من تاملات يوحنا 2 +++ القمص تادرس يعقوب
معجزة تحويل الماء الي خمر
"ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له:ليس لهم خمر".
لم يذكر الإنجيلي أن القديسة مريم قد دُعيت للعرس، بل دُعي يسوع وتلاميذه الخمسة (حتى ذلك الحين)، لكنها كانت حاضرة غالبًا بكونها أحد أفراد العائلة.
إذ يُدعى السيد المسيح للحضور بالصلاة، يحل ومعه قديسيه (تلاميذه) ليحول الفرح إلى الكنيسة مقدسة، ويفيض على العروسين وكل الحاضرين من ينابيع فرحه السماوي.
ربما يتساءل البعض: مادام السيد المسيح لم يفعل قبلًا معجزات، فكيف عرفت القديسة مريم أنه قادر أن يقدم للعرس خمرًا بطريقةٍ معجزية؟
لم يكن قد صنع السيد المسيح عملًا معجزيًا علانية من قبل، غير أن القديسة مريم وقد عرفت إمكانياته الإلهية وصلاحه وترفقه بالغير توقعت أنه حتمًا يفعل شيئًا لكي لا يوجد نقص في العرس. إنها تدرك أنه لابد من تدخله عند الضرورة لسد الاحتياجات.
يليق هنا التساؤل من أين جاء في ذهن أمه أن تتصور في ابنها أمرًا عظيمًا، إذ لم يكن بعد قد صنع أية معجزة، حيث يقول الإنجيلي: هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل" .. الحبل به نفسه والظروف المحيطة به قد أوحى لها بفكر عظيم للغاية من جهة الطفل، إذ قال لوقا: "إذ سمعت كل الأقوال عن الطفل كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها” (راجع لو 2: 51) ++ القديس يوحنا الذهبي الفم
"ليس لهم خمر" : هذا هو حال إسرائيل إذ زالت عنهم بهجة الخلاص. وكما يقول يوئيل النبي: "اصحوا أيها السكارى وابكوا وولولوا يا جميع شاربي الخمر علي العصير، لأنه قد انقطع عن أفواهكم" (يؤ 1: 5). لقد اكتشفت أم يسوع، ابنة إسرائيل، ما حل بكل شعبها، فصرخت إلي العريس السماوي الذي وحده قادر أن يفيض حياض المعاصر خمرًا وزيتًا (يؤ 2: 24). باسم البشرية كلها رددت قول أبيها داود النبي: "رد لي بهجة خلاصك" (مز 51).
ما أعلنته القديسة مريم إنما خلال خبرتها بالعرس الروحي الجديد الذي تحققت منه حين أحنت رأسها، وقبلت تجسد الكلمة في أحشائها، فصارت أعماقها حفل عرس لا يُعبر عنه، إذ ترنمت قائلة: "تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لو 1 : 46). هذا هو خمر الله الذي يبهج الروح، ويرد المجد والبهاء، ليحيا المؤمنون في عرس لا ينقطع. "كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك" (إش 6: 5).
تصرف القديسة مريم يكشف عن أمومة المؤمن واهتمامه بسد احتياجات الغير وليس احتياجاته هو، وأنه يلجأ أولًا إلى الينبوع لينال منه بفيضٍ بما يفوق الطبيعة. وأن يقدم الطلب بروح التواضع حيث يعرض الإنسان الموقف دون أن يضع الحَلْ لله كما لو كان أكثر منه حكمة أو حبًا للآخرين.
اللَّه السخي جدًا لا يحتقرنا نحن الذين نجاهد جائعين إلى خيراته ++ القديس كيرلس الكبير
"قال لها يسوع:ما لي ولك يا امرأة؟
لم تأتِ ساعتي بعد".
لم يلقِ السيد المسيح باللوم على العروسين أو أهلهما لأنهم لم يعدوا خمرًا كافيًا، ولم يلم والدته لأنها تدخلت في الأمر، إنما أوضح لها أن لكل عمل وقته أو ساعته المناسبة.
يتعجب البعض كيف يدعو يسوع أمه "يا امرأة" لكن هذه الدهشة تزول حين نراه علي الصليب يكرر: "يا امرأة هوذا ابنك"، فهو يتحدث معها في بدء خدمة الآيات التي تمثل إشارة لبدء حمل الصليب، حيث يُستعلن شخصه فتثور قوى الظلمة ضده لتخطط لموته.
فهو لا يتحدث معها بكونها أمه، لأنه ليس من حقها أن تحدد ساعة الصليب، إنما هذا حق الآب الذي أرسله. فقد جاء يتمم مشيئة الآب ببذل ذاته من أجل خلاص العالم.
حقا لقد رافقته القديسة مريم في أول معجزة وهي لا تدري إنها بدء ساعة الصليب، وبقيت معه حتى لحظات الصليب بكونها ممثلة للكنيسة، حواء الجديدة المرافقة لآدم الثاني في طريق آلامه، حتى يسكب بهاء مجده عليها. لقد قيل لها بعد الحبل بالسيد المسيح: "يجوز في قلبك سيف"، وقد بدأ يخترق قلبها في عرس قانا الجليل ليحمل جراحات الحب!
لم يقل "يا أماه" بل "يا امرأة"، لأن ما يمارسه بخصوص تحويل الماء خمرًا لا يصدر بكونه إنسانًا أخذ جسدًا منها، وإنما بعمل لاهوته. حقًا ليس انفصال بين لاهوته وناسوته، وما يمارسه السيد المسيح هو بكونه كلمة الله المتجسد، لكن بعض الأعمال هي خاصة به كابن الله الوحيد، والبعض بكونه ابن الإنسان.
لماذا قال "لم تأتِ ساعتي بعد" وقد قام في نفس الساعة بعمل المعجزة؟ لقد أوضح لها أن ساعته للقيام بآيات علنية ومعجزات عامة أمام الجميع لم تأتِ بعد، لكنه يعمل دومًا. وقد تمم الآية في هدوء بعد أن قدم الخدام الأجران حتى أن رئيس المتكأ والعريس لم يعرفا ذلك وإنما الخدام وحدهم .
لكي تتأكد من احترامه العظيم لأمه استمع إلى لوقا كيف يروي أنه كان "خاضعًا لوالديه" (لو 2: 51)، ويعلن إنجيلينا (يوحنا) كيف كان يدبر أمرها في لحظات الصلب عينها. فإنه حيث لا يسبب الوالدان أية إعاقة في الأمور الخاصة بالله فإننا ملتزمون أن نمهد لهما الطريق، ويكون الخطر عظيمًا إن لم نفعل ذلك. أما إذا طلبا شيئا غير معقول، وسببا عائقًا في أي أمر روحي فمن الخطر أن نطيع! ولهذا فقد أجاب هكذا في هذا الموضع، وأيضًا في موضع آخر يقول: "من هي أمي؟ ومن هم اخوتي؟" (مت 12: 48)، إذ لم يفكروا بعد فيه كما يجب. وهي إذ ولدته أرادت كعادة بقية الأمهات أن توجهه في كل شيء، بينما كان يلزمها أن تكرمه وتسجد له، هذا هو السبب الذي لأجله أجاب هكذا في مثل هذه المناسبة.
لقد اهتم بالغير واستخدم كل وسيلة ليغرس فيهم الرأي السديد الخاص به، فكم بالأكثر كان يليق به أن يفعل ذلك مع أمه.++القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح كان يود أن يأتي الطلب من الذين كانوا في حاجة إلى ذلك وليس من أمه. لأنه إن كان ما يفعله يقوم علي طلب صديق له فمع كونه أمرًا عظيمًا لكن قد يتشكك البعض في الأمر، أما إذا سأل المحتاجون ذلك فلا يحوم الشك حول المعجزة، ويكون النفع أعظم. يشبه القديس الذهبي الفم السيد المسيح بطبيبٍ ماهرٍ متى دخل منزلًا به مرضى كثيرون فإنه إن تحدث مع أمه ولم يتحدث مع أحد المرضى أو مع أقربائهم يتشككون فيه ويتضايق المرضى.
أراد أن يظهر أنه يعمل كل الأشياء في وقتها المناسب، ولا يفعل كل شيء في الحال... إنه ليس ملتزمًا بالضرورة للأزمنة، لكنه هو الذي وضع نظام الفصول، إذ هو خالقها. لذلك يقول: "ساعتي لم تأتِ بعد". وهو يعني بهذا أنه لم يكن قد أعلن بعد لكثيرين، ولم يعد بعد له خورس تلاميذه.
علاوة على هذا فإنني يجب أن أُخبر بذلك ليس منكِ، أنتِ أمي، فسيُشك في المعجزة. يليق بالذين يريدون الخمر أن يأتوا ويطلبوا مني ليس لأني محتاج إلى ذلك، ولكن لكي بإجماعهم الكامل يقبلون المعجزة.
فإن الذي يعرف أنه في عوز يصير شاكرًا عندما ينال عونًا، أما الذي ليس لديه الإحساس بالاحتياج لن يكون لديه إحساس واضح بالمنفعة التي نالها"
فمع كونه حريصًا علي تكريم أمه، إلا أنه كان بالأكثر مهتمًا بخلاص نفسها، ويصنع ما هو صالح للكثيرين، الأمر الذي لأجله أخذ لنفسه جسدًا. كلماته إذن لم تكن صادرة عن من يتكلم بجفاءٍ مع أمه، بل بمن هو حكيم في تدبيره، فيدخل بها إلي الفكر السليم، ولكي يجعل معجزاته تُقبل بالكرامة اللائقة بها ++القديس يوحنا الذهبي الفم
لا يريد أن يتسرع في القيام بشيءٍ، لأنه لا يريد أن يظهر كصانع المعجزات للذي لا يطلبه، بل ينتظر حتى يدعوه المحتاجون لا الفضوليون، فهو يعطي النعمة لمن يحتاج، وليس لمن يريد أن يتمتع بالمشاهدة. +++ القديس كيرلس الكبير
لم يكن رب الملائكة خاضعًا للساعة، إذ هو الذي خلق فيما خلق الساعات والأزمنة. لكن لأن العذراء الأم رغبت في أن يصنع معجزة عندما فرغت الخمر، لذلك للحال أجابها بوضوح كما لو قال: "إني أستطيع أن أفعل معجزة تأتي من عند أبي لا من عند أمي". فإن ذاك الذي في ذات طبيعة أبيه صنع عجائب جاءت من أمه، وهو أنه يستطيع أن يموت. وذلك عندما كان على الصليب يموت. لقد عرف أمه التي عهد بها لتلميذه قائلًا: "هذه أمك" (يو19: 27). إذن بقوله: "ما ليّ ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد" تعني "المعجزة التي ليست من طبيعتك لست أعرفك فيها. عندما تأتي ساعة الموت سأعرف أنكِ أمي إذ قبلت ذلك فيك أنني أستطيع أن أموت. ++ البابا غريغوريوس (الكبير)
وقد تبنى Bede ذات التفسير بقوله إن ما قاله السيد هو ليس شيئًا مشتركًا بين لاهوتي الذي ليّ دومًا من الآب وبين جسدك الذي أخذت منه جسدًا. لم تأتِ بعد ساعتي حيث بالموت أثبت الضعف البشري الذي أخذته منكِ. أولًا يليق بيّ أن أبرز قوة لاهوتي السرمدي بممارسة قوتي. لكن تأتي الساعة التي فيها يظهر ما هو عام بينه وبين أمه عندما يموت على الصليب ويهتم بأنه يوصي التلميذ البتول بالعذراء. عندما يتحمل الضعف البشري يتعرف على أمه الذي تسلم ذلك منها، ولكن حين يمارس الإلهيات يبدو كمن لا يعرفها، إذ يعرف إنها ليست مصدر ميلاده اللاهوتي.
"قالت أمه للخدام:مهما قال لكم فافعلوه".
لم تعاتب ابنها علي كلماته، لأنها أدركت السرّ علي الأقل جزئيًا. شعرت أيضًا بعلامات الرضى، فطلبت من الخدام الطاعة بما يوصيهم به السيد المسيح.
استخدم الإنجيلي الكلمة اليونانية "ذياكونيس" لتكشف أنهم خدام أسرار الله الذين يعمل بهم السيد المسيح لخدمة وبهجة شعبه. وكنيسة العهد الجديد تدعو الشمامسة: "ذياكونيين" الذين يقومون بخدمة المذبح مع خدمة الموائد (الاهتمام باحتياجات الفقراء والمرضي..).
في ثقةٍ بحب السيد المسيح للخدمة وحنوه تأكدت أنه حتمًا سيتصرف ويشبع كل نقص. لقد طلبت من الخدام أن يوجهوا أنظارهم إليه ويسمعوا له. هذا هو دور القديسة مريم وكل القديسين ألا وهو توجيه أنظارنا إلى مسيحنا والطاعة الكاملة له.
بدأت تعمل بأن هيّأت الخدم لكي يجتمعوا لإطاعة ما يأمر به دائمًا. ++ القديس كيرلس الكبير
لأنها عرفت أن استعفاءه من ذلك لم يكن عن نقصٍ في القوة لكن لتواضعه، وحتى لا يُظن أنه يفرض ذاته عليهم باختياره، متسرعًا في عمل المعجزة، لذلك قدمت الخدام إليه ++ القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في تصرف القديسة مريم درسًا عمليًا في المثابرة تقدمه لنا. فمع ما قاله لها ابنها يسوع لم تكف عن العمل بمثابرة، فقدمت له الخدام، وسألتهم الطاعة له.
وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود،يسع كل واحدٍ مطرين أو ثلاثة".
كانت تُستخدم ستة أجران حسب أيام الأسبوع من الأحد حتى الجمعة، كل جرن يخصص ليومٍ معينٍ للتطهير، أما السبت يوم العبادة والراحة فلا يمارس فيه الشخص عملًا يحتاج إلي تطهير.
ليس عجيبًا أن يحول السيد المسيح الماء إلى خمرٍ، فهو الذي يخرج من الأرض خمرًا (مز ١٠٩: ١٤-١٥)، حيث يهب الأرض أن تنتج كرومًا يُعصر عنبها ويتحول إلى خمر.
بدأ موسى معجزاته في الضربات العشر بتحويل الماء إلى دمٍ فيه مرارة وموت، لأن الكل كسروا الناموس، وصاروا تحت اللعنة والموت. أما السيد المسيح فحول الماء إلى خمر، حيث قدم رسالة الخلاص المبهجة. جاء المسيح لا ليدين العالم بل ليخلص، ويهب شبعًا وبهجة ومجدًا داخليًا. دعوته الإنجيلية هي: تعالوا إلى الماء واشتروا خمرًا (إش ٥٥: ١).
كانت هذه الأجران تُستخدم للتطهير، إذ لم يكن يجوز لليهودي أن يأكل ما لم يغتسل أولًا (مر ٧: ٣). كما كان هذا الماء يُستخدم في بعض الطقوس الأخرى الخاصة بالتطهير. وكان المثل السائد بين اليهود: "من يستخدم ماء أكثر في الاغتسال ينال صحة أوفر في هذا العالم".
كانت هذه الأجران للماء فقط لا يوضع فيها خمر، وكانت من الحجارة، حتى إذا وضع فيها خمر قبلًا لا يبقى له أثر، على عكس الفخار الذي قد يتشرب من السوائل القديمة وينضح على الجديدة. كانت الأجران من الحجارة، فقد رأى زكريا الحجر الموضوع أمام وجه يسوع عليه سبعة أعين (زك3: 9)، أي له معرفة روحية في المسيح يسوع. ورآه القديس بطرس الرسول حجرًا حيًا يُقام منه هيكل الرب (1بط4:2، 5).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إن الإنجيلي يؤكد إنها "حسب تطهير اليهود" ليدرك الكل أنه لم يوضع فيها خمر قط بل ماء للتطهير. كما يقول أن فلسطين بلد تُعرف بقلة المياه، فلا توجد القنوات والينابيع في كل موضع لهذا كانوا يملأون الأجران بالماء، حتى لا يسرعوا إلي الأنهار متى تدنسوا في أي وقت، بل يجدون وسائل التطهير بين أيديهم .
يرى البعض الأجران الستة تشير إلى أزمنة العالم الستة التي مرّت بالإنسانية حتى مجيء الرب في الزمن السابع (في الختم السابع في سفر الرؤيا)، وكأنها تشير إلى المؤمنين عبر كل الأجيال الذين يتطهرون من خطاياهم ويشربون خمر الروح المفرح. هذه العصور كما يقول القديس أغسطينوس هي
1. من آدم إلى نوح.
2. من نوح إلى إبراهيم.
3. من إبراهيم إلى داود.
4. داود إلى السبي البابلي.
5. من السبي البابلي إلى يوحنا المعمدان.
6. من يوحنا المعمدان إلى نهاية العالم.
يعود فيقول القديس أغسطينوس: أضف إلى هذا أن اللَّه خلق الإنسان على صورته في اليوم السادس، لأنه في العصر السادس أُعلن تجديد ذهننا بالإنجيل ليصير على صورة خالقه، وتحول الماء إلى خمرٍ، لنتذوق المسيح. هذا أُعلنه في الناموس والأنبياء. لهذا وجد ستة أجران وأمر أن تُملأ ماءً. الآن هذه الأجران الستة تعني العصور الستة التي لم تكن بدون نبوات. وهذه الفترات الست انقسمت وانفصلت كما بمفاصل، تبقى فارغة ما لم يملأها المسيح... يلزم أن يُفهم المسيح في كل النبوة.
ماذا يعني بقوله: "يسع كل واحدٍ مطرين أو ثلاثة" ؟ يقول القديس أغسطينوس أن كلمة مطر في اليونانيةmetrou هو قياس معين، وأن رقم اثنين يشير إلى الآب والابن، والثلاثة يشير إلى الثالوث القدوس. فإنه لم يقل بعض الأجران تسع اثنين والبعض ثلاثة أمطار، بل قال إن كل واحدٍ يسع مطرين أو ثلاثة. حيث جاءت النبوات في أسفار العهد القديم تتحدث عن الآب والابن (السيد المسيح)، وحملت ضمنًا الحديث عن الروح القدس بكونه روح الآب وروح الابن في نفس الوقت. ويرى القديس أغسطينوس إن الروح القدس هو روح الحب الذي يربط الآب والابن معًا. عندما يقول اثنين يفهم الثالوث القدوس دون أن يُعبر عنه، وأما القول ثلاثة فيفهم منه الثالوث القدوس ويُعبر عنه.
قلنا أن هذه الأجران الستة تشير إلى الست حقبات التي تتنبأت عن عرس السيد المسيح مع الكنيسة التي من كل الأمم.
1. الجرن الأول يبدأ بآدم الذي يحمل اتحادًا مع حواء وصارا جسدًا واحدًا (تك 2: 24) كاتحاد المسيح بكنيسة (أف 3: 31)، وهما والدان لكل البشرية، وليسا للشعب اليهودي وحده.
2. الجرن الثاني يبدأ بنوح الممثل للسيد المسيح، وقد ضم في فلكه حيوانات وطيور من كل العالم.
3. الجرن الثالث يشير إلى إبراهيم الذي بنسله تتبارك كل الأمم.
4. الجرن الرابع داود المرتل: "قم يا اللَّه دنْ الأرض، لأنك أنت تمتلك كل الأمم" (مز 82: 8)، وقد وضع نغماته آساف المرتل.
5. الجرن الخامس حيث السبي البابلي، فيه رأى دانيال النبي السيد المسيح كحجرٍ صغيرٍ مقطوع بغير أيدِ بشرية وقد ملأ الأرض كلها (دا 2: 34).
6. الجرن السادس ينتمي ليوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء، الذي قيل عنه أنه أعظم من نبي (مت11: 11)، وقد تنبأ عن المسيح أنه مرسل لكل الأمم، إذ يقول "إن اللَّه قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 9). هكذا يرى القديس أغسطينوس أن الجرن السادس قد شهد لعرس السيد المسيح مع الكنيسة المجتمعة من الأمم. [لأنه من هذه الأمم نحن نأتي، ولكن ما كان يمكننا أن نأتي منها لو لم يقم اللَّه من الحجارة أبناء لإبراهيم. نحن صرنا أبناء إبراهيم بامتثالنا بإيمانه، وليس بميلادنا منه حسب الجسد.
"قال لهم يسوع:املأوا الأجران ماء،فملأوها إلى فوق".
كان يمكن أن يخلق الخمر من العدم، لكنه حول الماء خمرًا ليؤكد أنه ما جاء ليتجاهل الناموس أو يبطله، بل ليكمله، فجاء الإنجيل امتدادًا روحيًا للناموس في غير حرفية. ولكي يجعل الذين استقوا الماء بأنفسهم شهودًا على الأعجوبة الكائنة، ويشهدون أن الأعجوبة لم تكن خيالًا.
يرى القديس أغسطينوس أن الماء هنا يشير إلى العهد القديم "الناموس والأنبياء والمزامير"، العهد القديم كله الذي كان له مذاق الماء لمن لم يدركه روحيًا ويكتشف فيه سرّ المسيح. وقد جاء السيد ليحول الماء إلى خمر مفرح، له مذاق جديد وفاعلية جديدة.
كيف حوّل الماء خمرً؟ عندما فتح فهمهم وشرح لهم الكتب المقدسة، مبتدأ من موسى وكل الأنبياء، فسكروا وقالوا: "ألم تكن قلوبنا ملتهبة فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو 24: 32). فقد فهموا المسيح في هذه الكتب، الذي لم يعرفوه من قبل. هكذا حوّل ربنا يسوع الماء إلى خمر، وصار له الآن مذاقًا لم يكن له من قبل، صار الآن يُسكر، الأمر الذي لم يكن له من قبل... لقد أظهر لنا أن الكتاب القديم هو من عنده، إذ بأمره امتلأت أجران الماء. إنها من الرب حقًا، كانت كتب العهد القديم أيضًا، لكن لم يكن لها مذاق ما لم يُفهم المسيح فيها.
في طاعة لوصية الرب ملأ الخدام الأجران إلي الملء، إلي الحافة العليا. هكذا لا يليق بالخادم أن يستريح حتى يتمم الوصية بأن يتلمس في خدمته عمل السيد المسيح "الملء الذي يملأ الكل في الكل" (أف 1: 23). لأنه ليس بكيل يعطي الروح" (يو 3: 34). ليس ما يشغل رجل الله إلا تمتع كل نفسٍ بغنى مجد المسيح الذي لا يُستقصي، فيترنم: "من ملئه نحن جميعًا أخذنا، ونعمة فوق نعمة" (يو 1: 16).
الذي حول الماء خمرا، والذي يبعث الأمطار إلينا كان قادرًا أن يملأ الأجران ماء، ثم يحوله إلي خمر. لكنه في حبه للبشرية لا يتجاهل التزامنا بالعمل معه. فمادام في استطاعتنا أن نملأ الأجران ماء نعمل ما في وسعنا، ويعمل هو ما يستحيل علينا عمله. هكذا في كثير من الأعمال يهبنا كرامة العمل معه ولحساب ملكوته فينا، فيطلب من الحاضرين أن يرفعوا الحجر عن القبر، ويأمر لعازر أن يخرج. هو يهب الحياة والقيامة، ويطلب من التلاميذ أن يحلوا الميت من الأربطة. بهذا نترنم مع الرسول متهللين: "العاملان مع الله"!
"ثم قال لهم:
استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ،فقدموا".
لم نسمع أنه استدعى اسم الله أو صلى على الماء، لكنه أصدر أمرًا بملء الأجران، وفي الحال طلب تقديم ما بالأجران. لم يطلب حتى أن يقدموا له لكي يذوق ما بها.
لم يصنع المعجزة لكي يظهر ذاته علانية، بل لكي يشبع احتياجاتهم. وقد أمر الخدام أن يقدموه في الحال. فإنه لا يهب الوزنة لكي ندفنها، بل كي نعمل دومًا، منتهزين كل فرصة للخدمة.
لم يكن السيد المسيح "رئيس المتكأ" بل كان صديقًا للعروسين، وخادمًا للكل. هذا هو كرسي الرئاسة الحقيقية، أن يبذل الإنسان نفسه بالحب وبروح التواضع من أجل الآخرين.
"فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا،ولم يكن يعلم من أين هي،لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا،دعا رئيس المتكأ العريس".
جاءت الكلمة اليونانية المترجمة "استقوا" هي نفس الكلمة العربية الدارجة "نطل"، وتعني السحب من مصدر عميق. فالأجران ضخمة جدًا وأفواهها متسعة، ولا يمكن سكب الخمر منها إلا بسحبها بكوز يده طويلة. إذ يليق بخادم السرّ والكارز بالإنجيل أن يمد يده إلي الأعماق، ويسحب من فيض عطية الله العظمى كمن يسحب من ينبوع إلهي لا ينضب.
"وقال له:
كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولًا،ومتى سكروا فحينئذ الدون،أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن".
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لكي لا يقول أحد أن الشهادة قد صدرت عن أناس سكرى لا يدرون الفارق بين الخمر والماء، جاءت الشهادة من رئيس المتكأ. وحتمًا كان رئيس المتكأ يحرص ألا يسكر، إذ يلتزم بتدبير أمر العرس بوقارٍ وحكمةٍ.
حرص الإنجيلي أن يقول عن رئيس المتكأ: "ولما ذاق"، أي لم يكن بعد قد شرب حتى من هذا الخمر، إنما ذاقه.
في قانا الجليل حول السيد المسيح الماء خمرًا فبعث بالفرح الروحي في كل المحفل، وفي كنيسة العهد الجديد يحول السيد المسيح بروحه القدوس الخمر إلى دمه المبذول عنا، فيبعث بالفرح السماوي في حياة متناوليه.
لم يحول المسيح الماء خمرًا فحسب، لكنه صيَّره خمرًا فائق الجودة، لأن عجائب المسيح لها هذه الخاصية، وهي أن تصير أبهى حسنًا وأفضل من الأصناف المتكونة في الطبيعة بكثير، فمن هذه الجهة متى أصلح في الناس عضوًا أعرج من جسمهم، أظهر ذلك العضو أفضل من الأعضاء الصحيحة. والبرهان على أن الماء الصائر خمرًا كان خمرًا فائق الجودة، شهد به ليس الخدام وحدهم، بل ومعهم رئيس متكأ العرس. ++ القديس يوحنا الذهبي الفم