تامل من نشيد الانشاد 1 ++ القمص تادرس يعقوب
العروس تعلن شخصية خطيبها
المسيا المتألم ... قبلات الفم الإلهي:
لو أن هذا السفر خاص بالمبتدئين لبدأ بمناجاة الله العريس لعروسه، يلاطفها ويعلن حبه لها، ليدخل بها إلى حياة التوبة، فتصطلح معه وتقبل الاتحاد معه، لكنه هو سفر الناضجين الذين ذاقوا بالفعل محبته والتهبت قلوبهم به. لقد تقبلوا تيار حبه المتدفق خلال الصليب، فيطلبون أن يعيشوا حياتهم كلها يلهجون في هذا الحب الإلهي، قائلين بلسان الكنيسة:
"لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ،
لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ،لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ، اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ،
لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى"
إنه صوت الكنيسة الجامعة وقد رفعت أنظارها إلى الصليب، فاشتمت رائحته الطيبة، ورأت اسمه مهرقًا من أجلها، فوجدت لذة في حبه، لهذا أخذت تناجيه، قائلة: "لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ". وهنا نلاحظ الآتي:
1. إنها تطلب قبلات فم الآب. "لِيُقَبِّلْنِي (هو)". حقًا لقد قبلها الله بقبلات كثيرة على مر العصور. أعلن حبه لها فخلق العالم كله من أجلها، أوجدها من العدم، وأعطاها صورته ومثاله، وباختصار لم يعوزها شيء. بعد السقوط لم يتركها بل وعدها بالخلاص، ووهبها الناموس المكتوب عونًا، وأرسل لها الأنبياء يؤكدون لها خلاصه... لكن هذا كله لن يشبع العروس، فإنها تريده هو بنفسه يقترب إليها ويهبها ذاته... تريد كل قبلات فمه المباشرة! وكأنها بالعروس التي تفرح بالعريس الذي يطلب يدها ويرسل لها أقاربه، ويبعث إليها الهدايا المستمرة الثمينة... لكنه لن تشبع إنما تطلبه هو!
في هذا يقول العلامة أوريجانوس:إن الكنيسة في العهد القديم كانت كفتاة صغيرة غير ناضجة، لم تتمتع بصحبة العريس نفسه مباشرة بل تمتعت بصحبة أصحابه أي الملائكة والآباء والأنبياء، ومن خلالهم تقبلت قبلات الله التي هي تعليم العهد الجديد ووصاياه.
كانت في طريق النمو، تسير نحو النضوج لترى عريسها قادمًا إليها على جبال الناموس وتلال النبوات فالتهب قلبها بالحي نحوه، قائلة: "ليأت وينزل إلى ويقبلني بنفسه على الصليب، ليضمني إليه بالحب العلمي فأتحد معه". هذا ما أعلنه الرسول بولس في حديثه مع العبرانيين إذ يقول: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 1-2)... كلمنا بقبلات الحب العملي المباشر.
2. لا تستحي أن تطلب من الابن قبلات الآب، لأن ما هو للآب فهو للابن أيضًا. وما قدمه الابن بإرادته إنما قدمه طاعة الآب. لهذا يؤكد الكتاب: "هكذا أحب الله (الآب) العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو ٣: ١٦)، وفي نفس الوقت يقول الرسول "أحبني وأسلم ذاته من أجلي"... إن قبلات الصليب لنا هي علامة حب الآب والابن أيضًا!.
لقد سبق فرأينا استحالة انطباق هذه العبارة على أي حب جسداني زمني، إذ تطلب العروس من عريسها قبلات آخر غيره، لكن الحديث هنا عن القبلات الإلهية الروحية التي تحمل معنى الاتحاد الخفي لتكون واحدًا مع الآب في ابنه خلال قبلات الصليب.
3. لا تطلب العروس قبلة أو قبلتين أو أكثر بل تريد كل "قبلات فمه"... هذه أحساسات المؤمن حين ينفتح قلبه لمحبة الله، فإنه يرى كأنه لا يوجد في الحياة إلاَّ الله وهو، فيطلب كل حب الله له.
4. لا تطلب الكنيسة قبلات الرب جميعها فحسب، لكنها تطلب نوعية خاصة من القبلات، ألا وهي " قُبْلاَتِ فَمِهِ"، التي تُعبر عن العلاقة الزوجية الوطيدة والفريدة التي لا يشترك فيها آخر معهما.
لقد سجل لنا الكتاب المقدس نوعيات مختلفة من القبلات، لكنها ليست بالقبلات المشبعة، فقد ودع لابان بنيه وبناته بالقبلات (تك ٣١: ٥٥)، واستقبل يعقوب حفيديه ابني يوسف بالقبلات (تك ٤٨: ١٠)، وودعت نعمى كنتاها بالبكاء والتقبيل (راعوث ١: ٩)، وطلب إسحق من ابنه يعقوب أن يتقدم ويقبله ليأخذ بركة (تك ٢٧: ٢٦)، وتقدم أبشالوم بن داود ليقبل أبناء الشعب ليكسب قلوبهم (٢ صم ١٥: ٥)، وقبل يوناثان داود النبي علامة الصداقة وميثاق الوفاء (١ صم ٣٠: ٤١)، وودعت كنيسة أفسس الرسول بولس بالبكاء والتقبيل (أع ٢٠: ٣٧). هذه كلها قبلات تمت بسبب رباط الدم أو القرابة أو الصداقة أو علامة آلام الفراق... لكنها قبلات مؤقتة، أما الكنيسة فتطلب قبلات الحب الأبدي، قبلات فم الله التي لا تتوقف.