من كتاب قابين وهابيل +++ ذنبي اعظم من ان يحتمل ++ البابا شنودة الثالث


كتاب قايين وهابيل +++ البابا شنودة الثالث

ذنبي أعظم من أن يُحتمَل

أيهما لاقى العذاب أكثر: قايين أم هابيل.

هابيل قاسى الألم ربما لحظة أو لحظات. ضربة قاتلة أصابته فمات. أما قايين فإنه عاش العمر كله يتألم ويتعذب ويحطمه القلق والخوف والرعب والإضطراب. هابيل تألم بالجسد قليلًا. أما قايين فإن نفسه تعذبت من الداخل، ولا شك أن عذاب نفسه كانت له نتائجه على الجسد أيضًا..

هذه إحدى عقوبات الخطية التي تطارد الإنسان.

" فقال قايين للرب: ذنبي أعظم من أن يحتمل. أنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك أختفي. وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني.

نلاحظ هنا أن عبارة " ذنبى أعظم من أن يحتمل " لم تكن عبارة توبة، إنما خوف من العقوبة.

أي أن العقوبة أعظم من احتماله، عقوبة أن يكون تائها وهاربًا في الأرض، ومهددًا من كل أحد بالقتل.. لذلك فإن الله الرحوم، الذي يشفق حتى على القلوب القاسية إذا ما تذللت أمامه، طمأن قايين الخائف " وجعل له علامة لكي لا يقتله كل من وجده" (ع 15). بل قال له أيضا " كل من قتل قايين، فسبعة أضعاف ينتقم منه".
ونلاحظ أن قايين لم يطلب مغفرة لخطيئته، بل أنه لم يقل عبارة أخطأت. كل ما أتعبه هو العقوبة..

وإذ جعل الرب علامة لكي لا يقتله كل من وجده، "خرج قايين من لدن الرب، وسكن في أرض نود". وسكن معه الخوف والرعب كل أيام حياته. لقد قتل أخاه في لحظات. ولكن الخوف ظل يقتله كل يوم وكل ساعة وكل لحظة.. وظلت خطيئته أمامه كل حين، لا تقوده إلى التوبة إنما تحطمه بالخوف. فمن أخذ بالسيف يؤخذ..

هناك مجرمون يتمنون العقوبة، هربًا من الانزعاج الداخلي. وقد يسلمون أنفسهم للعدالة ويعترفون غير محتملين عذاب الضمير أو عذاب النفس.
داود، قد غفر له الله خطيئته، ونقلها عنه (1 صم 12) وسامحة من جهة العقوبة الأبدية. ولكن بشاعة الخطيئة ظلت أمامه في كل حين (مز 50)، وبسببها كان يبلل فراشه بدموعه (مز 60)، ويمزج شرابه بالدموع..

وظل قايين يطارده الخوف، وترن في أذنيه كلمات الرب " تائهًا وهاربًا تكون في الأرض".

وأصعب من طرده من وجه الأرض، أنه طرد من وجه الله أيضًا، فمن وجه الله يختفي..

فالخطية هي إنفصال عن الله..

والخاطئ الذي ينفصل بخطيئته عن الله. يختفي الله من حياته، ويختفي هو من أمام وجه الله. يوجد حاجز كبير بينه وبين الله. ويشعر بهذا الفاصل، وبفقد الدالة ومشاعر الحب..
ولا ينكسر هذا الحاجز إلا بالتوبة، فيصرخ الإنسان قائلًا للرب: إلى متى تحجب وجهك عنى (مز 12)

ولكن الكتاب لم يقل إن قايين قد تاب، ولم يقل إنه عاد فاصطلح مع الله. ولم يقل إن اللعنة زالت عنه، أو أن الرب عاد فرضى عليه. لقد كان أول إبن لآدم وحواء بعد خطيئتهما، وللأسف كان ابنًا للهلاك. كان أول قاتل، وأول إنسان ملعون، وأول إنسان استحق العقوبة الأبدية، إلى جوار عقوبته على الأرض.

إنه لم يقتل هابيل، إنما في الواقع قد قتل نفسه.. وهابيل لم يمت، بينما قايين هو أول إنسان مات، موتًا أبديًا.

هل تظنون أن هيرودس قد قتل يوحنا المعمدان؟ أم الواقع أن هيرودس قد قتل نفسه. قتل روحه وحياته وأبديته. أما يوحنا فهو حي في الفردوس يتنعم..

إن الإنسان الذي يخطئ إلى غيره، إنما يخطئ إلى نفسه.

وما أقل الخطاة، الذين يشعرون أنهم يحطمون أنفسهم..