تامل من أرميا 4 +++ ابونا القمص تادرس يعقوب

تامل من أرميا 4 +++ ابونا القمص تادرس يعقوب

الشبع والاستنارة

يجيب إرميا النبي مؤكدًا أن الجهل هو سبب الخراب الذي يحل بالشعب، فإن ما يحل من تأديبات إنما يكشف عن الفراغ أو الخراب الداخلي للشعب كما للنفس، وأيضًا عن الظلمة الداخلية التي تفسد ا
لبصيرة.ما رآه النبي هو انعكاس لما هو خفي في حياة الشعب.

"نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية،وإلى السموات فلا نور لها.نظرت إلى الجبال وإذا هي ترتجف.وكل الآكام تقلقلت.نظرت وإذا لا إنسان،وكل طيور السماء هربت.نظرت وإذا البستان برية،وكل مدنها نُقصت من وجه الرب من وجه حمو غضبه"


التصوير الذي يقدمه لنا إرميا النبي هنا يذكرنا بما ورد في الأصحاح الأول من سفر التكوين حين كانت الأرض خربة وخالية، وكان الظلام سائدًا، ولم تكن هناك حياة!يكرر النبي كلمة "نظرت" أربع مرات، وكأنه تطلع إلى العالم بجهاته الأربع (الشمال والجنوب والشرق والغرب)، فماذا رأى؟ رأى شبه عودة إلى ما قبل الخلقة كما وردت في سفر التكوين:


أرض خربة وخاوية،ظلمة عوض النور،ارتجاف للجبال الثابتة،هروب للطيور،


عالم قفر لا يسكنه إنسان وبلا نباتات! لقد أفسدت الخطية العالم الجميل المثمر الذي خلقه الله لأجل الإنسان. لقد حطم الإنسان نفسه وحطم معه الخليقة الأرضية!


ما هي الأرض إلا جمهور الشعب الذي كرَّس طاقاته للعبادة الوثنية ورجاساتها، فصاروا كأرض خربة. وما هي السموات إلا القيادات الدينية والمدنية التي كان يجب أن تنير الطريق للعامة، لكنها صارت كسموات بلا نور، تبعث حالة من الضيق والكآبة.


وما هي الجبال إلا النفوس التي كان لها دورها القيادي الشعبي، يظن الكل أنهم راسخون كالجبال، فإذا بهم يرتجفون...


لعله قصد بالجبال والآكام المرتفعات التي بُنيت عليها المذابح الوثنية وُقدمت عليها ذبائح للأصنام؛ عوض أن تحميهم، صارت ترتجف وتتقلقل، تحتاج إلى من يسندها!


اختفاء كل إنسان إشارة إلى اختفاء كل تعقل حكيم، وهروب طيور السماء إشارة إلى فقدان الأمان، وتحول البستان إلى برية علامة الخراب الكامل...


إن كان إصرار الإنسان على الشر وعدم رغبته في التوبة والرجوع إلى الله يحرمه من عمل روح الله القدوس فيه، فإنه يعود إلى حال الأرض قبل أن يرف عليها روح الله ليخلق منها عالمًا جميلًا...


أقول ما أحوجنا إلى الرجوع إلى الخالق، ليعمل بروحه القدوس فينا:


عوض الأرض الخربة الخالية نجد عالمًا جميلًا، بمعنى عوض الجسد بشهواته الفاسدة نتسلم جسدًا مقدسًا في الرب.


عوض السموات التي بلا نور تشرق فيها الشمس، بمعنى عوض النفس التي سادتها الظلمة يشرق شمس البر فيها.


عوض الجبال التي ترتجف والآكام التي تتقلقل نرى ثباتًا وأمانًا... بمعنى تتحول إمكانياتنا وقدراتنا ومواهبنا للبناء بقوة، لا يزعزعها العالم كله!


عوض الفراغ حيث لا إنسان ولا طير، تمتلئ قلوبنا بالشركة مع القديسين والسمائيين، فنجلس مع مسيحنا في السمويات.


عوض البرية تصير قلوبنا بستانًا مثمرًا؛ ندعو مسيحنا أن يأكل من ثمر جنته التي فينا.


عوض هروب المدن من وجه الرب ومن وجه حمو غضبه، نجتذب الكثيرين للتمتع بالحضرة الإلهية!


بمعنى آخر جمال العروس يمتد إلى تقديس الجسد والنفس والطاقات والمواهب... فتتمتع بشبعٍ روحي واستنارة روحية فائقة.


الله الذي يطلب شبعنا واستنارتنا حين يؤدب يعطينا فرصة للرجوع إليه، إذ يقول: "خرابًا تكون الأرض، ولكنني لا أفنيها" . إنه يترك بقية يقدسها وينميها... إنه لا يود أن يُفنى، بل أن يُقدس ويبني!لئلا بقوله: "لا أفنيها" يتهاون الشعب ويستغل مراحم الله، عاد ليؤكد التأديب القاسي: "من أجل ذلك تنوح الأرض، وتظلم السموات من فوق، من أجل أني تكلمت قصدت ولا أندم ولا أرجع عنه" ، إنه لا يرجع عن تأديبه لهم ماداموا لا يرجعون إليه.