من تاملات ابونا القمص تادرس يعقوب ++ متي 14 ++ الملك المشبع
أمضت الجماهير النهار كلّه مع السيّد تسمع صوته، وتتقبّل أعمال محبّته ورعايته. "ولما صار المساء، تقدّم إليه تلاميذه، قائلين: الموضع خلاء والوقت قد مضى، اصرف الجموع إلى القرى، ويبتاعوا لهم طعامًا"
لقد رأى التلاميذ بأعينهم أعمال السيّد العجيبة، ومع هذا عندما جاء المساء ارتبكوا طالبين صرف الجموع إلى القُرى لشراء طعام يكفيهم. حقًا كثيرًا ما نرتبك في أمور الخدمة والمخدومين بحسابات بشريّة، مع أن الرب الحالّ في وسطنا قادر أن يعطي ويهب فوق كل حدود الطبيعة. فإن كنّا في موضع قفر والوقت مساء، لكن الرب الحالّ فينا قادر أن يُشبع.
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: بالرغم من أن الموضع قفر، إلا أن الذي يعول العالم موجود فيه. وإن كان الزمن قد أزفْ، لكن الذي لا يخضع للزمن يتحدّث معهم.
لقد ركّز الإنجيلي في عرضه لإشباع الجموع أن الوقت كان مساءً وأن الموضع قفر، ليقدّم لنا صورة للواقع الذي نعيشه الآن، فقد جاء السيّد المسيح إلى العالم كما في وقت الساعة الحادية عشر، وفي المساء. وكما يقول القدّيس يوحنا: "أنها الساعة الأخيرة" (1 يو 2: 18). فقد انتهت الأيام وجاء ملء الزمان حيث توقَّفت النبوّات مئات من السنوات، وصار العالم في حالة قفر روحي شديد، ليس لهم طعام يأكلونه، حتى يئس التلاميذ، وأرادوا صرف الجموع جائعين، لكن الرب الحالّ فيهم جاء ليقدّم لهم ذاته طعامًا جديدًا يُشبع النفوس الجائعة.
نعود إلى المعجزة لنجد السيّد المسيح يجيب التلاميذ: "لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا له: ليس عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان. فقال: اِئْتوني بها إلى هنا" (16-18).
لماذا طلب السيّد من التلاميذ أن يعطوا الجموع لتأكل؟
أولًا: ربّما أراد السيّد في محبّته للتلاميذ الذين عاشوا معه زمانًا، وسمعوا كلماته ولمسوا أعماله الفائقة، أن يقوموا هم بهذا العمل. كان يشتاق أن يكون لهم الإيمان لإشباع الجماهير، خاصة وإن واهب البركة حالّ في وسطهم.
ثانيًا: بسؤاله هذا أراد أن يكشف عن إمكانيّاتهم، لكي يضرموا مواهبهم، ويقدّموا ما لديهم مهما بدا قليل الشأن وعاجز عن الإشباع. فإن كان هو الذي يعول شعبه، لكنّه يطلب من الشعب أن يقدّم ما لديهم، حتى وإن كان ما لديهم هو سمكتين وخمس خبزات. إنه يطلب منّا ألا نبخل بالقليل الذي لدينا، إنّما نقدّمه فيَشبع به الكثيرين، ويفيض منه أكثر ممّا نقدّمه؛ يفيض اثنني عشر قُفّة مملوءة.
ثالثًا: كان التلاميذ يُمثِّلون الكنيسة التي يستخدمها الله لإشباع أولاده، مهما بدت فقيرة ومحتاجة .
الله هو الذي يُعطي، وهو الذي يُبارك، وهو الذي يُقدّس، لكنه يعمل خلال جسده المقدّس أي الكنيسة. على سبيل المثال، في سرّ المعموديّة تقدّم الكنيسة المياه والزيت والصليب مع الصلوات وكأنها سمكتان وخمس خبزات، يتقبّلها العريس ليهب طالبي العماد البنوّة لله والعضويّة في جسده المقدّس، وينعم عليهم بالإنسان الجديد الذي على صورته. وهكذا في كل الأسرار وفي كل الليتورجيّات يتقبّل الله من الكنيسة أمورًا بسيطة جدًا خلالها يهب عطاياه المجّانيّة التي لا تقدَّر.
رابعًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد أراد من تلاميذه أن يقدّموا له القليل لينالوا من يديه ما يقدّموه للشعب، فيشهدون بأيديهم عن عمل بركته.
بين معجزتيّ إشباع الجموع
يروي لنا الإنجيلي معجزتين لإشباع الجموع، واحدة هي التي بين أيدينا والأخرى وردت في الأصحاح الخامس عشر (32-33). ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح الذي صنع معجزات بلا حصر، لم يُشبع الجموع إلا مرتين، قائلًا: لم يفعل هذه المعجزة على الدوام، وإنما مرتين فقط لكي يتعلّموا ألا يكونوا عبيدًا لبطونهم، وإنما يلزمهم أن يلتصقوا دومًا بالروحيّات. هكذا نلتصق نحن أيضًا بالروحيّات فنطلب الخبز السماوي، وبهذا نطرد عنّا كل اهتمام زمني. إن كان هؤلاء قد تركوا بيوتهم ومدنهم وأقرباءهم، تركوا الكل وقطنوا في الخلاء، فإنه إذ ضغط عليهم الجوع لم يتراجعوا، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نظهر ضبطًا للنفس (تركًا) بصورة أعظم لنقترب إلى مثل هذه المائدة، مهتمّين بالروحيّات، وحاسبين الأمور الملموسة أمورًا ثانوية بالنسبة لها.
حقًا لم يكرّر السيّد هذه المعجزة كثيرًا حتى لا يربط علاقتنا به خلال الأمور الجسديّة، ولكي لا نطلب في حياتنا معه أن يشبع احتياجاتنا الجسديّة بطريقة معجزيّة. لهذا رأيناه يترك تلاميذه الجائعين أن يقطفوا سنابل حنطة يوم السبت ويأكلون (مت 12: 1) دون أن يشبعهم بطريقة معجزيّة، بل وسمح لرسوله بولس أن يجتاز فترات جوع وعطش وعُري (2 كو11 : 22) ليشاركه آلامه، هذا الذي كان المرضى يأخذون الأقمطة من جسده المريض ليلمسوها فيُشفوا. إنه يريدنا أن نجري وراءه من أجل شخصه، لا من أجل العطايا الماديّة أو البركات الزمنيّة.
لماذا لم يكتفي السيّد بمعجزة واحدة؟
لقد أشبع الجموع مرتين، إنّما ليُعلن أنه جاء ليُشبع المؤمنين من الأصل اليهودي، كما الذين هم من أصل أممي. فالمعجزة التي بين أيدينا تُشير إلى اهتمامه باليهود، أمّا الأخرى (15: 32-38) فتُشير إلى اهتمامه بالأمم، يظهر ذلك خلال التفسير الرمزي لملامح وأحداث كل معجزة، منها:
أولًا: المادة التي استخدمها السيّد هنا سمكتان وخمس خبزات، أمّا في المعجزة التالية فاستخدم سبع خبزات وقليل من صغار السمك (مت 15: 34). فإن كان الطعام المُشبع هو شخص المسيح نفسه، فقد قدّم نفسه لليهود خلال الخمس خبزات أيضًا خلال أسفار موسى الخمسة التي تحوي الناموس الذي غايته المسيح (رو 10: 4).
ويرى العلامة أوريجينوس أن الخمس خبزات تُشير إلى الحواس، فقد قدّم الله الكلمة نفسه لليهود بتجسّده كواحد منهم يمكنهم أن يلتقوا به خلال الحواس، ليتعرّفوا فيه على ما هو فوق الحواس. لقد رأوه وسمعوه ولمسوه وتذوّقوا حلاوته وتنسّموا رائحته الذكيّة، لكي يلتقوا به "ابن الله الوحيد الجنس" الذي يُشبع نفوسهم ويرويها!
عِوض الخمس خبزات نجد في المعجزة التالية سبع خبزات، فإن الأمم لم ينعموا بأسفار موسى الخمس، ولا رأوا السيّد المسيح بالجسد في وسطهم يلمسونه خلال حواسهم الخمس، وإنما تمتّعوا به خلال الكرازة بالروح القدس الذي يُعلن إشعياء النبي عن عطاياه السبع: "روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب" (إش 11: 2). الروح القدس هو الذي يقدّم للأمم "مسيحنا" المُشبع لنا.
أما بالنسبة للسمك، ففي المعجزة الأولى استخدم الرب سمكتين، وهما كما يقول الآب مكسيموس أسقف تورينو من رجال القرن الخامس أنهما يُشيران إلى العهد القديم وكرازة يوحنا المعمدان، فقد جاء يوحنا يكرز بوضوح عن المسيّا مشيرًا إليه، هذا الذي سبق فأعلن عنه العهد القديم بناموسه ونبوّاته وأحداثه كاشفًا عن شخصه وأعماله الخلاصيّة. أمّا بالنسبة لنا فأظن أن السمكتين اللتين تُشبعا جموع الكنيسة المقدّسة هما العهدان القديم والجديد، إذ ننعم بالسيّد المسيح خلالهما... أمّا بالنسبة للأمم فقدّم لهم شبعًا خلال قليل من صغار السمك، إذ ليس لهما العهد القديم ولا كرازة يوحنا المعمدان، إنّما قدّم الكرازة خلال التلاميذ البسطاء، القطيع الصغير. لقد أشبعهم هؤلاء الصغار بالمسيح موضوع كرازتهم.
ثانيًا: في المعجزة الأولى "فضَل من الكِسَر اثنتا عشر قُفّة مملوءة" ، أما في المعجزة التالية فقد "رفعوا ما فضل من الكِسَر سبعة سلال مملوءة" (مت 15: 26).
إن كانت كنيسة العهد القديم قد أشير إليها برقم 12، حيث كان عدد أسباطها اثني عشر، فإن السيّد أشبع جميع الأسباط، حيث ملأ الكل بالروح القدس. وقد رفع التلاميذ هذه السلال، إشارة إلى رفع اليهود الذين قبلوا الإيمان بالمسيح عن الفكر المادي الأرضي، ليختبروا الحياة السماويّة، كقول الرسولبولس: "أجلسنا معه في السماويات"..
ويرى القديس جيروم أن الاثنتي عشرة قُفّة تُشير إلى الاثني عشر تلميذًا الذين احتلوا مركز الأسباط الاثتى عشر، إذ يقول: أطعم شعبه بخبزه وما تبقى جمعه في اثنتي عشرة قفة، أي في الاثني عشر رسولًا، حتى أن ما فُقد في الاثني عشر سبطًا يَخلُص في الاثني عشر رسولًا.
أما كنيسة الأمم المرفوعة بأيدي التلاميذ، فيُشار إليها بسبعة سلال، فقد أعلن سفر الرؤيا عنها أنها كنائس سبع (رؤ 1: 4، 20) يرمز إليها بسبع منائر، إشارة إلى عمل الروح فيها ليُنيرها ويجعلها نورًا للعالم.
ثالثًا: في هذه المعجزة "أمر الجموع أن يتّكِئوا على العشب". بينما في المعجزة التالية "أمر الجموع أن يتّكِئوا على الأرض" (مت 15: 35). فإذ عاش اليهود زمانًا يتّكلون على الجسد مثل الختان والانتساب لإبراهيم والتطهيرات الجسديّة... ما كان يمكنهم أن ينعموا بالبركة الخاصة بالحياة الإنجيليّة، أو ما كان يمكنهم أن يقبلوا السيّد المسيح طعامًا روحيًا مشبعًا، ما لم يضعوا هذه الأمور تحتهم، أي يتّكئوا عليها، كما على العشب، لأن العشب يُشير إلى الجسد (إش 40: 6، رو 8: 6). ونحن أيضًا لا يمكننا أن نلتقي بالسيّد المسيح ولا نتقبّل عطيّة إلهيّة خلال التلاميذ أي الكنيسة، مادمنا نعيش حسب الجسد، لنُخضع الجسد لنفوسنا بالروح القدس ونتكئ عليه، فيكون خادمًا مطيعًا، يعمل في انسجام مع الروح، لا في مقاومة لها، عندئذ ننعم بالروحيّات.
أما بالنسبة للأمم فقد اتّكأوا على الأرض، إذ صار الأمم كالأرض، عبدوا الآلهة الباطلة فصاروا باطلين. انحطَّت حياتهم وأفكارهم إلى الأرض، لذا لن ينعموا بالطعام السماوي، إن لم يتّكئوا على الأرض ليجعلوها تحتهم لا أن يُستعبدوا هم لها.
رابعًا: في هذه المعجزة شبع نحو 5000 رجلًا ما عدا النساء والأطفال، وفي المعجزة التالية نحو 4000 رجلًا ما عدا النساء والأطفال. وقد سبق في دراستنا لسفر العدد أن رأينا في شيء من التوسُّع أن الله لم يحصِ النساء والأطفال إنّما الرجال وحدهم، ليس احتقارا للمرأة والطفل، وإنما رمزًا لرفض النفس المدلّلة كالمرأة وغير الناضجة كطفل. إنه يريد أن يكون كل مؤمن ناضجًا ومجاهدًا بالروح، يحارب الخطيّة لحساب مملكة النور.
نكتفي هنا أن نقتطف عبارات من كلمات القديس أغسطينوس: لم يشمل العدد الأطفال والنساء... فإن المدلّلين (المخنثين) الذين بلا فهم هم خارج العدد. لقد سُمِح لهم أن يأكلوا... ليأكل الأطفال لعلّهم ينمون فلا يعودوا بعد أطفالًا، وليأكل المدلّلون حتى يُصلح أمرهم ويتقدّسوا. إننا نوزِّع عليهم الطعام، وبسرورٍ نخدمهم.
أما من جهة الأرقام فإن المعجزة الأولى أشبعت 5000 رجلًا، إشارة إلى أسفار موسى الخمسة (5) وقد دخلت إلى مفهوم روحي سماوي (1000)، أي أشبعت الذين عاشوا في الناموس، لكنهم تحرّروا من الحرف، وانطلقوا إلى الروح أو الفكر السماوي. هذا ورقم 5000 يُشير إلى الإنسان المسيحي الذي يشبع من الطعام الروحي، إذ تتقدّس حواسه الخمس لتحمل طبيعة سماويّة (1000).
أما في المعجزة الثانية فقد أشبع 4000 رجلًا إشارة إلى شبع العالم في جهاته الأربع، وقد حمل الطبيعة السماويّة (4× 1000). ويمكننا أن نلمس ذلك في حياتنا، إذ خلال الطعام الروحي يتقدّس جسدنا الترابي (رمزه رقم 4) ليحمل أيضًا فيه فكرًا سماويًا (1000).
في اختصار نقول أن السيّد المسيح هو سرّ شبعنا يمسك بالسمكتين والخمس خبزات ليُشبع اليهود، أو بالقليل من السمك والسبع خبزات ليُشبع الأمم. إنه يُشبع الجميع خلال تلاميذه ولا يترك إنسانًا قادمًا إليه يرجع جائعًا! إنه وحده الذي يقدر أن يهبنا شبعًا خلال كنيسته (التلاميذ) بواسطة الناموس الروحي (5 خبزات) والكشف عن أسرار العهدين (السمكتين)، وكلمة الكرازة (قليل من السمك)، وعمل الروح القدس (السبع خبزات)... إنه يُشبع الفكر والقلب، ويقدّس المواهب ويضرمها فينا، ويقود الجسد والروح والنفس معًا بروح واحد نحو السماويات.