البشارة بالتجسد الالهي

البشارة بالتجسد الالهي

"وفى الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل أسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود إسمه يوسف واسم العذراء مريم.." (لو 1 : 26، 27).

أولا : منذ خمسة أشهر سبق فبشر الملاك زكريا الكاهن، والآن مع بداية الشهر السادس جاء يبشر القديسة مريم، لكن شتان بين البشارتين، البشارة الأولى لزكريا الكاهن تمت داخل الهيكل أثناء العبادة الجماعية، وبطريقة شعر بها الكهنة والشعب الذي كان واقفا يصلى بالخارج، كانت بشارة بميلاد أعظم المواليد من النساء؛ يوحنا المعمدان!!


أما البشارة الثانية فتمت في بيت مجهول في قرية فقيرة بطريقة سرية لم يلمسها حتى صاحب البيت نفسه.. يوسف النجار.. وقد كانت بشارة بتجسد الكلمة نفسه!!

لقد أخلى الإبن ذاته حتى في البشارة به، لم تتم بين الكهنة ولا في داخل الهيكل ولا على مستوى الجماعة، إنما تمت مع فتاة فقيرة في مكان بسيط..


ثانيا : أرسل الملاك إلى "عذراء مخطوبة لرجل"... لماذا لم يرسل إلى عذراء غير مخطوبة؟

إن وجود الخاطب أو رجل لمريم ينزع كل شك من جهتها عندما تظهر علامات الحمل عليها..

لقد وصفها الكتاب المقدس بصفتين في آن واحد، أنها زوجة وعذراء، فهي عذراء لأنها لم تعرف رجلا -سواء قبل أو بعد ولادة السيد المسيح- وزوجة حتى تكون في نظر الناس بلا شائبة من جهة عفتها وطهارتها.

كانت الخطبة في التقليد اليهودى تعادل الزواج بالمفهوم السائد الآن ما خلا العلاقات الجسدية...

لهذا دعيت القديسة مريم "إمرأة يوسف".

إن وجود القديس يوسف في حياة العذراء مريم يشكك الشيطان في أمر المولود ويربكه من جهة التجسد الإلهى، لقد سبق للسيد المسيح أن أوصى تلاميذه ألا يقولوا لأحد أنه المسيح (مت 16 : 22).. كما منع الذين شفاهم من إظهار أسمه، وأمر الشياطين ألا تتكلم عن إبن الله (لو 4 : 35).


ثالثا : كرر الأنجيلى كلمة "عذراء" وكأنه أراد تأكيد عذراويتها ليعلن أن السيد المسيح ليس من زرع بشر.

رابعا : جاءت تحية الملاك : "سلام لك أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء " لو 1 : 28

لم تكن بالتحية العادية وإنما جاءت تحية فريدة حملت كل معنى الفرح، إنه فرح شعب الله بعمل مثير يمس خلاصهم، وكأن القديسة مريم العذراء قد نالت بأسم الكنيسة كلها التي هي عضو فيها فرحا فائقا خلال تجسد الله الكلمة وحلوله فيها.


انفردت العذراء بدعوتها " الممتلئة نعمة "، إذ وحدها نالت النعمة التي لم يقتنها أحد غيرها، إذ أمتلأت بمواهب النعمة.

التحفت بالنعمة الإلهية كثوب..

وامتلأت نفسها بالحكمة الإلهية..

فى القلب تنعمت بالزيجة مع الله..

وتسلمت الله في أحشائها.

حديث الملاك للعذراء

" فلما رأته إضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية.. فقال لها الملاك : لا تخافى يا مريم، لأنك وجدت نعمة عند الله " (لو 1 : 29، 30).

لقد اضطربت العذراء ولم تستطع أن تجاوبه إذ لم يسبق لها أن قدمت تحية لرجل من قبل، لكنها إذ عرفته من هو أجابته، هذه هي التي كانت تخاف الحديث مع رجل صارت تتحدث مع ملاك بلا خوف.
 
لا نستطيع أن ننكر أن ما اتسمت به العذراء من حياء شديد وتكريس كامل لحساب الرب، وعدم رغبتها في الزواج كما يظهر من قولها للملاك : ( كيف يكون لي هذا وأنا لست أعرف رجلا ) لكنها كانت الإنسانة الفعالة في الجماعة المقدسة، فعالة بصلواتها وتقواها، وفعالة أيضا بقبولها عطية الله الفائقة (تجسد الكلمة في أحشائها)، وفعالة في الخدمة ففي أول معجزة للسيد المسيح طلبت منه " ليس لهم خمر " يو 2 : 3، ورافقت السيد المسيح حتى الصليب وبعد الصعود كانت مع التلاميذ تسندهم، فالبتولية لا تعنى السلبية إنما إيجابية الحب الباذل المعلن خلال العبادة والعمل في حدود مواهب الإنسان التي يتسلمها من الرب نفسه، لذلك يقول القديس أغسطينوس : لا تكرم البتولية من أجل ذاتها وإنما لإنتسابها لله..

جاء الوعد الإلهى للقديسة مريم على لسان الملاك : " وها أنت ستحبلين وتلدين إبنا وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيما وابن العلى يدعى ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية " (لو 1 : 32).

إذ سمعت القديسة مريم الوعد الإلهى بروح الأتضاع وفي إيمان دهشت إذ كان الوعد فريدا لم تسمع في الكتب المقدسة إنسانا ناله لهذا تساءلت : " كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟! فأجاب الملاك وقال لها : الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى إبن الله " (لو 1 : 34، 35).

يظهر من حديث العذراء أنها قد نذرت البتولية، فلو أنها كانت تود الزواج لما قالت هكذا ؛ بل تقول " متى يكون هذا؟! "..... منتظرة تحقيق الوعد خلال الزواج، لقد وضعت في قلبها أن تكون بتولا للرب فحل البتول فيها ليقدس فيها بتولية الكنيسة الروحية.. وكما يقول القديس أغسطينوس :  اليوم تحتفل الكنيسة البتول بالميلاد البتولى... فقد أكد السيد المسيح بتولية القلب التي يريدها للكنيسة أولا خلال بتولية جسد مريم، فالكنيسة وحدها هي التي تستطيع أن تكون بتولا فقط حين ترتبط بعريس، ألا وهو البتول، إذ تقدم له ذاتها تماما.

أمام هذا الأعلان أحنت رأسها بالطاعة لتقول : " هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك " (لو 1 : 38).

زكريا الكاهن شك في إنجاب زوجته، ولكن العذراء سمت بإيمانها على الكاهن ؛ فالكاهن أخطأ وتوارى والعذراء قامت بإصلاح الخطأ .

العذراء تصف نفسها أمة للرب مع أنها إختيرت أما له، فإن الوعد الذي تحقق لم يسقطها في الكبرياء.