تأملات في حياة القديسين يعقوب ويوسف 1

من كتاب تأملات في حياة القديسين يعقوب ويوسف: من رؤساء الآباء - البابا شنوده الثالث

يوسف الصديق، وكم قاسى من إخوته

يتحدث الناس عن محبة الأخوة، ولكنها ليست قاعدة ثابتة. فلم توجد هذه المحبة عند قايين الذي قتل هابيل أخاه. ولم توجد عند عيسو الذي قال: أقوم وأقتل يعقوب أخي" (تك 27: 41). كذلك لم توجد عند أبشالوم الذي قتل أخاه آمنون (2صم 13: 28- 32). وحدث هذا أيضًا بالنسبة إلي أخوة يوسف الذين أرادوا أن ...
يقتلوه (تك 37: 18- 20).

تدرج إلى أسوأ
بدأت القصة بحسدهم له بسبب قميصه الملون.

قال الكتاب أنهم أبغضوا لأن أباهم أحبه أكثر منهم "ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" (تك 37: 4). كان يمكنهم أن يكسبوا محبة أبيهم بأعمال فاضلة وبطريقة سليمة. ولكنهم لم يفعلوا. وكان رد فعلهم هو بغضتهم لأخيهم!! وكان بإمكان يعقوب أبيهم أن يعالج الأمر بأن يهديهم قميصانًا كأخيهم، في يوم عيد مثلًا. ولكنه لم يفعل، وبدأت الأمور تتعقد

وزادت بغضتهم لأخيهم بسبب أحلامه وكلامه.

حلم يوسف حلمًا ان حزمهم سجدت لحزمته. واخبر أخوته بذلك الحلم. وهنا لم يقابلوه بالبغضة الصامتة، وأنما واجهوه بمشاعرهم، وقالوا له: ألعلك تملك علينا ملكًا وتتسلط علينا تسلطًا. وازدادوا أيضًا بغضًا له بسبب أحلامه، ومن أجل كلامه" (تك 37: 5- 9). وهنا أخطأ يوسف بحديثه عن حلمه.

هناك أمور حسنة. إن تحدثنا عنها، تجلب لنا حسد الناس وأيضًا حسد الشياطين.

وبخاصة لو كانت الأمور تحمل مقارنة بيننا وبين الغير. مثل حلم يوسف الذي يعني سجود أخوته له. كان ينبغي أن يكتمه، فلا يحدثهم عنه. وأن لم يستطيع الكتمان كان يمكنه أن يقص الحلم علي أبيه وحده.. ولكنه لم يفعل. بل إنه لما حلم حلمًا آخر والقمر واحد عشر كوكبًا ساجدة لي". وفي هذه المرة انتهره أبوه وقال له: ما هذا الحلم الذي حلمت. هل نأتي أنا وأمك ونسجد لك؟! وحسده أخوته (تك 37: 9-11).

لم يأخذ يوسف درسًا من مشاعر أخوته بسبب حلمه الأول. وأضاف حطبًا علي النار كلها دروس لنا، لكي لا نتحدث عن الأمور التي يكون فيها مظهر عظمة لنا، حتى لو كانت من الناحية الروحية، كما يتحدث البعض عن اختبارات روحية تحمل لونًا من الفخر! ما أعظم السيدة العذراء التي لم تتحدث إطلاقًا عن أمجاد البشارة بالحبل المقدس، وما كان فيها من ظهورات ملائكة، ووعود إلهية، وتطويب القديسة أليصابات لها، ومباركة سمعان الشيخ وحنة النبية... بل "كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها" (لو 2: 51). رؤي العذراء وأحلام يوسف النجار (مت 1، 2) كانت كلها من الله، كما كانت أحلام يوسف الصديق. ولكن حديث يوسف الصديق. ولكن حديث يوسف أحلامه سبب له ضررًا، لأنها كانت تحمل تفوقه علي أخوته الذين حدثهم بها.. تضايقوا منه حتى أسموه (صاحب الأحلام) استهزاء به (تك 37: 19)..
يوسف أبغضه أخوته، ولكنه لم يبغضهم.

علي الرغم من أنهم "لم يكلموه بسلام "ثم أظهروا بغضهم بعد حديثه عن حلمه الأول.. كانت وصية الرب "أحسنوا إلي مبغضيكم" (مت 5: 44) موجودة في قلب يوسف قبل أن يقولها السيد المسيح بحوالي ألفي عام! كما نفذ وصية "لاتزن "قبل أن تكتب علي لوحي الشريعة بألف وأربعمائة عام. لأن قلبه كان نقيًا، يعمل بوصية الله قبل ان يقولها الله علانية!! كان يتفهم مشيئة الله، بضميره بالشريعة الطبيعية.،

فلما أوصاه أبوه بافتقاد أخوته، خر ج يسأل عن سلامتهم.
كانوا يرعون الغنم وتأخروا. فخرج يفتش عليهم في الجبال والتلال ووصل من حمور إلي شكيم، حتى تاه وضل الطريق. ولم يعتذر بصعوبة الأمر (تك 37: 15). وأرشده رجل إلي الطريق ووصل إلي أخوته. فلم يقدروا له هذا الجميل، بل حينما ابصروه قالوا: "هوذا صاحب الأحلام قادم. هوذا صاحب الأحلام قادم. هلم نقتله" (تك 37: 20)


مجموعة خطايا
فكروا في قتله، وتحايلوا علي ذلك. وقالوا "نطرحه في أحدي الآبار، ونقول إن وحشًا ردئيًا قد أكله. فنري ماذا تكون أحلامه "!! وهكذا يكونون قد فكروا في القتل، وفي الخديعة وفي الغش، وفي الإساءة إلي أبيهم الذي كانت نفسه متعلقة بابنه يوسف، بالإضافة آبى حسدهم لأخيهم، وبغضتهم له.. وبهذا يكونون قد وقعوا في مجموعة من الخطايا..

بل أكثر من هذا يكونون قد قاوموا مشيئة الله!

لأنه إن كان الله قد أعلن مشيئته في الحلم، أن يسجدوا ليوسف فلابد أنهم سيسجدون له، مهما فكروا في قتله.. وعبارة "نري ماذا تكون أحلامه، معناها أيضًا "ماذا ستكون مشيئة الله؟!". أي أنهم سوف يعطلون تلك المشيئة الإلهية بقتلهم يوسف!! يشبه هذا الأمر قول عيسو "أقتل يعقوب أخي". بينما كانت مشيئة الله أن يصير كل منهما شعبًا. والكبير (أي عيسو) يستعبد للصغير (أي يعقوب) (تك 25: 23). إن أخوة يوسف لم يكونوا فقط ضد يوسف، بل كانوا بالأكثر ضد الله. ولم يضعوا الله أمامهم ولم يؤمنوا أنه قادر علي تنفيذ مشيئته مهما فعلوا بأخيهم، ومهما تحايلوا. غير أن رأوبين أخاهم حاول أن ينقذ يوسف. فقال لهم "لا نقتله.. لا تسفكوا مًا. اطرحوه في هذه البئر التي في البرية.. وكان يفكر أن ينقذه من أيديهم ليرده إلي أبيه (تك 37: 21، 22).


ضمير نقي ضعيف
رأوبين كان هنا يمثل هنا القلب النقي، ولكنه ضعيف.


علي الرغم من أن رأوبين كانت له أخطاؤة الأخرى، إلا أنه هنا لم يكن موافقًا لأخوته علي جريمة القتل. وكان في قلبه حنو أخيه، ووفاء نحو أبيه. ولكن لم تكن له القوة التي بها يصرح بذلك، ولا القوة التي يقول بها لأخوته إنهم مخطئون، علي الرغم من أنه كان البكر، وله بذلك سيطرة علي أخوته. ولكنه كان أضعف من أن يقول الحق، وأضعف من أن يدافع عن يوسف.

كان ضعيفًا مع أن الموقف كان سهلًا.

كانوا أحد عشر أخًا (لأن بنيامين الصغير لم يكن بينهم). ويبدوا أن يهوذا أيضًا كان رافضًا لعملية القتل، كما ظهر فيما بعد بقوله "ما أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟! تعالوا فنبيعه للأسماعيليين. ولا تكن أيدينا عليه، لأنه أخونا ولحمنا. فسمع له أخوته" (تك 37: 26، 27). فلو أن رأوبين رفض قتل يوسف، ومعه يهوذا، وطبعًا يوسف، تصبح هناك ثلاثة آراء ضد ثمانية. وكان ممكنًا إقناع أثنين آخرين، وتكون الآراء مناصفة تقريبًا.. وعلي آيه الأمور كانوا سيخافون من أنكشاف جريمتهم، حتى لو كان رآوبين وحده ضدهم أو رأوبين ومعه يهوذا.
وهكذا كان رآوبين يمثل الحق الضعيف، والمتناقض. ويمثل الحلول المتوسطة غير الروحية.

لأنه إن كان قتل يوسف خطية، فإن إلقاءه في البئر خطية أيضًا، وربما تؤدي أيضًا إلي موته في البرية، أن لم يجد فرصة لإنقاذه. وأيضًا موت يوسف ربما يؤدي إلي حزن أبيه وموته. وعلي الأقل فقدان بركته. أن رأوبين يقدم حلًا متوسطًا ضعيفًا، ليست فيه قوة الحق، ولا قوة الصدق، ولا قوة البر، فلو مات يوسف في البئر (مع أنها كانت فارغه) يكون قد وصل معهم إلي أغراضهم. ولو خرج يوسف حيًا وأخبر أباه تكون فضيحة لهم.. علي آيه الحالات، وافقوا علي رأيه. وخلعوا عن يوسف قميصه الملون وألقوه في البئر (تك 37: 23، 24).

ألقوا يوسف في البئر وجلسوا ليأكلوا طعامًا".
لست أدري بأي ضمير جلسوا ليأكلوا، وأخوهم في البئر؟! بل لعلهم كانوا مسرورين بما فعلوه!! أما رأوبين فكان قد تركهم إلي حين. وهذه كانت نقطة ضعف أخري فيه، إذ كيف يترك الغلام في أيدي من يبغضونه.

ضمائر ضالة رخيصة
وفي غيبة رأوبين باعوا يوسف للأسماعلين بعشرين من الفضة، فأتي الإسماعليون به إلي مصر.

بعشرين من الفضة؟ توزع علي عشرة أخوه: أي أن كل واحد منهم يأخذ قطعتين فقط مقابل بيع أخيه!! قطعة تقلقه نهارًا، وقطعة تؤرقه ليلًا!! ويكون ماذا قد انتفع؟ وكيف يوازن بين ضميره وثمنه؟! حقًا ما أرخص الإنسان؟! خما أرخص البائع والمباع؟! إن الشيطان حينما يجد ضمير الإنسان رخيصًا، يمكن أن يشتريه بأتفه الأثمان، . هكذا كان ضمير يهوذا رخيصًا فباع سيده بثلاثين من الفضة، وكان ضمير أخوة يوسف رخيصًا فباعوا اخاهم بعشرين من الفضة!!

وهل هذا كان ثمن من قالوا عنه أنه أخونا لحمنا (تك 37: 27)؟!

أقصي ما وصلوا إليه من الرحمة والحنو، أنهم باعوه بدلًا من أن يقتلوه. كانت هذه هي مقاييس الرحمة عندهم. وكان هذا هو معني الأخوة عندهم، حينما قالوا عن أخيهم إنه لحمنا!! هل هذا هو ثمنه ومعاملته؟!

فكروا أن يستبدلوا خطية كبيرة بخطية صغيرة.

أو ما يعتبرونها صغيرة في نظرهم، أن يباع أخوهم كعبد، ويصير عبدًا عند من يشتريه فاقدًا لحريته!! وبدأ بهذه تجارة للرقيق! بل أن ضميرهم قد استراح إنهم فعلوا خيرًا! ولم يفكروا مطلقًا ماذا سيكون مصير يوسف بعد هذا: أين سيعيش، ومع من؟ وكيف يكون مصيره؟