تامل من هول الليل (نش 3: 7، 8) ++ البابا شنودة الثالث




من كتاب تأملات في سفر نشيد الأناشيد +++ البابا شنودة الثالث
جبابرة.. متعلمون الحرب.. قابضون سيوفًا..
من هول الليل (نش 3: 7، 8)
جبابرة.. متعلمون الحرب، قابضون سيوفا.. من هول الليل (نش 3: 7-8)
جبابرة الروح:
الذين يحبون حياة الروح، ينبغي أن يكونوا جبابرة فيما يخوضونه من حروب روحية، ضد الشيطان وكل قواته الشريرة.
يخيل إلي أنه حينما يرسل الشيطان واحدا من جنوده ليحارب أحد هؤلاء الجبابرة القديسين، يصرخ ذلك الشيطان في فزع:
أتريد أن يحرقني بنار؟! لست أستطيع أن اذهب لمقاتلة هذا الإنسان الذي سيقابلني بسلاح الله الكامل.. بسيف الروح، وخوذة الخلاص، ودرع البر، وترس الإيمان.. بكلمة الله، وما يرفعه من صلاة وطلبة بكل مواظبة (أف 6: 13-18). إبعدوني عن محاربة أمثال هذا الجبار، فلست كفؤا له
إنهم جبابرة، كلهم حاملون سيوفا، ومتعلمون الحرب. وفي استعداد كامل ليستل كل واحد سيفه من علي فخذه من هول الليل.
وقد شرح القديس بولس الرسول هذه الحرب الروحية، ودعا إلي الإستعداد لها في رسالته إلي أفسس فقال:
أخيرا يا أخوتي، تقووا في الرب، وفي شدة قوته. ألبسوا سلاح الله الكامل، لتقدروا أن تثبتوا ضد مكايد الشيطان. فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم.. بل مع أجناد الشر الروحية في السماويات.. من أجل ذلك أحملوا سلاح الله الكامل، لتقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير. وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق.." (أف 6: 10- 14).

ومن أهمية هذه النصيحة الرسولية، يقرأ هذا الفصل من رسالة معلمنا بولس، في طقس رسامة الرهبان الجدد الذين يستعدون لخوض حرب روحية ضد الشيطان بكل حيله الرديئة، الماكرة والعنيفة. علي أن هذه النصيحة التي يقولها القديس بولس تصلح لجميع الناس في حياتهم الروحية.

حاملون سيوفا:

مادام الشيطان لا يترك اولاد الله في هدوء، بسبب حسده لهم علي سلوكهم الطريق الروحي، إذن ينبغي أن يكونوا ساهرين باستمرار ومستعدين لقتاله. وهم يحملون سيوفهم الروحية. فشيطان يحاول أن يضللك، تحاربه بسيف الحكمة. وإن أنتصرت عليه وحاربك بالكبرياء, تلاقيه أنت بسيف الإتضاع. وفي كل ما يقدمه لك من أفكار، تحاربها بسيف كلمة الله في إفراز، وأيضا بأقوال القديسين وخبراتهم في مقاتلة الشياطين.
عموما يمكنك ان تستخدم سيف الصلاة ففيه قوة الله. وكذلك سيف الجهاد والتغصب، ففيه رفضك للخطية ومصارعتك ضدها. وتذكر قول المزور:
"قلد سيفك علي فخذك أيها الجبار. استله وأنجح وأملك" (مز 45: 3). وعبارة "سيفك علي فخذك" تعني الإستعداد.

ليس هو سيف معلقا في خزانة الأسلحة، وإنما هو علي فخذك، كهؤلاء الجبابرة. تستطيع أن تستله في أي وقت، وتحارب حروب الرب في يقظة دائمة واستعداد.. فمثلا كلمة الله التي ترد بها علي كل حرب روحية، ليست هي في كتبك ومكتبك، إنما هي ذهنك، وفي ذاكرتك باستمرار، تستخدمها وأنت تتذكر قول داود النبي للسيد الرب "لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي" (مز 119).. إنها سيف علي فخذك..
إنك لا تسمح للخطية أن تحاربك، وأنت في حالة غفلة وتهاون.
فاولاد الله: كل واحد سيفه علي فخذه، من هول الليل.

هول الليل:

والليل يشير إلي الظلام، كرمز إلي الخطية وحروبها الخفية، حيث لا نور ولا حرارة. فيكون هذا وقتا مناسبا لعدو الخير يهجم فيه. وقد يعني الليل وقت النوم، حيث لا يكون الإنسان منتبها لحرب تأتيه وهو غير منتبه لها وغير مستيقظ. هذا هو هول الليل، هول الخطايا التي تأتي في الظلام ولا تنتبه النفس لها، لأن البصيرة الروحية غير قوية.

أما أولئك الجبابرة، فهم ساهرون، متنبهون، كل واحد سيفه علي فخذه من هول الليل. كالرعاة في قصة ميلاد الرب، الذين قيل عنهم إنهم:

"يحرسون حراسات الليل علي رعيتهم" (لو 2: 8).

لذلك لا تطمئن من جهة الحرب الروحية، بل تقلد سيفك علي فخذك.

لا تهمل في احتياطاتك. لا تقل إنك الان في حالة قوة، وقد مرت عليك أسابيع لا تسقك خلالها!! فأنت لا تعرف متي يحاربك الشيطان، وفي أية خطية، وكيف؟!

ليكن سيفك إذن علي فخذك من خوف الليل، من الحرب المجهولة في نوعها وفي موعدها. لتكن صلاتك باستمرار في قلبك وعلي لسانك. ولتكن كلمة الله في ذهنك وذاكرتك. ولتكن تداريبك الروحية سائرة في حزم كل حين. لا تلق سلاحك عنك..

بل كن قابضا علي سيفك من هول الليل.

ليتنا نكون من هؤلاء الحبابرة، القابضين علي سيوفهم، حتى يمكن أن يقودنا الله في موكب نصرته (2 كو 2: 14) متجاوبين مع نعمته.
ليتنا نكون من أولئك الغالبين الذين طوبهم الرب وأعطاهم وعوده (رؤ 2، رؤ 3).. لا ننهزم في الحروب. وإن انهزمنا في معركة، ننتصر في المعركة التي تليها، قائلين مع النبي " لا تشمتي بي يا عدوتي. فإني إن سقطت، أقوم" (مي 7: 8). و"الحرب للرب" (1 صم 17: 47). " وليس عند الله مانع من أن يخلص بالكثير وبالقليل" (1 صم 14: 6).

و الله قادر أن ينصرنا علي الرغم من ضعفنا..
غير أنه يجب أن تكون لنا خبرة بالحروب الروحية.
فقد قيل عن أولئك الجبابرة القابضين علي سيوفهم إنهم:

متعلمون الحرب:

أي أن لهم دراية بالحروب الروحية. لا يجهلون حيل الشيطان، بل يعرفون أفكاره (2 كو 2: 11). يعرفون من أين تأتي الخطية؟ وما وسيلة مقاومتها؟

إن حاربك الشيطان بالكسل، تقاتله بالتغصب. وإن حاربك بالمجد الباطل، ترد عليه بتذكر خطاياك وضعفاتك. وإن حاربك باليأس، تتذكر مراحم الله التي لا تحصي. وإن حاربك بصعوبة الطريق. تذكر عمل الروح القدس، والمعونة الإلهية التي تمنحها النعمة. وأنت لست وحدك.
أحد القديسين كان – إذا حاربه الشيطان بالمجد الباطل - يقول: ألعلي بلغت ما بلغه الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا؟! إنني إنسان خاطئ مهمل في روحياتي.. وإن قال له الشيطان: " أنت إنسان خاطئ، وأجرة الخطية هي موت".. يجيبه: "وأين مراحم الله الذي يغفر للخطاة؟!". فكانوا يتعجبون منه قائلين: "إن رفعناك، اتضعت، وإن وضعناك ارتفعت!!".

إنه واحد من المتعلمين الحرب. يعرف نوع السلاح الصالح لاستخدامه في كل نوع من أنواع الحروب.
الإنسان المتعلم الحرب, يعرف ضربات اليمين وضربات الشمال..
يعرف متى يصمت ومتى يتكلم؟ متى يأكل ومتى يصوم؟ يعرف الطريق الوسطي التي خلصت كثيرين. ومتي يقف في موقف سليم، بين الإفراط والتفريط.
يقول القديس بولس الرسول "في كل شيء وفي جميع الأشياء، قد تدربت أن أشبع وأن أجوع. أن استفضل وأن أنقص" (في 4: 12).
هناك أشخاص ليسوا فقط متعلمين الحرب، وإنما صاروا بالأكثر قادة في الحروب. يشرحون لغيرهم الطريق، ويرشدونهم فيه.

القديس مار أوغريس له كتاب عن محاربة الأفكار، يشرح فيه أنواع الأفكار: التي من الله، والتي من النفس، والتي من الشيطان. ويشرح طريق الرد علي كل فكر خاطئ مستخدما آيات الكتاب.

وثيؤفان الناسك له كتاب عن "الحروب الروحية". والقديس يوحنا الأسيوطي له مقالات عديدة في هذا المجال. وكذلك مار اسحق، والشيخ الروحاني لهما ميامر كثيرة تحت عنوان "رؤوس المعرفة " يشرحان فيها معرفة الطريق الروحي، ويعلمان أولادهما الحرب.

والقديس الأنبا أنطونيوس كان يعلم أولاده " الإفراز".

أي التمييز والمعرفة، لكي يتعلموا الحرب. و في إحدي المرات قال لتلميذه القديس بولس البسيط الذي كان يسكن بجواره " اذهب واسكن إلي بعيدا في مغارة وحدك، لكي تختبر حروب الشياطين". والقديس يوحنا الرسول يكتب لنا ويقول " لا تصدقوا كل روح. بل إمتحنوا الأرواح هل هي من الله." (1 يو 4: 1). وكذلك القديس بولس الرسول نصح الناس ألا ينخدعوا بحيل الشياطين ومناظرهم. " لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلي شبه ملاك نور.
وكان هذا هو عمل المرشدين الروحيين واباء الإعتراف:

يجلس معهم المبتدئ لكي يتعلم الحرب، ويميز الأرواح، ويفصل الجداء من الخراف" (مت 25: 32). ويعرف صوت الله من صوت عالي (1 صم 3: 4- 10). بل يعرف أيضا الأحلام والرؤي: وهل هي من الله؟ أم من الشيطان؟ أم من مصدر اخر؟ ويعرف نوع السلاح الذي يستخدمه في كل حرب روحية..
الإنسان المتعلم الحرب، يتفادي السقوط. وإن سقط بسرعة. بل بسرعة يقوم. ولا يتكرر سقوطه. ويكتسب درسا من كل سقطة.

كما قال أحد القديسين: "لا أتذكر أن الشياطين أطغوني في خطية واحدة مرتين".. والتعلم الحرب له خبرات في الحيلة الروحية. لقد درس الطريق وعرف علاماته ومعالمه. ويستطيع أن يرشد غيره في الطريق.

الشيطان حيله كثيرة وماكرة. ولكنها مكشوفة أمام المتعلمين الحرب.

إنهم لا يجهلون حيله، بل يدركونها من بعيد مهما لبست ثياب الحملان (مت 7: 15). يعرفون وسائله وطرقه وأساليبه. ويستنتجون مواعيد هجومه. كل خططه مكشوفة أمامهم. مخابراتهم الحربية تدرك كل أعماله, وتعرف كل جنوده. هؤلاء هم المتعلمون الحرب, الذين يربطون الشيطان ويطردونه. ولا يكون له موضع فيهم.

و القديسون يتعلمون الحرب: لا بطول مدتها، وإنما بعمق خبرتها:

يتعلمون الحرب بالحرب, وبالتدقيق والحرص، وبالمعرفة والحكمة. وبما يكشفه لهم الرب. وبما يمتصونه من روح الاباء والمعلمين والمرشدين, بكثرة المشورة. وبما يأخذونه من التأمل. وبما يمنحهم الرب من حكمة نازلة من فوق (يع 3: 17).