حبيبي تحوَّل وعبر (نش 5: 6) ++ البابا شنودة الثالث



من تاملات سفر نشيد الأناشيد ++ البابا شنودة الثالث
حبيبي تحوَّل وعبر (نش 5: 6)

تقول عذراء النشيد "خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟! غسلت رجليَ, فكيف أوسخهما؟! حبيبي مدّ يده من الكوة: فأنّت عليه أحشائي. قمت لأفتح لحبيبي, ويداي تقطران مرًّا, وأصابعي مرّ قاطر على مقبض القفل, فتحت لحبيبي, لكن حبيبي تحول وعبر, نفسي خرجت حينما أدبر. طلبتة فما وجدته, دعوته فما أجابني" (نش5: 3-6).

آفة كبرى, أن يخطئ الإنسان, ولا يحس إنه أخطأ, فيكون ضميره نائمًا, وقلبه نائمًا أيضًا: لا يوبخ, ولا ينتهر, ولا يبكت, ولا يبث شعور الندم والخزي.

أما هذه العذراء, على الرغم من نومها, كان قلبها مستيقظًا, كانت لها الحساسية القلبية المرهفة, على الرغم من أن الإرادة كانت ضعيفة..

كانت نائمة, كسلانة, لا تريد أن تقوم وتفتح الباب.. وعلى الرغم من هذا الكسل, كانت تلتمس لها الأعذار! " قد خلعت ثوبي, فكيف ألبسة؟ قد غسلت رجليّ, فكيف أوسخهما".. ؟

كثيرًا ما يأتي على النفس شعور, أنها تريد أن تستريح, وهكذا يصبح كل عمل روحي وقتذاك, ثقيلًا عليها. إن هذا العمل الروحي سيكون على حساب راحتها وهدوئها واستجمامها.. جاء صوت الله متأخرًا!! بعد أن خلعت ثوبها وذهبت لتنام. بعد أن تعبت من ثقل النهار وحرة, ودخلت لتستريح.. كيف تقوم مرة أخرى؟! وكيف تسير لتفتح الباب؟

هل تشاء يا رب أن تفتح بابًا جديدًا للجهاد، بعد أن خلنا ثوب الحرب ودخلنا نستريح؟!

ألا تتركُنا لنستريح من هذا الجهاد؟ ونغفوا ولو قليلًا؟ حقًا إن الروح نشيط (القلب مستيقظ), ولكن الجسد ضعيف لذلك فأنا نائمة. صعب أن يأتينا الامتحان ونحن في وقت راحتنا، ونحن في برودة روحية, حينئذ تكون الحرب شديدة, لأننا غير مستعدين لها، ولعلة من أجل هذا السبب, قال لنا الرب

" صلوا لكي لا يكون هربكم في الشتاء ولا في سبت" (مت24: 20). الشتاء وقت البرودة, والسبت وقت الراحة..

هذه العذراء أتتها الدعوة الإلهية في وقت رأته غير مناسب. كان ممكن أن يجيئني الرب قبل أن أدخل إلي حجرتي, وأخلع ثيابي, وأغسل رجلي, وأعطر يديِ, وأغفوا لأستريح.. !

هنا يبدو أن الدعوة الإلهية تحتاج إلي بذل, وإلي تضحية, وإلي عطاء,.. إنها طريقة الله..

يطلب من الأرملة أن تعطي من أعوازها (مر12: 44), ويطلب من إبراهيم أن يقدم ابنه الوحيد الذي تحبه نفسه (تك22: 2), ويطلب من أرملة صرفة صيدا أن تعطي لإيليا كل غذائها في وقت المجاعة (1مل17: 13), المسألة تحتاج إذن إلي بذل لأن العطاء من سعة هو عطاء رخيص, لا يمس القلب..

أما البذل فهو دليل الحب, ودليل على إن الإنسان قد خرج من سيطرة الذات, ووضع نفسه في المتكأ الأخير.

وهذا هو محك الاختبار الذي يريده لك المسيح..

يريد أن يثبت حبك عن طريق تعبك وبذلك, وحسبما تتعب تبذل على هذا القدر يعوضك الرب أضعافًا في ملكوته.

وكما قال الرسول: " كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبة" (1كو3: 8).. لا تستلم للراحة, قم وأتعب من أجل الرب.

هكذا يكون الصليب هو علامة محبتك للرب, لابد أن تحمل صليبك في طريقك إليه, ولابد أن تصعد على الصليب..

عذراء النشيد دخلت إلي فراشها لتستريح، وتثاقلت في أن تقوم, ولكن على عكسها كان داود النبي, الذي أقسم قائلًا: " إني لا أدخل إلي مسكن بيتي, ولا أصعد على سرير فراشي, ولا أعطي لعيني نومًا, ولا لأجفاني نعاسًا, ولا راحة لصدغي, إلي أن أجد موضعًا للرب ومسكنًا لإله يعقوب" (مز132: 2 -3).

كانت العذراء نائمة بينما الكتاب يحذرنا من هذا النوم بقوله:
لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا (مر13: 36), " اسهروا إذن وصلوا".
"أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا.. "
أريد أن أتمتع بالنوم, وأتمتع بحبيبي في نفس الوقت!!
أريد أن أحب دون أن أختبر" تعب المحبة"..

إنه حبيبي, وأنا أحبه, وأعرف صوته, وأميز صوته, من صوت الغريب. مشاعري كلها نحوه. ولكن أن افعل الحسنى فلست أجد" (رو7: 18). عندما مد يده من الكوة " أّنت عليه أحشائي". قلبي كله له لكن إرادتي مبتعدة عنه بعيدًا, لا تقوى على الطريق الضيق, ولا تقوى على حمل الصليب..

متى تتصالح الإرادة, مع مشاعر القلب, وتخضع لها؟

متى أسمع صوت حبيبي فأقفز من على فراشي, ولا أطيق أن أنام. إنما أخرج أنا أيضًا معه " ظافرا على الجبال, وقافزًا على التلال" (نش2: 7), أتبعه حيثما كان..

يكفي أنه تنازل وأتى ِ, ويكفي إنه ناداني بأسمى.
إن نداء الرب له تأثيره العميق مهما تكاسلت عنه.
إن كلمة الرب حية وفعالة, وأمضى من كل سيف ذي حدين (عب4: 12), ولا يمكن أن ترجع إليه فارغة (أش55: 11).. هذا الصوت الذي رنّ في أذني, قد رن بالأكثر في قلبي, ومهما كنت نائمة لابد, سأقوم..

" قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرًا" (نش5: 5), (والمر هو عطر سائل).

هذه النفس المتدللة, كانت يداها تقطران مرًا.. أي لم تكن تكتفي بأن ترش شيئًا من العطر على يديها, بل كانت تغطسهما في إناء مملوء من عطر المر, وهي راقدة على فراشها, حتى تقوم ويداها " تقطران مرًا"..

هذه النفس المتدللة المتكاسلة التي أعتذرت عن القيام للرب بقولها: " خلعت ثوبي فكيف ألبسة؟ غسلت رجلي فكيف أوسخهما.. ؟! وكانت عندها نظافة رجليها, أكثر من تفكيرها في الرب, وفتح مكان له في حياتها.

هذه النفس المتدللة, حينما قامت أخيرًا لتفتح للرب, قامت متأخرة, وكان حبيبها قد تحول وعبر, وتركها لفترة مريرة من فترات التخلي..

لقد زارتها النعمة, ثم تركتها بسبب تكاسلها وتراخيها..

كثيرًا ما تزور النعمة إنسانًا, ولكنها تنظر إلي مدى تجاوبة مع عملها فيه. إن وجدته حارًا في الروح, يشترك في العمل الإلهي مع نعمة الرب, ألهبته النعمة بالحب, وصار بعملة معها شريكًا للروح القدس. أما إن تراخى وتكاسل, واستهان بدعوة الله, فأن النعمة تتركة. ويبقى هذا الإنسان وحيدًا, ويقاسى مرارة التخلي.

وسنضرب مثلًا لهذا التكاسل الذي يسبب التخلي..

قد تستيقظ من النوم, وتسمع صوتًا عميقًا يناديك من الداخل " قم صلي" قف وتكلم مع الله, ليكن الله هو أول من تحادثة في هذا اليوم. لا تتكاسل. لا تهمل الصلاة مثل أمس وقبل من أمس.. " ولكنك تقول "نعم سأصلي, ولكن بعد أن أغسل وجهي، بعد أن أسرح شعري, بعد أن أرتب ملابسي, بعد أن أقضي هذا الأمر وذاك".. ثم تشغلك عوائق كثيرة عن الصلاة, وتقف لتصلي فتجد فكرك مشتتًا, وعدد من الموضوعات قد دخل فيه. ولا تجد الحرارة السابقة فتقول في مرارة " حبيبي تحول وعبر" وتتذكر قول داود: يا الله أنت إلهي, إليك أبكر, عطشت نفسي إليك, " أنا أستيقظ مبكرًا"..

كم مرة لمست النعمة قلوبنا, ولكننا تكاسلنا, فضاع الشعور, وضاعت العاطفة, وبردت الحرارة, وتحول حبيبنا وعبر..

كثير من الناس ضاعت الفرصة منهم, لأنهم قاموا للرب متأخرين, مثل العذارى الجاهلات, جئن بعد أن أغلق الباب.. لماذا إذن تتأخر في الاستجابة للرب؟! لو إن هذه النفس, عندما قالت " صوت حبيبي قارعًا ", قامت بسرعة وفتحت له, حتى قبل أن يتكلم, لكانت قد تمتعت بالوجود مع الرب, وما كانت بكت قائلة: نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني.

عجيب هذا الأمر حقًا.. الله المحب الحنون, الذي يقول " فيما تدعو إني أنا أستجيب". تقول عنه العروس هنا " دعوته فما أجابني"!! الله الذي يقول " أطلبوا تجدوا" (لو11: 9), تقول عذراء النشيد "طلبته فما وجدته"!!

إن الحب يا أخوتي, هو أكثر المشاعر حساسية, وأكثرها تأثيرًا. ولا يوجد شيء أكثر إيلامًا للقلب..، من أن تحب إنسانًا فيتجاهلك, وتقرع بابه فلا يفتح لك. لهذا قال الرب "جرحت في بيت أحبائي" (زك13: 6).

لقد سعى الرب إلي هذا النفس, طافرًا على الجبال, قافزًا على التلال. وخاطبها بأرق الألفاظ " إفتحي لي يا أختي, يا حبيبيتي يا حماماتي, يا كاملتي",.. ومع كل ذلك لم تستجب. لذلك تركها لتختبر البعد عنه.. لعلها وجدت إنه هو الساعي, فتدللت وتثاقلت.. ورأت إنه الطارق, فتناومت وتكاسلت, وكما يقول المثل: إذا كثر العرض قل الطلب.

لذلك أبتعد الرب عنها, لكيما تشتاق له, وتركها لكي تسعى إليه, وحرمها هذا الحب حتى لا تحسبه رخيصًا فتهمله. وجعلها تقاسي مرارة البُعد, حتى تقدر حلاوة الحب.

إن المحبة يا ابنتي ليست ضريبة تفرض عليك, ليست أمرًا ترغمين عليه, وتغصبين نفسك على ممارسته, بل هو اشتياق وانجذاب.. أنت لا تريدين أن تفتحي لي, لا مانع, سأتركك إلي حريتك, إلي أن تشعري بأهمية وجودي في حياتك, إلي أن تفهمي مدى حاجتك إلي الوجود معي. وحينئذ ستندمين على بعدك, وسترجعين..

فترات التخلي:

ستندم تلك النفس على تكاسلها, وبعدها عن حبيبها, وحينئذ ستبحث عنه, وترجع إليه.

وسوف تدرك إن التخلي كان اختبارا نافعًا لها..

فترات التخلي هذه تأتي على كثيرين, فيشعرون إن هناك حائلًا كبيرًا بينهم وبين الله. يشعر الشخص منهم إنه واقف وحده, بعيدًا عن الله, بجفاف في حياته, وعدم إحساس بالعزاء الداخلي, يشعر إن عبادته بلا عاطفة, بلا حرارة, بلا حب, بلا روح, بلا صلة, بلا استجابة, بلا دالة..

والناس في مراحل التخلي على نوعين:

نوع إذ مر بمرحلة، يلوم نفسه وليس الله:

يقول: أنا السبب. أنا سلكت نحو الله مسلكًا جعله يتخلى عني. والأفضل أن أرجع إلي علاقتي الأولي بالله. إن الله في كمال محبته, لا يستحق مني هذه المعاملة السيئة. وفي إحساناته الكثيرة لا يصح أن أتذمر عليه هكذا. ليتني أصطلح معة.

ونوع أخر إذ وجد في مرحلة التخلي يتذمر على الله:

ويجدف على الله ويحتج ويقول: أين ما يقولونه عن حنانك وعن محبتك؟! وأفرض أنني أخطأت, لماذا لا تسامح؟ ولماذا لا تغفر؟ لماذا تعاملني هكذا؟ لماذا أنت شديد وقاسي وعنيف؟! وبمثل هذه التجاديف تزداد الخطية وتستفحل الخطية.

وإنسان أخر في مرحلة التخلي لا يتذمر على الله, ولا يسترضيه, وإنما ينساه, يتركه..

يقول له: إن كنت أنت تتخلى عني, وتتركني, وأنا كذلك. حسن إن هذا الأمر قد جاء منك.. !! وهكذا يسلك بعيدًا عن الله, ويتمادى في تركه, ويتحول ما فيه من جفاف إلي انحراف.. وهكذا ينهار ويضيع, كما لو كان يعاند الله..

إن فترات التخلي, غالبًا ما تكون بسبب الإنسان.. وفي قصة عذراء النشيد كانت بسبب التراخي والكسل.

هناك نوع أخر من التخلي, يكون بسبب الكبرياء.

يسلك إنسان في كبرياء القلب, ينتفخ من الداخل,يظن في نفسه إنه شئ, تكبر مواهبه في عينيه. حنان الله الذي حفظه من الخطية فترة من الزمن, بسببه يشهر إنه بلا خطية!! وأن عنصرة فوق مستوى الخطأ, وإن الخطية خاصة بالمبتدئين فقط.

وهكذا بسبب كبريائه, تتخلى عنه النعمة ليعرف ضعفه.

وفي مرحلة التخلي يبحث عن نفسه فلا يجده, ويسقط في خطايا المبتدئين. ويحاول أن يصلي فلا يعرف, ويجاهد لكي يتوب فلا يقدر. ويصرخ من أعماق قلبه " طلبته, فما وجدته. دعوته, فما أجابني". ويرجع إلي الله ليقول له: أنا ضعيف ومسكين. أنا أضعف من أن أقاتل أصغرهم.

وهذا التخلي يقود إلي الانسحاق والاتضاع..

حينئذ يعرف أنه في الموازين إلي فوق. وإنه خير له أن يأخذ موقف العشار المتذلل, وليس موقف الفريسي المنتفخ.. ويقول للرب: " وأخيرًا يا رب, عرفت أن الباطل المنسحق, خير من الحق المنتفخ"..

حقًا إنه قبل الكسر كبرياء, وقبل السقوط تشامخ الروح (أم16: 8), وإن هذا الكبرياء من أسباب التخلي.

سبب أخر للتخلي, هو إدانة الآخرين..

أحيانا ندين الآخرين على خطية معينة, فيسمح الله بتخليه عنا, أن نقع في نفس الخطية, لكي ندرك إننا لسنا أقوى من غيرنا, ولكي نعرف إن ثباتنا كان سبب عمل النعمة فينا, ولم يكن بسبب قوتنا الخاصة. ولي نعرف أيضًا قوة العدو المحارب, وعنفه وقسوته في حروبه, فنشفق على الساقطين بدلًا من أن ندينهم.

حقًا, أن فترات التخلي تعطي القلب شفقة على الخطاة..

فيدرك تمامًا إن مغزى قول الرسول" أذكروا المقيدين كأنكم مقيدين أيضًا مثلهم, والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب13), وهكذا إذ وجد إنسانًا ساقطًا يبكي عليه كأنه هو الساقط. وهكذا كان يفعل القديس يوحنا القصير: كان إذ رأى إنسانًا ساقطًا يبكي ويقول: إن العدو قوي, وكما أسقط أخي اليوم قد يسقطني غدًا, وقد يقوم أخي من سقطته, وأنا لا أقوم, لذلك أبكي.

إن تخلي النعمة قد يكون ظاهريًا وليس حقيقيًا..

ربما يكون مجرد حرب سمح فيها الله للشيطان أن يضرب هذا الإنسان, دون أن تتخلى النعمة عنه, فيطن هذا الإنسان إنه قد سقط من يد الله.. بينما الله كضابط للكل يراقب الموقف بعمق شديد, وقد حوَّط بنعمته حول الإنسان حتى لا يضيع. مثال ذلك قصة أيوب الصديق. ظن في تجربته إن الله قد تخلى عنه, ولم يكن الأمر كذلك, وأنقذ الله أيوب.

من الجائز أن يكون هذا التخلي, لونًا من الحكمة الإلهية في تدريب الإنسان وتربيته.

مثال هذا الأم التي تعلم أبنها المشي. تمسكه بيدها ليمشي قليلًا, ثم تتركه فيقع ويصرخ ولا تقيمه بل تتركه حتى يقف ويتابع المشي, ولو حملته باستمرار على كتفيها, وأمسكته باستمرار في مشيه, ما تعلم المشي قط..

هكذا أيضًا تفعل الطيور في تعليم فراخها للطير, وهكذا يفعل الآباء في تعليم أبنائهم العوم. وهكذا يفعل الله في تربية الإنسان:

بالتخلي يعلمه الحرب, كما قال داود النبي " مبارك الرب.. الذي يعلّم يديّ القتال, وأصابعي الحرب" (مز144: 1).

نهاية التدليل والكسل والفتور في حياة هذه العروس, كانت تخلي الرب عنها. وفي فترات التخلي, ذاقت كم فعل العدو بها.

إننا نصمد أمام العدو, طالما كانت قوة الرب معنا, فإن فارقتنا قوة الرب, وقعنا في أيدي أعدائنا.

مثال ذلك شمشون الجبار, لم يستطع أحد أن يقوى عليه, طالما كانت قوة الرب معه. فلما كسر نذرة, وفارقته القوة الإلهية, استطاع أعداؤة أن يذلوة. كذلك قيل عن شاو ل الملك " وفارقت روح الرب شاو ل, وبغتة روح ردئ من قبل الرب" (1صم16: 14).

هذا الروح الردئ لم يكن له عليه سلطان قبل أن يفارقه روح الرب.

إن العدو ينتهز فترات التخلي, لكي ليضرب ضرباته بلا رحمة..

وهكذا تقول عذراء النشيد "ضربوني, جرحوني, رفعوا إزاري عني.." لقد كنت مصانة أيها العروس داخل بيتك, وكان الرب يقرع على بابك ويناديك.. أما الآن فقد ضاعت هيبتك الروحية في شوارع المدينة.. لقد وجد العدو فرصته وانتهزها. بدأ العدو يضربك, ويعريكِ, وينزع عنك ثوب البر الذي ألبسك الرب إياه من قبل.

الابن الضال أيضًا أذله العدو وهو في كورة بعيدة..

عندما ابتعد هذا الابن عن الأب, استطاع العدو أن يضربه وبلا سلاح. واستطاع أن ينزع إزاره عنه. إنها فرصته وقد سمح له الرب بها.

ولكن هل يمكن أن يسمح الله للعدو بأن يفعل هذا؟

نعم يمكن لأجل, فائدة الإنسان, يمكن أن " يسلم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد, لتخلص الروح في يوم الرب" (1كو5: 5).. لقد سمح الله مرة للشيطان أن يضرب أيوب البار, أفلا يسمح له بأن يضرب الكسالى والمتهاونين والمخالفين وصاياة؟!

وهكذا ممكن أن يسلم الله إنسانًا لأيدي أعدائه..

عندما أخطأ بنو إسرائيل, سلمهم الرب لأيدي أعدائهم أكثر من مرة, وتكررت هذه العبارة مرارًا أكثر من مرة في العهد القديم, مثلما ورد في سفر القضاة " فحميّ غضب الرب على إسرائيل. فدفعهم إلي أيدي ناهبين نهبوهم, وباعهم بأيدي أعدائهم حولهم. ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم.. فضاق بهم الأمر جدًا" (قض2: 14, 15), سمح الله أيضًا أن يدفعهم إلي أيدي نبوخذ نصر, وان يسلمهم إلي سبي بابل وسبي أشور.

كان خيرًا لهم أن" يبكوا على أنهار بابل, وأن يعلقوا قيثاراتهم على أشجار الصفصاف" (مز 137).

كانت فترة التخلي نافعة روحيًا. وكما قال الكتاب " أملأ وجوههم خزيًا, فيطلبون أسمك يا رب.. "

وهكذا حدث مع عذراء النشيد: لولا التخلي ومتاعبه, ما كان ممكنًا أن نقول "أحلفكن يا بنات أورشليم, إن وجدتن حبيبي, أن تخبرنه بأنني مريضة حبًا".

من أين أتت عبارة " مريضة حبًا".. ؟ إنه إحساس الاشتياق جاء كثمرة طبيعية للتخلي والبعد والحرمان..

كانت النعمة تسعى إلي هذه العروس المتدللة المتكاسلة, وتقرع بابها, ولكنها لم تشعر بقيمة هذه النعمة. فلما قاست مرارة التخلي, ولما ضربت وجرحت من الحرس الطائف, حينئذ أحست إنها كانت في نعمة لم تقدرها.. وحينئذ شعرت بحاجتها إلي الرب الذي لم تفتح له قبلًا فقالت: " إنني مريضة حبًا"

حسن أن هذه العروس, لمل تحول عنها الرب وعبر, لم تتركه هي أيضًا. فمن داخلها قالت " نفسي خرجت حينما أدبر". ومن جهة العمل قالت " طلبته فما وجدته, دعوته فما أجابني " ولما لم تجده ولم يجبها, لم ينته بها الأمر عند هذا الحد.. بل سعت إليه.