليمين
كان اللصان اللذان صُلبا مع السيد المسيح يعيرانه قائلين: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا" (لو23: 39).
وفيما كان السيد المسيح يدفع ثمن خطية اللص المذنب، احتمل تعييراته، وكان يصلّى من أجل خلاصه وتوبته.
وعلى مدى ساعات الصلب كان اللص يراقب السيد المسيح ويستمع لكلماته، وكيف كان يهتم بغيره..
سمعه وهو ينادى الآب طالبًا المغفرة لصالبيه "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو23: 34).
رأى صبره ووداعته واحتماله لتعييرات اليهود، إذ لم يرد بكلمة واحدة على ما وجِّه إليه من شتائم وإهانات.
ربما فكّر اللص اليمين في نفسه قائلًا (لاشك في أن يسوع المصلوب يؤدى رسالة يدفع فيها ثمن خطايا آخرين، وهو برئ من كل خطية لأن الذي استطاع أن يقيم لعازر من الموت، لا يعسر عليه أن يُسكت هؤلاء المجدفين عليه).
لهذا بدأ اللص اليمين يوبّخ زميله الآخر: "أَوَلاَ أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه. أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله" (لو23: 40، 41). ثم استطرد معلنًا إيمانه بألوهية السيد المسيح الذي احتمل كل هذا من أجلنا: "اذكرنى يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23: 42، 43).
أى أن السيد المسيح قد وعد اللص بأن يذهب إلى مكان انتظار أرواح الأبرار، تمهيدًا لدخوله إلى الملكوت في اليوم الأخير.
فى اتضاعه المعهود لم يؤاخذ السيد المسيح اللص على تجاديفه السابقة وتعييراته له. بل حتى لم يعاتبه.. واكتفى بما أظهره من حب وإخلاص، ورغبة صادقة في السلوك في طريق الحق، وإيمان برسالة السيد المسيح كفادى ومخلص وملك للمفديين.
وهكذا نرى السيد المسيح في اتضاعه، وقد حمل خطايا كثيرين وشفع في المذنبين ووبخهم برقته ووداعته العجيبة حتى تحولوا من خطاة إلى قديسين.
مع المرأة الخاطئة
سأل السيد المسيح مضيفه سمعان الفريسى "كان لمداين مديونان، على الواحد خمسمئة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما جميعًا. فقل أيهما يكون أكثر حبًا له. فأجاب سمعان وقال: أظن الذي سامحه بالأكثر. فقال له بصواب حكمت" (لو7: 41-43).
إن الغفران الذي قدّمه السيد المسيح للمؤمنين به هو غفران مدفوع الثمن.
والثمن هو دم المسيح، لهذا قال معلمنا بولس الرسول: "وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هى لله" (1كو6: 19، 20).
وقال معلمنا بطرس الرسول: "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى.. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1بط1: 18، 19).
إن البشر لم يكن بمقدورهم أن يوفوا الدين الذي عليهم لله بدون تجسد ابن الله الوحيد الذي هو وحده قادر أن يوفى الدين، وهو نفسه الله الظاهر في الجسد الذي صالحنا مع أبيه السماوي.
وعن عدم مقدرة البشر منفردين عن الله بأنفسهم أن يوفوا الدين، قال السيد المسيح في هذا المثل: "وإذ لم يكن لهما ما يوفيان" (لو7: 42).
لقد أوفى السيد المسيح الدين الذي علينا واشترانا وصرنا ندين له بهذا الحب العجيب، أي أنه قد اجتذبنا بمحبته وغفرانه المدفوع الثمن، فصرنا نحبه وتزداد محبتنا له كلما تأمّلنا في آلامه لأجلنا.
وقال السيد المسيح لسمعان عن المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها ومسحتهما بالطيب وانهمكت في تقبيل قدميه "من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا. والذي يُغفر له قليل يحب قليلًا" (لو7: 47).
إن الغفران المدفوع الثمن في المفهوم المسيحي هو الذي يجعلنا نحب الرب كثيرًا. كما أنه هو الذي يجعلنا نكره الخطية، لأنها تسببت في آلام فادينا وموته على الصليب.
كيف ننسى هذا الحب العجيب الذي يبكتنا على كل خطية اقترفناها أو نقترفها، ويجعلنا نشعر بالاشمئزاز من الخطية، ويجعلها تبدو خاطئة جدًا.
إن الخاطئ الذي يتأمل في جراحات المخلّص الوديع يشعر بأنه لا يطيق نفسه، ولا يتصور أنه من الممكن أن يخون هذا الحب الكبير. لهذا قال السيد المسيح: "إن كان أحد يأتي إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لو14: 26).
وما معنى أن يبغض الإنسان نفسه، إلا أن يبغض كل تصرف تميل إليه نفسه في أنانيته لإرضاء شهواتها.
هذه هى فلسفة تعاليم السيد المسيح في قوله: "من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلى يجدها" (مت16: 25).
من أهلك نفسه من أجل المسيح سوف يجدها، لأنه سوف يتحرر من سلطان الخطية والموت الأبدى، وبهذا سوف يرث الحياة الأبدية ويجد نفسه في الأبدية والسعادة الحقيقة في حرية مجد أولاد الله.
الإيمان بالسيد المسيح بأنه هو ابن الله الحى والإيمان بموته المحيى وقيامته من الأموات يؤهل الإنسان أن ينال سر العماد المقدس لأن "الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يو1: 12).
وبالميلاد الفوقانى ينال المؤمن الحق في أن ينال سر المسحة المقدسة ويصير مسكنًا للروح القدس الذي يثبّته في حالة البنوة لله ويمنحه ثمارًا لازمة للخلاص، كما يمنحه مواهبًا لبنيان الكنيسة.
وبالميلاد الفوقانى أيضًا يؤهَّل الإنسان للاتحاد بالحياة الأبدية في المسيح بالتناول من جسده المقدس ودمه الكريم في سر الافخارستيا، الذي يعطيه ثباتًا في المسيح ويؤهّله لشركة الحياة الأبدية. ومن خلال سر التوبة والاعتراف يؤهل لتجديد مفاعيل العماد المقدس في الاتحاد بالمسيح بشبه موته وقيامته من الأموات في سر الافخارستيا (التناول).
إن العطايا الروحية التي ينالها المؤمن بالمسيح تمنحه قوة للانتصار على محاربات الشيطان، والتمتع بحياة القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب. وفي كل ذلك يضع المؤمن أمام عينيه صلب المخلص وجراحاته وآلامه.
لأن الصليب هو سلاح الغلبة. وهو مصدر كل العطايا والنعم التي يمنحها الروح القدس للمؤمنين بالمسيح، الذين يتمتعون بغفران مدفوع الثمن، يمنحه لهم الروح القدس باستحقاقات دم المسيح الفادى والمخلص العجيب.