من ردهم إلي أرض الأحياء بالتوبة ++ البابا شنوده الثالث



من كتاب حياة الرجاء ++ البابا شنوده الثالث
من ردهم إلي أرض الأحياء بالتوبة

علي أن هذه العبارة، يمكن أن تؤخذ بطريقة روحية أخري. ولنبدأ ببطرس الرسول كمثال.

إنه بعد أن أنكر السيد المسيح، بكي بكاء مرًا، إذ شعر أنه قد أنفصل عن الرب وعن محبته. وانفصل عن باقي الرسل، وعن الخدمة وكل العمل الرعوي.. ولا شك أنه قد زنت في أذنيه عبارة الرب "من أنكرني قدام الناس، ينكر قدام ملائكة الله" (لو 12: 9). ولكن الرب عزاه بنفس العبارة، التي سبق فعزي بها أبانا يعقوب "أنا معك وأردك..". ولكن كيف رده الرب، ومتى؟ حينما ظهر له، وقال له في حنو "ارع غنمي. وارع خرافي" (يو 21: 15).. وحينئذ شعر بطرس أن الرب قد رده إلي جماعة الرسل.

وداود النبي، حينما زني وقتل، وسقط من ذلك العلو العظيم الذي كان فيه. ولعله كانت في فكره عبارة أوريجانوس (أيها البرج العالي، كيف سقطت؟!) وبكي داود بكاء شديد مستمرًا، وفي كل ليلة كان يبلل فراشة بدموعه، ولكن إلهنا الحنون الطيب، لم يتركه وحيدًا في أحزانه، بل قال له: "أنا معك، وأردك إلي تلك الأرض"..

أردك إلي أرض التوبة والنقاوة، والمصالحة مع الله. واستطاع الرب أن يرد داود، وأن يغسله فيبيض أكثر من الثلج، وأن يرد له بهجة خلاصه (مز 51: 12).

وبنفس الوضع رد الرب شمشون بعد سقوطه..

ولعله بنفس الوضع أيضًا رد سليمان بن داود، الذي قال له عنه: "إن تعوج أؤدبه.. ولكن رحمتي لا تنزع منه، كما نزعتها من شاول" (2 صم 7: 14، 15).

لقد مر وقت علي داود، ظن أنه لا خلاص..

وهكذا صرخ إلي الرب قائلًا: "يا رب لماذا كثر الذين يحزنونني؟ كثيرون قاموا علي كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه" (مز 3). ووسط هذه الأفكار التي يزرعها الشياطين، تبدو وعود الرب مملوءة رجاء "أنا معك، وأردك إلي هذه الأرض"..

هذه العبارات هي أقوي سلاح في التوبة والرجوع.. كثيرين أنهم يظنون بأنهم سيعودون إلي الله، بقوة إرادتهم، وبعزيمتهم، وبصدق عزمهم علي الرجوع، دون أن يضعوا العامل الإلهي في قصة عودتهم إلي الله!!

كلا، صدقوني.. فلو كان الإنسان الخاطئ هو الذي يعيد نفسه إلي الله، ما عاد أحد.

إنما الإنسان يصرخ إلي الله: توبني فأتوب، خلصني فأخلص (أر 17: 14). والسيد المسيح يقول في وضوح "بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا" (يو 15: 5). إن النفس الميالة إلي الخطية، وكذلك الإرادة الضعيفة، وحروب الشياطين والمعطلات الروحية.. كل هذه تصد الإنسان، وتحاول منعه عن الرجوع إلي الله. ولكن نعمة الله تقف أمام هذه المعطلات. وصوت الرب يقول في حنو للخاطئ: "لا تخف. أنا معك. أحفظك.. وأردك إلي تلك الأرض".

أنا أردك إلي تلك الأرض، مهما بعدت أنت وضللت..

ومهما كان يبدو لك أو لغيرك، أن الخلاص بعيد عنك أو مستحيل، أو أن التوبة غير ممكنة..

أنا معك، عندما يحاربك الشيطان باليأس..

حينما يحاربك عدو الخير، ويقول لك: أن الخطية لم تعد مجرد عادة عندك، بل صارت طبيعة فيك. ولن تقدر علي تركها. لقد صارت ملتصقة بك. أكثر من التصاق جلدك بلحمك. وصارت تسري فيك أكثر من سريان دمك في عروقك..!! لا تخف منه ومن أفكاره، بل قل له في ثقة:

أنا لن أرجع إلي الله وحدي، أو بقوتي..

هو الله الذي سيردني إليه، الله الذي قال: "أنا معك. وأحفظك. وأردك إلي تلك الأرض". مادام الله هو الذي يردني، إذن فغير المستطاع عند الناس، هو مستطاع عند الله (مر 10: 27).

إن الله يقول لنا في وعوده:

"أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم. وأنزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم. وأجعلكم تسلكون في طرقي وتحفظون أحكامي" (حز 36: 26، 27). ويقول أيضًا "هلم نتحاجج -يقول الرب- إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج" (إش 1: 18).

إنه الرب الذي يعمل العمل كله، ويردنا إليه..

بأنواع وطرق شتي، يردنا الرب إلي أرضه:

بالحب والحنان، يردنا الرب إلي تلك الأرض.. وإلا.. فبالشدة والعقوبة يردنا، أو بالتجارب والضيقات. أو بالتعليم والإرشاد.. أو بصبره علينا وطول أناته. بأيه الطرق.. بالوسيلة المناسبة لكل نفس علي حدة.. المهم، أنه يخلص علي كل حال قومًا. لأنه يريد أن الجميع يخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). وهو لا يسر بموت الخاطئ، بل بالحري أن يرجع ويحيا (حز 33: 11).

إنه الرب الراعي الشفوق، الذي يحافظ علي غنمه.. هو الذي يحنن عليك قلوب الناس.. وهو الذي يحنن عليك قلوب الناس.. وهو الذي من أجلك يربط الشيطان، فلا يستطيع أن يؤذيك.

هو الذي يحوط حولك من كل ناحية، فتغني وتقول سبحي الرب يا أورشليم، سبحي إلهك يا صهيون لأنه قوي مغاليق أبوابك، وبارك بنيك فيك الذي جعل تخومك في سلام، ويملآك من شحم الحنطة. الله هو الذي يقوي مغاليق أبوابك، ويجعل تخومك في سلام. ضع أمامك باستمرار، عمل الله في حياتك، وليس عملك أنت.

ما هو عمل الله في حياتك؟ ماذا عن يد الله معك، يمين الله التي صنعت قوة التي تمسك بك وتسندك.. ماذا يفعل الروح القدس من أجلك؟ وماذا تعمل قوة الله ونعمة ربنا يسوع المسيح من أجلك؟.. ماذا تفعل تشفعات الملائكة وصلوات القديسين من أجلك؟

أما عملك أنت، فله المكان الثاني، أو المكان الأخرى..

أما المكان الأول، والمكانة الأولي، فلعمل الله، ولوعد الله القائل: أنا معك. أحفظك، وأردك إلي تلك الأرض.

يا ليت هذا الوعد الإلهي، يكون ثابتًا في ذاكرتنا:

نضعه أمامنا باستمرار، فنتعزى ونتقوى.. كلما تيأس أنه لا خلاص، أو أنه لا فائدة من كل جهادك، تذكر هذه العبارة الإلهية.

كلما يضغط عليك الشيطان، ويقول أنت في قبضتي!

ويقول لك: لن أتركك، لقد وقعت في يدي! قل له: ما هي قضيتك؟ وما هي قوتك؟! أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية؟! (1 كو 15: 55). هناك الوعد الإلهي: "أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب".

حسن يا رب قولك. ولكن ماذا عن عيسو أخي؟

عيسو الشديد القاسي الذي يتهددني، الذي قال في غضبه "أقوم وأقتل يعقوب أخي "؟ يرد الرب ويقول: "لا تخف. أنا معك. أحفظك حيثما تذهب". مبارك أنت يا رب، ومبارك هو حنوك. ليكن لي كقولك.

ولتكن قويًا من الداخل، مهما أطبقت حولك الضيقات.. مهما تآمر عليك الأشرار، وماجت حولك المياه الكثيرة.. مهما تفكرت الشعوب بالباطل، تآمر الرؤساء معًا علي الرب وعلي مسيحه، قائلين: لنقطع أغلالهما، ولنطرح عنا نيرهما. لا تلتفت إلي كل هذا، بل ضع أمامك الوعد الإلهي: أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب..

حقًا، مادامت أنت يا رب معي، فالدنيا بأسرها كلا شيء قدامي.. هذه الدنيا كلها، كقبض الريح، كالهباء، بكل ما فيها من مؤامرات الناس الأشرار، وكل الهياج، وصوت المياه الكثيرة..

بما فيها من مكر لابان خالي، الذي غير أجرتي عشر مرات (تك 31: 7). وأعطاني ليئة بدلًا من راحيل (تك 29).. مادام وعدك يا رب قائمًا أمامي، فلن أخاف البحر الأحمر أن اعترض سبيلي. أنت قادر أن تشقه، وتمهد لي طريقًا في داخله، وتقول لي: امش فيه، وأنا معك، أحفظك حيثما تذهب.. حتى إن وقف أمامي جليات الجبار، وعيرني طول النهار، وهددني برمحه الذي مثل نول النساجين، وبسيفه وقوته وشماتته.. أقول له: أنت تأتيني بسيف ورمح ولكن الحرب للرب، فإنا لذلك أتيك ومعي الوعد الإلهي القائل: أنا معك، أحفظك حيثما تذهب.

لهذا كله، كان أولاد الله دائمًا فرحين ومطمئنين.

عاشوا بقلب مطمئن في جهادهم الروحي، وفي كل الحروب الروحية. ولم يتعبوا من حروب الشياطين، ومن صراعهم مع أجناد الشر، قوات هذا العالم المظلم. بل تركوا العالم يضطرب حولهم كما يشاء، وتمسكوا بالوعد الإلهي المملوء رجاء وعزاء. وأنت كذلك في كل حروبك الروحية، وفي كل ضيقاتك ومشاكلك، لا تنظر إلي القوي الخارجية التي تحاربك، ولا تفكر من سيقابلك في الطريق ويعترضك. بل ركز فكرك ومشاعرك في وعود الله، التي تشجعك وتسندك وتعزيك.

كم أنت حنون يا إلهي وطيب..

وكم هي معزية، وعودك التي ترافق أولادك طول مسيرتهم في غربة هذه الحياة... كم أنت تعمل، وقوتك الحافظة تعمل.. مفرحة هي أقوالك، التي تشجع بها أولادك.. لقد كثر الأعداء حول داود النبي، حتى قال ذات مرة "أكثر من شعر رأسي، الذين يبغضونني بلا سبب" (مز 69: 4). ومع ذلك نراه في كل ضيقاته، ومع كثرة أعدائي، ينسي كل هذا ويقول للرب: "ناموسك هو درسي" (شهاداتك هي تلاوتي) (مز 119).

أيه شهادات يا داود، تعزيك في كل ضيقاتك؟

يجيب: أنها كثيرة جدًا، ولكن تكفيني منها واحدة، وهي قول الرب: "أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلي هذه الأرض". لست أريد سوي هذه العبارة. ومادمت معي أيها الرب الإله، ومادامت وعودك في فكري، فلن أخاف شرًا، حتى إن سرت في وادي الموت، لأنك أنت معي (مز 23). ستجدني كلي شجاعة وإيمان، ورجاء، بموعدك الإلهي.. حقًا يا رب أنك عجيب. وحسن قولك لمنوح والد شمشون.

"لماذا تسأل عن أسمي، وهو عجيب" (قض 13: 18).

إنه منظر عجيب حقًا، أن نري أولاد الله سائرين في طريق الحياة، ونري الله ممسكًا بيد كل منهم، يقول له وهو يشجعه: ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب.

إن قوة المسيحية، في أنها لا تعتمد علي بشرية أو إنسانية أو ذاتية، إنما تعتمد علي الموعد الإلهي: أنا معك، وأحفظك..

أحفظك من الشياطين، ومن الناس الأشرار وأحفظك من نفسك..

أحفظك من كل سوء. احفظ نفسك. أحفظ دخولك وخروجك (مز 121). ويسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات. وأما أنت فلا يقتربون إليك (مز 91) "لا تخشي من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من أمر يسلك في الظلمة" (مز 91). وإن سرت في وادي ظل الموت، لا تخاف شرًا. لماذا؟

لأني أنا معك -بعد الموت- أحفظك حيثما تذهب، وأردك إلي هذه الأرض.. وهنا ونتأمل.