من كتاب الموعظه علي الجبل للقديس اغسطينوس 2


من كتاب الموعظه علي الجبل للقديس اغسطينوس ++ ابونا القمص تاردس يعقوب
2- أغسطينوس في قرطاجنة

أما في قرطاجنة فقد وجد المجال الخصب لصنع الشرور، فالتقت به الشريرات، وأحب المسارح وصنع الشرور.

أما عن دراسته، فقد عكف على دراسة الفقه والقوانين، 
لعله يرتقي إلى القضاء أو المحاماة، وإذ كان ممتازًا بين زملائه راح يتمايل تيهًا ودلالًا بخيلاء وعظمة. إلا أنه كان أكثر منهم تأدبًا، فلم يكن يلقي الشقاق بين زملائه مثلهم، وقد تضلع في اللاتينية حتى افتتح مدرسة لتعليم البيان وهو في سن التاسعة عشر.

أعجب أغسطينوس بمذهب شيشرون، فقد قرأ كتاب "هورطانسيوس" (عن تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط للأستاذ يوسف كرم) لشيشرون الذي ضاع فيما بعد، فكاتبه يقرظ فيه الفلسفة ببلاغته المعهودة فيصورها مدرسة علم وفضيلة، ووسيلة الحياة السعيدة، مما جعل أغسطينوس يشتاق إلى حياة العفة، وإلى البحث عن الحقيقة، فبدأ يدرس الكتاب المقدس لعله يجد فيه ما يبغيه، ولكن قرأه كما يقرأ أي كتاب فلسفي ظانًا أنه يستطيع بحكمته وعلمه أن يصل إلى الحقيقة. درس الكتاب في كبرياء، فأغلق الباب في وجهه، حتى ظنه دون كتب شيشرون، فلم تعجبه لاتينية الكتاب (لأنه كان متشبعًا بالأدب اللاتيني)، ولم تهزه مبادئه السامية، إذ كان متعلقًا بملذات العالم وشهواته. فأدى كبرياؤه إلى ظلام قلبه وعقله حتى سقط في المانوية ظانًا أنه قد وجد فيها العفة التي يبحث عنها، والحقيقة التي يترجاها.

أما مونيكا، فإذ رأت انحراف ابنها الخلقي وانحرافه إلى بدعة ماني، وكيف أنه سرق نفوسًا كثيرة من حظيرة الإيمان ليبتدعوا مثله، وذلك لعلمهم بأن أغسطينوس ليس بالشخص الذي يسهل جذبه إلى المانوية لو لم تكن معتقداتها سليمة. لذلك طردته أمه من منزلها، غير أن محبتها له جعلتها ترده إليها مرة أخرى. أما عن جهادها فقد سكبت دموعًا غزيرة في صلوات حارة كل يوم من أجل خلاصه. وإذ مرت أعوام كثيرة على هذا الجهاد رأت حلمًا وهو إذ بها واقفة على قطعة من الخشب (ترمز للإيمان) والكآبة تشملها، وإذ بفتى يلمع بهاؤه أمامها ويشع الفرح من ملامح محياه، نظر إليها وقال لها: ما بالكِ تبكين والغم لا يبرح من قلبك؟ أجابته: إني أبكي أسفًا على هلاك ولدي. قال لها: تعزي ولا تخافي، فها ولدك هنا وهو معك.

التفتت مونيكا فرأت ابنها واقفًا معها على الخشبة. فتأكدت مونيكا من استجابة صلواتها.

ومن شغفها بخلاص ابنها كانت تطلب من رجال الله الأتقياء أن يصلوا من أجل ابنها، ومن هؤلاء أسقفًا جليلًا كان يطمئنها قائلًا "اتركيه كما يشاء، فقط صلي إلى الله كثيرًا من أجله، إذ أنه من المحال إقناعه أنه شرير مع كونه من أعظم فصحاء العالم. اتركيه فسوف يقف على حالته بنفسه، وسوف يلمس بنفسه نتيجة شروره: فقد كنت أنا يومًا مانويًا ولم أكن أقرأ فقط كتبهم بل كتبتها بيدي، ولكن عرفت أخيرًا غباوتهم وتركتهم".

ورغم هذه الكلمات المشجعة كانت تذرف الدموع بغزارة أمامه، قائلة: "صل من أجل ابني". فقال لها تلك العبارة الوحيدة التي وجدت فيها عزاءًا، لأنها وثقت أنها من قبل الله "ثقي يا امرأة أنه من المستحيل أن يهلك ابن هذه الدموع".
في وسط هذا الظلام الدامس كانت يد الله تصنع أمورًا عجيبة في حياة أغسطينوس، فإذ كان له صديق ملازم له دائمًا. فلا يفترقان عن بعضهما البعض، إذ به يجذب صديقه إلى المانوية مما جعل والدته (مونيكا) تحزن على ذلك، غير أنه لم ينقضِ عام تقريبًا إلا ويد القدير قد ثقلت على الشاب صديقه، فمرض مرضًا شديدًا حتى شارف على الموت، فعمده أهله خشية موته. أما أغسطينوس فلم يبالِ بالعماد، حاسبًا إياه مجرد غسل جسدي، عالمًا أن صديقه سرعان ما يعود إلى المانوية بعد شفائه. وإذ شُفي الصديق جاءه أغسطينوس يهزأ بالعماد، وكم كانت دهشته حين سمعه يقول: "إن أردت أن تضع حدًا فاصلًا لصداقتي بك فكلمني في شأن المعمودية بالطريقة الهزلية التي كلمتني بها قبلًا". لم يجادله أغسطينوس منتظرًا تمام شفائه. لكن سرعان ما سمحت العناية الإلهية بانتقاله مما أحزن أغسطينوس. فكان نظره لا يهدأ قط بل يجول في كل مكان لعله يجد صديقه. حتى كره كل شيء واسودت الحياة في نظره وفقد كل تسلية وطاب له البكاء. سئمت نفسه كل شيء حتى النور. وبالجملة كره الحياة والموت. فالتجأ إلى إله أتباع ماني فازدادت مشاكله، واضطربت حياته.

بقي أغسطينوس في ظلام عقله تسع سنوات مخدوعًا بالمانويين، ظانًا أنهم ينادون بالعفة التي طالما اشتاق إليها، إذ كثيرًا ما ترنم قائلًا: "يا رب أعطني الوداعة والعفة، ولكن ليس الآن". إلا أنه بالبحث عرف بطلان معتقداتهم، فالتقى برئيسهم فوستوس الذي كان يميل إلى الحديث إلى الجماعات، فيستأثر قلوبهم ببلاغته وحلاوة حديثه، لأنه كان مطلعًا على مؤلفات شيشرون وسينكا والشعراء. أخذ يسأله فوجده فارغًا لا يستطيع أن يجيبه على أسئلته، وبذلك بدأ يكتشف خداع المانوية، ومع ذلك فلم يعد بعد مسيحيًا مؤمنًا إيمانًا مستقيمًا بل مترددًا في آرائه منجذبًا نحو الشهوات.