من كتاب معالم الطريق الروحي ++ البابا شنودة الثالث
إن لم تستطع أن تعتزل عمليًا عن الخطاة، فعلي الأقل اعتزل عن طرقهم... إن كنت لابد لك أن تعيش في بيئة غير روحية، إذ العالم غالبيته هكذا، وليس بإمكانك أن تخرج من العالم كما قال معلمنا بولس الرسول...
وإن كنت لا تستطيع الانفصال عن الخطاة جسديًا، فانفصل بالقلب والفكر...
افصل قلبك عن شهوة شريرة، وافصل عقلك عن كل فكر خاطئ. وافصل حواسك بقدر الإمكان عن رؤية وعن سماع ما يتعبك روحيًا. وتذكر قول القديس بولس الرسول " والذين يستعلمون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه" (1كو7: 31). واستمع أيضًا إلى قوله: "لا تشاكلوا أهل هذا الدهر" (رو12: 2).
أي لا تصيروا في شكله وشبهه، بل كونوا مميزين بطريقكم الروحي. وكما قيل "لغتك تظهرك" (متى26: 73) أو كما قال القديس يوحنا الحبيب "كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية... بهذا أولاد الله ظاهرون، وأولاد أبليس (ظاهرون)" (1يو3: 9، 10). أولاد الله قد ارتفعوا عن مستوي العالم وشهواته، لأنهم ركزوا كل محبتهم في الله وحده يرفضون الوضع الذي انتقده إيليا النبي حينما قال:
" حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان الرب هو الله فاتبعوه. وإن كان البعل فاتبعوه "
(1مل18: 21).
لا يمكن للمؤمن الحقيقي أن يجمع بين الأمرين معًا: الله والعالم. فيعطي ساعة للصلاة، وأخري للمتع العالمية دون أن يثبت على حال.. فقد قال الكتاب " تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل قدرتك" (تث6: 5). وعبارة " كل " هنا، تعني أنه لا توجد محبة أخري إلى جوار الله تنافسه.. لا توجد ظلمة تشترك مع نوره العجيب داخلك. وانفصالك عن الظلمة، ليس هو مجرد عمل سلبي، وإنما له إيجابياته حسبما قال الرسول:
" لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبخوها" (أف5: 11).
وتوبيخ الظلمة يعني أنك لا تقبلها فيك ولا غيرك، وتعنى حرصك على ملكوت الله وانتشاره. وتوبيخ الظلمة يعني قوة في القلب من الداخل، لا تضعف أمام سلطان الظلام (لو22: 53)، وإنما تتصدى للظلمة وتقاومها، ومثلما وقف إيليا ضد آخاب وأنبياء البعل" (1مل18). ومثلما وقف المعمدان ضد هيرودس وهيروديا (متى14: 3، 4).
أنت نور. والخطية ظلمة. النور يستطيع أن يقشع الظلام.
أنت نور، لأن السيد المسيح قد قال لنا " أنتم نور العالم" (متى5: 14). وقال بعدها " فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروأ أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السموات (متى5: 16). ونورك هذا حينما يضئ، سيبدد الظلمة التي حوله. لا تغطي هي عليه، بل هو الذي يبددها.
فهل لك هذه الهيبة الروحية التي تبدد الظلمة التي حولها؟
هل في مجرد وجودك يشعر من حولك أنهم لا يستطيعون أن يلفظوا بكلمة خارجة أو كلمة نابية، ولا يستطيعون أن يتصرفوا أي تصرف غير لائق.
هل وجودك يشعرهم أنك تنقل إليهم حضور الله في وسطهم فيقولون لك العبارة التي قيلت لذلك المتنيح... إننا عرفنا الله اليوم عرفناك..؟
هل أنت لا تنفصل فقط عن الظلمة أم أنت تقضى على الظلمة؟
هل أنت مصباح يوضع على المنارة، فلا تكون ظلمة، لأنه ينير لكل من في البيت (متى5: 15) أو هل أنت حتى مجرد شمعة، تضئ فتطرد الظلمة.
قد يكون تعليمك نورًا. وهذا حسن، وما هو بأحسن من ذلك أن تكون حياتك نفسها نورًا تضئ للآخرين.
ولا يمكن أن تكون نورًا، إلا إذا أحببت النور. ولا يمكن أن تبدد الظلمة إلا إذا كنت تكرهها من أعماقك.
لذلك افحص قلبك جيدًا، وتأكد من سلامة مشاعره، واطرد منه كل ظلمة، بمحبة الله التي إن دخلت قلبك طردت منه كل محبة للعالم وللخطية.
وينبغي أن تثق بأن الخطية ظلمة. يكفي أنك لا تستطيع أن تفعلها إلا في الظلام، في الخفاء، في غير ملاحظة الناس لك... وإن تكشفت لأحد، تحاول أن تغطيها بالأعذار أو التبريرات، أو الكذب، أو بإلصاقها بغيرك، لكي تبقي في الظلام لا يراها أحد فيك...
ومادام الله نورًا، إذن فالخطية وهي ظلمة تفصلك عن الحياة مع الله.
لأنه كما قال الرسول " أية شركة للنور مع الظلمة"...
وإن كان الأبرار سيقومون في اليوم الأخير بجسد نوراني روحاني، وسوف يضيئون كالجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البر يضيئون كالكواكب إلى أبد الدهور (دا12: 3)، فماذا نقول عن قيامة الخطاة الذين كانوا ظلمة في حياتهم؟
هؤلاء سيطرحون في الظلمة الخارجية فلا يمكن أن تكون أرواحهم مضيئة.
وهكذا يكون الله قد فصل في الأبدية أيضًا بين النور والظلمة، ليس فقط من جهة المسكن، حين يسكن الأبرار في المدينة المنيرة التي لا تحتاج إلى شمس ولا إلى قمر، لأن مجد الله يضيئها (رؤ21: 32).
وإنما أيضًا من جهة طبيعة الأرواح الأبرار الأبرار منيرة، وأرواح الخطاة مظلمة...
ولا يمكن أن تكون أرواح الأشرار منيرة، لأنهم انفصلوا عن الله الذي هو النور الحقيقي، ولأنهم يعيشون في الظلمة الخارجية، ولا شركة للنور مع الظلمة.