من تأملات كتاب إسحق أو النفس +++ القديس أمبروسيوس
رفقة رمز الكنيسة ++ القمص تادرس يعقوب ملطي
النفس الكاملة التي تهرب من الشر لا من الأرض
أما النفس الكاملة فتبتعد عن المادة، وتمتنع وترفض كل ما هو مُبالغ فيه أو متقلقل أو شرير، ولا تتطلع أو تقترب من هذا الدنس والفساد الأرضي. إنها تُصغي إلى الإلهيات وتتجنب الأرضيات. لكن في انطلاقها لا تغادر الأرض بل وهي باقية على الأرض تتمسك بالبر (العدل) وضبط النفس، تنبذ الرذائل التي في الأرضيات ولا تنبذ استخدام الأمور الأرضية.
لقد هرب داود من وجه شاول (1 مل 19: 18)، لا لكي يهجر الأرض حقًا، وإنما لكي يهرب من عَدْوَى إنسان قاسٍ عاصٍ وغادر. هرب لكي يلتصق بالله، إذ يقول: "التصقت نفسي بك" (مز 63: 8). انسحب ونَأَى بنفسه عن رجاسات هذا العالم، سما بنفسه تمامًا، وذلك كما تأمل إسحق عندما تجوَّل في الحقل (تك 24: 63)... لأن هذه شهادة واضحة تمس الالتصاق بالفضائل، حيث يتجوَّل الإنسان ببراءة قلبه، فلا يشترك في الشهوات الأرضية وإنما يشق طريقه بفكر متحرر، أي بلا لوم، ولا يفتح موضعًا للفساد في داخله.
جمال الكنيسة الروحي
هكذا كان إسحق حينما انتظر مجيء رفقة وتهيأ لاتحاد روحي (تك 24: 62). جاءت إليه وقد وُهبت أسرارًا سماوية، تحمل زينة عظيمة في أذنيها وعلى ذراعيها (تك 24: 22). استعلن جمال الكنيسة في سمعها وأعمال يديها بوضوح. ونلاحظ أنه قيل لها بحق: "صيري ألوف ربوات، وليرث نسلك مدائن أعدائه" (تك 24: 6LXX). لهذا الكنيسة جميلة، لأنها ضمّت أبناء من أمم معادية. لكن يمكننا تفسير هذا النص بخصوص النفس التي تُخضِع الشهوات الجسدية، وتحولها إلى خدمة الفضائل، وتُطوّع المشاعر المعاندة لها. هكذا كانت نفس الأب (البطريرك) إسحق، الذي عاين سرّ المسيح، فرأى رفقة قادمة بأوان من ذهب وفضة (تك 24: 53، 63). وكأنها بالكنيسة مع شعوب الأمم التي تندهش لجمال الكلمة (الإلهي) وأسراره، فتقول "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 1: 2). عندما ترى رفقة إسحق الحقيقي -الفرح الحق، ينبوع المرح الحقيقي- تشتاق أن تقبِّله.
قبلات الحب والوحدة والاستنارة وسكب النفس
ما معنى: "ليقبلني بقبلات فمه"؟ فكروا في الكنيسة التي انتظرت مجيء الرب لقرون طويلة، الذي وعدها بذلك خلال الأنبياء في القديم. فكروا في النفس التي تسمو فوق الجسد وترفض الانغماس في الملذات والمسرات الجسدية، تاركة أيضًا الاهتمام بالأباطيل الدنيوية. لقد اشتاقت زمانًا طويلًا أن تلتحم بحضرة الله، واشتهت أيضًا إلى نعمة كلمة الخلاص، وها هي قد أصابها الهزال لأنه يأتي متأخرًا، ها هي قد تقوّضت وجُرحت حبًا (نش 5: 8)، فهي لا تقوى على تأجيلاته (في المجيء). وإذ تتجه نحو الآب تسأله أن يرسل إليها إلهها الكلمة، وتعلل سبب نفاذ صبرها بالقول: "ليقبلني بقبلات فمه". إنها لا تسأل عن قبلة واحدة بل تطلب قبلات كثيرة، لكي تُشبع اشتياقاتها. لأنها كحبيبة لا تقنع بتقدِمة ضئيلة من قبلة واحدة، بل تطلب الكثير، وتحسب أن لها الحق في التمتع بالكثير، ومن ثَمَّ صارت تألف أن تطلب لنفسها أكثر وأكثر من محبوبها. لقد نالت استحسانًا في الإنجيل إذ "لم تكف عن تقبيل قدمَيَّ" (لو 7: 45)، و "غفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيرًا" (لو 7: 47).
مثل هذه النفس تريد قبلات كثيرة من الكلمة، لكي تستنير بنور معرفة الله، لأنها هذه هي قبلة الكلمة، أعني نور المعرفة المقدسة. يقبلنا الله الكلمة حينما ينير قلوبنا وينير القدرة
المتحكمة الفعلية بروح معرفة الله. النفس التي تنال تلك الهبة تبتهج وتفرح بعربون الحب العروسي (الزيجي)، وتقول: "فغَرْت فمي ولهثت" (مز 119: 131). لأنه بالقبلة يلتصق الأحباب ببعضهم البعض، وينالون عذوبة النعمة التي في الداخل. بهذه القبلة تلتصق النفس بالله الكلمة، وبالقبلة تنسكب روح من يقبَّل داخل النفس، تمامًا مثل الذين لا يكتفون في قبلاتهم بلمس الشفاه على خفيف إنما يَبْدون وكأنهم يسكبون أرواحهم الواحد في الآخر.
إذ تبدو أنها لا تحب فقط ظهور الكلمة ووجهه بل كما لو كانت تحب أعماقه الداخلية، فتضيف إلى نعمة القبلات: "حبك أطيب من الخمر، ورائحة أدهانك تفوق كل الأطياب" (نش 1: 2-3 LXX). لقد طلبت القبلة، سكب الله الكلمة نفسه فيها بالتمام وكشف عن ثدييه، أي تعاليمه ونواميس الحكمة التي في الداخل، ورائحة أدهانه التي تفوق كل الأطياب. هذا كله يَسْبيها، فتقول النفس إن التمتع بمعرفة الله أغنى من الفرح بأية لذة جسدانية، إذ تفوح في الكلمة رائحة النعمة وغفران الخطايا. وإذ تنسكب في كل العالم تملأ تلك المغفرة كل شيء وينسكب الدهن لينزع أوراق الرذيلة الثقيلة عن الناس.
اجتذاب الكلمة للنفس
"لذلك أحبتك العذارى، اجذبنا فنجري وراء رائحة أدهانك" (نش 1: 3-4). حقًا، صالح هو التعقل؛ لكن الرحمة عذبة، وقليلون هم الذين يحظون بالأولى (التعقل)؛ أما الأخيرة (الرحمة) فتَحِلّ بجميع البشر. "بسبب حنو رأفتك تحبك النفوس المتجددة بالروح". في هذا الصدد قيل أيضًا للنفس: "يتجدد مثل النسر شبابك" (أف 4: 23، مز 103: 5). لأن المرتل تحدث مع النفس، قائلًا: "باركي يا نفسي الرب" (مز 103: 1). لهذا تُسرع النفس إلى الكلمة، وتسأل أن تُجذَب إليه، لئلا تُتْرك بعيدًا، لأن "كلمة الله لا تُقيِّد" (2 تس 3: 1؛ 2 تي 2: 9)، وحقًا "يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق" ولأن "خروجه هو من أقصى السماوات ومدارها إلى أقاصيها" (مز 19: 6-7). وإذ ترى النفس أنها ليست ندًا لمثل هذه السرعة العظيمة تقول: "اجذبنا"، إذ لنا اشتياق أن نتبعك، وهو ما استنشقناه من عطية نعمة أطيابك. لكننا إذ لا نقوى على مجاراة سباقك اجذبنا أنت فنتبع خطواتك بمعونتك وتعضيدك. إن جذبتنا نجري ونحظى بنسائم الركض الروحية. فإنّ مَنْ لهم يدك عونًا يُلقون بأثقالهم جانبًا، وينسكب فيهم زيتك الذي يشفي مَنْ جرحه اللصوص (لو 10: 34).
لا تعتبر قولها "اجذبنا" عيبًا إذ تسمعه يقول: "تعالوا إليَّ يا جميع المُتْعَبين والثَقِيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). أتَرَوْن كيف يجذبنا بفرح لئلا نُترك في الخلف ونحن نتبعه.
هو يجذبنا ونحن نركض ولا نتوانى
لكن مَنْ يريد أن يجتذب يلتزم أن يركض فينال. ليركض ناسيًا الأمور الماضية، طالبًا ما هو أفضل، بهذا يقدر أن ينال المسيح. في هذا الصدد يقول الرسول أيضًا: "اركضوا لكي تنالوا" (1 كو 9: 24).
هكذا تشتاق النفس إلى بلوغ الجعالة التي تريد التمتع بها. لهذا تسأل بحكمة أن تُجْتَذب، لأنه ليس كثيرون قادرين على أن يتبعوه. حقًا عندما سأله بطرس: "إلى أين أنت تذهب؟" أجابه كلمة الله: "حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيرًا" (يو 13: 36). لقد ائتمنه الرب على مفاتيح السماء (بالإيمان المُعطى للتلاميذ) (مت 16: 29)، ومع هذا حكم بطرس على نفسه أنه ليس بكفء أن يتبعه. مع ذلك لم ينبذ الرب تلك النفس، لأن بطرس لم يكن يتطاول (متجاسرًا) وإنما كان يتساءل.