تامل من مراثي أرمياء 3 ++ القمص تادرس يعقوب
رجاء مشرق وسط الظلمة
آلام السيد المسيح جزء 2
بَنَى عَلَيَّ (ضدي)،وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ.
لعله يقصد هنا المتاريس والاستحكامات التي قام الكلدانيون ببنائها حول أسوار مدينة أورشليم للهجوم على الهاربين منها، أو للاستعداد للاستيلاء على المدينة متى أتيحت لهم الفرصة أثناء حصارهم لها.
هكذا ظن عدو الخير إبليس خلال قوات الظلمة التي بذلت كل الجهد، ووضعت كل الخطط ألا يفلت السيد المسيح من الموت، بل وحتى بعد موته ودفنه طلبوا حراسة مشددة على القبر، ووُضع ختم حتى لا يدَّعى تلاميذه أنه قام كما سبق وقال.
حوصرت المدينة حتى سقطت. أما بالنسبة لإرميا فكرمزٍ للسيد المسيح، فحاصره الجميع: الملك والكهنة ورجال الدولة والأنبياء الكذبة والشعب حتى أهل قريته اتهموه بالخيانة الوطنية.
بنى عليّ أو ضدي، صار الآب كعدو لابنه وحيد الجنس، لأنه يمثل البشرية الساقطة مع أنه بلا خطية وحده، وهو واحد مع الآب في الجوهر.
"وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ". سبق أن حذرهم موسى النبي من الانحراف وراء الآلهة الغريبة، على مستوى الفرد أو الجماعات، قائلًا: "لئلا يكون فيكم رجل أو امرأة أو عشيرة أو سبط قلبه اليوم منصرف عن الرب إلهنا، لكي يذهب ليعبد آلهة تلك الأمم، لئلا يكون فيكم أصل يثمر علقمًا وأفسنتينا" (تث 29: 18). وأيضًا يقول إرميا النبي: "أسقانا ماء العلقم، لأننا قد أخطأنا إلى الرب (ار 8: 14). كما يحذرنا معلمنا بولس: "ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله، لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع انزعاجًا، فيتنجس به كثيرون" (عب 12: 15). فإن الخطية تثمر "علقمًا وأفسنتينًا". وإذ حمل السيد المسيح خطايانا، قال على لسان المرتل: "يجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21).
حتى إن وجد جذر من هذا النوع (المُرّ) لا تدعه ينمو بل اقطعه، حتى لا يحمل ثمره الخاص به، وحتى لا ينجس الآخرين أيضًا ويفسدهم.
بسبب صالح دعا الخطية مرارة، فإنه لا يوجد شيء ما أكثر مرارة من الخطية +++ القديس يوحنا الذهبي الفم
من بين الأمور الأخرى التي تنبأوا بها عنه، مكتوب: "يجعلون في طعامي علقمًا (سمًا)، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). نحن نعرف في الإنجيل كيف حدثت هذه الأمور. أولًا قدموا علقمًا. أخذه وذاقه وتفله. فيما بعد وهو على الصليب معلقًا، فلكي تتحقق هذه النبوات قال: "أنا عطشان" (يو 19: 28). أخذوا إسفنجة مملوءة خلًا ووضعوها على قصبة، وقدموها له حيث كان معلقًا. أخذها وقال: "قد أكمل" (يو 19: 30). ماذا يعني: "قد أكمل"؟ كل ما قد تنبأوا به عني قبل آلامي قد تحقق ++ القديس اغسطينوس
أَسْكَنَنِي فِي ظُلُمَاتٍ كَمَوْتَى الْقِدَمِ.
لعله يشير هنا إلى موقف الرؤساء حين كان يحذر بالسقوط تحت السبي ، إذ قالوا للملك: "ليُقتل هذا الرجل، لأنه بذلك يُضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة وأيادي كل الشعب". فسلمه بيدهم، فألقوه في جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن، ولم يكن في السجن ماء، بل وحل، فخاص إرميا في الوحل (إر 38: 1-6).
نبوة عن دفن السيد المسيح في قبرٍ (مي 7: 8)، وبالنسبة لإسرائيل فقد اختاروا الظلمة ورفضوا النور الإلهي.
"أسكنني في ظلمات كموتى القدم". يا للعجب فإن ذاك الذي هو القيامة والحياة، والذي بسلطانه أقام موتى، من أجلنا يدخل إلى الموت كما في الظلمات. يقول القديس مار أفرام السرياني إنه الحمل الذي افترسه الموت كذئبٍ، لكن لم يكن ممكنًا للموت أن يحبسه فيه، ففجرَّ معدة الموت، وأطلق الذين سبق أن افترسهم وحبسهم في معدته.
سلم الرب جسده للموت، لكي نتقدس خلال مغفرة الخطايا التي تتحقق برش دمه...
يلزمنا أن نشكر الرب من الأعماق، لأنه أخبرنا عن الأمور الماضية، وأعطانا حكمة بخصوص الأمور الحاضرة، ولم يتركنا بغير فهمٍ بخصوص الأمور المستقبلة ++ الرسالة إلى برناباس
الموت أقام الموتى من الموت، إذ حمل اللعنة مخلصًا إيانا منها +++ القديس يوحنا الذهبي الفم
سَيَّجَ عَلَيَّ،فَلاَ أَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ.ثَقَّلَ سِلْسِلَتِي.
إذ حدث السبي البابلي صار يهوذا كمن في سجن مغلق لا رجاء له في الخروج منه. "سيَّج حولي"، كسجين مجرم مقيد بالسلاسل حتى لا يهرب. لقد اقتادهم الكلدانيون مربوطين بسلاسل كسبايا إلى بابل.
أحكم الكلدانيون الحصار حول أورشليم، حتى صار مصيرها الدمار الشامل، لا يفلت أحد من الجوع والأوبئة في الداخل، والسيف في الخارج. وإن أرادوا بقاء أحد لخدمتهم ففي مذلة يقودونه إلى السبي، أو يتركونه في أعمال حقيرة مقابل جزية ثقيلة.
قيل عن مملكة إسرائيل الزانية: "لأن أمهم قد زنت... قالت: أذهب وراء محبيّ الذين يعطون خبزي ومائي وصوفي وكتاني، زيتي وأشربتي، لذلك هانذا أسيج طريقكِ بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها" (هو 2: 5-6). هذا قد يليق بزانية تُصر على الخروج من وراء رجلها. أما أن يُحاط السيد المسيح بالأشرار كما بسياجٍ، ويربط كمن يود الهروب، وهو القدوس الذي جاء بإرادته ومسرة أبيه لخلاص العالم، فهذا يمثل صورة غاية في الألم، الأمر الذي قبله برضاه حبًا فينا.
قبل السيد المسيح أن يُحاكم ويصلب، لكي نتبرر فيه ونتحرر.
"سيَّج عليّ، فلا استطيع الخروج، ثقل سلسلتي". بلا شك أن موت الصليب، من أصعب أنواع الموت. حسبوه قد سيَّج الله حوله فلا يستطيع أن يخلص نفسه من الموت، ولا أن يخرج من الهاوية بل يبقى مربوطًا في سلاسلها.
"كان المجتازون عليه يسخرون به قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك. وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتّكل على الله فلينقذه إن أراده" (مت 27: 40-43).
رأوه قائمًا من القبر ومع ذلك لم يريدوا أن يؤمنوا أنه كان قادرًا أن ينزل من خشبة الصليب. أين هو افتقاركم للإيمان أيها اليهود؟ فإنني أستدعيكم أنتم أنفسكم قضاة لأنفسكم! كم بالأكثر يكون مستحقًا للدهشة أن يقوم ميت من بين الأموات عن أن يختار الحيّ أن ينزل من الصليب! لقد طلبتم أمرًا صغيرًا فحدث ما هو أعظم، لكن افتقاركم للإيمان لم يكن ممكنًا أن يُشفى بالآيات أكثر مما رأيتم ++ القديس جيروم
بالحق أراد المخلص ربنا أن يُعرف مخلصًا لا بخلاص نفسه بل بخلاصه الآخرين. فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بإبراز مهارته مع المرضى. هكذا الرب بكونه المخلص لا يحتاج إلى خلاص نفسه. فليس بنزوله من على الصليب يصير مخلصًا بل بموته. فإنه بالحق يتحقق خلاص عظيم للبشرية بموته أكثر من نزوله عن الصليب ++ القديس البابا أثناسيوس الرسولي
أَيْضًا حِينَ أَصْرُخُ وَأَسْتَغِيثُ، يَصُدُّ صَلاَتِي.
إذ صرخوا حين سقطوا تحت السبي، لم يسمع الله لصرخاتهم، لأنها لم تكن عن توبةٍ صادقة، واشتياق للرجوع إلى الله.
إذ صار السيد المسيح ممثلًا البشرية، يدفع ثمن عصيانها، صرخ: "إلهي إلهي، لماذا تركتني؟"، صار كمن قد صُدت صلاته!
لم يكن المسيح متروكًا من الآب ولا من لاهوته كما يظن البعض، أو كما لو كان خائفًا من الآلام فانفصل بلاهوته عن ناسوته أثناء آلامه...؛ وإنما كما قلت إنه كان ينوب عنا في شخصه. نحن كنا قبلًا متروكين ومرذولين، أما الآن فبآلام ذاك الذي لا يسوغ له أن يتألم (حسب اللاهوت) أقامنا وخلصنا ++ القديس غريغوريوس النزينزي
ماذا يعني ربنا؟ الله لم يتركه إذ هو نفسه الله... فلماذا استخدم هذه الكلمات لو لم نكن نحن حاضرين (فيه)، لأن الكنيسة هي جسد المسيح (أف 1: 23)؟ ماذا يقصد بقوله: "إلهي إلهي لماذا تركتني" إلا أن يستلفت أنظارنا، قائلًا لنا: "هذا المزمور إنما كُتب عني؟"
بموت البار الذي تم بمحض اختياره، نزع موت الخطاة الذي حدث بالضرورة كحكمٍ نستحقه ++ القديس أغسطينوس
اختار أن يمشي في جميع طرق البشر حتى دخل في باب الموت ليحل آدم! بدأ بالميلاد وكمل الطريق حتى التقى بالموت!
سار بتواضعٍ بوطأة آدم، إلى حيث سقط آدم في أعماق الهاوية، فدخل هو وسقط من أجله وجذبه وخرج. ++ القديس يعقوب السروجي
سَيَّجَ طُرُقِي بِحِجَارَةٍ مَنْحُوتَةٍ.قَلَبَ سُبُلِي.
بالنسبة لمن يرفض السير في طريق الله، فإن الله يسيج حوله ليعوقه عن السلوك في الشر، ويرجع إلى طريق الحق.
"لرجلٍ قدْ خفي عليْه طريقه، وقدْ سيّج الله حوْله" (أي 3: 23). لم يكن له أمل في تحسين حاله؛ لم يرَ بابًا للنجاة، ولا طريقًا يسلكه، إذ كان الله قد سيَّج حوله، فصار كمن في موضعه عاجزًا عن الحركة. وكما قيل في هوشع: "هأنذا أُسيج طريقك بالشوك، وأبني حائطها، حتى لا تجد مسالكها" (هو 2: 6).
"سيج طرقي بحجارة منحوته. قَلَبَ سبلي"، إنه كمن وُضع في طريقه عوائق لا يمكن أن تُقهر، وكمن يُمنع بكل الطرق من وجود منفذٍ للخلاص مما هو فيه.
هُوَ لِي دُبٌّ كَامِنٌ،أَسَدٌ فِي مَخَابِئَ.
إذ تحل الضيقة بالبار، يسبح الله ويطلب مراحمه، أما الشرير فيحسبه دبًا كامنًا. أو أسدًا في مخابئ يطلب افتراسه.
إذ قبل السيد المسيح بسرورٍ أن يحمل عار الصليب عوضًا عنه، يرى فيما حلّ به كإنسانٍ كأن دبًا أو أسدًا يود افتراسه. إنه تألم حقًا، ولم تكن الآلام بلا تعب لجسده ونفسه كإنسانٍ، أما من جهة خطته مع الآب وتدبيره الإلهي فهي موضع سروره!
أنا نفسي كنت فريسة الأسد، عندما أمسك بي وقادني للموت، وهو يزأر: "أصلبه، أصلبه" (يو 19: 6).
"أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني" (مز 22: 12). هؤلاء هم الشعب وقادته؛ الشعب أو الثيران التي بلا عدد؛ وقادتهم الثيران القوية. ++ القديس اغسطينوس