تامل من الجامعة 2 - بطلان السعي وراء الثروات ++ القمص تادرس يعقوب




تامل من الجامعة 2 ++ القمص تادرس يعقوب
بطلان السعي وراء الثروات

زوَّد الجامعة نفسه بالمباهج العالمية والمباني الفخمة والعبيد والفضة والذهب والأمور الخاصة بالملوك دون سواهم، لكن لم يكن ذلك من قِبَلْ النكوص إلى الطفولة غير الملتزمة أو الهروب إليها، كما كان يفعل اليونانيون منغمسين في الملذات والانشغال بالمظاهر هربًا من المسئولية. وكما جاء في سفر الحكمة: "لأنهم قالوا في أنفسهم مفتكرين افتكارًا غير مستقيم، إن عمرنا هو يسير محزن... فهلم إذًا نتمتع بالخيرات الموجودة، ونستعمل الملذات في البرية مادام زمان شيبوبة، فنمتلئ من الخمر الفائقة والطيوب ولا يفوتنا نسيم زهر الربيع..." (حك 2: 1، 6، 7).

وإنما كانت هكذا عادة اليهود للتعبير عن القوة وذلك بإقامة ولائم ومباني فاخرة، وباختصار أن يصير سيدًا للفنون.

أ. اِنغمس كثيرًا في التشييد والبناء، في المدن كما في القرى، إذ يقول: "بنيت لنفسي بيوتًا".

قيل عنه: "وهذا هو سبب التسخير الذي جعله الملك سليمان لبناء بيت الرب وبيته والقلعة وسور أورشليم، وحاصور ومجدو وجازر... وجميع مدن المخازن التي كانت لسليمان ومُدن المركبات ومدن الفرسان، ومرغوب سليمان الذي رغب أن يبنيه في أورشليم وفي لبنان وفي كل أرض سلطته" (1 مل 9: 15-19). لقد شيَّد مبانٍ كثيرة لكنه بدأ ببناء بين الرب، وليس كأولئك الذين قيل لهم: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب؟!" (حج 1: 3)... هذا وقد وظّف أيضًا العديد من فقراء العاملين لنفعهم. هذا هو الجانب الطيب من ناحية سليمان في اهتمامه بالتشييد والبناء، لكن ربما ما أفسده عمله إلى حين ظنه بأن هذه المشاريع تقدر أن تُشبع نفسه وتروي رغبته في المجد الزمني، إذ يقول: " فعظمتُ عملي"

بناء البيوت ليس خطية، لكن الخطية هي أن ننشغل ببناء بيوت لراحة أجسادنا دون أن نقدم بيتًا للرب في أعماقنا. ليستريح الرب في قلوبنا فيعطي راحة لأجسادنا أيضًا، ويلهب قلوبنا بنار الحب فتشتاق أن نرحل لنسكن معه ونستريح في أحضانه الإلهية عوض الانشغال بالعظمة الزمنية والمجد الباطل. ليسكن الرب في قلبنا كبيت خاص به، فنسكن نحن في سمواته كبيتنا الأبدي الخاص بنا، ولا يستطيع العالم كله أن يجتذبنا إليه.

من يهرب من المجد الباطل بمعرفةٍ، يتذوق في نفسه (رجاء) الدهر الآتي
ما أن يختار الإنسان التحرر من القنية حتى ينشغل فكره بالرحيل عن العالم؛ فيجعل حياة ما بعد القيامة لهجِهِ الدائم، ويسعى نحو الاستعداد الدائم (للرحيل)، الأمر الذي هو نافع له، يبدأ يحتقر كل ما يجلب كرامة (زمنية) أو راحة جسدية، ويتغلغل هذا في أفكاره، وينتعش ذهنه دائمًا بالتفكير في احتقار العالم ++ مار إسحق السرياني

يحثنا الآباء على بناء بيت الرب الداخلي وهيكله ومذبحه في قلوبنا:

أهلني يا ربي يسوع المسيح أن أُساهم في بناء بيتك...!
أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة... بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه.

ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تُقدم ذبائح الصلاة ومحرقاب الرحمة، فتُذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتُقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات...
لتعرف النفس كيف تُقيم داخل قدس أقداس قلبها منارة تضيء بغير انقطاع! ++ العلامة أوريجينوس

ب. اهتم بزراعة بساتين: "غرست لنفسي كرومًا، عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر".

قدم الله للإنسان الأول جنة عدن يعمل فيها، تحوي أشجارًا من كل ثمر، وتضم أيضًا شجرة الحياة... هكذا يود الله أن يشبع الجسد بكل ثمر زمني ويشبع النفس بشجرة الحياة الخالدة، لكن الإنسان اهتم بما يشبع جسده دون نفسه. لذا جاء السيِّد المسيح إلى أرضنا، وعُلق جسده على الشجرة، لعلنا نمد أيدينا ونقتطف منها ثمر الحياة. ليغرس الصليب في نفوسنا ونجني ثمر الروح القدس فينا فتتقدس نظرتنا إلى كل ثمر، ويشبع الإنسان بجسده وروحه.

يغرس مسيحنا صليبه في قلوبنا فيقيم منه فردوسًا مفرحًا، يحمل ثمر الروح القدس المبهج للسمائيين والأرضيين!

ج. أنشأ قنوات كثيرة للسقي: "عملت لنفسي برك مياه لتسقي بها المغارس المنبتة الشجر" .

نحن نحتاج إلى ينبوع المياه الحيَّة، أي إلى روح الله القدُّوس، الذي يسقي برِّيتنا الداخلية ويقيم منها جنة مقدسة.

د. اقتنى عبيدًا وجواري اَنجبن له ولدان بيت لخدمته.

ه. اقتنى بقرًا وفضة وذهبًا وخصوصيات الملوك . صار واسع الثراء، فقد قيل عنه: "وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة، وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة" (1 مل 10: 27).

ماذا تعني "خصوصيات الملك"؟ ما يخص الملوك أو ما ينفرد به الملوك عن سائر الأشراف والعظماء من ممتلكات أو قنية معينة.

تعبير "خصوصيات peculiar treasure" في العبرية s’qulia يعني أساسًا "قنية property"، لكنه صار مستخدمًا عمومًا للدلالة على القنية ذات القيمة العالية. دُعي شعب الله "شعب اقتناء" (خر 19: 5)، بكونه شعبًا اختاره الله ليكون نصيبه، وهو ثمين في عينيه للغاية.

اقتنى سليمان ما يخص الملوك كأمر ثمين... أما أنت فيُقدّم لك ملك الملوك ذاته لكي تقتنيه وهو يقتنيك، تصير نصيبه وهو نصيبك، فتقول: "أنا لحبيبي وحبيبي ليّ". هذا ما يشبع أعماقك الداخلية التي خلقها الله على صورته، فلا يشبعها أحد غيره!

هذا وقد أوضح الجامعة في أكثر من موضع أن الغنى والمقتنيات ليست بالأمر الشرير، إنما يكمن الشر في فساد إرادتنا وسوء نظرتنا لها، وأيضًا انحراف هدفنا:

كن يقظًا في استعمال ثرواتك لئلاَّ تبقى عطية الله لك بلا فائدة بين يديك.
هل عندك ذهب وفضة؟ إن أحسنت التصرف بهما كانا لك خيرًا. وإن كنت شريرًا فستُسئ التصرف بهما.

الذهب والفضة هما شرّ للأشرار، وخير للأبرار، لا لأن الذهب والفضة يجعلان الناس أبرارًا، بل، لأن الناس الأبرار يستعملونهما للخير...
أي نفع لك مما في حوزتك، حين لا تملك ذاك الذي أعطاك كل شيء؟!...
أتريد أن تحتفظ بثروتك؟ دبرها كما تُريد، إن وجدت لها حارسًا أفضل من المسيح فسلِّمه إيَّاها...
المسيح هو معك لكي يأخذ مالك ويحفظه لك؛ لن يخونك، بل سيحمل كنزك بأمانة ++ القديس اغسطينوس

في القرن الثاني كتب القديس إكليمنضس الإسكندري كتابًا تحت عنوان: "من هو الغني الذي يخلص؟" يوضح فيه نظرة المسيحية إلى الغنى؛ جاء فيه:

لا نلقي بالغني أرضًا، هذا الذي يُفيد إخوتنا...
لا يبدد الإنسان غناه،

بل بالحري يليق به أن يُحطم شهواته الداخلية التي تتعارض مع الاستخدام الصالح للغنى. فإذ يصير الإنسان فاضلًا وصالحًا يمكنه أن يستخدم هذا الغنى بطريقة صالحة.

إذن لنفهم ترك ممتلكاتنا (مر 10: 17-31) وبيعها أنه ترك وبيع لشهوات نفوسنا .

و. قدم لنفسه دون جدوى كل جوٍ إباحي من مغنيين ومغنيات وسيدة وسيدات... لم يحرم جسده أو قلبه من الملذات المادية أو غير المادية.

مع ما تمتع به من ثروات وملذات نال مجدًا زمنيًا وبقيت معه حكمته البشرية، إذ يقول: "فعظمت وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم وبقيت أيضًا حكمتي معي" .

أما الخبرة التي نالها من هذا كله فهي: "مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما، لم أمنع قلبي من كل فرح... ثم التفتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس".

الله يُريد راحتنا وفرحنا، لكن إنهماكنا بملذات العالم وغناه كثيرًا ما يسحب قلبنا عن الراحة التي في المسيح يسوع، وتنعم شركة الأمجاد السماوية.

عقل الإنسان الذي يهرب من راحة هذا الدهر يمعن النظر في الدهر الآتي. من تأسره القنية هو عبد لها.

طوبى للإنسان الذي يُصم أذنيه عن كل المباهج التي تفصله عن خالقه، لأنه يأكل فقط طعامًا شهيًا واحدًا من مائدة العليّ، ذاك الذي تقتات منه قوات السمائيين.
طوبى لمن اتخذ من الخبز الحيّ النازل من السماء طعامًا له، ذلك الخبز الذي يُنير العالم، الذي يسند عصور العالم الجديد.

طوبى لمن كان في شرابه يرى نبع الحياة المروي، يتدفق من حضن الآب برحمته؛ فإنه حينما يشرب منه تُثبَّت عيناه عليه، ويفرح قلبه، ويزدهر من جديد، ويمتلئ فرحًا وحبورًا. من يعاين ربه في طعامه يرضى به ويتمتع بالشركة معه وحده، ولا تكون له شركة مع غير المستحقين لئلاَّ يُحرم من بهائه..

الإنسان الذي له أصدقاء بقصد ملء بطنه يشبه ذئبًا يقتات على الجيف!
يا لهول جشعك أيها الأحمق، لأنك تود أن تملأ بطنك بكل شهوة!
هذه التحذيرات كافية بالنسبة للقادرين علىالسيطرة على بطونهم .

من ينشغل باهتمامات كثيرة هو عبد لكثيرين، أما الذي يهجرها جميعًا ويهتم فقط بنفسه، فهو صديق لله!
يا رب، احسبني مستحقًا أن أبغض حياتي (الزمنية) لأجل الحياة التي فيك! ++ مار اسحق السرياني

يُقدم لنا آباء الكنيسة خبرتهم الروحية بخصوص التمتع بالملذات الجسدية تتلخص في ضرورة الالتزام بالطريق الوسط أو المعتدل، ويسمونه الطريق الملوكي.

لا تملأ بطنك كثيرًا لئلاَّ يعذبك الزنا،
ولا تضعف جسدك لئلاَّ يفرح بك مبغضوك.
امسك رتبة معتدلة، وها أنت تسلك الطريق الملوكي، وبغير خوف يكون سيرك ++ القديس يوحنا سابا

يُلخص الجامعة خبرته مع الملذات العالمية، قائلًا: "فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس" .

يقول الجامعة: "باطل الأباطيل، الكل باطل". لكن إن كانت الخليقة كلها صالحة بكونها من صنع يدي الخالق الصالح، فكيف يمكن أن يكون الكل باطلًا؟ إن كانت الأرض باطلة، فهل السموات أيضًا باطلة...؟ وأيضًا الملائكة والعروش والسلاطين والقوات وباقي الطغمات؟ كلاَّ! إن كانت الأشياء التي هي صالحة في ذاتها بكونها خليقة الخالق الصالح قد دُعيت باطلة، إنما بمقارنتها بما هو أسمى منها وأعظم. فمثلًا إذا قورن السراج بالمصباح حُسب أقل منه، أما إذا قورن المصباح بالنجم فلا يعطي ضوءًا على الإطلاق. وإذا سطع نجم فإنه أمام القمر يبهت، والقمر أمام الشمس يبدو غير ساطع، وإذا قورنت الشمس بالمسيح حُسبت ظلامًا. هكذا يقول الله: "أهيه (أنا هو) الذي أهيه"، إذا قورنت كل المخلوقات به حسبت غير موجودة ++ القديس جيروم

يختم الكاتب حديثه عن الملذات الحسِّية بقوله: "ولا منفعة تحت الشمس".
كأنه يقول: من يحملني إلى ما فوق الشمس؟ من يرفعني إلى ما فوق الزمن؟ إنيّ محتاج إلى السيِّد المسيح، شمس البر، وحكمة الله.

بهذا ينتقل من الملذات الحسِّية غير المشبعة إلى الحديث عن الحكمة الزمنية التي وإن كانت أفضل من الجهالة أو الحماقة، لكنها لا تقدر أن تُشبع النفس كحكمة الله!