تامل من الجامعة 2 .. بطلان السعي وراء الملذات ++ القمص تادرس يعقوب




تامل من الجامعة 2 ++ القمص تادرس يعقوب

بطلان السعي وراء الملذات

حاول الجامعة "كوهيليث" أن يجد ضالته في اللذة المسعورة أو الإثارة الحسِّية، فانصرف إلى المباهج الجسدانية كمصدر يمكن أن يمنحه الشبع؛ فراح يغترف من ملذات الطعام الحسِّية والتي يُرمز إليها بالخمر، فكانت تعطيه لذة وقتية زائلة، وليس شبعًا دائمًا.

"قلت أنا في قلبي: هلُمَّ امتحنك بالفرح فترى خيرًا (فتستمتع بالسعادة). وإذا هذا أيضًا باطل. للضحك قلت: مجنون! وللفرح: ماذا ينفع؟!"

ناجَى سليمان قلبه عوض أن يناقش الأمر مع الله بروح الصلاة والتقوى، قائلًا: جرِّب الضحك والأكل والشرب (الخمر) واطرد الهم وتمتع بالسعادة؛ وذلك كما قال الغني الغبى: "وأقول لنفسي: يا نفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة؛ استريحي وكُليِ واشربي وافرحي" (لو 12: 19).

كثيرون يظنون أن السعادة تكمن في حياة اللهو والحفلات والأفراح الزمنية، بما تحويه من أكل وشرب وتسلية وضحك... هؤلاء لا يميزون بين الفرح الداخلي الذي يهب بشاشة دائمة وسلامًا حقيقيًا وبين ضحكات اللهو التي تنبع عن فراغ داخلي. الفرح الداخلي هو غذاء للنفس يقوتها ويُنمّيها فتتسع لتحمل في داخلها ملكوت الله المفرح، أما الفرح الزمني خارج دائرة الله فيُخدِّر الإنسان، ولا يُشبع أعماقه بل يزيده حزنًا... لذا يدعوه الحكيم مجنونًا! كثيرون يلجأون إلى المخدرات وأصدقاء السوء للهروب من مشاكلهم، فإذا بهم يرتمون في مشاكل أخطر تمس كيانهم الداخلي.

قال للضحك: "مجنون"، لأنه لا يقدر أن يحوّل قلبه إلى السعادة الحقيقية، إنما يقدم تغطية مؤقتة للحزن الداخلي والمرارة الخفية. ولعله يدعوه هكذا لأنه يحثه على الابتعاد عن الله الذي هو "الفرح الحقيقي"، إذ قيل: "يحملون الدّف والعود ويطربون بصوت المزمار؛ يقضون أيامهم بالخير، في لحظة يهبطون إلى الهاوية؛ فيقولون لله: ابعد عنا؛ وبمعرفة طرقك لا نُسر" (أي 21: 12-14).

يقول للفرح الظاهري: ماذا ينفع؟ إذ يدرك أن الضحك لا يُصلح القلب ولا ينزع عنه كآبته. لذا قيل: "يغني أغاني لقلب كئيب (مهموم)" (أم 25: 20)... كان يليق به عوض اللهو أن يلجأ إلى دموع التوبة، التي تهب فرحًا داخليًا وبشاشة صادقة، لأن الخطية تُحطم القلب وتملأه كآبة مُرة!

مع الضحك أو اللهو التجأ سليمان إلى شرب الخمر، وقد ظن أنه قادر أن يعلل جسده بالخمر بينما يلهج قلبه بالحكمة، أي يشربها لكي تصير له خبرة ولكي يتحقق إن كان يمكن للخمر أن تُشبع حياته، لكنه وجد في ذلك حماقة، لأن "الخمر مستهزئة، المسكر عجَّاج raging، ومن يترنح بهما فليس بحكيم" (أم 20: 1). إنه بهذا يشبه من أراد أن يعبد الله والمال في آن واحد.

يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن خطورة السعي وراء الملذات، قائلًا: الحيوانات أرضية تجنح إلى الأرض... رأسها منحنِ نحو الأرض، وهي تنظر إلى بطنها تفتش عن الأشياء التي تلذّ لها. أما أنت أيها الإنسان فرأسك مرتفع نحو السماء، وعيناك تنظران إلى العلى، فإذا كنت تتلطخ بشهوات الجسد، وتتعبد للذَّات الجوف، وللذَّات السفلى، فأنت بهذا تقترب من الحيوانات التي لا تعقل وتتشبه بها. إنيّ أعرض عليك الاهتمام بأمر آخر يليق بك، "اطلبوا ما فوق حيث المسيح" (كو 3: 1). ارتفع فوق أعراض الدنيا الزائلة، وتعلَّم من تكوينك الجسدي، وأجعله قانونًا لحياتك. فمدينتك هي السماء، ووطنك الحقيقي هو أورشليم العليا، ومواطنيك هم الأبكار، الذين كُتبت أسماؤهم في السموات.

مرة أخرى يقول: حرص الفلاسفة والمفكرون على البحث عن غاية الإنسان على هذه الأرض. لكنهم اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، وتضاربت آراؤهم وتعددت مذاهبهم. فزعم البعض منهم أن غاية الإنسان هي العلم؛ بينما قال آخرون إنها العمل. قال البعض إن غاية الإنسان هي احتقار الجسد وإخضاعه لسيطرة العقل، وتعزيز الروح واعتبارها القوة العظمى في الإنسان، بينما قال آخرون إن غاية الإنسان في هذه الحياة إنما هي التمتع باللذّات وطيِّبات الحياة. أما نحن فالغاية التي نسعى إليها والتي نصبو للوصول إليها بكل حرص واجتهاد هي الحياة السعيدة مع الله في السماء الخالدة، ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفًا وعظمة للخليقة العاقلة.