البذل والعطاء ++ البابا شنودة الثالث


من كتاب المحبة قمة الفضائل +++ البابا شنوده الثالث

البذل والعطاء

وهنا امتزج الحب بالطاعة، وبالتضحية والبذل..

المحبة العملية هي المحبة الباذلة، التي فيها يعطى الإنسان: يبذل وقته وجهده وماله، وكل شيء ويقدمه لأجل الذي يحبه.. وعندما تنمو المحبة وتصل إلى كمالها، يبذل ذاته أيضًا، كما قال السيد الرب: "ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع نفسه لأجل أحبائه" (يو 15: 13). وبهذا كان حب الشهداء لله، هو أعظم ألوان الحب، لأن فيه بذل للذات.

وفي مقدمة هذا الحب، بذل السيد المسيح ذاته عنا..

وهكذا بين محبته لنا " ونحن بعد خطاة، مات المسيح لأجلنا" (رو 5: 8).. مات البار لأجل الأثمة والفجار. وكان على الصليب ذبيحة حب. لأنه "هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16). ويقول الرب في هذا أيضًا، إن الراعي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11).

هذا هو مقاييس المحبة: البذل والعطاء.

يبذل الإنسان كل شيء. ويعتبر كل شيء رخيصا في سبيل من يحبه.. كشعور الأم من جهة رضيعها. هي تعطيه كل ما تستطيع، وفوق ما تستطيع. وتجد لذة في إعطائه، في بذل راحتها، وصحتها لأجل صحته. إنها مثال للحب الذي يعطى. لذلك ضرب الله هذا المثل في محبته لنا: حتى وإن نسيت الأم رضيعها، هو لا ينسانا" (أش 49: 15).

ويعطينا القديس بطرس الرسول مثالا آخر في محبة الرب، إذ قال له:

"تركنا كل شيء وتبعناك" (مت 19: 27).

من أجل محبتهم له، تركوا البيت والأهل والعمل. وساروا وراءه، وهم لا يعلمون إلى أين يذهبون..

متى الرسول، لما دعاه الرب وهو في مكان الجباية، عبر عن محبته بأن ترك مكان الجباية وتبعه (مت 9: 9)، وتاركا الوظيفة والمال والمسئولية.. وكذلك تلاميذه المرأة السامرية، تركت جرتها وذهبت إلى المدينة لتبشر به (يو 4: 28). وكذلك تلاميذه الصيادون: يعقوب ويوحنا، وبطرس وأندراوس: تركوا الشباك، وتركوا السفينة وتبعوه (مت 4: 18 - 22). والقديس بولس الرسول يقول في ذلك:

"خسرت كل الأشياء وأنا احسبها نفاية، لكي أربح المسيح، واوجد فيه" (في 3: 8، 9).

خسر كل شيء، ولم يندم عليه، بل حسبه نفاية.. ويقول أكثر من هذا: "ما كان لي ربحا، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربى" (عب 11: 24 - 26

نفس الوضع بالنسبة إلى موسى النبي.

كان أميرا ً في القصر "ابن ابنه فرعون" محاطا بكل مظاهر الرفاهية والعظمة،ولكنه من أجل محبة الشعب، ومن أجل خدمة الله، ترك كل شيء. وهكذا "لما كبر، أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون، مفصلا بالأحرى أن يذل مع شعب، ومن أجل خدمة الله، ترك كل شيء. وهكذا "لما كبر، أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون، مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب الله.. حاسبا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر.." (عب 11: 24-26).

كذلك أيضًا كان آباء البرية الرهبان والنساك.

تركوا كل شيء. وسكنوا في الجبال والقفار، وفي المغائر وشقوق الأرض، من أجل عظم محبتهم للملك المسيح. فقد كل شيء قيمته في نظرهم، العالم وكل ما فيه..

عندما تدخل محبة الله في قلب إنسان، يحدث أن يكون في القلب شيء أو أشياء من أدران هذا العالم. ولكن كلما تزداد محبة الله في القلب، تتناقص بنفس القياس هذه الأدران، وتطرد محبة الله الله كل ما في القلب من أمور العالم، حتى تنتهي جميعًا، ويبقى الله وحده. وتنطبق وصية "تحب الرب من كل قلبك" (مت 22: 37).

إذن من علامات المحبة العملية، زوال محبة العالم من القلب.

وفي ذلك قال معلمنا يوحنا الرسول {لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب} {1يو15:2}.

هل تظنها محبة، حقيقية، أن يدعي أحد بأنه يحب الله، بينما يقبض يده عن دفع العشور والبكور؟!.. أو يقف قلبه مترددًا بين محبة الله ومحبة المال!! إن المحبة العملية نحو الله والناس هي أن يشرك المحتاجين في ماله، حتى لو تعب بعض الشيء في تدبير أموره المادية..

وتظهر المحبة العملية في قصة أرونة اليبوسى:

حدث لما أراد داود النبي أن يشتري بيدر أرونة اليبوسي، لكي يقيم فيه مذبحًا للرب، {قال أرونة لداود: فلتأخذ سيدي الملك.. انظر البقرة للمحرقة. والنوارج وأدوات البقر حطبًا. الكل دفعه أرونة المالك للملك} {2صم24: 21-23}. أراد أن يتبرع بالكل من أجل حبه لله وللمذبح وللملك داود. ولكن داود النبي قال لأرونة في حكمة {لا، بل أشتري منك بثمن ولا أصعد للرب إلهي محرقات مجانية..} {2صم24:24}.