تامل من مراثي أرمياء 3 جزء 1 ++ القمص تادرس يعقوب


تامل من مراثي أرمياء 3 ++ القمص تادرس يعقوب
رجاء مشرق وسط الظلمة

آلام السيد المسيح جزء 1

أنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ .

من جهة مشاعر الشعب نحوه، الكل من ملوك وكهنة وأنبياء كذبة وشعب، أذاقه مرارة المرّ، من سجن ومؤامرات لقتله وإلقاء في الجب ومقاومة لنبوَّته، ومع ذلك كان يحبُّهم! أقول، إن سيطرة روح الرب على إرميا وشعوره بالأبوَّة، وفهمه لرسالته، وإدراكه لقيمة أولاده الروحيِّين، جعله يشعر بضيقاتهم ويتألَّم لآلامهم ولو لم يشعروا هم بها، فصار في مذلةٍ حين سقطوا تحت ذل السبي.

بالنسبة لإرميا النبي، في مشاعر الأبوَّة الصادقة يدرك أن مرارة الشعب في أثناء السبي نصيبه هو، مع أنه حذرهم مرة ومرات، لكنَّه كأب يشعر بمرارة حالهم كما لو كان هذا حاله هو. لذلك رفض بإباء أن تُعطى له كرامة في بابل، مصرًا أن يبقى مع الشعب مذلولًا، صارخًا إلى الله في مرارة نفسه، قائلًا: "أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الذي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ" (مرا ٣: ١). من هو هذا الرجل إلا كلمة الله الذي تجسد ليحمل كل آلامنا عنا، فرأى مذلة، وتحمل قضيب سخط الآب عوضًا عنا.

يتحدث إرميا في هذه المرثاة باسم ذاك الذي حمل المذلة عن البشرية كلها. قبل تجسد الكلمة كان آدم الأول يُحسب البكر بين بني البشر، وبسقوطه زاغوا وفسدت طبيعتهم، وانهارت إرادتهم، وتشوه مفهومهم عن الله، إذ نظروا إليه كعدوٍ، فصاروا تحت الغضب الإلهي. جاء آدم الثاني ليحتل مكانه، يقبل أن يتمم المصالحة بدمه الثمين. هو ابن الله الوحيد الذي به يُسر، يضمنا إليه فننعم بمسرة الآب لنا.

صار إنسانًا بالحقيقة، وقَبِلَ المذلة وتألم، أخذ مالنا، لنأخذ نحن ما له.

"قضيب سخطه": يترجمها البعض العصا الثقيلة لسخطه أو غضبه، وكأن الله لم يستخدم السيف لقتل كل شعبه للتدمير الكامل، وإنما عصا التأديب الثقيلة لتدربيهم وإصلاحهم (عب 12: 7-11).

في نفس الوقت يشير إلى جانب من جوانب الصليب، بكونه ذبيحة إثم. حقًا إنه ذبيحة رضا ومسرّة لدى الآب الذي أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16). هذا الصليب الذي هو قضيب سخطه، قبله كلمة الله، بل وهو موضوع مسرّته، أطاع حتى الموت موت الصليب. حمل الصليب أيضًا جانبًا آخر، وهو الطاعة للآب.

ليس له شكل ولا جمال في أعين اليهود، أما بالنسبة لداود فهو أبرع جمالًا من بني البشر (مز 45: 2). على الجبل (أثناء التجلي) كان بهيًا ومضيئًا أكثر من الشمس (مت 17: 2)، مشيرًا إلينا نحو سرّ المستقبل ++ القديس غريغوريوس النزينزي

ذاك الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر رآه البشر على الصليب بلا شكل ولا جمال؛ كان وجهه منكسًا، ووضعه غير لائق. مع هذا فإن عدم الجمال هذا الذي لمخلصك أفاض ثمنًا لجمالك الذي في الداخل، فإن مجد ابنة الملك من داخل (مز 45: 2) ++ القديس اغسطينوس

قدر أن يحتمل الإهانة لكونه محترمًا، لأنه عندما يُهان من هو مكرم لا يُحسب هذا إهانة.
إنها إهانة لمن أعماله هي خزي، فلو توقفوا عن إهانته فهو مهان وساكت.
إذًا، إن أهين المكرم، ويُسخر منه وهو غير مستحق ينتصر بين المتميزين.
لو كانوا قد تفلوا في وجه آدم، لكانت إهانة له وخزيًا، لأنه تجاوز الوصية.
وكان يُسقطه الخزي والبصاق اللذين يستحقهما... لأنه خجل واتضع بذنبه.
وبما أن ربه أشفق على الضعيف، فقد دخل وقبل الخزي بدلًا منه، وإذ لم يذنب لم يكن يخجل.
كان يهان ويُسخر منه ولم يكن يتوجع: عندما يُهان من ليس مذنبًا فهذا مجد له.
كان يُشتم ويضرب ويهان وهو هادئ ولطيف ومتواضع ونقي وغير مضطرب ++ القديس يعقوب السروجي

قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ، وَلاَ نُورَ.

بالنسبة لإرميا وضعوه في جُب مظلم، وبالنسبة للشعب، فإنهم إذ رفضوا الله حرموا أنفسهم من نوره، وصاروا يتخبطون في الظلمة. أما بالنسبة للسيد المسيح فقد أراد عدو الخير أن يحبس النور ويطفئه في قبرٍ بعد موته، ولم يدرك أن النور يبدد الظلمة.

بقوله: "قادني وسيرني" يُعلن أنه جاء ليطيع الآب وهو واحد معه في ذات الجوهر، حتى بتمتعنا بالعضوية في جسده، لا نعود نُحسب أبناء المعصية، بل أبناء الطاعة. لقد أراد أن يخلصنا، لكنه حقق الخلاص من أجل طاعته لأبيه، لنحمل شركة سمة الطاعة التي له.

ما معنى "في الظلام، ولا نور". إن كان الظلام يشير إلى الضيق الشديد، والنور يشير إلى الازدهار، فإنه لم يحقق الخلاص وهو في سماواته بإصدار أمرٍ بالعفو، إنما بدخوله طريق الآلام حتى الموت موت الصليب.

هذا وقد أعلن عن نفسه أنه نور العالم، فإذ صرنا نحن ظلمة، قبِلَ أن يحمل آثامنا لكي يبدد الظلمة التي تسللت إلى طبيعتنا، ويهبها من نوره وبهائه، فتستطيع أن تشاركه مجده الأبدي.

كأنه يقول: قادني إلى ظلمة القبر، لكي بقيامتي أهب الجالسين في الظلمة التمتع بالنور السماوي.

الله نور، ومن يلتصق به يسلك في النور حسنًا (1 يو 1: 7). أما من يعطي القفا لله فيسلك في الظلمة (عا 3: 3).

نحن ننظر ونتعجب بالظافر الذي وقف في المحكمة. ابن الأحرار الذي لُطم على خده،الشمس الذي احتضن العمود (الذي رُبط السيد حوله ليُجلد)...النار التي تُجلد بالسياط (مت 27: 26)،النور الذي تحتقره الظلمة (يو 8: 12؛ 1: 5)،اللهيب يُطعن بالحربة (يو 19: 34).
مكلل الشمس بالأشعة، وُضع على رأسه إكليل شوكٍ (مت 27: 29) ++ القديس مار يعقوب السروجي

حَقًّا إِنَّهُ يَعُودُ وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ الْيَوْمَ كُلَّهُ.

بالنسبة لإرميا النبي كانت حياته كلها، إلى آخر نَفَسْ له سلسلة لا تنقطع من المتاعب والضيقات حتى من أهل قريته عناثوث.إذ كانوا يتطلعون إليه كإنسان متشائم على الدوام، يحطّم نفسية القادة والجيش والشعب، وإن ما يهدد به إنما هو كلام. اُتهم كخائنٍ لوطنه، لا يستحق حتى الحياة في وسط مجتمعه!

أما بالنسبة للسيد المسيح فإن ما حلّ به منذ الحبل به إلى دفنه في القبر، إنما هو طريق الآلام والصليب. يبدو كأن الآب الذي بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، قد امتدت يده عليه بالضيقات، حتى يتحقق خلاص العالم.

بقوله "اليوم كله" يشير إلى حياته على الأرض، فهي سلسلة لا تنقطع من الآلام. كما يُقصد به يوم الصليب، حيث تكتلت الآلام من كل صنفٍ لتحل به.

أما بالنسبة لكل مؤمنٍ منا، فيبدو كأن الله ضدي، يؤدب يومًا فيومًا، لكنه لن يوقف حبه لي، فهو ليس ضدنا بل ضد خطايانا.

أَبْلَى لَحْمِي وَجِلْدِي.كَسَّرَ عِظَامِي .

بالنسبة لإرميا فإلى وقت كتابة هذه المراثي لم نسمع عنه أن جسمه وجلده قد بليا، ولا أن عظامه قد انكسرت وتبعثرت، فالحديث هنا لا يؤخذ بالمعنى الحرفي. نفس الأمر بالنسبة للسيد المسيح، فإن جسده لم يرَ فسادًا، وعظامه لم تنكسر واحدة منها. لكن ما حلّ به من متاعب وجلد واهانات وصلب لا يُمكن وصفه، كأن جسمه وجلده قد بليا تمامًا، وعظامه لم تعد لها قوة؛ صارت كأنها قد انسحقت وتبعثرت! الآلام التي حلت به جعلته كإنسانٍ غير قادر أن يحمل الصليب. كل الطريق، فأتوا إليه بمن يحمل معه الصليب.

بالحقيقة احتمل آلامًا لا تُحتمل، حتى لا يترك لإنسانٍ أن يعتذر بآلامه. لقد دفع السيد الثمن غاليًا لكي يهبنا المجد السماوي، للنفس والجسد معًا!

يشبه النبي الشعب برجلٍ مُسِنٍّ جلده مجعّد، لا أمل في إصلاحه، بل وعظامه قد كُسرت، فلا يستطيع التحرك.

يرى بعض الآباء أن التلاميذ وجماعة المؤمنين هم عظام السيد المسيح، فقد تبعثروا في ضعفٍ في لحظات الصلب، لكنهم بالقيامة اجتمعوا كجسدٍ واحد لم تنكسر منه عظمة واحدة.

"تبعثرت كل عظامي" (مز 22: 14). بالرغم من أن عظام جسمه لم تتبعثر، ولم يُكسر منها واحدة. لكنه إذ تحققت القيامة، قيامة جسد المسيح الكامل الحق، فإنه يجتمع معًا أعضاء جسد المسيح الذين يكونون في ذلك الوقت عظامًا جافة، كل عظم من عظمه، فيلتصق الكل ويرتبط معًا (لأن من كان عاجزًا عن الترابط معًا لن يبلغ الإنسان الكامل)، وهكذا يبلغون إلى قياس ملء قامة المسيح. حينئذ يصير الأعضاء الكثيرون جسدًا واحدًا، مع كثرتهم يصير الكل أعضاء الجسد الواحد +++ العلامة أوريجينوس

لقد سُحق وجُرح، لكنه شَفى كل مرض وكل ضعف ++ القديس غريغوريوس النزينزي