من تاملات سفر القضاة 11 +++ القمص تادرس يعقوب
نذر يفتاح المرير
"ونذر يفتاح نذرًا للرب قائلًا: إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعده محرقة
... كان هذا النذر في رأي كثير من الآباء لا يحمل شيئًا من الحكمة، ولعل الله أراد أن يلقن يفتاح بل وكل المؤمنين عبر الأجيال درسًا قاسيًا، فسمح بخروج ابنته الوحيدة العذراء للقائه، فصار يفتاح في مرارة. لما رآها مزق ثيابه، وقال: "أه يا بنتي قد أحزنتني حزنًا، وصرتِ بين مكدري، لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع" .
يقول القديس أمبرسيوس: كان نذرًا قاسيًا، لكن تحقيقه كان أكثر مرارة، فإذ تممه دخل في علة شديدة للحزن... إنه من الأفضل ألاَّ تنذر من أن تنذر مالا يرغب الله في تقديمه له.
كما يقول: كان الأفضل له ألاَّ ينذر بالمرة من أن يقوم بإماتة ابنته.
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لم يوقف تقديم هذه الذبيحة كما فعل في ذبح إسحق بالرغم من عدم قبوله الذبائح البشرية، وذلك لكي تكون درسًا للبشرية، فلا يتسرع أحد بتقديم نذر بقسم لئلا يفقدون أولادهم إذ يقول: بسماحة تحقيق مثل هذا النذر وضع الله نهاية لتكرار مثل هذا في المستقبل.
كما يقول: حقًا إنه لم يوقف تحقيق هذه الذبيحة، وإن كان قد عبر عن سروره بمنعها في حالة إسحق إذ لم يسمح بإتمامها (تك 22: 12)، مظهرًا أنه في كلتى الحالتين لا يُسر بمثل هذه الذبائح
على أي الأحوال بالرغم من كراهية الله للذبائح البشرية لكن يفتاح وابنته ربما بعدم معرفة اشتاقا أن يقدما أغلى ما لديهما لله، فيفتاح لم يتراجع عن نذره مع أن ابنته عذراء ووحيدة، بمعنى آخر يفقد نسله إلى الأبد. وقدمت ابنته حياتها بالرغم من مرارة نفسها لأنها تموت بلا نسل ويلحقها العار، ولهذا السبب قالت لأبيها: "أتركني شهرين فأذهب وأنزل على الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي".
كانت تبكي عذراويتها إذ كانت كل فتاة في إسرائيل تشتاق أن يكون لها نسل لعل المسيا المخلص يأتي منه، والآن إذ تموت عذراء تفقد هذا الرجاء... على أي الأحوال كان يمكن لها أن تفلت بطريق أو بآخر لكنها منذ البداية قالت لأبيها: "أفعل بيّ كما خرج من فيك" ، وبعد الشهرين عادت بكامل حريتها تسلم نفسها للموت بيدي أبيها.
لقد قدم يفتاح ابنته ذبيحة لله، وكان في هذا يحمل رمزًا للإنسان الذي يقدم حياته (ابنته الوحيدة) ذبيحة حب لله. لهذا عندما فقد أحد النبلاء الأثرياء يوليان زوجته وبنتيه كتب إليه القديس جيروم ليدخل إلى الرهبنة، مقدمًا لله حياته نذرًا بتكريسها للعبادة لله، الأمر الذي يُفرح قلب الله أفضل من تقدمات كثيرة. يقول له: قدم يفتاح ابنته العذراء، لهذا وضعه الرسول في عداد القديسين (عب 11: 32). لا أريدك أن تقدم للرب ما قد يسرقه لص منك أو يستولي عليه عدو.... إنما قدم لله ما لا يستطيع عدو أن ينزعه عنك، ولا طاغيه أن يغتصبه منك، بل يذهب معك إلى القبر، لا بل إلى الملكوت، إلى نعيم الفردوس
أخيرًا يعلل القديس يوحنا الذهبي الفم سرّ نحيب العذارى بقوله بهذا يجعلن الرجال أكثر حكمة في المستقبل، فيدركون أن ما حدث لم يكن متفقًا مع فكر الله.